الشفاعة في الدنيا : موسّع
بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ الاعتقادَ بأصلِ الشَفاعة في يَوم القيامة (في إطار الإذن الإلهيّ) من العقائِد الإسلاميّة الضرورية ولم يخدش فيها أحدٌ. يبقى أنْ نرى هل يجوز أن نطلب الشفاعةَ في هذه الدنيا من الشافعين المأذون لهم في الشفاعة يوم الحساب، كالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه و آله و سلم) أم لا؟ وبعبارةٍ أُخرى، هل يصحُ أن يقول الإنسانُ: يا رسولَ اللَّه يا وجيهاً عند الله إشفع لي عند الله؟
الجواب هو: أنّ هذا الموضوعَ كان محلَّ اتفاقٍ وإجماعٍ بين جميع المسلمين إلى القرن الثامن، ولم ينكرْه إلّا أشخاصٌ معدودُون من منتصف القرنِ الثامن، حيث خالَفوا طلبَ الشفاعة من الشفعاء المأذون لهم، ولَم يجوّزوه في حين أنّ الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة المعتبرة، وسيرة المسلمين المستمرة تشهَدُ جميعُها بجوازه، وذلك لأنَّ الشَفاعة هو دُعاؤهم للأشخاص ومن الواضح أن طلبَ الدعاء من المؤمن العاديّ (فضلًا عن النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم)) أمرٌ جائز ومستحسَن، بلا ريب. ولقد رَوى ابنُ عباس عن رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله و سلم) ما يُستفاد منه بوضوحٍ بأنّ شفاعة المؤمن هو دعاؤه في حق الآخرين فقد قال (صلى الله عليه و آله و سلم): «ما مِن رَجُلٍ مُسْلِم يَموتُ فَيَقومُ على جَنازَتِهِ أربَعون رَجُلًا لا يُشركُونَ باللَّه شيئاً إلّا شفَّعهُم اللَّهُ فِيه»«1».
ومِنَ البديهيّ والواضح أنّ شفاعة أربعين مؤمن عند الصلاة على الميّت ليس سوى دعاؤهم لذلك الميت.
ولو تَصَفَّحْنا التاريخَ الإسلاميَّ لوَجَدنا أنّ الصَحابة كانوا يطلبون الشفاعة من النبي (صلى الله عليه و آله و سلم).
فها هو الترمذيّ يروي عن أنَس بن مالك أنّه قال: سألتُ النبيَّ أنْ يَشْفَعَ لي يومَ القِيامة فقال: أنا فاعل.
قلتُ: فأَينَ أطلبُك؟ فقالَ: عَلى الصّرِاطِ«2». ومع الأخذ بِنَظَر الإعتبار أن حقيقة الإستشفاع ليست سوى طلب الدعاءِ من الشَفيع، يمكنُ الإشارةُ إلى نماذج مِن هذا الأمر في القرآن الكريم نفسِه:
1. طلبَ أبناءُ يعقوب من أبيهِم أن يستغفرَ لهم، وقد وَعَدَهم بذلك ووفى بوعده، يقول تعالى: «قَالُواْ يا أبانا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ* قَال سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي»«3».
2. يَقولُ القرآنُ الكريمُ: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً»«4».
3. يقولُ في شأن المنافقين: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِروُنَ»«5». فإذا كانَ الإعراضُ عن طَلَب الإستغفار من النَبيّ - الذي يَتّحدِ في حقيقته مع الإستشفاع - علامةَ النِفاق، والإستكبار، فإنّ الإتيان بهذا الطَلَب وممارسته يُعدّ بلاشكّ علامةُ الإيمانِ.
وحيثُ إنّ مقصودَنا - هنا - هو إثبات جواز طلب الشفاعة، ومشروعيّتهِ، لذلك لا يَضرُّ موتُ الشفيعِ في هذه الآيات بالمقصود، حتى لو فُرض أنّ هذه الآيات وَرَدَت في شأنِ الأحياء من الشُفَعاءِ لا الأموات، لأن طَلَبَ الشَفاعة مِنَ الأحياء إذا لم يكن شركاً فإنّ من الطبيعي أن لا يكونَ طلبُها من الأموات كذلك شركاً لأنّ حياة الشَفيع وموته ليس ملاكاً للتوحيد والشرك أبداً، والأمرُ الوحيدُ الذي هو ضروريٌ ومطلوبٌ عندَ الإستشفاعِ بالأرواح المقدَّسة هو قدرتُها على سماع نداءاتنا. وهنا لابدّ أن نلتفتَ إلى نقطةٍ هامّة وهي أن استشفاعَ المؤمنين والموَحّدين من الأنبياء والأولياء الإلهيّين يختلفُ اختلافاً جَوهرياً عن استشفاع الوثنيّين من أصنامهم وأوثانهم.
فالفريقُ الأوّل يطلبُ الشَّفاعةَ من أولياءِ الله، وهو مذعِنٌ بحقيقتين أساسيّتين:
1. إنَّ مقامَ الشفاعة مقامٌ خاصٌّ بالله، وحقٌ محضٌ له سبحانه كما قال: «قُل للَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً»«6».
أي قل: إنّ أمر الشَفاعة كلَّه بِيَدِ اللهِ ولا يحقّ لأحدٍ أن يشفَعَ مِن دون إذنِهِ ولن تكونَ شفاعةٌ مؤثرةً بغيره.
2. إنّ الشُّفعاء الذين يَستشفِعُ بهم الموحِّدون عبادٌ صالحون مخلصُون لله سبحانه يستجيب الله دعاءَهم لِمكانَتِهِم عندهَ وَلِقُربِ مَنزِلَتهِم منه سبحانه. وبهذين الشرطين يفترقُ الموحِّدُون عن الوثنييّن في مسألة الاستشفاع افتراقاً أساسياً.
أوّلًا: انّ المشركين لا يرون لنفوذ شفاعتهم وتأثيرها أيَّ قيد أو شرط، وكأنّ اللهَ فَوَّضَ أمرَ الشَفاعة إلى تلك الأصنام العَمياء الصَمّاء. في حين أنّ الموحّدين يعتبرون الشفاعة كلّها حقاً مختصاً بالله، تبعاً لما جاء في القرآن الكريم، ويُقيِّدون قبولَ شفاعة الشافعين وتأثيرها بإذن الله ورضاه وإجازته.
ثانياً: إنّ مشركي عصر الرسالة كانوا يَعتبرون أوثانهم وأصنامَهم ومعبوداتهم المختلفة أرباباً وآلهةً، وكانوا يظنّونَ سفهاً أنّ لِهذهِ الموجودات الميّتة، والجمادات سَهْماً في الرّبوبيّة، والأُلُوهيّة، بينما لا يرى الموحّدون، الأنبياءَ والأئمةَ إلّا عباداً صالحين، وهم يردّدُون في صلواتهم وتحياتهم دائماً عبارة: «عَبْدُه ورسوله» و «عباد اللَّه الصالحين». فانظرْ إلى الفرق الشاسِعِ، والتفاوت الواسِع بين الرؤيتين والمنطِقَين.
بِناءً على هذا فإنّ الاستدلالَ بالآيات التي تَنفي وتندّدُ باستشفاعِ المشركين من الأصنام، على نَفي أصل طلب الشفاعة في الإسلام، إستدلالٌ مرفُوضٌ وباطلٌ وهو من باب القياس مع الفارق.
__________
(1) صحيح مسلم: 3/ 54
(2) صحيح الترمذي: 4/ 42، باب ما جاء في شأن الصراط
(3) يوسف/ 97- 98
(4) النساء/ 64
(5) المنافقون/ 5
(6) الزمر اية41