مظلومية علي والزهراء
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
المطلب الأول أحاديث في مقام الزهراء ومنزلتها عند اللَّه وعند الرسول : الأحاديث في هذا الباب كثيرة، حتى أن عدّةً من علماء الفريقين دوّنوها في كتب مفردة، وقد انتخبت من تلك الأحاديث مجموعة سأقرؤها عليكم، وسترون أن مصادرها من أقدم المصادر وأهمّها:
الحديث الأول: «فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة» أو «سيّدة نساء هذه الأُمّة» أو «سيّدة نساء المؤمنين» أو «سيّدة نساء العالمين». هذا الحديث بألفاظه المختلفة موجود في: [صحيح البخاري] في كتاب بدء الخلق، وفي [مسند أحمد]، وفي [الخصائص] للنسائي، وفي [مسند أبي داود الطيالسي]، وفي [صحيح مسلم] في باب فضائل الزهراء، وفي [المستدرك]، و [صحيح الترمذي]، وفي [صحيح ابن ماجة]، وغيرها من الكتب «1». ففاطمة سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين.
الحديث الثاني: في أن فاطمة (سلام اللَّه عليها) بضعة من النبي: «فاطمة بضعة منّي من أغضبها أغضبني». هذا الحديث بهذا اللفظ في: [صحيح البخاري]، وعدّة من المصادر «2». «فاطمة بضعة منّي يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها». بهذا اللفظ في: [صحيح البخاري]، و [مسند أحمد]، و [صحيح أبي داود]، و [صحيح مسلم]، وغيرها من المصادر «3». «إنّما فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها».بهذا اللفظ في: [صحيح مسلم] «4». «إنّما فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها».بهذا اللفظ في: [مسند أحمد] وفي [المستدرك] وقال: صحيح على شرط الشيخين، وفي [صحيح الترمذي] «5». «فاطمة بضعة منّي يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها». بهذا اللفظ في: [المسند]، وفي [المستدرك] وقال: صحيح الإسناد، وفي مصادر أُخرى «6».
الحديث الثالث: «إن اللَّه يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها». هذا الحديث تجدونه في: [المستدرك]، وفي [الإصابة]، ويرويه صاحب [كنز العمال] عن أبي يعلى والطبراني وأبي نعيم، ورواه غيرهم «7».
الحديث الرابع: في أنّ النبي أسرّ إليها أنّها أوّل أهل بيته لحوقاً به. هذا كان عند وفاته (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم)، فإنّه دعاها فسارّها فبكت، ثمّ دعاها فسارّها فضحكت [في بعض الألفاظ: فشقّ ذلك على عائشة أن يكون سارّها دونها] فلمّا قبض رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) حلّفتها عائشة أنْ تخبرها، فقالت: سارّني رسول اللَّه أو سارّني النبي، فأخبرني أنّه يقبض في وجعه هذا فبكيتُ، ثمّ سارّني فأخبرني أنّي أوّل أهل بيته أتْبعه فضحكتُ. هذا الحديث في: الصحيحين، وعند الترمذي والحاكم، وغيرهما «8».
الحديث الخامس: عن عائشة قالت: ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة منها غير أبيها. هذا الحديث تجدونه في: [المستدرك] وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقرّه الذهبي، وفي [الاستيعاب]، و [حلية الأولياء] «9».
الحديث السادس: عن عائشة أيضاً: كانت إذا دخلت عليه- على رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) قام إليها فقبّلها ورحّب بها وأخذ بيدها فأجلسها في مجلسه. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وأقرّه الذهبي أيضاً «10».
الحديث السابع: أخرج الطبراني أنّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) قال لعلي: «فاطمة أحبّ إليّ منك وأنت أعزّ عليّ منها». قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح «11». هذه هي الأحاديث التي انتخبتها، لتكون مقدمةً لبحوثنا الآتية، وسنستنتج من هذه الأحاديث في المطالب اللاحقة، وفي الحوادث الواقعة، وهي أحاديث- كما رأيتم- في المصادر المهمّة بأسانيد صحيحة، ودلالاتها أيضاً لا تقبل أيّ مناقشة. ومن دلالات هذه الأحاديث: أنّ فاطمة (سلام اللَّه عليها) معصومة، بالإضافة إلى دلالة أية التطهير وغيرها من الأدلّة. مضافاً إلى أن غير واحد من حفّاظ القوم وكبار علمائهم قالوا بأفضليّة الزهراء (سلام اللَّه عليها) من الشيخين، بسبب هذه الأحاديث وحديث «فاطمة بضعة منّي» بالخصوص، بل قال بعضهم بأفضليّتها من الخلفاء الأربعة كلّهم، ولا مستند لهم إلّا الأحاديث التي ذكرتها. ولأقرأ لكم عبارة المنّاوي وكلامه المشتمل على بعض الأقوال من كبار علماء القوم، ففي [فيض القدير] في شرح حديث «فاطمة بضعة منّي» قال: استدل به السهيلي [وهو حافظ كبير من علمائهم، وهو صاحب شرح سيرة ابن هشام وغيره من الكتب] على أن من سبّها كفر [ولماذا؟ لاحظوا] لأنّه يغضبه [أي لأنّ سبّها يغضب رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم)!] وأنّها أفضل من الشيخين. وإذا كانت هذه اللام لام تعليل «لأنّه يغضبه»، والعلة إمّامعمّمة وإمّا مخصّصة، ولابد أن تكون هنا معمّمة، يوجب الكفر، لأنّه أيالسب يغضبها، فيكون أذاها أيضاً موجباً للكفر، لأن الأذى- أذى الزهراء (سلام اللَّه عليها) يغضب رسول اللَّه بلا إشكال. قال المناوي: قال ابن حجر: وفيه- أيفي هذا الحديث- تحريم أذى من يتأذّى المصطفى بأذيّته، فكلّ من وقع منه في حقّ فاطمة شيء فتأذّت به فالنبي (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) يتأذّى به بشهادة هذا الخبر، ولا شيء أعظم من إدخال الأذى عليها في ولدها، ولهذا عرف بالاستقراء معاجلة من تعاطى ذلك بالعقوبة بالدنيا ولعذاب الآخرة أشد. ففي هذا الحديث تحريم أذى فاطمة، وتحريم أذى فاطمة لأنّها بضعة من رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله)، بل هو موجب للكفر كما تقدّم. وقال المناوي: قال السبكي: الذي نختاره وندين اللَّه به أنّ فاطمة أفضل من خديجة ثمّ عائشة. قال المناوي: قال شهاب الدين ابن حجر: ولوضوح ما قاله السبكي تبعه عليه المحققون. قال المناوي: وذكر العَلَم العراقي: إنّ فاطمة وأخاها ابراهِيم أفضل من الخلفاء الأربعة باتفاق «12». إذن، لا يبقى خلاف بيننا وبينهم في أفضلية الزهراء من الشيخين، وأن أذاها موجب للدخول في النار. ثمّ إنّ هذه الأحاديث مطلقة ليس فيها أي قيد، عندما يقول رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم): «إنّ اللَّه يغضب لغضب فاطمة» لا يقول إنّ كانت القضية كذا، لا يقول بشرط أن يكون كذا، لا يقول إنّ كان غضبها بسبب كذا، ليس في الحديث أيّ تقييد، إن اللَّه يغضب لغضب فاطمة، بأي سبب كان، ومن أيّ أحدٍ كان، وفي أيّ زمان، أو أيّ وقت كان. وعندما يقول: «يؤذيني ما آذاها»، لا يقول رسول اللَّه:يؤذيني ما آذاها إنْ كان كذا، إنْ كان المؤذي فلاناً، إن كان في وقت كذا، ليس فيه أي قيد، بل الحديث مطلق «يؤذيني ما آذاها». ودلّت الأحاديث هذه على وجوب قبول قولها، وحرمة تكذيبها، وقد شهدت عائشة بأنّها سلام اللَّه عليها أصدق الناس لهجةً ما عدا والدها رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم)، ورسول قال كلّ هذا وفَعَله مع علمه بما سيكون من بعده.
المطلب الثاني:
في أنّ من آذى عليّاً فقد آذى رسول اللَّه: كان المطلب الأوّل في أنّ من آذى فاطمة فقد آذى رسول اللَّه، وهذا المطلب الثاني في أنّ من آذى عليّاً فقد آذى رسول اللَّه، وذاك قوله (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم): «من آذى عليّاً فقد آذاني». هذا الحديث تجدونه في: [المسند]، و [صحيح ابن حبّان]، و [المستدرك]، و [الإصابة]، و [أُسد الغابة]، وأورده صاحب [كنز العمّال] عن ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في تاريخه والطبراني، وله أيضاً مصادر أخرى «13».
المطلب الثالث:
في أنّ بغض علي نفاق: أخرج مسلم في [صحيحه] عن علي (عليه السلام) قال: «والذي فَلَقَ الحَبَّةً وبرأ النَسَمة، إنّه لعهد النبي الأُمي إليّ [وهل يكون التأكيد بأكثر من هذا؟] أنْ لا يحبّني إلّا مؤمن ولا يبغضني إلّا منافق». تجدون هذا الحديث بهذا اللفظ أو بمعناه عند: النسائي، والترمذي، وابن ماجة، وفي [مسند أحمد]، وفي [المستدرك]، وفي [كنز العمال] عن عدة من كبار الأئمة «14». وفي [مسند أحمد] و [صحيح الترمذي] عن أُم سلمة: «كان رسول اللَّه يقول- هذه الصيغة تدل على الاستمرار-: «لا يحب عليّاً منافق ولا يبغضه مؤمن» «15»». نستفيد من هذه الأحاديث في هذا المطلب: أنّ حبّ علي وحبّ المنافقين لا يجتمعان، لو أنّ أحداً يعتقد حتّى بإمامة علي وولايته بعد رسول اللَّه، إلّاأنّه لا يبغض المنافقين، هذا الشخص هو أيضاً منافق، وهو مطرود من الطرفين، أي من المؤمنين ومن المنافقين، لأنّ المنافقين لا يعتقدون بولاية علي وهذا يعتقد،ولأنّ المؤمنين لا يحبّون المنافقين وهذا يحب. ولا يمكن الجمع بينهما بأيّ حال من الأحوال، وبأيّ شكلٍ من الأشكال.
المطلب الرابع:
في إخبار النبي عليّاً بأنّ الأمّة ستغدر به: قال علي (عليه السّلام): «إنّه ممّا عهد إليّ النبي (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) أنّ الأُمة ستغدر بي بعده». قال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح «16». وقد قرّروا أنّ كلّ حديث وافق الذهبي فيه الحاكم النيسابوري في التصحيح فهو بحكم الصحيحين. ومن رواة هذا الحديث أيضاً: ابن أبي شيبة، والبزّار، والدارقطني، والخطيب البغدادي، والبيهقي، وغيرهم.
المطلب الخامس:
ضغائن في صدور أقوام:أخرج أبو يعلى والبزّار- بسند صحّحه: الحاكم، والذهبي، وابن حبّان، وغيرهم- عن علي (عليه السّلام) قال: «بينا رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) آخذ بيدي ونحن نمشي في بعض سكك المدينة، إذ أتينا على حديقة، فقلت: يا رسول اللَّه ما أحسنها من حديقة! فقال: إنّ لك في الجنّة أحسن منها، ثمّ مررنا بأُخرى فقلت: يا رسول اللَّه ما أحسنها من حديقة! قال: لك في الجنّة أحسن منها، حتّى مررنا بسبع حدائق، كلّ ذلك أقول ما أحسنها ويقول: لك في الجنّة أحسن منها، فلمّا خلا لي الطريق اعتنقني ثمّ أجهش باكياً، قلت: يا رسول اللَّه ما يبكيك؟ قال: ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلّامن بعدي، قال: قلت يا رسول اللَّه في سلامة من ديني؟ قال: في سلامة من دينك». هذا اللفظ في: [مجمع الزوائد] عن: أبي يعلى والبزّار «17»، ونفس السند موجود في [المستدرك] وقد صحّحه الحاكم والذهبي «18»، فيكون سنده صحيحاً يقيناً، لكن اللفظ في المستدرك مختصر وذيله غير مذكور، واللَّه أعلم ممّن هذا التصرف، هل من الحاكم أو من الناسخين أو من الناشرين؟ فراجعوا، السند نفس السند عند أبي يعلى وعند البزّار وعند الحاكم، والحاكم يصحّحه والذهبي يوافقه، إلّا أنّ الحديث في المستدرك أبتر مقطوع الذيل، لأنّه إلى حدّ «إنّ لك في الجنّة أحسن منها» لا أكثر. وهناك أحاديث أيضاً صريحة في أنّ «الأقوام» المراد منهم في هذا الحديث «هم قريش»، وفي المطلب السادس أيضاً بعض الأحاديث تدلّ على ذلك، فلاحظوا.
المطلب السادس:
في أنّ قريشاً هم سبب هلاك الناس بعد النبي:عن أبي هريرة عن النبي (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) قال: «يهلك أُمّتي هذا الحي من قريش»، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «لو أنّ الناس اعتزلوهم».وعن أبي هريرة أيضاً قال: سمعت الصادق المصدوق يقول: «هلاك أُمتي على يدي غلمة من قريش»، فقالوا: مروان غلمة؟ قال أبو هريرة: إن شئت أنْ أُسمّيه، بني فلان، بني فلان».
والحديثان في الصحيحين «19».
المطلب السابع: لم يروَ من الضغائن والغدر إلّاالقليل: وهذا المطلب مهمّ جدّاً، فالغدر الذي كان، والضغائن التي بدت- التي سبق وأنْ أخبر عنها رسول اللَّه- لم يروَ منها في الكتب إلّاالقليل، والسبب واضح، لأنّهم منعوا من تدوين الحديث، وعندما دُوّن، فقد دوّن على يد بني أُميّة وفي عهدهم، وهذا حال السنّة، أي السنّة عند أهل السنّة. ثمّ إنّ من كان عنده شيء من تلك الأمور التي أشار إليها رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) لم يروه، وإذا رواه لم ينقلوه ولم يكتبوه ومنعوا من نشره ومِن نَقْلِه إلى الآخرين، حتّى أنّ من كان عنده كتاب فيه شيء من تلك القضايا، أخذوه منه، أو أخفاه ولم يظهره لأحد، أذكر لكم موارد من هذا القبيل: قال ابن عدي- في آخر ترجمة عبد الرزاق بن همّام الصنعاني- في كتاب [الكامل]: «ولعبد الرزاق بن همّام [هذا شيخ البخاري] أصناف حديث كثير، وقد رحل إليه ثقات المسلمين وأئمّتهم وكتبوا عنه، ولم يروا بحديثه بأساً، إلّاأنّهم نسبوه إلى التشيّع، وقد روى أحاديث في الفضائل ممّا لا يوافقه عليها أحد من الثقات، فهذا أعظم ما رموه به من روايته لهذه الأحاديث، ولِما رواه في مثالب غيرهم ممّا لم أذكره في كتابي هذا، وأمّا في باب الصدق فأرجو أنّه لا بأس به، إلّاأنّه قد سبق عنه أحاديث في فضائل أهل البيت ومثالب آخرين مناكير» «20». وبترجمة عبد الرحمن بن يوسف بن خراش- الحافظ الكبير- يقول ابن عدي: «سمعت عبدان يقول: وحمل ابن خراش إلى بندار جزئين صنّفهما في مثالب الشيخين فأجازه بألفي درهم». فأين هذا الكتاب الذي هو في جزئين؟ قال ابن عدي: «فأمّا الحديث فأرجو أنّه لا يتعمّد الكذب» «21». فالرجل ليس بكاذب، ولو راجعتم [سير أعلام النبلاء] للذهبي أو [تذكرة الحفّاظ] للذهبي، لرأيتم الذهبي ينقل هذا المطلب، ويتهجّم على ابن خراش ويشتمه ويسبّه سبّ الذين كفروا «22». ولا يتوهمنّ أحد أنّ هذا الرجل- ابن خراش- من الشيعة، وذلك، لأنّ هذا الرجل من كبار علماء القوم ومن أعلامهم في الجرح والتعديل، ويعتمدون على آرائه في ردّ الراوي أو قبوله، أذكر لكم مورداً واحداً: في ترجمة عبد اللَّه بن شقيق، يقول ابن حجر العسقلاني في [تهذيب التهذيب]: «قال ابن خراش: كان- عبد اللَّه بن شقيق- ثقة وكان عثمانياً يبغض عليّاً» «23». فابن خراش ليس بشيعي، لأنّه يوثق هذا الرجل مع تصريحه بأنّه كان عثمانيّاً يبغض عليّاً. فلا يتوهّم أنّ هذا الرجل- ابن خراش- من الشيعة، بل هو من أعلام أهل السنّة ومن كبار حفّاظهم، إلّاأنّه ألّف جزئين في مثالب الشيخين. مورد آخر في [كتاب العلل] لأحمد بن حنبل، قال أحمد: «كان أبو عوانة [الذي هو من كبار محدّثيهم وحفّاظهم، وله كتاب في الصحيح اسمه: صحيح أبي عوانة] وضع كتاباً فيه معايب أصحاب رسول اللَّه، وفيه بلايا، فجاء سلّام بن أبي مطيع «24» فقال: يا أبا عوانة، أعطني ذاك الكتاب فأعطاه، فأخذه سلّام فأحرقه» «25». ويروي أحمد بن حنبل في نفس الكتاب عن عبد الرحمن بن مهدي «26» قال:«فنظرت الكتاب منه وأحرقه بلا إذن منه ولا رضا». مورد آخر: ذكروا بترجمة الحسين بن الحسن الأشقر: «أنّ أحمد بن حنبل حدّث عنه وقال: لم يكن عندي ممّن يكذب [فهو حدّث عنه وقال: لم يكن عندي ممّن يكذب] فقيل له: إنّه يحدّث في أبي بكر وعمر، وإنّه صنّف باباً في معايبهما، فقال: ليس هذا بأهلٍ أنْ يحدَّث عنه» «27»!
أوّلًا: أين ذاك الباب الذي اشتمل على هذه القضايا؟ ولماذا لم يصل إلينا؟
وثانياً: إنّه بمجرَّد أنْ علم أحمد بن حنبل بأنّ الرجل يحدّث في الشيخين، وبأنّه صنّف مثل هذه الأحاديث في كتاب، سقط من عين أحمد وأصبح كذّاباً لا يعتمد عليه ولا يروى عنه!مورد آخر: في [ميزان الاعتدال] بترجمة إبراهيم بن الحكم بن زهير الكوفي:«قال أبو حاتم: روى في مثالب معاوية فمزّقنا ما كتبنا عنه» «28». روى في مثالب معاوية فمزّقنا ما كتبنا عنه، فراحت تلك الروايات. وهذا بعض ما ذكروا في هذا الباب. ثمّ إنّهم ذكروا في تراجم رجال كثيرين من أعلام الحديث والرواة الذين هم من رجال الصحاح، ذكروا أنّه كان يشتم أبا بكر وعمر، لاحظوا هذه العبارة بترجمة إسماعيل بن عبد الرحمن السُدّي «29»، وبترجمة تليد بن سليمان «30»، وبترجمة جعفر بن سليمان الضبعي «31»، وغير هؤلاء.ولماذا كان هؤلاء يشتمون؟ هل بلغهم شيء أو أشياء، ممّا أدّى وسبّب في أنْ يجوّزوا لأنفسهم أن يشتموا ويسبّوا؟ وأين تلك القضايا؟ وما هي؟ وأمّا ما ذكروه بترجمة الرجال وكبار علمائهم وحفّاظهم من شتم عثمان وشتم معاوية، فكثير جدّاً، واعتقد أنّه لا يحصى لكثرته. ولقد فشى وكثر اللّعن أو الطعن في الشيخين في النصف الثاني من القرن الثالث، يقول زائدة بن قدامة- ووفاته في النصف الثاني من القرن الثالث-: «متى كان الناس يشتمون أبا بكر وعمر؟!» «32». وكثر وكثر حتى القرن السادس من الهجرة، جاء أحدهم- وهو الحافظ المحدّث عبد المغيث بن زهير بن حرب الحنبلي البغدادي- فألّف كتاباً في فضل يزيد بن معاوية وفي الدفاع عنه والمنع عن لعنه، فلمّا سئل عن ذلك، قال بلفظ العبارة: «إنّما قصدت كفّ الألسنة عن لعن الخلفاء» «33». حتى جاء التفتازاني في أواخر القرن الثامن من الهجرة وقال في [شرح المقاصد] ما نصّه: «فإن قيل: فمن علماء المذهب من لم يجوّز اللعن على يزيد مع علمهم بأنّه يستحقّ ما يربوا على ذلك ويزيد؟ قلنا: تحامياً عن أن يرتقى إلى الأعلى فالأعلى» «34». حتّى جاء كتّاب عصرنا، فألّفوا في مناقب يزيد، وألّفوا في مناقب الحجّاج، وألّفوا في مناقب هند!! وإنّي أعتقد أنّهم يعلمون بأنّ هذه المناقب والفضائل، والذي يذكرونه في الدفاع عن هؤلاء وأمثالهم، كلّه كذب، وإنّ هؤلاء يستحقّون اللعن، إلّاأنّ الغرض هو إشغال الكتّاب والباحثين والمفكّرين وسائر الناس بمثل هذه الأُمور، ولكي لا يبقى هناك مجال لأن يرتقى إلى الأعلى فالأعلى. ومن هنا نفهم أنّ محاربتهم لقضايا الحسين (عليه السّلام) ومحاربتم لمآتم الحسين (عليه السّلام) ولقضايا عاشوراء، كلّ ذلك، لئلّا يلعن يزيد، ولئلّا ينتهى إلى الأعلى فالأعلى.
( 1) خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام): 119 و 120، طبقات ابن سعد 2/ 40، مسند أحمد 6/ 282، حلية الأولياء 2/ 39، المستدرك 3/ 151.
( 2) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب مناقب قرابة الرسول ومنقبة فاطمة( عليها السّلام).
( 3) مسند أحمد 4/ 328.
( 4) صحيح مسلم، باب مناقب فاطمة( عليها السّلام).
( 5) مسند أحمد 4/ 5، المستدرك على الصحيحين 3/ 159.
( 6) المستدرك على الصحيحين 3/ 158، مسند أحمد 4/ 323.
( 7) المستدرك على الصحيحين 3/ 153، كنز العمّال 13/ 674، 12/ 111.
( 8) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، صحيح مسلم- باب مناقب فاطمة(عليها السّلام)، صحيح الترمذي، المستدرك على الصحيحين 4/ 272.
( 9) المستدرك على الصحيحين 3/ 160، حلية الأولياء 2/ 41، الإستيعاب 4/ 1896.
( 10) المستدرك على الصحيحين 3/ 154.
( 11) مجمع الزوائد 9/ 202.
( 12) فيض القدير 4/ 421.
( 13) مسند أحمد 3/ 483، المستدرك على الصحيحين 3/ 122، مجمع الزوائد 9/ 129، أُسد الغابة والاصابة بترجمته عن عدّةٍ من الأئمة، كنز العمّال 11/ 601.
( 14) منسد أحمد 1/ 84، 128، صحيح مسلم- كتاب الايمان، كنز العمّال 13/ 120 رقم 36385.
( 15) مسند أحمد 6/ 292.
( 16) المستدرك على الصحيحين 3/ 140، 142.
( 17) مجمع الزوائد 9/ 118.
( 18) المستدرك على الصحيحين 3/ 139.
( 19) وأخرجه أحمد 2/ 324، 288، 299، 520.
( 20) الكامل في ضعفاء الرجال 6/ 545.
( 21) المصدر 5/ 519.
( 22) سير أعلام النبلاء 13/ 509، تذكرة الحفّاظ 2/ 684، ميزان الإعتدال 2/ 600.
( 23) تهذيب التهذيب 5/ 223.
( 24) الإمام الثقة القدوة، من رجال الصحيحين، سير أعلام النبلاء 7/ 428.
( 25) العلل ومعرفة الرجال 1/ 60.
( 26) الامام الناقد المجوّد سيد الحفّاظ، سير أعلام النبلاء 9/ 192.
( 27) تهذيب التهذيب 2/ 291.
( 28) ميزان الإعتدال 1/ 27.
( 29) تهذيب التهذيب 1/ 274.
( 30) تهذيب الكمال 4/ 322.
( 31) تهذيب الكمال 4/ 322.
( 32) المصدر 3/ 246.
( 33) سير أعلام النبلاء 21/ 161.
( 34) شرح المقاصد 5/ 311.