عمر اول من حرم المتعة (بحث السيد الميلاني)
بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف المتعة: متعة النساء هي: أن تزوّج المرأة العاقلة الكاملة الحرّة نفسها من رجل، بمهر مسمّى، وبأجلٍ معيّن، ويشترط في هذا النكاح كلّ ما يشترط في النكاح الدائم، أي لابدّ أن يكون العقد صحيحاً، جامعاً لجميع شرائط الصحّة، لابدّ وأن يكون هناك مهر، لابدّ وأن لا يكون هناك مانع من نسب أو محرميّة ورضاع مثلًا، وهكذا بقيّة الأُمور المعتبرة في العقد الدائم، إلّاأنّ هذا العقد المنقطع فرقه مع الدائم: أنّ الدائم يكون الافتراق فيه بالطلاق، والافتراق في هذا العقد المنقطع يكون بانقضاء المدّة أو أن يهب الزوج المدّة المعيّنة. وأيضاً: لا توارث في العقد المنقطع مع وجوده في الدائم. وهذا لا يقتضي أن يكون العقد المنقطع شيئاً في مقابل العقد الدائم، وإنّما يكون نكاحاً كذاك النكاح، إلّاأنّ له أحكامه الخاصّة. هذا هو المراد من المتعة والنكاح المنقطع، وحينئذٍ هل هذا النكاح موجود في الشريعة الإسلاميّة أو لا؟ هل هذا النكاح سائغ وجائز في الشريعة؟ نقول: نعم، عليه الكتاب، وعليه السنّة، وعليه سيرة الصحابة والمسلمين جميعاً، عليه الإجماع. وحينئذٍ إذا ثبت الجواز بالكتاب وبالسنّة عند المسلمين، وبه أفتى الصحابة وفقهاء الأمة بل كانت عليه سيرتهم العمليّة، فيجب على من يقول بالحرمة أن يقيم الدليل. حينئذ، نقرأ أوّلًا أدلّة الجواز قراءةً عابرة حتّى ندخل في معرفة من حرّم، ولماذا حرّم، وما يمكن أن يكون وجهاً مبرّراً لتحريمه، حتّى نبحث عن ذلك بالتفصيل، وبالله التوفيق.
أدّلة جواز المتعة: الاستدلال بالقرآن: هناك آية في القرآن الكريم يُستدلّ بها على حلّيّة المتعة وإباحتها في الشريعة الإسلاميّة، قوله تعالى: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً» «1». هذه الآية نصّ في حليّة المتعة والنكاح المنقطع، النكاح الموقّت بالمعنى الذي ذكرناه. القائلون بدلالة هذه الآية المباركة على المتعة هم كبار الصحابة وكبار علماء القرآن من الصحابة، وعلى رأسهم أمير المؤمنين (عليه السلام)، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وأُبيّ بن كعب، وهذه الطبقة الذين هم المرجع في فهم القرآن، في قراءة القرآن، في تفسير القرآن عند الفريقين. ومن التابعين: سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والسدّي. فهؤلاء كلّهم يقولون بأنّ الآية تدلّ على المتعة وحلّيّة النكاح الموقّت بالمعنى المذكور. وحتى أنّ بعضهم كتب الآية في مصحفه المختصّ به بهذا الشكل: «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل فآتوهنّ أجورهنّ»، أضاف «إلى أجل» إلى الآية المباركة.وهذا فيه بحث ليس هنا موضعه، من حيث أنّ هذا هل يدلّ على تحريف القرآن أو لا يدل؟ أو أنّ هذا تفسير أو تأويل؟ بل رووا عن ابن عبّاس أنّه قال: والله لأنزلها الله كذلك، يحلف ثلاث مرّات: والله والله والله لأنزلها الله كذلك، أيالآية نزلت من الله سبحانه وتعالى وفيها كلمة «إلى أجل»، والعهدة على الراوي وعلى ابن عبّاس الذي يقول بهذا وهو يحلف. وعن ابن عبّاس وأُبيّ بن كعب التصريح بأنّ هذه الآية غير منسوخة، هذا أيضاً موجود. فلاحظوا هذه الأُمور التي ذكرت في: [تفاسير] الطبري» والقرطبي «2» وابن كثير «3» و [الكشّاف] «4» و [الدر المنثور] «5» في تفسير هذه الآية، وفي [أحكام القرآن] للجصّاص «6»، و [سنن] البيهقي «7»، و [شرح النووي على صحيح مسلم] «8»، و [المغني] لابن قدامة «9». بل ذكر القرطبي في ذيل هذه الآية أنّ القول بدلالتها على نكاح المتعة هو قول الجمهور، قال: قال الجمهور: المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام «10».
الاستدلال بالسنة: وأمّا السنّة، أكتفي من السنّة فعلًا بقراءة رواية فقط، وهذه الرواية في الصحيحين، هي: عن عبدالله بن مسعود قال: كنّا نغزوا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ليس لنا نساء، فقلنا: ألا نستخصي! فنهانا عن ذلك، ثمّ رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثمّ قرأ عبد الله [لاحظوا هذه الآية التي قرأها عبد الله بن مسعود في ذيل هذا الكلام]: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ ما أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ الله َ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ» «11» وكان له قصد في قراءة هذه الآية بالخصوص في آخر كلامه. هذا الحديث في كتاب النكاح من [البخاري]، وفي سورة المائدة أيضاً، وفي كتاب النكاح من [صحيح مسلم]، وفي [مسند أحمد] «12». الاستدلال بالإجماع: وأمّا الإجماع، فلا خلاف بين المسلمين في كون المتعة نكاحاً، نصّ على ذلك القرطبي في [تفسيره] وذكر طائفة من أحكامها حيث قال بنصّ العبارة: لم يختلف العلماء من السلف والخلف أنّ المتعة نكاح إلى أجل لا ميراث فيه، والفرقة تقع عند انقضاء الأجل من غير طلاق. ثمّ نقل عن ابن عطيّة كيفيّة هذا النكاح وأحكام هذا النكاح «13». إذن، فقد أجمع السلف والخلف على أنّ هذا نكاح. فظهر إلى الآن أنّ الكتاب يدل، والسنّة تدل، والإجماع قائم ودلالة الآية المذكورة هو قول الجمهور .... وكذا تجدون في [تفسير الطبري]، ونقل عن السدّي وغيره في ذيل الآية: هذه هي المتعة، الرجل ينكح المرأة بشرط إلى أجل مسمّى، هذا في تفسير الطبري «14». وفي [التمهيد] لابن عبد البر يقول: أجمعوا على أنّ المتعة نكاح لا إشهاد فيه، وأنّه نكاح إلى أجل، تقع الفرقة بلا طلاق ولا ميراث بينهما. إذن، ظهر إلى الآن أنّ هذا التشريع والعمل به كان موجوداً في الإسلام، وعليه الكتاب والسنّة والإجماع.
منشأ الإختلاف في مسألة المتعة: إذن، من أين يبدأ النزاع والخلاف؟ وما السبب في ذلك؟ وما دليله؟ المستفاد من تحقيق المطلب، والنظر في أدلّة القضيّة، وحتّى تصريحات بعض الصحابة والعلماء، أنّ هذا الجواز وهذا الحكم الشرعي، كان موجوداً إلى آخر حياة رسول الله ، وكان موجوداً في عصر أبي بكر وحكومته من أوّلها إلى آخرها، وأيضاً في زمن عمر بن الخطّاب إلى أواخر حياته، نظير الشورى كما قرأنا ودرسنا. وفي أواخر حياته قال عمر بن الخطّاب- في قضيّةٍ- كلمته المشهورة: متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما!! يعني متعة النساء ومتعة الحج، وبحثنا الآن في متعة النساء. تجدون هذه الكلمة في المصادر التالية: [المحلّى] لابن حزم «15»، [أحكام القرآن] للجصّاص «16»، [سنن البيهقي] «17»، [شرح معاني الآثار] للطحاوي «18»،[تفسير الرازي] «19»، [بداية المجتهد] لابن رشد «20»، [شرح التجريد] للقوشچي الأشعري في بحث الإمامة، [تفسير القرطبي] «21»، [المغني] لابن قدامة «22»، [زاد المعاد في هدي خير العباد] لابن قيّم الجوزيّة «23»، [الدر المنثور في التفسير بالمأثور] «24»، [كنز العمّال] «25»، [وفيات الأعيان] لابن خلّكان بترجمة يحيى بن أكثم «26»، وسنقرأ القضيّة. ومن هؤلاء من ينصّ على صحّة هذا الخبر، كالسرخسي الفقيه الكبير الحنفي في كتابه [المبسوط في فقه الحنفيّة] في مبحث المتعة «27» ومنهم أيضاً من ينصّ على ثبوت هذا الخبر، كابن قيّم الجوزيّة في [زاد المعاد]، وسنقرأ عبارته.
صريح الأخبار: أنّ هذا التحريم من عمر- وقوله كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما- كان في أواخر أيّام حياته، ومن الأخبار الدالّة على ذلك: ما عن عطاء عن جابر قال: استمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر، حتّى إذا كان في آخر خلافة عمر، استمتع عمرو بن حريث بامرأة سمّاها جابر فنسيتها، فحملت المرأة، فبلغ ذلك عمر، فذلك حين نهى عنها. «حتّى إذا كان في آخر خلافة عمر» هذا نصّ الحديث.\ وهو في [المصنّف] لعبد الرزّاق «28»، وفي [صحيح مسلم] «29»، وفي [مسند أحمد] «30»، وفي [سنن البيهقي] «31». ولم يكن هذا التحريم تحريماً بسيطاً كسائر التحريمات، وإنّما تحريم وعقاب، تحريم مع تهديد بالرجم. لاحظوا، أنّه قال: لو أنّي بلغني أنّ أحداً فعل كذا ومات، لأرجمنّ قبره. وأيّ المحرّمات يكون هكذا؟ ففي [المبسوط] للسرخسي: لو أُوتى برجل تزوّج امرأة إلى أجل إلّارجمته، ولو أدركته ميّتاً لرجمت قبره «32». وحينئذ، نرى بأنّ هذا التحريم لم يكن من أحد، ولم يصدر قبل عمر من أحد، وكان هذا التحريم منه، وهذا من أوّليّات عمر بن الخطّاب. ويقال: بأنّه جاء رجل من الشام، فمكث مع امرأة ما شاء الله أن يمكث، ثمّ إنّه خرج، فأُخبر بذلك عمر بن الخطّاب، فأرسل إليه فقال: ما حملك على الذي فعلته؟ قال: فعلته مع رسول الله ثمّ لم ينهانا عنه حتّى قبضه الله ، ثمّ مع أبي بكر فلم ينهانا حتّى قبضه الله ، ثمّ معك فلم تحدث لنا فيه نهياً، فقال عمر: أما والذي نفسي بيده لو كنت تقدّمت في نهي لرجمتك». فإلى هذه اللّحظة لم يكن نهي، ومن هنا يبدأ النهي والتحريم. ولذا نرى أنّ الحديث والتاريخ وكلمات العلماء كلّها تنسب التحريم إلى عمر، وتضيفه إليه مباشرة.فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): لولا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّاشقي. هذا في [المصنّف] لعبد الرزاق «33»، و [تفسير الطبري] «34»، و [الدر المنثور] «35»، و [تفسير الرازي] «36». وعن ابن عبّاس: ما كانت المتعة إلّارحمة من الله تعالى رحم بها عباده، ولولا نهي عمر ما زنى إلّاشقي. هذا في [تفسير القرطبي] «37». وفي بعض كتب اللغة يذكرون هذه الكلمة عن ابن عبّاس أو عن أمير المؤمنين، لكن ليست الكلمة: إلّاشقي، بل: إلّاشفى، ويفسرون الكلمة بمعنى القليل، يعني لولا نهي عمر لما زنى إلّاقليل «38». فتحريم المتعة من أوّليات عمر بن الخطّاب، وتجدون التصريح بهذا في كتاب [تاريخ الخلفاء] للسيوطي «39». فإلى هنا رأينا الجواز بأصل الشرع، بالكتاب والسنّة والإجماع ... ورأينا التحريم من عمر بن الخطّاب وفي آخر أيّام خلافته، ولابد أنّ بعض الصحابة اتّبعوه في هذا التحريم، وفي مقابله كبار الصحابة وعلى رأسهم أمير المؤمنين (سلام الله عليه)، إذ كان موقف هؤلاء موقفاً صارماً واضحاً في هذه المسألة. أمّا كلمة أمير المؤمنين فقرأناها: لولا نهي عمر لما زنى إلّاشقي. ويقول ابن حزم: وقد ثبت على تحليلها بعد رسول الله جماعة من السلف، منهم- من الصحابة-:
1- أسماء بنت أبي بكر.
2- جابر بن عبد الله .
3- وابن مسعود.
4- وابن عبّاس.
5- ومعاوية بن أبي سفيان.
6- وعمرو بن حريث.
7- وأبو سعيد الخدري.
8 و 9- وسلمة ومعبد ابنا أُميّة بن خلف.
ورواه جابر عن جميع الصحابة مدّة رسول الله ومدّة أبي بكر وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر.
هذه عبارة ابن حزم ويقول: ومن التابعين:
1- طاووس.
2- وعطاء.
3- وسعيد بن جبير.
4- ... وسائر فقهاء مكّة أعزّها الله «40».
أمّا القرطبي، فذكر بعض الصحابة منهم: عمران بن حصين، وذكر عن ابن عبد البر أنّ أصحاب ابن عبّاس من أهل مكّة واليمن كلّهم يرون المتعة حلالًا على مذهب ابن عبّاس «41».
إذن، ظهر الخلاف، ومن هنا يبدأ التحقيق في القضيّة، ولنا الحق في تحقيق هذه القضيّة أو لا؟ وتحقيقنا ليس إلّانقل نصوص وكلمات لا أكثر.
ولننظر في تلك الأحاديث والكلمات، لنرى أنّ الحقّ مع من؟
كان شيء حلالًا في الشريعة الإسلاميّة، و رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لم يحرّمه، وأبو بكر لم يحرّمه، والصحابة لم يحرّموه، وعمر أيضاً لم يحرّمه إلى أواخر أيّام حياته، وقد عملوا بهذا الحكم الشرعي، وطبّقوه في جميع هذه الأدوار، فماذا يقول العلماء في هذه القضيّة؟
أمّا علماء الإماميّة، فيجعلون هذه القضيّة في جملة الموانع من صلاحيّة عمر بن الخطّاب للخلافة بعد رسول الله ، لأنّ وظيفة الخليفة أن يكون حافظاً للشريعة لا مبدّلًا ومغيّراً لها.
و في كتاب [المواقف] و [شرح المواقف] وغير هذين الكتابين: أنّ من أهمّ وظائف الخليفة والإمام بعد رسول الله المحافظة على الدين من الزيادة والنقصان، ودفع الشبه والإشكالات الواردة عن الآخرين في هذا الدين.
فيقول الإماميّة بأنّ هذه القضيّة من جملة ما يستدلّ به على عدم صلاحيّة هذا الصحابي للخلافة بعد رسول الله .
أمّا علماء أهل السنّة القائلون بخلافته وإمامته بعد أبي بكر، فلابدّ وأن يجيبوا عن هذا الإشكال، فلنحقق في أجوبة القوم عن هذا الإشكال الموجّه إلى خليفتهم.
النظر في أدلّة تحريم المتعة
لقد ذكروا في الدفاع عن عمر بن الخطاب وعن تحريمه للمتعة ثلاثة وجوه، ولم أجد أكثر من هذه الوجوه.
الوجه الأوّل:
إنّ المحرّم لمتعة النساء هو رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فالمتعة كانت في حياته الكريمة محرّمة، إلّاأنّه لم يقل بهذا الحكم الشرعي للناس ولم يعلنه، وإنّما أعلم به عمر بن الخطّاب فقط، فلمّا تولّى عمر الأمر- أيأمر الخلافة- أعلن عن هذا الحكم.
هذا ما ينتهي إليه الفخر الرازي «42» بعد أنْ يحقّق في المسألة، ويشرّق ويغرّب، لاحظوا نصّ عبارته: فلم يبق إلّاأن يقال:- أيالأقوال الأُخرى والوجوه الأُخرى كلّها مردودة في نظره- كان مراده- أيمراد عمر- أنّ المتعة كانت مباحة في زمن ال رسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأنا أنهى عنها، لما ثبت عندي أنّه- أي النبي- نسخها.
والأصرح من عبارته كلام النووي «43» في توجيه هذا التحريم يقول: محمول
- أيتحريمه للمتعة- على أنّ الذي استمتع على عهد أبي بكر وعمر لم يبلغه النسخ، وإنّما بلغ النسخ عمر بن الخطّاب فقط.
وكأنّ رسول الله همس في أُذن عمر بن الخطّاب بهذا الحكم الشرعي، وبقي هذا الحكم عنده وحده إلى أن أعلن عنه في أواخر أيّام حياته.
مناقشة الوجه الأوّل:
أوّلًا: إنّه يقول: وأنا أنهى عنهما، ولا يقول بأنّ رسول الله نسخ هذا الحكم وحرّمه وإنّي أُحرّم المتعة لتحريم رسول الله ، يقول: أنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما.
وثانياً: هل يرتضي الفخر الرازي ويرتضي النووي- لا سيّما الفخر الرازي الذي يقول: (لم يبق إلّاأن يقال) الفخر الرازي الذي يعترف بعدم تماميّة الوجوه الأُخرى وأنّ الوجه الصحيح عنده هذا الوجه، ولا طريق آخر لحلّ المشكلة- أن يكون الحكم الشرعي هذا لم يبلغ أحداً من الصحابة، ولم يبلّغه رسول الله إلى أحد منهم، وإنّما باح (صلّى الله عليه وآله وسلم) به إلى عمر بن الخطّاب فقط، وبقي عنده، وحتّى أنّ عمر نفسه لم ينقل هذا الخبر عن رسول الله في تمام هذه المدّة والمسلمون يعلمون بالحكم المنسوخ فيها؟ وما الحكمة في إخفاء هذا الحكم الشرعي عن الأُمّة إلّاعن عمر، حتى أظهره في أُخريات أيّامه؟
مضافاً، إلى أنّ رجلًا اسمه عمران بن سواده، يخبر عن عمر بن الخطّاب عمّا يقول الناس فيه، أيعن اعتراضات الناس وانتقاداتهم على عمر، يبلّغه بتلك الأُمور، يقول له: عابت أُمّتك منك أربعاً: ... وذكروا أنّك حرّمت متعة النساء وقد كانت رخصة من الله ، نستمتع بقبضة ونفارق عن ثلاث.
فالناس كلّهم كانوا يتكلّمون فيه، وقد أبلغ هذا الرجل كلام الناس إليه،فانظروا إلى جوابه:
قال عمر: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أحلّها في زمان ضرورة ثمّ رجع الناس إلى سعة.
فكان رأياً منه ولم يكن رأياً من رسول الله حتّى يقول الفخر الرازي بأنّ هذا الحكم الشرعي ما سمع به إلّاهذا الشخص وبقي عنده حتّى أعلن عنه.
هذه الرواية في [تاريخ الطبري] في حوادث سنة 23 «44».
ولكن الأُمّة لم تقبل هذا العذر من عمر الذي قال بأنّ رسول الله أحلّها في زمان ضرورة ثمّ رجع الناس إلى سعة، لم تقبل الأُمّة هذا العذر من عمر، وبقي الاختلاف على حاله إلى يومنا هذا.
الوجه الثاني:
إنّ التحريم كان من عمر نفسه وليس من رسول الله وهذا هو مقتضى نصّ عبارته: «وأنا أنهى عنهما».
ولكن تحريم عمر يجب اتّباعه وامتثاله وإطاعته وتطبيقه، لقول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضّوا عليها بالنواجذ». هذا حديث نبوي، وينطبق هذا الحديث على فعل عمر، وحينئذٍ يجب إطاعة عمر فيما قال وفعل، وفيما نهى وأمر.
يقول ابن القيّم «45»: فإن قيل: فما تصنعون بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله وأبي بكر، حتّى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث، وفيما ثبت عن عمر أنّه قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله ؟
قيل في الجواب: الناس في هذا طائفتان، طائفة تقول: إنّ عمر هو الذي حرّمها ونهى عنها، وقد أمر رسول الله باتّباع ما سنّه الخلفاء الراشدون [إشارة إلى الحديث الذي ذكرته] ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سمرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح، فإنّه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سمرة عن أبيه عن جدّه، وقد تكلّم فيه ابن معين، ولم ير البخاري حديثه في صحيحه مع شدّة الحاجة إليه.
يقول ابن القيّم: إنّ هذه الطائفة لم تعتبر هذا الحديث والبخاري لم يخرّجه في صحيحه، وتكلّم فيه ابن معين، لو كان صحيحاً لأخرجه البخاري مع شدّة الحاجة إليه وكونه أصلًا من أصول الإسلام، ولو صحّ عنده- عند البخاري- لم يصبر عن إخراجه والإحتجاج به، قالوا: ولو صحّ هذا الحديث لم يخف على ابن مسعود، حتّى يروي أنّهم فعلوها ويحتج بالآية [الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا ...»] وأيضاً لو صحّ لم يقل عمر إنّها كانت على عهد رسول الله وأنا أنهى عنها وأُعاقب، بل كان يقول: إنّه (صلّى الله عليه وآله وسلم) حرّمها ونهى عنها. قالوا:
ولو صحّ لم تفعل على عهد الصدّيق وهو عهد خلافة النبوّة حقّاً.
فظهر أنّ هذا القول- أيالقول بأنّ التحريم منه لا من ال رسول - قول طائفة من العلماء، وهؤلاء لا يعتبرون الأحاديث الدالّة على تحريم رسول الله المتعة في بعض المواطن، كما سنقرأ تلك الأحاديث في القول الثالث، وقالوا بأنّ المحرِّم هو عمر، لكنّ تحريمه لا مانع منه وأنّه سائِغ وجائز، بل هو سنّة، و رسول الله أمر باتّباع سنّة الخلفاء الراشدين من بعده وهو منهم.
مناقشة الوجه الثاني:
في هذا الوجه اعتراف وإقرار بما يدلّ عليه كلام عمر حيث يقول: وأنا أنهى،وليس فيه أيّ تمحّل وتكلّف، أخذ بظاهر عبارته الصريحة في معناها، لكن في مقام التوجيه لابدّ وأن ينتهي الأمر إلى رسول الله، وقد انتهى الأمر إلى رسول الله على ضوء الحديث المذكور.
ف رسول الله يقول: كلّ ما سنّه الخلفاء من بعده، فتلك السنّة واجبة الإتّباع، واجبة الامتثال والتطبيق، فحينئذ يتمّ التحريم، إذ أنّه ينتهي إلى التشريع، إلى الله والرسول .
لكن يتوقف هذا الاستدلال على تماميّة حديث: «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» أنْ يتمّ هذا الحديث سنداً ودلالة.
أمّا سنداً، فلابدّ أن يتمّ سنده ويكون معتبراً وتوثّق رجاله على أساس كلمات علماء الجرح والتعديل من أهل السنّة على الأقل.
وأمّا دلالةً، فلابد وأن يراد من الخلفاء الراشدين المهديين في الحديث، أن يراد الأربعة من بعده، أو الخمسة من بعده الذين يسمّونهم بالخلفاء الراشدين وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز أو الحسن المجتبى على خلاف بينهم.
إذا كان المراد من هذا الحديث هؤلاء، فحينئذٍ يتمّ الاستدلال بعد تماميّة السند.
ولكنّي وُفّقت- وللَّه الحمد- بتحرير رسالة مفردة «46» في هذا الحديث، وأثبتّ أنّه من الأحاديث الموضوعة في زمن معاوية، هذا أوّلًا.
وثانياً: هذا الحديث لو تمّ سنده على فرض التنزّل عن المناقشة سنداً، فإنّ المراد من الخلفاء في هذا الحديث هم الأئمّة الإثنا عشر في الحديث المعروف المشهور المتفق عليه بين المسلمين، وعليكم بمراجعة تلك الرسالة، ولو كان لنا وقت ومجال لوسّعت الكلام في هذا الحديث، ولكن أُحيلكم إلى تلك الرسالة.
الوجه الثالث:
إنّ التحريم كان من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وهذا شيء أعلنه رسول الله وأبلغه (صلّى الله عليه وآله) إلى الناس، إلّاأنّ الذين قالوا بجوازه وبقوا على حليّته لم يبلغهم تحريم رسول الله ....
إنّ رسول الله أعلن عن هذا الحكم الشرعي، إلّاأنّ عليّاً لم يدرِ بهذا الحكم، وابن عباس وابن مسعود وأُبي بن كعب وجابر بن عبد الله الأنصاري وغيرهم، كلّ هؤلاء لم يطّلعوا على هذا التحريم من رسول الله ، وأيضاً: عمر يقول: أُحرّمهما، وقد كان عليه أن يقول رسول الله حرّم، لكن أصحاب هذا القول يقولون بأنّ رسول الله هو الذي حرّم المتعة.
يقول ابن القيّم- بعد الكلام السابق الذي أوردناه-: الطائفة الثانية رأت صحّة حديث سمرة، ولو لم يصح فقد صحّ حديث علي أنّ رسول الله حرّم متعة النساء، فوجب حمل حديث جابر على أنّ الذي أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريم، ولم يكن قد اشتهر، حتّى كان زمن عمر، فلمّا وقع فيها النزاع ظهر تحريمها واشتهر.
يقول ابن القيّم: وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة في المتعة «47».
وخلاصة هذا القول: أنّ رسول الله هو الذي حرّم، وقول عمر: أنا أُحرّمهما، غير ثابت، والحال أنّه ثابت عند ابن القيّم، وقد نصّ على ذلك، هذا والصحابة القائلون بالحليّة بعد رسول الله لم يبلغهم التحريم.
مناقشة الوجه الثالث:
لنرى متى حرّم رسول الله المتعة؟ ومتى أعلن عن نسخ هذا الحكم الثابت في الشريعة؟
هنا أقوال كثيرة.
القول الأوّل: إنه كان عام حجة الوداع.
ف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) حرّم المتعة عام حجّة الوداع، والناس لم يعلموا، أيالقائلون بالحليّة لم يعلموا ولم يطّلعوا على هذا التحريم، فكان شيء حلالًا في الشريعة بالكتاب والسنّة ثم إنّ رسول الله نسخ هذا الحكم في حجّة الوداع.
هذا هو القول الأوّل.
يقول ابن القيّم: هو وَهمٌ من بعض الرواة.
فهذا القول غلط.
القول الثاني: إنّه حرّم المتعة في حنين.
قال ابن القيّم: هذا في الحقيقة هو القول بكونه كان عام الفتح، لاتصال غزاة حنين بالفتح.
إذن، ينتفي القول بتحريم رسول الله المتعة في عام حنين، هذا القول الثاني.
القول الثالث: إنّه كان في غزوة أوطاس.
يقول السهيلي الحافظ الكبير: من قال من الرواة كان في غزوة أوطاس فهو موافق لمن قال عام الفتح.
فانتفى هذا العنوان، عنوان أنّ التحريم كان في أوطاس. تجدون هذه الكلمة في [فتح الباري] لابن حجر «48».
القول الرابع: قيل في عمرة القضاء.
قال السهيلي: أرغب ما روي في ذلك- أيفي التحريم- رواية من قال في غزوة تبوك، ثمّ رواية الحسن إنّ ذلك كان في عمرة القضاء، هذا أرغب ما قيل.
ذكر هذا الكلام الحافظ ابن حجر في [شرح البخاري] وقال: أمّا عمرة القضاء فلا يصحّ الأثر فيها، لكونه من مرسل الحسن [الحسن البصري] ومراسيله ضعيفة، لأنّه كان يأخذ عن كلّ أحد، وعلى تقدير ثبوته، لعلّه- أيالحسن- أراد أيّام خيبر، لأنّهما كانا في سنة واحدة كما في الفتح وأوطاس سواء «49».
فهذه أربعة أقوال بطلت بتصريحاتهم.
فمتى؟ وأين حرّم رسول الله المتعة؟ هذا التحريم الذي لم يبلغ عليّاً أمير المؤمنين وغيره من كبار الأصحاب؟
القول الخامس: إنّه في عام الفتح.
وهذا القول اختاره ابن القيّم، واختاره ابن حجر، ونسبه السهيلي إلى المشهور، فلاحظوا [زاد المعاد] «50»، و [فتح الباري] «51».
يقول ابن حجر الطريق التي أخرجها مسلم مصرّحة بأنّها في زمن الفتح أرجح، فتعيّن المصير إليها.
فإذا كان رسول الله قد حرّم في عام الفتح، إذن المتعة حرام وإنْ لم يعلم بذلك علي ولا غيره من الصحابة، وعلم بها عمر ومن تبعه.
قال ابن حجر بعد ذكر أدلّة الأقوال الأُخرى: فلم يبق من المواطن كما قلنا صحيحاً صريحاً سوى غزوة خيبر وغزوة الفتح، وفي غزوة خيبر من كلام أهل العلم ما تقدّم.
إذن، إنحصر الأمر في موطنين، إمّا في الفتح وإمّا في خيبر، لكن في غزوة خيبر يعارضه كلام أهل العلم فهذا أيضاً يبطل، ويبقى القول بأنّه في عام الفتح.
وسنقرأ كلمات أهل العلم في غزوة خيبر.
أقول: دليل كون التحريم في غزوة الفتح ما هو؟ هو ذاك الحديث الذي لم يخرّجه البخاري، هو الحديث الذي أبطله ابن معين، هو الحديث الذي قال النووي وقال ابن قيّم وغيرهما: بأنّ هذا الحديث غير معتبر وإنْ أخرجه مسلم في صحيحه.
لاحظوا [تهذيب التهذيب] لابن حجر العسقلاني بترجمة عبد الملك بن الربيع، حيث يقول:
قال أبو خيثمة سُئل يحيى بن معين عن أحاديث عبد الملك بن الربيع عن أبيه عن جدّه فقال: ضعاف. وحكى ابن الجوزي عن ابن معين أنّه قال: عبد الملك ضعيف. وقال أبو الحسن ابن القطان: لم تثبت عدالته وإنْ كان مسلم أخرج له فغير محتجّ به [يعني إنّ مسلماً أخرج هذا الحديث عن هذا الرجل، إلّاأنّه لا يحتجّ مسلم به، لماذا؟] لأنّه أخرجه متابعة.
والحديث إذا كان متابعة في الاصطلاح فمعناه أنّه ليس هو مورد الإحتجاج، وإنّما ذكر لتقوية حديث آخر، ومسلم إنّما أخرج له حديثاً واحداً في المتعة، هو نفس هذا الحديث، متابعةً، وقد نبّه على ذلك المزّي صاحب كتاب [تهذيب الكمال]، ولاحظوا [تهذيب التهذيب] «52».
فظهر أنّ هذا الحديث ساقط سنداً عند الشيخين، وابن معين، وغيرهم، من أعلام المحدّثين وأئمة الجرح والتعديل.
وخلاصة البحث إلى الآن: أنّ أمر القوم يدور بين أمرين كما ذكر ابن القيم الجوزيّة:
إمّا أن ينسبوا التحريم إلى عمر ويجعلوا سنّته سنّةً شرعيّة يجب اتّباعها على أساس الحديث الذي ذكرناه.
وأمّا إذا كان التحريم من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فلماذا نسبه عمر إلى نفسه؟ ولماذا نسب كبار الصحابة إلى عمر التحريم؟
ثمّ حينئذ يسألون عن وقت هذا التحريم، وقد ظهر أنّه ليس في أوطاس، ولا في فتح مكّة، ولا في حجّة الوداع، ولا، ولا، ولا، فأين كان هذا التحريم الذي بلغ عمر ولم يبلغ سائر الصحابة أجمعين؟
هنا يضطربون- لاحظوا- يقولون: إنّ التحريم والتحليل تكرّرا، حلّلها رسول الله في موطن، ثمّ في الموطن اللاحق حرّمها، وفي الموطن الثالث حلّلها، في الموطن الرابع حرّمها ... وهكذا، حتّى يجمع بين هذه الأقوال والروايات.
لاحظوا عنوان مسلم يقول: باب نكاح المتعة وبيان أنّه أُبيح ثمّ نسخ ثمّ أبيح ثمّ نسخ واستقرّ حكمه إلى يوم القيامة.
لكنّ الروايات والأقوال هي أكثر من مرّتين، تبلغ السبعة، ولذا اضطرّ بعضهم أن يقول: أحلّ الرسول المتعة وحرّمها، أحلّها وحرّمها إلى سبعة مواطن، وهذا ما التزمه القرطبي في [تفسيره] «53».
لكنّ ابن القيّم يقول: هذا لم يعهد في الشريعة «54» ولا يوجد عندنا حكم أحلّه الله سبحانه وتعالى وحرّمه مرّتين، فكيف إلى سبعة مرّات؟!
فيظهر أنّها محاولات فاشلة، ولم يتمكّنوا من إثبات تحريم رسول الله ، وكان الأجدر بهم أن يلتزموا بالقول الثاني، أيالقول بأنّ التحريم من عمر وأنّ سنّته سنّة شرعيّة وتعتبر سنّته من سنّة رسول الله ، وعلى المسلمين أن يأخذوا بها.
كان الأجدر بهم جميعاً أن يلتزموا بهذا، إن أمكنهم تصحيح حديث: «عليكم بسنّتي ...» وتماميّة هذا الحديث في دلالته.
وإلى الآن ... بقيت ذمّة عمر مشغولة، والمشكلة غير محلولة.
الإفتراء على علي في مسألة المتعة
حينئذٍ يضطرّون إلى الافتراء، لأنّ المخالف الأوّل عليّ، وعليّ هو الإمام العالم بالأحكام الشرعيّة، الحريص على حفظها وتطبيقها بحذافيرها، فالأولى أن يفتروا على علي، ويضعوا على لسانه أحاديث في أنّ رسول الله حرّم المتعة، فخرج عمر عن العهدة وشاركه في الحكم بالتحريم والنقل عن رسولِ الله عليُ عليه السلام.
وهذه طريقة أُخرى بعد أن فشلت المحاولات في إثبات أنّ ال رسول هو الذي حرّم، وإثبات أنّه حرّم ولم يعلم بهذا التحريم إلّاعمر، وأيضاً فشلوا في دفع نسبة التحريم إلى عمر، لعدم تمكّنهم من إثبات حديث عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين، فماذا يفعلون؟ حينئذ يفترون على من؟ على عليّ بن أبي طالب ، فلو أنّ عليّاً وافق عمر في فتواه في التحريم في قول، حينئذٍ ينتفي الخلاف ولا يبقى نزاع في البين.
لكن المشكلة هي أنّ المفترين على علي لمّا تعدّدوا، تعدّد الوضع عليه والافتراء، فجاء أحدهم فنقل عن علي أنّ التحريم من رسول الله ، وكان في الموطن الكذائي، وجاء الآخر- وهو جاهل بتلك الفرية- وافترى عليه أنّ رسول الله حرّم في موطن آخر، وجاء ثالث وهو لا يعلم بأنّ قبله من افترى على علي في موطنين، فوضع موطناً ثالثاً، وهكذا عادت المشكلة وتعدّدت الروايات، فمتى حرّم رسول الله المتعة؟ عادت المشكلة من جديد، عندما يتعدّد المفترون، وكلٌّ لا علم له باختلاق غيره، حينئذٍ يتعدّد الاختلاق، وإذا تعدّد الاختلاق حصل الاختلاف، حتّى لو كانت الأحاديث موجودة في الصحيحين، إذ الخبران حينئذٍ يتعارضان، لأنّ التحريم من رسول الله واحد.
فمنهم من ينقل عن علي أنّ رسول الله حرّم المتعة في تبوك، ومنهم من ينقل عن علي أنّ رسول الله حرّم المتعة في حنين، ومنهم من ينقل عن علي عن رسول الله أنّه حرّم المتعة في خيبر، فعادت المشكلة من جديد، وقد أرادوا أن يجعلوا عليّاً موافقاً لعمر في التحريم، فتورّطوا من جديد!!
لاحظوا الأسانيد بدقّة، فالسند واحد، السند الذي ينقل عن علي التحريم في تبوك هو نفس السند الذي ينقل عنه أنّ التحريم في خيبر، وهو نفس السند الذي يقول أنّ التحريم في حنين، فلاحظوا كيف يكون!!.
الحديث الأول: قال النووي: وذكر غير مسلم عن علي أنّ النبي نهى عنها في غزوة تبوك، من رواية إسحاق بن راشد عن الزهري عن عبدالله بن محمّد بن علي عن أبيه عن علي: أنّ رسول الله حرّم المتعة في تبوك.
إذن، الراوي من؟ الزهري، عن عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة، عن أبيه محمد بن الحنفية، عن علي: إنّ رسول الله حرّم المتعة في تبوك «55».
الحديث الثاني:
أخرج النسائي: أخبرنا عمرو بن علي ومحمّد بن بشّار ومحمّد بن المثنّى ثلاثتهم قالوا: أنبأنا عبد الوهّاب قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني مالك بن أنس، أنّ ابن شهاب- أيالزهري- أخبره أنّ عبد الله والحسن ابني محمّد بن علي أخبراه، أنّ أباهما محمّد بن علي بن الحنفيّة أخبرهما أنّ علي بن أبي طالب قال: نهى رسول الله يوم خيبر عن متعة النساء، قال ابن المثّنى [هذا أحد الثلاثة الذين روى عنهم النسائي، لأنّه قال عمرو بن علي ومحمّد بن بشّار ومحمّد بن المثّنى ثلاثتهم] قال ابن المثنّى: حنين بدل خيبر.
نفس السند ابن المثنّى يقول: حنين، قال: هكذا حدّثنا عبد الوهابّ من كتابه.
ففي سند واحد، ابن المثنّى يقول: حنين، الآخران يقولان خيبر، في سند واحد ينتهي إلى الزهري، الزهري عن ابني محمّد بن الحنفيّة، ومحمّد عن أبيه علي عن رسول الله «56».
وأمّا أخبار خيبر، ففي الصحيحين، أخرج البخاري: حدّثنا مالك بن إسماعيل، حدّثنا ابن عُيينة: إنّه سمع الزهري يقول: أخبرني الحسن بن محمّد بن علي وأخوه عبدالله ، عن أبيهما: إنّ عليّاً قال لابن عباس ....
لاحظوا أيضاً قول علي لابن عباس، هذه عبارة علي يخاطب ابن عباس، لأنّ ابن عباس إلى آخر لحظة من حياته كان يقول بحليّة المتعة، هذا ثابت، وعلي كان من القائلين بالحرمة كما يزعمون.
فقال لابن عباس: إنّ النبي نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهليّة زمن خيبر «57».
وأخرج مسلم: حدّثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك على ابن شهاب [عاد إلى الزهري] عن عبدالله والحسن ابني محمّد بن علي، عن أبيهما، عن علي بن أبي طالب: أنّ رسول الله نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسيّة.
هنا لا يوجد خطاب لابن عباس، فلاحظوا بقيّة الأحاديث:
وحدّثناه عبدالله بن محمّد بن أسماء الربيعي، حدّثنا الجويرية، عن مالك بهذا الإسناد [نفس السند] وقال: سمع علي بن أبي طالب يقول لفلان [لا يوجد اسم ابن عباس]: إنّك رجل تائه، نهانا رسول الله عن متعة النساء يوم خيبر.
لاحظتم الفرق بين العبارات.
حديث آخر: حدّثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وابن نمير وزهير بن حرب، جميعاً عن ابن عيينة. قال زهير: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن الحسن بن عبدالله بن محمّد بن علي، عن أبيهما، عن علي: إنّ رسول الله نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأهليّة.
هنا أيضاً لا يتعرض إلى ذكر ابن عباس.
وحدّثنا محمّد بن عبدالله بن نمير، حدّثنا أبي حدّثنا عبيد الله ، عن ابن شهاب، عن الحسن وعبدالله ابني محمّد بن علي، عن أبيهما، عن علي: إنّه سمع ابن عباس يليّن في متعة النساء فقال: مهلًا يا بن عباس [في هذا اللفظ مهلًا يا بن عباس، كان هناك: إنّك رجل تائه، في لفظ آخر: قال لفلان] فإنّ رسول الله نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسيّة.
وأيضاً حديث آخر: حدّثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى قالا: أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن الحسن وعبدالله ابني محمّد بن علي بن أبي طالب، عن أبيهما: إنّه سمع علي بن أبي طالب يقول لابن عباس: يا بن عباس نهى رسول الله عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسيّة «58».
إذن، لاحظتم أنّهم يروون عن علي بسند واحد أنّ رسول الله حرّم المتعة، تارة ينقلون حرّمها في خيبر، وتارة في تبوك، وتارة في حنين. وهذه الأحاديث وهي بسند واحد، أليست تتعارض ويكذّب بعضها بعضاً؟ وقد وجدتم الخبر عند النسائي بسند واحد وفيه خيبر وحنين، كلاهما بسند واحد!
حديث التحريم في تبوك نصّ الحافظ ابن حجر بأنّه خطأ.
هذا واحد «59».
وحديث التحريم في خيبر خطّأه كبار الأئمة وكذّبه أعلام الحديث والرجال والسير.
السهيلي يقول: هذا غلط هذا كذب.
وابن عبد البر، والبيهقي، وإبن حجر العسقلاني، والقسطلاني صاحب [إرشاد الساري]، والعيني [صاحب عمدة القاري]، وابن كثير في [تاريخه]، وإبن القيّم كلّهم قالوا: هذا غلط وخطأ «60».
بل قالوا: النهي عن نكاح المتعة يوم خيبر شيء لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر.
إذن، فما يبقى؟ وما الفائدة من الافتراء على علي، وبقي عمر في تحريم المتعة وحده.
وهذه الأحاديث كلّها- كما قرأنا- تنصّ على أنّ عبدالله بن عباس كان يقول بالحليّة. وهناك أحاديث أُخرى أيضاً لم أقرأها، وعلي قال له: إنّك رجل تائه، لأنّه كان يقول بالحلّية.
فإذن، يكون ابن عباس مخالفاً لعمر، وماذا فعلوا؟ لابد من الافتراء- هذه المرّة- على ابن عباس أيضاً، فرووا أنّ ابن عباس رجع عن القول بالحلّية ....
يقول ابن حجر في [فتح الباري]: كلّ أسانيد رجوع عبدالله بن عباس ضعيفة. وابن كثير أيضاً يكذب الرجوع «61».
ينص الحافظ ابن حجر وينصّ ابن كثير على أنّ ابن عباس بالرغم من أنّه خاطبه عليّ بأنّك رجل تائه، وقال له: مهلًا يا بن عباس ... لم يرجع عن القول بالحلّية إلى آخر حياته.
وبقى عمر وحده، ولم يتمكّن أولياؤه من توجيه تحريم عمر وتبرير مقولته، وماذا نفعل؟ وما ذنبنا؟ أرأيتم إنّنا نقلنا شيئاً عن أصحابنا؟ أوجدتم رواية ذكرناها عن طرقنا؟ وهل اعتمدنا في هذا البحث على كتاب من كتبنا؟
أليس الحقّ- إذن- مع علمائنا؟
خاتمة البحث
وتبقى هنا نقاط أذكرها لكم:
النقطة الأُولى:
إنّ مدار هذه الأحاديث كما قرأناها على الزهري، والزهري من أشهر المنحرفين عن علي (عليه السّلام)، كان صاحب شرطة بني أُميّة، مع أنّه فقيه كبير، وكان من المقرّبين للبلاط، وقد اتخذوا منه جسراً يعبرون عليه إلى مقاصدهم، حتّى أنّ الإمام زين العابدين (عليه السّلام) كتب إليه كتاباً وعظه فيه ونصحه ووبّخه ولم يؤثر فيه، والكتاب موجود حتّى في الكتب الأخلاقية الوعظيّة العرفانيّة مثل [إحياء علوم الدين] «62»، وهو أيضاً موجود في أحد كتبنا، عثرت عليه في كتاب [تحف العقول] لابن شعبة الحرّاني «63».
هذا الرجل هذا شأنه، والأسانيد كلّها تنتهي إليه، والعجيب أنّه عندما كان يضع، يضع الشيء على لسان أهل البيت وذريّة الأئمة الطاهرين، وقد قرأنا في بعض البحوث السابقة حديثاً في أنّ أبا بكر وعمر صلّيا على فاطمة الزهراء، وهم يروون هذا الحديث عن الزهري عن أحد الأئمة عليهم السّلام وأولادهم، وهذا فعلهم، متى ما أرادوا أن يضعوا مثل هذه الأحاديث يحاولون أن يضعوها على لسان بعض أهل البيت أو أبنائهم.
النقطة الثانية:
ذكروا أنّ عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، هذا الفقيه الكبير، المتوفى سنة 149، وهو من كبار التابعين، ومن أئمة الفقه والحديث، ومن رجال الصحاح الستّة، هذا الرجل تزوّج بأكثر من تسعين إمرأة متعة، وقد أوصى إلى أبنائه وحذّرهم من أن يتزوّجوا بشيء من هذه النساء لأنّهنّ زوجات والدهم، وهذا من كبار التابعين في القرن الثاني، لاحظوا [سير أعلام النبلاء]»
وغير هذا الكتاب من المصادر بترجمة ابن جريج المكّي.
النقطة الثالثة:
ذكر الراغب الإصفهاني في كتاب [المحاضرات]: قال يحيى بن أكثم لشيخ بالبصرة: بمن اقتديت في جواز المتعة؟ قال: بعمر بن الخطاب، فقال: كيف هذا وعمر كان أشد الناس فيها؟ قال: لأنّ الخبر الصحيح قد أتى أنّه صعد المنبر فقال:
إنّ الله و رسوله أحلًا لكم متعتين وإنّي أُحرّمهما عليكم وأُعاقب عليهما، فقبلنا شهادته ولم نقبل تحريمه «64».
النقطة الرابعة:
ذكر ابن خلّكان بترجمة يحيى بن أكثم: أنّ المأمون الخليفة العبّاسي أمير المؤمنين عندهم، أمر بأنْ ينادى بحلّيّة المتعة، قال: فدخل عليه محمّد بن منصور وأبو العيناء، فوجداه يستاك ويقول وهو متغيّظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله وعهد أبي بكر وأنا أنهى عنهما! ومن أنت يا جُعل حتّى تنهى عمّا فعله رسول الله وأبو بكر! فأراد محمّد بن منصور أن يكلّمه فأومأ إليه أبو العيناء وقال:
رجل يقول في عمر بن الخطّاب ما يقول، نكلّمه نحن؟! ودخل عليه يحيى بن أكثم فخلا به وخوّفه من الفتنة، ولم يزل به حتّى صرف رأيه «65».
وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.
منقول عن كتاب محاضرات في الاعتقادات للسيد علي الميلاني ج2
( 1) سورة النساء( 4): 24.
( 2) تفسير الطبري 5/ 19.
( 3) تفسير القرطبي 5/ 130.
( 4) تفسير ابن كثير 1/ 486.
( 5) تفسير الزمخشري 1/ 519.
( 6) الدرّ المنثور 2/ 140.
( 7) أحكام القرآن 2/ 184.
( 8) سنن البيهقي 7/ 205.
( 9) صحيح مسلم بشرح النووي 9/ 179.
( 10) المغني في الفقه 7/ 571.
( 11) تفسير القرطبي 5/ 130.
( 12) سورة المائدة( 5): 87.
( 13) صحيح البخاري 6/ 119، صحيح مسلم 4/ 130، مسند أحمد 1/ 420.
( 14) تفسير القرطبي 5/ 132.
( 15) تفسير الطبري 5/ 18.
( 16) المحلّى 7/ 107.
( 17) أحكام القرآن 1/ 352، 354.
( 18) سنن البيهقي 7/ 206.
( 19) شرح معاني الآثار 2/ 146.
( 20) تفسير الرازي 10/ 50.
( 21) بداية المجتهد والنهاية المقتصد 2/ 47.
( 22) تفسير القرطبي 2/ 392.
( 23) المغني في الفقه 7/ 572.
( 24) زاد المعاد 2/ 184.
( 25) الدرّ المنثور 2/ 141.
( 26) كنز العمّال 16/ 519.
( 27) وفيات الأعيان 5/ 122.
( 28) المبسوط في فقه الحنفيّة 5/ 497.
( 29) المصنّف 7/ 469.
( 30) صحيح مسلم بشرح النووي 9/ 183.
( 31) مسند أحمد 3/ 304 و 380.
( 32) سنن البيهقي 7/ 237.
( 33) المبسوط في فقه الحنفيّة 5/ 153.
( 34) كنز العمّال 16/ 522.
( 35) المصنّف 7/ 500.
( 36) تفسير الطبري 5/ 19.
( 37) الدرّ المنثور 2/ 140.
( 38) تفسير الرازي 10/ 5.
( 39) تفسير القرطبي 5/ 130
( 40) أنظر: لسان العرب 14/ 437 وتاج العروس 10/ 200.
( 41) تاريخ الخلفاء: 137.
( 42) المحلّى 9/ 520.
( 43) تفسير القرطبي 5/ 133.
( 44) تفسير الرازي 10/ 50.
(45) صحيح مسلم بشرح النووي 9/ 183.
( 46) تاريخ الطبري 3/ 290.
( 47) زاد المعاد 2/ 184.
( 48) مطبوعة ضمن( الرسائل العشر في الأحاديث الموضوعة في كتب السنّة).
( 49) زاد المعاد 2/ 183- 185.
( 50) فتح الباري 6/ 134 و 9/ 138.
( 51) المصدر 9/ 138.
( 52) زاد المعاد 2/ 184.
( 53) فتح الباري 9/ 138.
( 54) تهذيب التهذيب 6/ 349.
( 55) تفسير القرطبي 5/ 131.
( 56) زاد المعاد 2/ 184.
( 57) صحيح مسلم بشرح النووي 9/ 180.
( 58) سنن النسائي 6/ 126.
( 59) صحيح البخاري 6/ 129 و 9/ 137، صحيح مسلم 4/ 134- 135.
( 60) صحيح البخاري 5/ 78، 6/ 129- 130، 8/ 61، صحيح مسلم 4/ 134، 6/ 63، صحيح مسلم بشرح النووي 9/ 180 وما بعدها.
( 61) فتح الباري 9/ 137.
( 62) المصدر 9/ 138، عمدة القاري 17/ 329، إرشاد الساري 9/ 271، 11/ 475، زاد المعاد 2/ 184، البداية والنهاية 4/ 220.
( 63) فتح الباري 9/ 142، البداية والنهاية 4/ 220.
( 64) إحياء علوم الدين 2/ 143.
( 65) تحف العقول عن آل الرسول : 275.\
( 66) سير أعلام النبلاء 6/ 333.
( 67) محاضرات الأُدباء 2/ 214.
( 68) وفيات الأعيان 5/ 197.