ظلامة الإسلام في السقيفة
بسم الله الرحمن الرحيم
جاء في كتاب (الف سؤال واشكال) للشيخ علي الكوراني العاملي الاشكال التالي:
ظلامة الإسلام في السقيفة:
ونقصد بها الظلامة الفكرية للإسلام! لأن الإسلام علمٌ بكل معنى الكلمة، بل هو علم العلوم، لأن وظيفته أن يدير حياة الإنسان بكل علومه، ويوجهها الى هدفها المعنوي والمادي الأسمى. لذلك يتوقف تحقيق أهدافه في مجتمعه والعالم على شخص متخصص فيه يطبقه بعلم، ولا يكفي أن يقول شخص إني سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يبلغ كتاب ربه ووحيه، فأنا أستطيع أن أحكم بالإسلام وأطبقه! بل يحتاج الخليفة أو الإمام الى إعداد وإلهام إلهي، ولذلك أعدَّ الله عترة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) لهداية الأمة بهذا العلم وأورثهم علم الكتاب الذي هو تبيان كل شيء فقال: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا)(1). ثم أمر الصحابة والأجيال بطاعتهم لعصمتهم فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمر مِنْكُمْ)(2). فالذين يأمر الله الأمة بطاعتهم أناسٌ خاصون، ومن المحال أن يأمر بطاعة كل من تغلب على الأمة وصار صاحب أمر! وقد أجمع المسلمون على تميُّز علي (عليه السلام) في علمه، ورووا أن الله تعالى كما أقْرَأَ الله رسوله فلا ينسى: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى)(3)، فقد أمره أن يعدَّ علياً (عليه السلام) ويعلمه فلا ينسى! قال السيوطي في الدر المنثور: (وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن مكحول قال: لما نزلت: (وتعيها أذن واعية)، قال رسول الله (صلى الله عليه واله): سألت ربي أن يجعلها أذن عليّ. قال مكحول: فكان عليٌّ يقول: ما سمعت من رسول الله شيئاً فنسيته!
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والواحدي، وابن مردويه، وابن عساكر، وابن النجاري، عن بريدة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه واله) لعلي: إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك وأن أعلمك وأن تعي، وحق لك أن تعي، فنزلت هذه الآية: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)(4). وأخرج أبو نعيم في الحلية عن علي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه واله): يا علي إن الله أمرني أن أدنيك وأعلمك لتعي، فأنزلت هذه الآية: وتعيها أذن واعية، فأنت أذن واعية لعلمي)(5), انتهى.
وقد عرف الجميع علم علي (عليه السلام) الذي أبعدوه بالسقيفة، وضآلة علم أبي بكر وعمر وعثمان، الذين أتوا بهم من السقيفة، ورووا أخطاءهم الفظيعة في تفسير أوليات القرآن، وجهلهم بأوليات أحكام الشريعة، كتفسير آية: (وفاكهةً وأبًّا)، وآية الكلالة، وآية الربا، وآية التيمم، وإرث الجدة، وعشرات الأمثلة!
قال في فتح الباري: ( قوله: وقال عليٌّ: ألم تعلم أن القلم رفع عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يدرك، وعن النائم حتى يستيقظ. وصله البغوي في الجعديات عن علي بن الجعد، عن شعبة، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، أن عمر أتيَ بمجنونة قد زنت وهي حبلى، فأراد أن يرجمها! فقال له علي: أما بلغك أن القلم قد وضع عن ثلاثة.. فذكره، وتابعه بن نمير، ووكيع وغير واحد، عن الأعمش، ورواه جرير بن حازم عن الأعمش فصرح فيه بالرفع. أخرجه أبو داود، وابن حبان من طريقه، وأخرجه النسائي من وجهين آخرين.... وأخذ بمقتضى هذا الحديث الجمهور )!(6), انتهى.
فالذي حدث في السقيفة: أن أول أئمة العترة، الذي عنده علم الكتاب قد أقصيَ وأُجبر على البيعة لشخص لا يعرف حكم العاقل من المجنون، ويأمر بقتل امرأة وجنينها بدون حق، باسم الإسلام! فأي ظلم لعلم وقانون تخصصي كالإسلام، أكبر من أن تقوم بسجن الخبير المتخصص به، وتأتي بمن يجهله ليطبقه ويحكم به؟!
ظلامة الأمة في السقيفة:
حيث تمَّ نقلها من المسار النبوي الى المسار القبلي! فقد أنشأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الأمة بعين ربه وتوجيهه، ووضع سفينتها في بحر العالم، وأطلق مدَّها الحضاري الإنساني في مسيرة البشرية، في أقصر وقت وأقل كلفة! فتمَّ له ذلك في عشر سنوات، ولم يزد عدد القتلى في كل حروبه من المسلمين وأعدائهم على ست مئة شخص! فكانت أمته خير أمة أخرجت للناس، لأنها مُنشأة بوحي ربها العليم الحكيم سبحانه، وإدارة رسوله المطيع الذي لا ينطق عن الهوى (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد وضع الله تعالى لهذه الأمة برنامجاً لتبقى خير أمة، بقيادة الأئمة من عترة نبيها (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يكرر على أسماع المسلمين في مناسبات عديدة: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، وهو حديث متواتر عند الجميع.
ولكن قريشاً رفضت وصية نبيها بإمامة عترته، لنفس السبب الذي رفضت نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم)! واتهم منافقوها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفس ما اتهموه به على النبوة! فكانوا يهمسون بينهم بأن محمداً يريد أن يؤسس ملكاً لبني هاشم كملك كسرى وقيصر! فاليوم ابن عمه علي ابن الثلاث وثلاثين سنة، وبعده أولاد ابنته فاطمة وهم الآن دون العاشرة (عليهم السلام)! كانوا يقولون: إذا دخلت الخلافة في بني هاشم فلن تخرج منهم أبداً، وسينتظر بها الحبالى، ولن يصل الى بقية القبائل شيء! وهذا ظلم لقبائل قريش ما بعده ظلم!!
نعم، لقد تبنت قريش هذا المنطق القبلي البعيد عن الدين، واتخذت قرارها بإجماع طلقائها ومن وافقهم من مهاجريها بأن بني هاشم تكفيهم النبوة، أما الخلافة فيجب أن تكون لقبائل قريش الأخرى! واتخذوا قراراً بأن على زعماء قريش بتأييد الطلقاء الذين حشدوهم في المدينة، أن يبادروا بمجرد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويأخذوا خلافته، ويعزلوا عترته!
ولهذا السبب بادر الحزب القرشي بالرفض الخشن الشرس عندما جمعهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مرض وفاته، وعرض عليهم أعظم عرض قدمه نبي لأمته، أن يضمن لهم بقاءهم على الهدى، وأن يكونوا سادة العالم الى يوم القيامة! بشرط أن يلتزموا بتنفيذ ما سيكتبه لهم بأمر ربه، فتصدى له عمر نيابة عن قريش ورفض كتابة العهد بصلافة! فأطاعوه وصاحوا: القول ما قاله عمر! وهذا معناه أنا لا نريد أن تكتب لنا عهداً، لأنك ستسمي فيه الأئمة من عترتك! ولا نريد أمانك من الضلال! وها نحن نعلن أنه غلب عليك الوجع، فلا اعتبار لكلامك وكتابتك!!
قال البخاري: (عن ابن عباس قال: لما اشتد بالنبي (صلى الله عليه واله) وجعه قال: إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لاتضلوا بعده. قال عمر: إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا! فاختلفوا وكثر اللغط قال (صلى الله عليه واله): قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع! فخرج ابن عباس يقول: إن الرزيئة كل الرزيئة، ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه واله) وبين كتابه )!(7), انتهى.
وفي مسند أحمد: (عن جابر أن النبي (صلى الله عليه واله) دعا عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتاباً لا يضلون بعده، قال فخالف عليها عمر بن الخطاب حتى رفضها)!(8), انتهى.
وقال لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في البخاري:(دعوني، فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه) ! يعني أن ما أنا فيه من قرب لقاء ربي، خيرٌ مما تريدون أن تجرُّوني اليه من إعلانكم الكفر! لذلك أنهي النقاش معكم، وآمركم بالخروج من بيتي!(9).
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) :(خير مما تدعوني إليه) يدل على أن لهم هدفاً خطيراً يعملون له و(يدعون) النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اليه وأن إصرار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على كتابة العهد سيحقق هدفهم الخطير! وأن هذا الهدف أسوأ من ترك الأمة بدون ضمانة مستقبلها!!
ولا يمكن تفسير ذلك إلا أنهم أرادوا أن يصرَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على كتابة الكتاب وتسمية الأئمة من بعده، فيصرُّون هم على أنه وحاشاه أخذ يهجر ويهذي، ويريد فرض عترته على قريش والعرب، ويعلنون الردة!!
وقد مهدوا لذلك بقولهم إنه يهجر! وخففها البخاري فقال:(ماله أهَجَر، إستفهموه) ! ولعل بعضهم قال إنه يهجر، وقال بعضهم: إستفهموه لتروا صحة كلامنا! فأمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يضغط على قريش فتكفر، وكان جبرائيل حاضراً عنده، فأمره أن ينهي المجلس ويطردهم! فإنما عليه البلاغ عن ربه، وقد بلَّغ وأتم عليهم الحجة!!
إنها قضية واضحة كوضوح الشمس فقد اضطر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصرف النظر عن كتابة العهد ويتنازل عن تأمين مستقبل أمته، لأن ذلك أفضل مما يدعونه اليه!
فكانت المعادلة عنده أن قبولهم بنبوته وقرآنه دون سنته وعترته! خيرٌ من أن تعصف عاصفتهم بالإسلام من أصله، فتعلن قريش ردتها وتطيعها بعض قبائل العرب، وتشن الحرب على آل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن يبقى على الإسلام من الأنصار، وتقضي عليهم!
أما الحزب القرشي، فلم يهتم لطرد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم من بيته! بل كانوا فرحين بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتخذ إجراء عملياً ضدهم، وبأنهم حققوا نتيجة هائلة من ذلك المجلس حيث تراجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمامهم فانتزعوا منه قيادة الأمة ووضعوها في يد زعيمهم الجديد عمر! وأن عمر سيضعها في مسار قبلي يخضع لقانون الغلبة، بدل المسار الرباني وقانون النص!
وقد أثمر قانون الغلبة آنياً، أن حكم أبو بكر سنتين وشهرين، ثم نص على عمر فحكم عشر سنين، ونص عمر على عثمان فحكم اثنتي عشرة سنة!
وعندما تفاقم ظلم عثمان اضطر نفس الصحابة أن يثوروا عليه ويقتلوه، ويختاروا علياً (عليه السلام) ليحكم خمس سنين، ثم لتعيد قريش قانون الغلبة فيحكم الأمة، ولا يفارقها الى يومنا هذا!
لقد فتح قانون قريش صراعاً دموياً على السلطة، لم تعرف أمةٌ بعد نبيها أسوأَ منه، ولا خلافةٌ لنبي أكثر منه سفكاً للدماء منه! فلو أحصينا حروب الأمة وصراعاتها على السلطة لبلغت المئات، وبلغ قتلاها عشرات الملايين! وخساراتها المادية والمعنوية فوق التصور!
وكانت آخر ثمار قانون الغلبة: أن خلافة قريش وصلت الى غلمان بني أمية وبني العباس، ثم الى غلمان الشراكسة والعثامنة، حتى ضعفت الأمة ثم انهارت بيد الغربيين، فدفنوا خلافة قريش في استانبول، بلا مراسم توديع ولا تشييع!
قد يقال: إن هذه النظرة الى تاريخ أمتنا الإسلامية خاطئة، لأنها ترى السلبيات وتنسى الإيجابيات، فالأمة الإسلامية كانت وما زالت خير أمة أخرجت للناس، وقد فتحت أكثر العالم، وأقامت أقوى دولة، ونشرت نور الإسلام وحضارته.
ويقال: إن الصراع على السلطة وبعض الظلم للناس كالذي حدث لأهل البيت النبوي (عليهم السلام)، أمرٌ طبيعي في حياة الأمم وتاريخها! كما أن ضعف الأمة وانهيارها سنة إلهية في الدول ونشوئها وزوالها، والأمة الإسلامية ليست بدعاً من الدول، فلا عجب أن تجري عليها سنن التاريخ!
والجواب: أنا قد نقبل هذا الكلام لو لم يقل الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(10). ولم يقل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لصحابته: إيتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً!
أمَّا وقد قال لهم ذلك ورفضوه! فإن مسار الأمة بدون ذلك العهد النبوي لم يعد طبيعياً، بل هو المسار الي وضعها فيه الرافضون للتأمين النبوي، ومهما تصورت أنهم ربحوا للأمة فهي الخاسرة!
إن مثل الأمة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كسفينة قال لركابها رَبَّانهم الحكيم المأمون: أعطوني عهداً بالتنفيذ لأعطيكم خريطة توصلكم الى بر النجاة والنصر، فقال له أصحابه: لا نريد خريطتك ونحن نقودها الى بر الأمان! فقادوها من بعده واختلفوا في قيادتها واقتتلوا، حتى وصلت الى صخور شاهقة وأمواج عاتية!
فهل يصح أن يقال إنهم مصيبون! وإن ركاب السفينة ربحوا ولم يخسروا!
إن المسلم المؤمن بنبوة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وبأنه معصومٌ مؤيدٌ من ربه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) يرى نفسه ملزماً بالإعتقاد بأن قريشاً مهما حققت للأمة بعد نبيها (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد أوقعت بها أعظم خسارة منيت بها أمة في التاريخ! وكيف يمكن لأحد أن يغفر لقريش أنها عصت نبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) عن سبق إصرار وصادرت منه قيادة أمته، ووضعتها في مسار الغلبة والصراع القبلي!
__________
(1) النساء: 59.
(2) فاطر: 32.
(3) الأعلى: 6.
(4) الحاقة: 12.
(5) الدر المنثور: 6/260.
(6) فتح الباري: 9/323.
(7) صحيح البخاري: ج1ص36.
(8) مسند أحمد: 3/346.
(9) صحيح البخاري: ج4ص31.
(10) التوبة: 33.