القضاء والقدر في الإسلام عند الشيعة
إن قانون العلية في الكون , سار ومهيمن , بحيث لا يقبل الاستثناء, ووفقا لهذا القانون فان كل مظهر من مظاهر هذا العالم , يرتبط بعلل عند وجودها (الأسباب والشروط اللازمة للتحقق), ومع توفر كل تلك الشروط (والتي تدعى العلة التامة) يتحتم وجود تلك الظاهرة (المعلول المفروض) ولو فرضنا عدم تحقق تلك الأسباب كلها أو بعضها, فانه يستحيل تحقق وجود تلك الظاهرة.
مع الإمعان في هذه النظرية , يتضح لنا موضوعان :
الأول : لو قدر إن نقارن بين ظاهرة ((المعلول)) مع العلة التامة بأجمعها, وكذلك مع الأجزاء لتلك العلة التامة , تكون النسبة بينها وبين العلة التامة , نسبة الضرورة (الجبر) و لكانت النسبة بينها وبين كل من أجزاء العلة التامة (والتي تعتبر علة ناقصة) نسبة الإمكان , لان جزء العلة بالنسبة إلى المعلول يعطي إمكان التحقق والوجود, ولا يعطي ضرورة الوجود.
على هذا فالكون وجزء من أجزائه يستلزم علة تامة في تحقق وجوده , والضرورة مهيمنة عليها بأسرها, وقد نظم هيكلها من مجموعة حوادث ضرورية وقطعية , فمع الوصف هذا, فان صفة الإمكان في أجزائها (الظواهر التي ترتبط مع غير العلة التامة لها) محفوظة.
فالقرآن الكريم في بيانه يسمي هذا الحكم الضروري بالقضاء الإلهي, لان الضرورة هذه تنبع من وجود الخالق , ولهذا يكون حكما وقضاء عادلا حتميا غير قابل للتخلف , إذ لا يقبل الاستثناء أو التبعيض.
ويقول جل شأنه : ((الا له الخلق والأمر)).
ويقول : ((واللّه يحكم لا معقب لحكمه)).
الثاني : أن كلا من أجزاء العلة , لها مقدارها الخاص بها تمنحها إلى المعلول , وتحقق المعلول وظهوره يطابق مجموع المقادير التي تعينها العلة التامة , فمثلا العلل التي تحقق التنفس للإنسان , لا تحقق التنفس المطلق , بل يتنفس الإنسان مقدارا معينا من الهواء المجاور لفمه وانفه , وفي زمان ومكان معينين , ووفق طريقة معينة , ويتم ذلك عن طريق مجرى التنفس , حيث يصل الهواء إلى الرئتين , وهكذا الرؤية والأبصار, فان العلل الموجدة لها في الإنسان (والذي هو جزء منها) لم تحقق أبصارا من دون قيد أو شرط, بل تحقق أبصارا معينا من كل جهة , بواسطة الوسائل اللازمة له , وهذه الحقيقة سارية في كل ظواهر الطبيعة , والحوادث التي تتفق فيها لا تتخلف.
والقرآن الكريم يسمي هذه الحقيقة بـ((القدر)) وينسبها إلى خالق الكون ومصدر الوجود, بقوله تعالى : ((انا كل شيء خلقناه بقدر)).
ويقول : ((وان من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم)).
وكما أن كل ظاهرة وحادثة في نظم الخلقة تعتبر ضرورية الوجود وفقا للقضاء الإلهي, ويتحتم وجوده , فكذلك وفقا للقدر فان كل ظاهرة آو حادثة عند تحققها لا تتخلف عن المقدار المعين لها من قبل اللّه تعالى.
الإنسان والاختيار :
كل ما يقوم به الإنسان من فعل , يعتبر ظاهرة من ظواهر عالم الخلقة , ويرتبط تحققه كسائر الظواهر بالعلة ارتباطا كاملا, وبما أن الإنسان هو جزء من عالم الخلقة , ويرتبط مع سائر الأجزاء الأخرى من العالم, فإنها بدورها تؤثر في أفعال الإنسان.
وعلى سبيل المثال , فان قطعة الخبز التي يريد الإنسان تناولها, يستلزم الوسائل كاليد والفم والعلم والقدرة والإرادة, ويستلزم أيضا وجود الخبز في الخارج, وفي متناول يده, وعدم المانع والحاجز, وشروط أخرى, من زمان أو مكان, ومع فقدان أحداها يتعذر تحقق الفعل, ومع تحقق كل تلك العوامل (تحقق العلة التامة) فان تحقق الفعل ضروري.
وكما اشرنا آنفا, فان ضرورة الفعل بالنسبة إلى مجموع أجزاء العلة التامة تعتبر نسبة أمكان, ولا يتنافى مع نسبة الفعل إلى الإنسان الذي هو احد أجزاء العلة التامة.
أن الإنسان له اختيار الفعل, وضرورة نسبة الفعل إلى مجموع أجزاء العلة, لا يستلزم الضرورة بالنسبة إلى فعل بعض من أجزائها وهو الإنسان.
والإدراك البسيط للإنسان يؤيد هذا القول , فإننا نراه يميز بحكم الفطرة الإلهية المودعة لديه , يميز بين الأكل والشرب , والذهاب والإياب , وبين الصحة والسقم , والكبير والصغير, والقسم الأول الذي يرتبط بإرادة الإنسان ارتباطا مباشرا, يعتبر من إرادة الشخص , فيحاسب في مواضع الأمر والنهي والمدح والذم , خلافا للقسم الثاني , الذي يترتب فيه تكليف على الإنسان.
كان في صدر الإسلام , لأهل السنة , مذهبان معروفان بالنسبة إلى أفعال الإنسان, ففريق كان يرى أن أفعال الإنسان متعلقة بإرادة اللّه تعالى لا تخلف فيها, فكان يدعي أن الإنسان مجبور في أفعاله, ولا اثر لما يمتاز به من اختيار وإرادة, والفريق الآخر, كان يدعي أن الإنسان مستقل في أفعاله, وليس له ارتباط بإرادة اللّه سبحانه, ويعتبرونه خارجا عن حكم القدر.
ومما يروى عن أهل البيت (عليهم السلام) : وهو مطابق مع ظاهر تعاليم القرآن, أن الإنسان مختار في أفعاله, ليس بمستقل , إذ أن اللّه تعالى قد أراد الفعل عن طريق الاختيار, وهذا ما عبرنا عنه سابقا, أن اللّه سبحانه, أراد الفعل عن طريق مجموع أجزاء العلة التامة, والتي أحداها إرادة الإنسان, وأصبحت ضرورة, وفي النتيجة, أن مثل هذا الفعل الذي يرتبط بإرادة اللّه تعالى ضروري, والإنسان أيضا مختار فيه, أي أن الفعل يعتبر ضروريا بالنسبة إلى مجموع أجزاء علته, ولكنه اختيار وممكن بالنسبة إلى احد أجزائه وهو الإنسان.
والإمام السادس (عليه السلام), يقول : ((لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين)).