إسناد الخالقية لله بالمسيح
بسم الله الرحمن الرحيم
كما أسندت بعض النصوص الخالقية لله بالمسيح، فتعلق النصارى بها، ورأوها دالة على ألوهيته ومنها قول بولس عن المسيح: "فإن فيه خلق الكل: ما في السماوات وما على الأرض، ما يرى وما لا يرى، سواء أن كان عروشاً أم رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خلق" (كولوسي 1/16-17)، وفي موضع آخر يقول: "الله خالق الجميع بيسوع المسيح" (أفسس 3/9)، ومثله ما جاء في مقدمة يوحنا "كان في العالم، وكون العالم به، ولم يعرفه العالم" (يوحنا 1/10)، ومثله في (عبرانيين 1/2). ونلحظ ابتداءً أن الخلق في كافة النصوص الكتابية مسند لله تعالى فقط، فقد قال سفر التكوين "في البدء خلق الله السماوات والأرض" (التكوين 1/1)، ولم يذكر خالقاً شارك الله بالخلق أو كان واسطة تم الخلق من خلاله، وفي سفر إشعياء "هكذا يقول الله الرب خالق السموات" (إشعيا 42/5)، كما وقد قال بولس وبرنابا لأهل مدينة لسترة: "نبشركم أن ترجعوا من هذه الأباطيل إلى الإله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها" (أعمال 14/15)، فلم يذكر الكتاب خالقاً سوى الله العظيم. وما بين أيدينا من أقوال بولس ويوحنا فإنها إنما تتحدث عن الله الذي خلق بيسوع، ولا تذكر أنه هو الخالق أبداً، فغاية ما تحتمله هذه النصوص - لو سلم بصحتها - أن يقال بأن الله خلق بالمسيح ما خلق من الكائنات والمخلوقات.
وهذا المعنى جد غريب لم تنطق به أنبياء العهد القديم، ولا ذكره المسيح (عليه السلام)، إنما ورد من كلام بولس ومقدمة يوحنا الفلسفية المستمدة من الفكر الأفلوطيني. ولا يمكن أن يكون المسيح خالقاً للسماوات والأرض وما بينهما، إذ هو ذاته مخلوق، وإن زعمت النصارى أنه أول المخلوقين، لكنه على كل حال مخلوق، والمخلوق غير الخالق " الذي هو صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة" (كولوسي 1/15). ثم إن الذي عجز عن رد الحياة لنفسه عندما مات لهو أعجز من أن يكون خالقاً للسماوات والأرض، أو أن تخلق به "فيسوع هذا أقامه الله" (أعمال 2/32)، ولو لم يقمه الله لما عاد من الموتى، وفي موضع آخر: "ورئيس الحياة قتلتموه الذي أقامه الله من الأموات " (أعمال 3/15)، ومثله قول بولس: "والله الآب الذي أقامه من الأموات" (غلاطية 1/1). ويرى المحققون أن المقصود من هذه النصوص أن المسيح خلقت به الخلائق خلقة الهداية والإرشاد، لا الإيجاد والتكوين، فتلك خلقة الله فحسب، والخلقة التي خلقها الله بالمسيح (عليه السلام) هي الخِلقة الجديدة، خِلقة الهداية، التي تحدث عنها داود، وهو يدعو الله بقوله: "قلباً نقياً اخلق فيّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدد في داخلي" (المزمور 51/10).
ومثله قال بولس عن المؤمنين بالمسيح: "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة" (كورنثوس (2) 5/17).
وقال: "لأنه في المسيح ليس الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة، بل الخليقة الجديدة" (غلاطية 6/15).
وفي موضع آخر يقول: "تلبسوا الإنسان المخلوق الجديد بحسب الله في البر" (أفسس 4/24).
وعلى هذا الأساس اعتبر يعقوب التلاميذ باكورة المخلوقات فقال: "شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه" (يعقوب 1/18) أي أوائل المهتدين الذين تلبسوا بالخليقة الجديدة.... وعليه فإن المقصود من خلق المسيح للبشر هو الخلق الروحي، إذ جعله الله محيياً لموات القلوب وقاسيها.... لكن قائلاً قد يرد استدلالنا وتأولنا للنصوص بما يقرأه فيها من حديث عن خلق السماوات والأرض وما فيهما بالمسيح، فيرى أن النصوص التي يتعلق بها النصارى لا تتعلق بالبشر فقط، إذ فيها أن الله خلق به ما في السماوات والأرض، وهذا قد يراه البعض - ممن لم يعتد طريقة الأسفار في التعبير - مانعاً من صرف النص إلى الخليقة الجديدة. أما الذين اعتادوا على طريقة الأسفار في التعبير، فإنهم يرون في هذه النصوص مبالغة معهودة، حملتها مراراً الأسفار التوراتية والإنجيلية، ومن ذلك وصف العهد الجديد المسيحَ والتلاميذ أنهم نور العالم، يقول يوحنا: "ثم كلمهم يسوع أيضاً قائلاً: أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة" (يوحنا 8/12)، وقال لتلاميذه: "أنتم نور العالم" (يوحنا 5/14). ومن المعلوم أنهم جميعاً كانوا نوراً استنار به المؤمنون، وأعرض عنه غيرهم، فأظلمت قلوبهم، ولا يمكن أن يدعى ظهور النور في الجماد والحيوان الموجودين في العالم، فكما وصف النص يوحنا الإنجيلي المسيح وتلاميذه بنور العالم من غير أن يكون لهم أثر في إنارة غير قلوب المؤمنين من الكافرين أو الجمادات، فإنه وصف المسيح بأنه كان واسطة الخليقة الجديدة للعالم، والمقصود المؤمنون في العالم فحسب. ومثل هذه المبالغات في التعبير - كما أسلفنا - معهودة ومألوفة في الكتاب، إذ يقول موسى لبني إسرائيل: "هوذا أنتم اليوم كنجوم السماء في الكثرة، الرب إلهكم يزيد عليكم مثلكم ألف مرة" (التثنية 1/10-11). ومثله في قوله: " وكان المديانيون والعمالقة وكل بني المشرق حالّين في الوادي كالجراد في الكثرة، وجمالهم لا عدد لها، كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة" (القضاة 7/12). وتصل المبالغة عند يوحنا أقصاها حين قال: "وأشياء أُخر كثيرة صنعها يسوع، إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة" (يوحنا 21/25)، فهذه المبالغة في الحديث عن خلقة الكون بالمسيح إنما هي بعض ما تعودناه من كُتّاب الكتاب المقدس.