Header


  • الصفحة الرئيسية

من نحن في التاريخ :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • معنى الشيعة (13)
  • نشأة الشيعة (24)
  • الشيعة من الصحابة (10)
  • الشيعة في العهد الاموي (10)
  • الشيعة في العهد العباسي (4)
  • الشيعة في عهد المماليك (1)
  • الشيعة في العهد العثماني (2)
  • الشيعة في العصر الحديث (1)

من نحن في السيرة :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • الشيعة في أحاديث النبي(ص) (1)
  • الشيعة في احاديث الائمة (ع) (0)
  • غدير خم (0)
  • فدك (3)
  • واقعة الطف ( كربلاء) (0)

سيرة اهل البيت :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

عقائدنا (الشيعة الامامية) :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • في اصول الدين (0)
  • في توحيد الله (8)
  • في صفات الله (32)
  • في النبوة (9)
  • في الانبياء (4)
  • في الامامة الالهية (11)
  • في الائمة المعصومين (14)
  • في المعاد يوم القيامة (16)
  • معالم الايمان والكفر (30)
  • حول القرآن الكريم (22)

صفاتنا :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • الخلقية (2)
  • العبادية (5)
  • الاجتماعية (1)

أهدافنا :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • في تنشئة الفرد (0)
  • في تنشئة المجتمع (0)
  • في تطبيق احكام الله (1)

إشكالاتنا العقائدية على فرق المسلمين :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • في توحيد الله (41)
  • في صفات الله (17)
  • في التجسيم (34)
  • في النبوة (1)
  • في عصمة الانبياء (7)
  • في عصمة النبي محمد (ص) (9)
  • في الامامة (68)
  • في السقيفة (7)
  • في شورى الخليفة الثاني (1)
  • طاعة الحكام الظلمة (6)
  • المعاد يوم القيامة (22)
  • التقمص (3)

إشكالاتنا التاريخية على فرق المسلمين :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • في عهد النبي (ص) (14)
  • في عهد الخلفاء (20)
  • في العهد الاموي (14)
  • في العهد العباسي (3)
  • في عهد المماليك (5)
  • في العهود المتأخرة (18)

إشكالاتنا الفقهية على فرق المسلمين :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • كيفية الوضوء (4)
  • كيفية الصلاة (5)
  • اوقات الصلاة (0)
  • مفطرات الصوم (0)
  • احكام الزكاة (0)
  • في الخمس (0)
  • في الحج (2)
  • في القضاء (0)
  • في النكاح (7)
  • مواضيع مختلفة (64)

إشكالاتنا على أهل الكتاب (النصارى) :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • في عقيدة التثليث (32)
  • على التناقض بين الاناجيل (41)
  • صلب المسيح (17)

إشكالاتنا على أهل الكتاب (اليهود) :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • عدم تصديقهم الانبياء (6)
  • تشويههم صورة الانبياء (8)
  • نظرية شعب الله المختار (1)
  • تحريف التوراة (0)

إشكالاتنا على الماديين :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • التفسير المادي للكون (1)
  • نظرية الصدفة وبناء الكون (0)
  • النشوء والارتقاء (0)
  • اصل الانسان (0)

ردودنا التاريخية على فرق المسلمين :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • في عهد الرسول(ص) (9)
  • في عهد الخلفاء (12)

ردودنا العقائدية على فرق المسلمين :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • حول توحيد الله (2)
  • حول صفات الله (7)
  • حول عصمة الانبياء (3)
  • حول الامامة (34)
  • حول اهل البيت (ع) (45)
  • حول المعاد (1)

ردودنا الفقهية على فرق المسلمين :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • حول النكاح (2)
  • حول الطهارة (0)
  • حول الصلاة (3)
  • حول الصوم (0)
  • حول الزكاة (0)
  • حول الخمس (0)
  • حول القضاء (0)
  • مواضيع مختلفة (6)

ردودنا على أهل الكتاب (النصارى) :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

ردودنا على أهل الكتاب (اليهود) :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

ردودنا على الماديين :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • اثبات وجود الله (0)
  • العلم يؤيد الدين (2)

كتابات القراء في التاريخ :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

كتابات القراء في السيرة :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

كتابات القراء في العقائد :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

كتابات القراء في الفقه :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

كتابات القراء في التربية والأخلاق :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

كتابات القراء العامة :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية لهذا القسم
  • أرشيف مواضيع هذا القسم
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إتصل بنا

  • القسم الرئيسي : من نحن في التاريخ .

        • القسم الفرعي : الشيعة في العهد الاموي .

              • الموضوع : الوضع السياسي الشيعي في عهد التابعين .

الوضع السياسي الشيعي في عهد التابعين

كما هو واضح أن التشريع الإسلامي بعد وفاة الرسول، كان في المرحلة الأولى يعتمد على الكتاب والسنة، وفي عصر الخليفتين أبي بكر وعمر بن الخطاب، حدث أصلان آخران، هما الإجماع والقياس، فكان أكثر المسلمين يعتمد على الإجماع فيما لا نصّ عليه من كتاب أو سنة. أما القياس، فقد عمل به بعض الفقهاء من الصحابة، واشتهر العمل به فيما بعد عصرهم، وعلى الأخص في عصر أئمة المذاهب الأربعة. وكما هو مذكور أن عليّا (عليه السلام) والفقهاء من الشيعة في عصر الصحابة، لم يرجعوا لغير الكتاب والسنة، ولقد تم عرض البعض من الأمثلة من الفتاوى والأحكام التي صدرت عنهم لهذا الغرض في مواضيع أخرى. وانتهينا مما أوردناه من آثارهم في التشريع وتدوين الأحكام والحديث، بأنهم كانوا من أعلام التشريع البارزين في ذلك العصر، بالرغم من أن السياسة كانت تسير باتجاه معاكس لهم. ولولا ذلك لم يكن لغيرهم أثر يذكر بجانب ما تركوه من الآثار، لأنهم كانوا ألصق بالرسول (صلى الله عليه واله) من غيرهم وأطولهم صحبة له. ولم يرد عنه في الأحاديث الصحيحة من التقريظ والتقدير لأحد من صحابته كما ورد عنه فيهم. والذي يعنينا الآن بعد أن انتهينا من الحديث عن التشريع في عصر الصحابة من جميع نواحيه، وما أحاط به من ظروف وملابسات، حسب ما تيسر لنا من المصادر والآثار التي دونها الباحثون عن ذلك العصر أن نتحدث عن التشريع الذي انتقل من الصحابة إلى التابعين وتابعيهم، وعن المناهج والأصول التي استمدوا منها آراءهم وأحكامهم الفقهية.
وقبل الدخول في الموضوع فلا بد لنا من الإشارة الخاطفة إلى الوضع السياسي الذي انتهجه الحكام الأمويون بعد أن وصلوا إلى الحكم، ومدى تأثير سياستهم الرعناء وسيرتهم الجائرة التي رسموها لأنفسهم لغاية تدعيم سلطانهم وتثبيت عروشهم، مهما كلفهم ذلك من ثمن، على جميع الاتجاهات الإسلامية والنظم التي جاء بها الإسلام ومارسها المسلمون ولمسوها من أقوال الرسول (صلى الله عليه واله) وسيرته الفاضلة، وسيرة من جاء بعده من الراشدين.
لقد اتجه الأمويون بكل ما لديهم من قوة، منذ الأيام الأولى من عهدهم إلى سياسة البطش والمكر وتبذير الأموال، والإسراف في إراقة الدماء وتسخير الضمائر لدس الأحاديث والكذب على الرسول، لغرض التمويه والتضليل، بشرعية اغتصابهم لأقدس حق من حقوق المسلمين، وهو الخلافة الإسلامية التي تتصل بالنبوة اتصالا وثيقا، وتستقي من فيضها كل ما تحتاج إليه الأمة من بعث وتوجيه وإصلاح في جميع الحقول والميادين.
أجل لقد اتجه ابن هند وعصابته المجرمة إلى مطاردة العلماء والصلحاء وقتل الأبرياء وشراء الذمم بالمال، ليضعوا له الحديث في الطعن على علي (عليه السلام) فوضع له أبو هريرة، أن الرسول قال:
((المدينة حرمي، فمن أحدث بها حدثا فعليه لعنة الله)) واقسم إلى الناس يمينا كاذبا أن عليّا أحدث فيها. ووضع له غيره المئات الأحاديث المكذوبة. ومضى يتبَّع الشيعة، حتّى أصبح التشريع لعلي بنظر معاوية وولاته جريمة تجر من ورائها القتل والحبس والتشريد. ولم يعد بإمكان أحد أن يعبر عن رأيه، أو ينقل من أحاديث الرسول (صلى الله عليه واله) في فضل علي وأبنائه وشيعته من الصحابة الكرام، أو يعارض أحدا من المأجورين فيما يضعونه من الأحاديث تمجيدا ببني أمية وأتباعهم. وأحس أهل البيت والبقية الصالحة من الصحابة الكرام وبالمستقبل المظلم الذي بدأت طلائعه منذ الصدمة الأولى التي أصيب بها الإسلام على يد عبد الرحمن الخارجي، نتيجة لمؤامرة اشترك بها جماعة من الخوارج، وأعانه عليها جماعة كانوا يرون ذلك ويطمعون في هبات معاوية وعطائه الجزيل.
ولقد كانت هذه أولى الأحداث التي واجهت الشيعة بصورة خاصة، في العراق وغيره من البلاد الإسلامية. وأحس بمرارتها كل من لم يكن مأجورا لبني أمية من المسلمين. وشاع بينهم اليأس والأسف والخوف من تغلب الأمويين على الأقطار الإسلامية، التي كانت تخضع لحكم علي (عليه السلام)، لا سيما وقد اتسعت أطماع معاوية وتفتحت له أبواب جديدة للتغلب على خصمه، وبدأ يعمل من جديد لاستجلاب العناصر التي يمكن إغراؤها بالمال، من قادة الجيش ورؤساء القبائل. وانتشر دعاته في السر والعلانية في جميع المدن والأقطار الإسلامية التي لم تكن تخضع حينذاك لنفوذه. هذا والمسلمون بعد وفاة علي (عليه السلام) قد بايعوا الحسن بن علي بيعة شملت المدن والقرى، وسكان البوادي من القبائل العربية وغيرها. وباشر (عليه السلام) جميع سلطاته الشرعية، فرتب الولاة وقادة الجيش ووزع ما وجده في بيت المال على المسلمين، كل بمقدار نصيبه ، إلاّ المقاتلة (وهم أفراد الجيش وقادته) فإنه زاد في عطائهم مائة مائة. وقبل أن يمضي على استخلافه ثلاثة اشهر، أشار عليه من حوله من القادة ورؤساء القبائل بالرجوع إلى صفين، تنفيذا للخطة التي كان والده (عليه السلام) قد رسمها وباشر في تنفيذها قبل اغتياله، فلم ير (عليه السلام) بدا من تنفيذ هذه الخطة وتحقيق رغبات الملحين عليه في تنفيذها.
ثمّ خرج من الكوفة متجها لقتال معاوية في جيش لا يقل عن سبعين ألفا من المجاهدين، وأرسل ابن عمه عبيد الله بن العباس على رأس فرقة من الجيش، وأمره أن يعبر الفرات إلى قرية يقال له (مسكن) ليمنع معاوية من دخول الحدود العراقية، وأوصاه أن لا يبتدئ معاوية بالقتال، حتّى يكون هو البادئ فيه. وأرسل معه قائدين من قواد جيشه وخلص شيعته، ليتعاون معهما في الرأي وتدبير الأمور حسبما تمليه المصلحة. وتخلف الحسن (عليه السلام) في المدائن بقصد التعبئة العامة واستكمال العدد الكافي لمجابهة العدو. ولما أحس بدسائس معاوية وتغلغلها بين صفوف جيشه وانحراف بعض قواد الجيش بواسطة المال والمناصب التي أغراهم بها معاوية، وقف بينهم خطيبا ليعرف مدى ما تركته دسائس معاوية من آثار سيئة بين صفوف جيشه. وما أن قال: ((ألا وان ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة واني ناظر لكم خيرا من نظركم لأنفسكم فلا تخالفوا أمري))، حتّى رموه بالكفر ونهبوا ما في خيمته من أمتعة وطعنه الجراح بن سنان الاسدي برمحه، فأصاب فخذه. فعرف أن الجيش لا ينصاع لأوامره. واستغل ابن هند تلك الكلمات التي ألقاها الحسن (عليه السلام) بقصد استكشاف نوايا أتباعه، كما استغل موقف جيشه منه، فآثر عند ذلك أن يستعمل الحيل والمكر والمال، لعله يربح المعركة بدون قتال.
فأرسل إلى عبيد الله بن العباس، الذي ولاه الحسن (عليه السلام) أمر القيادة، كتابا يمنيه فيه حسن صنيعه، إن هو بادر إلى طاعته، ويغريه بالعطاء الجزيل، فاستجاب له ابن عباس ودخل في طاعته ليلا.
وتولى قيادة الفرقة المرابطة على الحدود، قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، وأصر هو وجنوده البواسل على قتال معاوية. ولما يئس معاوية من استجلابهم بما لديه من الوسائل، أرسل وفدا ليفاوض الحسن (عليه السلام) بالصلح وشروطه. وكان من نتيجة ذلك أن وافق الحسن على الصلح، بعد أن لمس من أهل العراق التخاذل، وعرف أن الرؤساء والقواد يعرضون على معاوية طاعتهم وتسليم الحسن مكتوفا.
لقد عرف الحسن كل ذلك ووصلت إليه جميع أخبارهم، وبالأمس القريب كان يراهم مع أبيه متخاذلين، لا يندفعون إلى خير ولا يتباطئون عن شر. وسمع أباه مرارا من على منبر الكوفة يتمنى فراقهم بالموت أو القتل. ومن يتتبع الحوادث التي مرت في تلك الفترة الوجيزة من أشهر خلافته والظروف التي أحاطت به، يرى أن ما حدث من أمر الصلح مع معاوية كان لا بد منه. وقد أدرك بعض المستشرقين تلك المرحلة الدقيقة من تاريخ المسلمين والظروف العصيبة التي أحاطت الحسن (عليه السلام) وانتهى إلى أن ما فعله كانت تمليه المصلحة العامة والحكمة.
ويميل إلى ذلك السيد مير علي في كتابه مختصر تاريخ العرب. ونظر أكثرهم إلى الصراع بين الحسن ومعاوية من الناحية السياسية التي تمثل المكر والدهاء واستباحة كل شيء في سبيل أغراض الساسة وأهوائهم، فاتهموه بالضعف، وانه غير جدير بأن يكون ابن علي (عليه السلام)، أمثال: (بروكلمان) و(أوكلي) و(فلهوزن) و(ساكيس).
والذي يؤخذ على هؤلاء، أنهم ينظرون إلى الحسن (عليه السلام) بصفته خصما لمعاوية بن أبي سفيان، الذي يستبيح كل شيء في سبيل تدعيم عرشه والوصول إلى الخلافة، التي هي الغاية الأولى والأخيرة بنظره. أما الحسن بن علي (عليه السلام) فانه ينظر إليها كوسيلة لإحقاق الحق وإنصاف المظلوم وإشاعة العدل والسلام بين الناس، كما ينظر إليها القرآن والإسلام، لذا فانه لا يرى من الحق استعمال المكر والكذب والقتل للوصول إليها، فالخليفة بنظر علي وأبنائه، حامي القرآن وحافظ الشريعة والأمين على حقوق الناس وأموالهم، والخليفة بنظر ابن هند يملك الرقاب والأموال ويحكم مما توحيه إليه شهواته وأهوائه ويستبيح كل شيء في سبيل توطيد ملكه وإشباع غرائزه.
لذلك لم يَر الحسن مجالا من دينه، أن يستعمل الأساليب التي كان يستعملها ابن أبي سفيان.
وقد عاب المستشرق (سيكس) على علي (عليه السلام) إصراره على الأمانة والشرف، لأنهما لا يتفقان مع السياسة.
لقد انتهى الحال بأهل العراق مع الحسن (عليه السلام) إلى مرحلة لم يجد بدا معها من تسليم الخلافة لمعاوية. ولم يبق عليه إلاّ أن يأخذ على معاوية شروطا، له ولأهل بيته وشيعة أبيه، تحفظ لهم حقهم وكرامتهم.
فأرسل لهم معاوية صحيفة بيضاء وذيّلها بخاتمه، وأبدى استعداده للموافقة على جميع ما يشترط فيها، فاشترط لنفسه أن تكون له الخلافة بعد موت معاوية، وان يأخذ كل ما في بيت مال الكوفة وان يكون له خراج الأهواز في كل عام.
واشترط لأبيه، أن لا يسبه معاوية على المنابر، وان يكون لأخيه الحسين (عليه السلام) ألف ألف درهم في كل عام. وان يفضل بني هاشم في العطاء على غيرهم من بني أمية. وان يؤمن أهل العراق ويتجاوز عن هفواتهم.
وبهذا الصلح تحقق لمعاوية أطماعه السياسية، التي كان يحلم بها من عهد طويل، وتم له الاستيلاء على أمور المسلمين عامة. وقبل أن يدخل الكوفة صلى بالناس صلاة الجمعة بالنخيلة وهي القاعدة العسكرية التي كان يجتمع فيها الجيش، لاستكمال عدده وعدته، ومنها ينطلق نحو وجهته. وبعد الصلاة خطب في أهل العراق ومن معه من جند الشام. وأسفر عن نواياه السيئة، التي كان يضمرها لأهل العراق، وللعلويين وشيعتهم. وقد وضع في خطبته الخطوط العامة للنهج السياسي الذي سيحققه في العراق، ومع الحسن (عليه السلام) وشيعته بصورة خاصة.
فقد روي الأعمش، عن سعيد بن سويد قال: صلى بنا معاوية بالنخيلة الجمعة، وبعد الصلاة قال: والله أني ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وانتم له كارهون. إلاّ وان كل شرط أعطيته للحسن بن علي، تحت قدمي هاتين، لا أفي له بشيء منه.
بهذه الكلمات القصار، وضع الخطوط الرئيسية، للسياسة التي سيطبقها في العراق وغيرها من الأقطار التي كانت تخضع لخلافة علي (عليه السلام) وأحس أهل العراق، بصورة خاصة، بأخطائهم ونتيجة تخاذلهم عن علي (عليه السلام) يوم كان يدعوهم إلى جهاد معاوية ويحذرهم غدره وكيده للقرآن والإسلام . ورجعوا بذكرياتهم إلى الماضي البعيد، يوم كان علي (عليه السلام) يقول لهم: ملأتم قلبي قيحاً. ويسأل ربه أن يخلصه منه.
وأحسّوا أن مسؤولية أنصار معاوية تقع عليهم وحدهم.
وها هو اليوم يقول لهم: (أني قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك، وانتم له كارهون). ولم تغب عن ذاكرتهم، كلمات علي، بالأمس القريب، لابن عمه عبد الله وهو يخصف له نعله : يا ابن عباس، أن إمرتكم هذه لا تساوي قيمة هذا النعل إلا أن أحق حقاً، أو أبطل باطلاً.
إن عليّا، يرى الخلافة، وان جمعت الدنيا بأسرها تحت سلطانه، لا تساوي نعلاً بالية، إذا لم تكن سبيلاً إلى الحق والعدالة. ولكنها بنظر ابن هند، الأمنية الغالية، لأنها تحقق له أطماعه وشهواته ومجد آبائه الغابرين. وله أن يريق في سبيل الوصول إليها دماء الملايين من الأبرياء والآمنين، فهو يقاتل ليتأمّر على المسلمين ويتسلط على رقابهم وأموالهم وعلي (عليه السلام) إنما يقاتل لإحقاق الحق وإنصاف المظلوم من الظالم.
لقد بدأ معاوية في تطبيق بيانه، الذي وضعه بالنخيلة، فأول ما قام به هو اضطهاد الشيعة والتنكيل بهم، بالحبس والقتل والتشريد، وكتب نسخة واحدة إلى جميع عماله، أن برئت الذمة ممن روي شيئاً في فضل أبي تراب وأهل بيته. فقام الخطباء على المنابر، يلعنون عليّا ويبرؤون منه ومن أهل بيته. وكان أشد الناس بلاء أهل الكوفة، لكثرة من بها من الشيعة. واستعمل عليهم زياد بن سمية وضم إليه البصرة، فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل وشردهم عن العراق، فلم يبق منهم فيها معروف. ثمّ تتبعهم في جميع الأقطار الإسلامية وكتب إلى جميع عماله أن لا يجيزوا لأحد منهم شهادة. وأوصاهم بالإحسان إلى شيعة عثمان. ومن يروي فضائله ومناقبه، فأدنوا مجالسهم وأدنوهم واكتبوا لي بكل ما يروونه، ففعلوا ذلك حتّى أكثر الرواة في فضائل عثمان ومناقبه، وتنافسوا في ذلك ولما كثرت الروايات المكذوبة في عثمان، كتب إلى عماله أن الحديث في عثمان قد فشا بين الناس وانتشر في الأفاق، فادعوا الناس إلى الرواية في فضل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ واتوني بمناقض له في الصحابة، فان هذا أحب إليّ وأقرّ لعيني وادحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضائله.
وما أن أحسّ الرواة برغبة معاوية، حتّى أسرعوا إلى تحقيق رغبته، فوضعوا له أحاديث كثيرة، لم يحدث بها الرسول وجدَّ الناس في رواية هذا النوع من الأحاديث وعلّموا صبيانهم وغلمانهم منها الشيء الكثير. ثمّ كتب إلى عماله في جميع الأقطار الإسلامية أن يقطعوا العطاء عمن اتهم بالتشيع لعلي وأهل بيته ويهدموا عليه داره. فاشتد البلاء في العراق، لا سيما الكوفة، وبلغ حداً لا يطاق، وبخاصة بعد موت الحسن وقتل الحسين (عليهما السلام).
ومضى على سنة معاوية وسيرته كل من جاء بعده من الأمويين وعمالهم. فلم يعد باستطاعة أحد أن يتظاهر بالتشيع، أو يسمي حسناً أو حسيناً. وإذا أراد الرواة أن يحدثوا عن علي قالوا: حدثنا أبو زينب. ووقف عبد الملك بن قريب في طريق الحجاج فقال له: أيها الأمير، أن أهلي عقوني، فسموني عليّا وأنا إلى صلة الأمير محتاج، فتضاحك الحجاج وقال: ما ألطف ما توسلت به، وليتك موضع كذا وأغدق عليه من عطائه. وقد قتل زياد منهم الفقهاء والمحدثين، أمثال حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي وجويرية بن مسهر، وأمثالهم من القراء وحملة الحديث. ولما أراد أن يقتل سعيد بن سرح، استجار بالحسن (عليه السلام) فهدم داره وأخذ أمواله وحبس أخاه وامرأته. فكتب إليه الحسن (عليه السلام): أما بعد، فانك عمدت إلى رجل من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، فهدمت داره وأخذت ماله وحبست عياله، فأن أتاك كتابي هذا، فابن له داره واردد عليه عياله وماله وشفعني فيه، فقد أجرته، فكتب أليه زياد : من زياد بن أبي سفيان، إلى الحسن بن فاطمة، أما بعد، فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك وأنت طالب حاجة، وأنا سلطان وأنت رعية، و تأمرني فيه بأمر المطاع المسلط على رعيته. كتبت إليّ في فاسق آويته، إقامة منك على سوء الرأي ورضاً منك بذلك وإيم الله لا تسبقني به، ولو كان بين جلدك ولحمك وان نلت بعضك غير رفيق بك فإن أحب لحم إليّ أن آكله، للحم أنت منه، فسلمه بجريرته إليه هو أولى به منك. فإن عفوت عنه لم أكن شفعتك فيه، وإن قتلته، لم اقتله إلاّ لحبّه لأبيك الفاسق.
ولقد قال الحسن البصري في معاوية: ثلاث كنّ في معاوية، لو لم يكن إلاّ واحد منهن لكانت موبقة: ابتزازه على هذه الأُمّة بالسفهاء حين ابتزها أمرها، واستلحاقه زيادا، وقد قال رسول الله: ((الولد للفراش وللعاهر الحجر))، وقتله لحجر بن عدي وأصحابه. فيا ويله من حجر وأصحاب حجر. ولما وصف بالحلم في مجلسه قال: وهل اغمد سيفه، وفي نفسه على أحد شيء؟.
لقد أمعن الأمويون في التنكيل والتعذيب بأهل البيت وكل من يتهم بالولاء والتشيع لهم. ولم يضعوا سيوفهم في أغمادها، ما دام بين المسلمين من يذكر عليّا بالخير أو يسمي حسنا وحسينا. فليس من الغريب إذا خفت صوت التشيع في ميدان التشريع وغيره من الميادين. وتلك من النتائج المرتقبة لأي أُمّة تعيش في مثل هذا الجو المظلم، ولولا أن التشيع يرتكز على أساس متين من المبادئ والعقائد لكان كغيره من المذاهب والأحزاب البائدة، وقد أبيدت فرق وأحزاب، ولم يعد لها عين ولا أثر، لمجرد أن السياسة كانت تسير في اتجاه معاكس لها، ولم تلق من قسوة الحكام وجورهم شيئا، بالنسبة لما لاقاه الشيعة، منذ العهد الأموي حتّى العصور الأخيرة من تاريخهم. لقد كانت أولى أهداف الأمويين في سياستهم، القضاء على العلويين وشيعتهم وآثارهم، بكل ما يملكون من الوسائل. وكان ذلك يشغل الجانب الأكبر من تفكيرهم وجهودهم، لأنهم يرون فيه الخطر الذي يهدد سلطانهم وسلامة دولتهم. وتتضح هذه الآراء من سيرة معاوية وولده يزيد، ومن جاء بعده منهم. وقد أشار هاشم بن عبد الملك، في رسالته التي بعثها إلى واليه في العراق، يوسف بن عمر، إلى النوايا السيئة، التي حملها الأمويون على الشيعة وأئمتهم، قال: أما بعد، فقد علمت بحال أهل الكوفة، في حبهم أهل هذا البيت، ووضعهم إياهم في غير مواضعهم، لأنهم افترضوا على أنفسهم طاعتهم، ووظفوا عليه شرائع دينهم، ونحلوهم ما هو كائن، حتّى حملوهم من تفريق الجماعة على حال استخفوهم فيها على الخروج.
ولكنهم مع ذلك فما استطاعوا أن يطفئوا شعلة الحق من قلوب المؤمنين، ولم يتم لهم ما أرادوه، وان تم لهم أن يحولوا بينهم وبين إدارة شؤون الأمّة والقيام بأمر الخلافة.
ومهما يكن الحال فلقد تنازل الحسن (عليه السلام) عن حقه في الخلافة لمصلحة الإسلام العليا، بعد أن رأى أهل الكوفة لا يثق بهم إنسان إلاّ غلب، وعاهده معاوية أن يحفظ لشيعته وللمسلمين حقهم وكرامتهم.
ولكنه بحكم طبيعته، التي لا تعرف إلاّ المكر والغدر، أبى أن يفي بشيء مما عاهد عليه. وكان مما لا بد منه، أن يرحل الحسن عن الكوفة، هو وأهل بيته، إلى العاصمة الأولى للإسلام، فأقاما بها بين من بقي من صحابة الرسول، الذين سمعوا قوله فيه وفي أخيه الحسين (عليه السلام): ((هذان إمامان، قاما أو قعدا)). وقوله ((هما سيدا شباب أهل الجنة)). والتف حولهما رواد العلم وبقية الصحابة الكرام، فأخذوا عنهما العلم وأصول الإسلام وفروعه. وقد ألّف الحسن في الفقه، كما يؤيد ذلك ما ذكره السيوطي في تدريب الراوي قال: كان بين السلف من الصحابة، والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم، فكرهها كثير منهم وأباحها طائفة وفعلوها، منهم علي وابنه الحسن (عليه السلام). ولما التقى الفرزدق الشاعر مع الحسين (عليه السلام) وهو في طريقه لأداء فريضة الحج، والحسين (عليه السلام) في طريقه إلى العراق قال: سألته عن أشياء من نذور ومناسك، فأخبرني بها. ومما لا شك فيه أنهما كانا من أوثق المراجع في نفوس المسلمين وأقدسها، وأكثر من سكن المدينة على عهد الرسول رآه وهو يحملهما على كتفيه ويمص من لعابهما، وسمعه وهو يقول لهما: ((نعم الجمل جملكما ونعم الراكبان أنتما)).
وتولى أمرهما علي (عليه السلام) من بعده وعاشا معه أكثر من أربعين عاما، كانت سيرتهما في هذه المدة سيرة ندّية، فواحة، عطرة، كسيرة جدهما وأبيهما، سلسلة جهاد متواصل في سبيل الله وخير الإنسانية، وثورة على أئمة الظلم والباطل، الذين أجبروا الناس على الخضوع لهم والسير في ركابهم، بما استعملوه من صور مخيفة تنذر المعارضين لسياستهم بالقتل والتشريد، فلم يمنعهما كل ذلك من المضي في طريقهما الذي أعلناه للعالم الإسلامي بكل صراحة، مهما كانت النتائج.
وأخيرا لم يَر ابن هند بدا من اغتيال الحسن، فدسّ إليه السم، بواسطة إحدى زوجاته، جعده بنت الأشعث بن قيس. وانتهى الأمر بأخيه الحسين (عليه السلام)، أن قتلهُ يزيد بن معاوية، بعد أن استغاث به ملايين المسلمين لينقذهم من سلطانه وسلطة ولاته الجائرين. ورأى نفسه بإزاء أمر لا مفر منه، ولا محيد عنه، فاستجاب لرغبة أهل العراق الملحة، ولكتبهم التي بلغت ألفا أو تزيد. وقبل أن يدخل الكوفة فوجئ بغدرهم، فلم يعد بإمكانه أن يرجع إلى مدينة جده، أو يلتجئ إلى بلد عربي آخر. وأصبح بين أمرين، إما أن يستسلم ليزيد وأتباعه، أو يقاتل القوم بتلك الحفنة القليلة من أصحابه وبنيه.
أما الاستسلام، ومن ورائه البيعة ليزيد، فقد أعلن رأيه فيها صريحا في الأيام الأولى لولاية يزيد بن معاوية، يوم استدعاه من أجلها حاكم المدينة ليلا، وفي مناسبات أخرى، فكان المحتم أن يرفضها اليوم، كما رفضها بالأمس، مهما كان مصيره، وما دام في سبيل الحق والإنسانية فمات هو وأصحابه ميتة الكرام، ولسانه يردد: ((لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما وشقاءً)). وترك من ورائه دروسا في الإباء والتضحية والثورة على الظلم والظالمين والتفاني في سبيل العقيدة والمبدأ، لا تزال الأجيال تستلهم منها العزيمة والإخلاص للحق والعقيدة، والاستهانة بالحياة مع الظالمين. وستبقى هذه الذكرى الخالدة من أروع ما يقدمه الإنسان في هذه الحياة للبشرية من أعمال وآثار ودروس.
هذه لمحة خاطفة عن الوضع السياسي بعد انتقال الخلافة الإسلامية إلى الأمويين. وقد أوجزنا فيها سيرتهم مع أهل البيت وشيعتهم وما لاقوه من التعذيب والاضطهاد، والأسباب التي أبعدتهم عن حقهم الشرعي في الخلافة الإسلامية وكان مما لابد لنا من ذلك، لنعرف مدى آثار هذا الوضع على حملة الفقه والحديث، من رجال الشيعة وفقهائهم، ممن بقي من الصحابة والتابعين. ومن ذلك نعرف أن الذين تصدوا للإفتاء ونقل الحديث من الشيعة في ذلك العصر، كانوا يحرصوا أن لا تظهر عليهم صفة التشيّع، حتّى لا يكون مصيرهم مصير من عرفوا بالولاء لأهل البيت، كحجر بن عدي وسعيد بن جبير ويحيى بن أم الطويل والعشرات من أمثالهم.
وقبل أن نستعرض فقهاء التابعين من الشيعة، لا بد لنا من الإشارة الموجزة إلى الدور الذي قام به الامام زين العابدين في التشريع ونشر تعاليم الإسلام، لان فقهاء التابعين، قد اخذ أكثرهم من الأئمة الثلاثة، وروى عنهم الحديث.
لقد نشأ علي بن الحسين (عليه السلام) في بيت الله. بيت النبوة، ذلك البيت، الذي تحمل في سبيل الله، من الألم والمحن أقصى ما يمكن أن يتصوره الإنسان. ففي السنين الأولى من طفولته، كانت محنة جده الأعظم في محرابه، وبعدها محنة عمه الحسن، وجاءت بعد ذلك محنة أبيه الكبرى، التي لم يسلم منها من بنيه غيره. وبقيت آثارها تحزّ من نفسه، حتّى لحق بربّه. ومع تلك المصائب والمحن التي توالت عليه، وفي ذلك الجو المظلم، الذي عاشه بعد استشهاد أبيه وسبي نسائه وعياله، كان منقطعا إلى عبادة ربه، ونشر تعاليم الإسلام وبيان أحكامه من حلال وحرام. وقال عنه ابن سعد في الطبقات ا لكبرى: ((كان علي بن الحسين ثقة مأمونا، كثير الحديث، عاليا رفيعا، ورعا عابدا خائفا)).
وقال عنه ابن الجوزي في تذكرته: أن ابن عباس كان إذا رآه يقول: ((مرحبا بالحبيب ابن الحبيب)).
ونقل أبو نعيم في رسالته عن الزهري انه قال: ما رأيت هاشميا أفضل من علي بن الحسين (عليه السلام). وقال فيه أبو حازم: ((ما رأيت أفقه منه)).
وقال الشيخ المفيد، عن عبد الله بن موسى عن أبيه، عن جده، قال: كانت أمي فاطمة بنت الحسين تأمرني أن اجلس إلى خالي علي بن الحسين (عليه السلام)، فما جلست إليه قط، إلاّ قمت بخير قد أفدته: إما خشية الله تحدث في قلبي لما أراه من خشيته، أو علم قد إستفدته منه.
وفي الإرشاد، عن سعيد بن كلثوم قال: كنت عند الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام)، فذكر عليّا أمير المؤمنين، فأطراه بما هو أهله، ثمّ قال: ((والله ما أكل علي بن أبي طالب من الدنيا حراما قط، حتّى مضى لسبيله، وما عرض له أمران قط هما للّه رضا، إلاّ اخذ بأشقهما عليه، وما نزلت برسول الله نازلة، إلاّ دعاه ثقة به، وما أطاق عمل رسول الله من هذه الأُمّة غيره. وانه كان ليعمل عمل رجل كأن وجهه بين الجنة والنار، يرجوا ثواب هذه ويخاف عقاب الآخرة. ولقد اعتق من ماله ألف مملوك في طلب رضا الله والنجاة من النار، مما كدّ بيده ورشح منه جبينه. وما رأيت أحدا من ولده يشبهه في لباسه وقوته وعلمه وفقهه، أكثر من ولده علي بن الحسين (عليه السلام).
ولقد بلغ به الحرص على العلم وأهله، انه كان يستقبل طالب العلم ويعانقه، ثمّ يقول له: ((مرحبا بوصية رسول الله)). وكان يقصد عبدا اسود ويجلس عنده، فقال له بعضهم: أنت سيد الناس وأفضلهم، تذهب إلى هذا العبد وتجلس عنده؟ فقال: ((العلم يتبع حيث كان)).
وقال الشيخ محمّد الخضري، وهو يتحدث عن كبار التابعين وأشهرهم في الفقه والفتوى: ((ان علي بن الحسين الهاشمي هو الامام الرابع من أئمة الشيعة الأمامية، يعرف بزين العابدين، روى عن أبيه وعمه الحسن وعائشة وابن عباس وغيرهم)). ونقل عن الزهري أنه قال: ((ما رأيت أحدا كان افقه من علي بن الحسين)) وقال ابنه: ((ما رأيت هاشميا أفضل منه)).
وليس غرضنا من ذكر هذه الطائفة من أقوال علماء عصره فيه، أن نستقصي جميع ما قيل فيه من تقريض وثناء، وإنما المقصود مما ذكرناه من أقوال هؤلاء الأعلام انه كان مرجعا في الأحكام في عصره، على الرغم من الرقابة الشديدة، التي فرضتها سياسة الحكام عليه بصورة خاصة. وقد تلمذ عليه جماعة من فقهاء التابعين، منهم القاسم بن محمّد بن أبي بكر وسعيد بن المسيب وابن جبير وأبو حمزة الثمالي وأبو خالد الكابلي وغيرهم. قال السيد حسن الصدر: أن القاسم بن محمّد وسعيد بن المسيب وأبا خالد الكابلي من ثقات علي بن الحسين وحواريه.
لقد بقي الامام زين العابدين (عليه السلام) ما يقرب من أربعين عاما بعد أبيه، قضاها في ظل العهد الأموي، وتحت الرقابة الشديدة من الأمويين وولاتهم، كالحجاج الثقفي وأمثاله، الذين كانوا يعملون جهدهم للقضاء علي جميع الفئات، التي لا تدين بالولاء إلى الأمويين. وكان الشيعة في طليعة من لاقوا حتفهم على يد الحجاج وغيره من أتباع الأمويين.
وكانت تتبع موجة القتل والتشريد والتعذيب، موجة أخرى من الأحاديث المكذوبة للقضاء على آثار أهل البيت، ومحو التشيع من أساسه. ولكن جميع المحاولات التي قام بها معاوية وولاته والأمويون وأتباعهم، لم تغنهم شيئا، فلقد بقي التشيع، وبقيت آثار أهل البيت: (كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها). وما ذلك إلاّ لان قادة التشيع، لم يكونوا في يوم من الأيام إلاّ صورة صادقة عن جدهم الرسول الأعظم، في سيرتهم وإخلاصهم لمبادئ الإسلام  وتعاليم القرآن، وتفانيهم في سبيل الحق ومحاربة الباطل.
لقد بذل معاوية، فيما بذله من الأموال الطائلة، أربعمائة ألف درهم لسمرة ابن جندب، احد أتباعه، ليروي إلى الناس أن قول الله سبحانه: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله)، يشير إلى ابن ملجم، لأنه سبق في علم الله انه سيقتل عليّا، وان قوله سبحانه: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا فإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل)، يشير إلى علي (عليه السلام). فروى سمرة ذلك وأشاعه بين الناس. ومع علمهم بكذبه، ما استطاع احد أن يجاهر بالخلاف، خوفا من سيف معاوية المسلول على رقاب الآمنين. وجميع المسلمين يعرفون ويعلمون أن معاوية وأتباعه هم المعنيون في الآية الثانية، وان عليّا وأبناءه وشيعتهم الطيبون، هم المعنيون بالآية الأولى ولم يستطع أن يغير من الحق والواقع شيئا بكذبه وبهتانه وسيوفه المسلولة على الرقاب. وكان نصيبه الفشل والخسران، في كل محاولاته التي بذلها للقضاء على التشيع وآثاره. وبقيت آثار أهل البيت حية خالدة، ومعدنا خيرا، يفيد الإنسانية في جميع أدوارها ومراحل حياتها. أما غيرهم فقد ذهب مع الزمن، وأصبح مثالا للرذيلة والبغي والفحشاء. ففي الدور الذي كان فيه أئمة الشيعة تحت الرقابة الشديدة، والشيعة يقاسون ألوانا من التعذيب والتنكيل، كان كبار الفقهاء والمفتين من الشيعة، ولكن صبغة التشيع لم تكن بارزة في فقههم وحديثهم:
ومرد ذلك إلى الضغط السياسي الذي برز في سياسة الحكام الأمويين. الذين سخرّوا الدين والفقه وجميع الآثار الإسلامية لتدعيم عروشهم.
ولا بد لنا من عرض موجز لعدد من مشاهير شيوخ الفقه والتشريع من رجال الشيعة في العهد الأموي، لنعرف مدى مساهمة التشيع في الفقه الإسلامي والتفسير والحديث، من بداية العهد الأموي، إلى العصر الذي ظهر فيه الامام محمّد الباقر. وقد استعرض الدكتور محمّد يوسف في كتابه، تاريخ الفقه الإسلامي، المشاهير من شيوخ التشريع في عهد الصحابة، ومن أخذ عنهم من الفقهاء الشيعة وتلامذتهم من التابعين.
وفي تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ الخضري ما يقرب مما ذكره محمّد يوسف، ومن بين هؤلاء من ثبت تشيعه وولاؤه لأهل البيت.
فمن فقهاء الشيعة سعيد بن المسيب، وهو أحد الفقهاء السبعة الذين تخرجوا من مدرسة الفقه في المدينة. ومن أشهر المفتين والمحدثين في زمانه. ولد لأربع سنوات من خلافة عمر الخطاب ولازم الأئمة من أهل البيت وأصبح من حواري علي بن الحسين (عليه السلام).
قال الفضل بن شاذان: لم يكن في زمن علي بن الحسين في آخر أمره إلاّ خمسة نفر: سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومحمّد بن جبير بن مطعم ويحيى ابن أم الطويل وأبو خالد الكابلي.
وروى إسحاق بن حريز عن الامام الصادق (عليه السلام) انه قال: كان سعيد ابن المسيب من ثقاة علي بن الحسين (عليه السلام). وروى محمّد بن أبي نصر البزنطي انه ذكر في مجلس الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، القاسم بن محمّد بن أبي بكر وسعيد بن المسيب، فقال: ((لقد كانا على هذا الأمر)). وقد وردت بعض الروايات التي قد توهم انحرافه عن أهل البيت، لأنه لم يحضر الصلاة على علي بن الحسين، ولكن الشيخ محمّد طه في رجاله، بعد أن أورد ما يدل على تشيعه وولائه لأهل البيت قال: لم نجد ما يدل على ذمه سوى ما روي مرسلا أنه لما مرّت جنازة علي بن الحسين (عليه السلام) أنجفل الناس ولم يبق في المسجد إلاّ سعيد بن المسيب فوقف عليه (خثرم) مولى أشجع، قال: يا أبا محمّد ألا تصلي على هذا الرجل الصالح في البيت الصالح؟ قال: أصلي ركعتين في المسجد أحب إلي من أن أصلي عن الرجل الصالح في البيت الصالح.
وهذه الكلمة، كما يمكن أن تكون بدافع الجفاء والغلظة، يمكن أن تكون تقية منه، أو لإبعاد نفسه عن التهمة بالرفض، في ذلك الظرف الذي كان الحجاج فيه يقتل الأبرياء لمجرد اتهامهم بالتشيع .
وقد قتل سعيد بن جبير لهذا السبب. ولقد كان بعض أصحاب الامام الصادق، إذا رآه يصرف مجه عنه، حذرا من اشتهاره بالتشيع.
وفي رواية علي بن زيد: لقد اعتذر عن تركها: بأنه سمع من علي بن الحسين أن صلاة ركعتين في المسجد إذا كان خاليا، فيهما من الأجر ما لا يحصيه إلاّ الله، ولم يخل له المسجد إلاّ حينما حملت جنازة الامام زين العابدين (عليه السلام).
ومهما كان الحال، فان تخلفه عن الصلاة عليه، لا يدل على انحرافه وعدم تشيعه، لا سيما بعد اشتهاره بالتشيع ووجود الأحاديث الكثيرة التي تنص على موالاته لأهل البيت. وقد قال فيه الامام زين العابدين، انه اعلم الناس وأفهمهم في زمانه. وفي إتقان المقال انه احد العلماء الإثبات. اتفق الفقهاء الكبار على أن مرسلاته اصح المراسيل، وانه ليس في التابعين أوسع علما منه. وعن الذهبي انه سيد التابعين وأحد الأعلام، فقيه رفيع الذكر، رأس في العلم والعمل.
وقال عنه الدكتور محمّد يوسف: ((انه كان واسع العلم، وافر الحرمة، متين الديانة، قوالا بالحق، فقيه النفس)). ثمّ قال: ((وقد جاء عن غير طريق انه أعلم الناس بقضاء الرسول، كما يوصف بأنه احد أعلام الدنيا وسيد التابعين، لا احد فيهم أوسع علما منه)).
وقال عنه الشيخ محمّد الخضري: ((إنه سمع من كبار الصحابة، وان قتادة قال فيه: ما رأيت أحدا أعلم من سعيد بن المسيب، وان الحسن البصري كان إذا أشكل عليه شيء كتب إلى سعيد بن المسيب يسأله عنه)).
وقد ذكره الدكتور محمّد يوسف في مواضع أخرى من كتابه، ففي (صفحة 137) قال عنه بأنه الزعيم الأول لأهل الحديث، وهو رأس علماء التابعين وأحد الفقهاء السبعة.
وفي صفحة 158 قال: ((كان من الطراز الأول، جمع بين الحديث والفقه والعبادة والزهد والورع)). ولأنه أبى أن يبايع الوليد وسليمان ابني عبد الملك بولاية العهد. عرضه الخليفة على السيف وجلده خمسين جلدة وشهر به في أسواق المدينة ومنع الناس أن يجالسوه. وقد رفض أن يزوج ابنته للوليد، ولي عهده، وآثر عليه احد مريديه ومجالسته من الفقراء (أبو وداعه). وكان يقول: ((لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة، إلاّ بإنكار من قلوبكم لئلا تحبط أعمالكم)).
وقد ذكر عنه الميرزا محمّد وغيره ممن كتب في الرجال، ما يؤكد تشيعه وولاءه وانه من الأعلام في الفقه والحديث وأبرز أهل زمانه فيهما.
ومنهم القاسم بن محمّد بن أبي بكر، الفقيه الشيعي. قال المرحوم السيد حسن الصدر: انه احد الفقهاء في المدينة. وعن أبي أيوب: ما رأيت أفضل منه، من كبار الطبقة الثالثة، ثمّ قال: كان جد مولانا الصادق (عليه السلام)، لان أم فروة والدة الامام الصادق هي بنت القاسم، وكان قد تزوج بنت الامام زين العابدين (عليه السلام). وقد ذكر في مجلس الامام الرضا (عليه السلام) القاسم ابن محمّد وسعيد بن المسيب، فقال: كانا على هذا الأمر ويعني بذلك ولاية أهل البيت، فقال: وفي الكافي عن يحيى بن جريز قال: قال أبو عبد الله الصادق: كان سعيد بن المسيب والقاسم بن محمّد وأبو خالد الكابلي، من ثقات علي بن الحسين.
وفي حديث آخر: أن سعيد بن المسيب والقاسم بن محمّد من حواري علي بن الحسين.
وقال الشيخ محمّد طه: أن القاسم بن محمّد من سادات التابعين وفقهاء الشيعة وأفضل أهل زمانه. وفي كثير من الأحاديث عن أهل البيت، ما يدل على تشيعه ووثاقته وانه من حواري علي بن الحسين (عليه السلام).
وقال عنه الشيخ محمّد الخضري: انه كان من فقهاء أهل المدينة ومن المراجع في الإفتاء والفقه الإسلامي. ونقل عن يحيى بن سعيد انه قال: ما وجدنا أحدا بالمدينة نفضله عليه. وعن أبي الزناد:
ما رأيت فقيها أعلم من القاسم وما رأيت أحدا اعلم بالسنة منه.
وعن ابن عيينة: أن القاسم كان اعلم أهل زمانه. وقال عنه ابن سعد: انه كان إماما، فقيها، ورعا، كثير الحديث.
وقال فيه عمر بن عبد العزيز: لو كان لي من الأمر شيء لاستخلفت أعمش تميم يعني بذلك القاسم بن محمّد.
وقال عنه الدكتور محمّد يوسف: انه كان أماما في الفقه والعلم وثقة ورعا، وانه اخذ العلم عن شيوخ المدينة، عن علي وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب.
وقد عدّه اليعقوبي من فقهاء المسلمين، في عهد أربعة من ملوك الأمويين: الوليد بن عبد الملك وسليمان وعمر بن عبد العزيز ويزيد بن عبد الملك.
ومن فقهاء الشيعة الذين تصدروا للفتوى ورواية الحديث علقمة بن قيس، وقد أدرك أربعة من أئمة الشيعة وأخذ عنهم الحديث والفقه. وكان قد شهد مع أمير المؤمنين صفين وأصيبت بها إحدى رجليه وقتل بها أخوه (أبيّ ابن قيس).
قال الكشي: كان علقمة بن قيس فقيها في دينه، قارئا لكتاب الله، عالما بالفرائض. وكان أخوه الحرث فقيها أيضا: وقد عدّه الشهرستاني في الملل والنحل من رجال الشيعة. وفي المراجعات : انه كان من رؤوس المحدثين الذين ذكرهم أبو اسحق الجوزجاني. وقال عنه وعن جماعة من محدثي الشيعة: كان من أهل قوم لا يحمد الناس مذاهبهم لتشيعهم، هم رؤوس محدثي الكوفة. ثمّ قال عنه: أما عدالة علقمة وجلالته عند أهل السنة، مع علمهم بتشيعه، فمن المسلمات. وقد احتج به أصحاب الصحاح الستة وغيرهم. ودونك حديثه في صحيح البخاري ومسلم عن كل من ابن مسعود وأبي الدرداء وعائشة. أما حديثه عن عثمان وابن مسعود ففي صحيح مسلم. وروى عنه في الصحيحين ابن أخيه إبراهيم النخعي. وروى عنه في صحيح مسلم عبد الرحمن بن زيد وإبراهيم بن زيد والسبيعي. وقد ذكره الشيخ القمي بنحو ذلك.
قال الشيخ محمّد الخضري عنه: انه كان من فقهاء الكوفة الذين
نشروا الفقه الإسلامي، وانه فقيه العراق. وكانت ولادته في حياة الرسول (صلى الله عليه واله). وسمع الحديث من عمر وعثمان وابن مسعود وعلي، وتفقه على ابن مسعود وكان أنبل أصحابه. وقال عنه ابن مسعود: لا اعلم شيئا إلاّ و علقمة يعلمه. ومضى الخضري في وصفه يقول: قال قابوس بن أبي ظبيان، قلت لأبي: لأي شيء كنت تدع الصحابة وتأتي علقمة؟ قال: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله، وهم يسألون علقمة ويستفتونه. ونقل عن الذهبي انه قال: كان فقيها، إماما، بارعا، طيب الصوت بالقرآن، ثبتا فيما ينقل، صاحب خير وورع.
وذكره الدكتور محمّد يوسف بأنه كان على رأس من تخرج من مدرسة الفقه في الكوفة، التي كان على رأسها ابن مسعود، وانه كان فقيه أهل العراق وأنبل أصحاب ابن مسعود. ثمّ نقل عنه ما أوردناه عن الخضري.
وقد عدّه المرزا محمّد من رؤساء التابعين الكبار وزهادهم، ومن القارئين لكتاب الله والفقهاء، وقد وصفه بالفقه والزهد والورع، وانه من أنصار علي (عليه السلام) وتابعيه، كل من كتب في الرجال.
ومن فقهاء التابعين وأعيانهم، سعيد بن جبير. وروى هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام) انه قال: أن سعيد بن جبير كان يأتم بعلي بن الحسين (عليه السلام) وكان علي بن الحسين يثني عليه، وما كان سبب قتل الحجاج له، إلاّ على هذا الأمر، وكان مستقيما، وقال الفضل بن شاذان: لم يكن في زمن علي بن الحسين في أول أمره، إلاّ خمسة، وعدّ منهم سعيد بن جبير.
وقال الكشي في كتابه أخبار الرجال: أن سعيد بن جبير لما دخل على الحجاج قال له: أنت شقي بن كسير، قال: أمي كانت اعرف باسمي، سمتني سعيد بن جبير.
قال له الحجاج: ما تقول في أبي بكر وعمر، هما في الجنة أو النار؟ قال: لو دخلت الجنة ونظرت أهلها لعلمت من فيها. قال: ما تقول في الخلفاء؟ قال: لست عليهم بوكيل. أيهم أحب إليك؟
قال: أرضاهم لخالقه. قال: أيهم أرضاهم لخالقه؟ قال: علم ذلك عند ربي، الذي يعلم سرهم ونجواهم. قال: أبيت أن تصدقني؟ قال: أبيت أن أكذبك.
وعن تقريب ابن حجر أن سعيد بن جبير الكوفي ثقة، ثبت، فقيه من الثالثة، قتله الحجاج صبرا.
وقد ذكره الدكتور محمّد يوسف وعده من أعلام الفقه، الذين تخرجوا من مدرسة الكوفة، وانه احد الفقهاء الأعلام وجهبذ العلماء، وان ميمون بن مهران قال فيه بعد موته: مات سعيد بن جبير، وما على وجه الأرض رجل، إلاّ ويحتاج إلى علمه، وانه اخذ العلم عن ابن عباس وغيره من فقهاء الصحابة.
وفي تاريخ التشريع الإسلامي، بعد أن قال عنه الخضري بأنه من أئمة التشريع في الكوفة، قال: أن أهل الكوفة كانوا إذا ذهبوا لمكة لأداء فريضة الحج، وسألوا ابن عباس عن شيء من أمور دينهم يقول لهم: أليس فيكم سعيد بن جبير؟
وقد عده اليعقوبي في تاريخه من الفقهاء، الذين كانوا يفتون الناس، في عصري الوليد وسليمان ابني عبد الملك بن مروان.
وهو من المعروفين بالتشيع والولاء لأهل البيت (عليهم السلام). ولا يرتاب احد من المحدثين، ومن كتب في الرجال، في ذلك.
ومن فقهاء التابعين حبيب بن أبي ثابت الاسدي. قال في المراجعات: وقد عده من الشيعة كل من ابن قتيبة في معارفه والشهرستاني في الملل والنحل، وذكره الذهبي في ميزانه، ووضع على اسمه رمزا يشعر أن الصحاح الستة تحتج بحديثه. وإنما عده الدولابي من المضعفين لمجرد تشيعه. وقد جاء حديثه في صحيحي البخاري ومسلم، عن سعيد بن جبير وأبي وائل.
وفي تاريخ الفقه الإسلامي: أنه أحد الفقهاء الذين تخرجوا من مدرسة الكوفة، ومن الفقهاء الحفاظ. روى فقهه عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما. وروى عنه سفيان الثوري وأبو بكر بن عباس وآخرون. ويقال عنه وعن حماد بن أبي سفيان أنهما كانا فقيهي الكوفة.
وفي منهج المقال للمرزا محمّد، أنه فقيه الكوفة، ولم يذكر عنه ما يشير إلى تشيعه وعدمه. ويكفينا لعده من فقهاء الشيعة التابعين، ما ذكره ابن قتيبة والشهرستاني والدولابي، كما جاء في المراجعات.
ومن الفقهاء المعروفين بالتشيع والموالاة لعلي (عليه السلام) الحرث بن عبد الله الهمداني، وقد وصفه الذهبي بالتشيع وانه ممن روى عن علي بن مسعود، وروى عنه عمرو بن مرّة والشعبي. وقال عنه ابن داود: كان افقه الناس وافرض الناس، ووصفه ابن حجر بأنه صاحب علي (عليه السلام). ورماه الشعبي بالكذب، لأنه لم يكن يفضل أبا بكر وعمر وعثمان على علي (عليه السلام). وقد نفى عنه صفة الكذب كل من كتب عنه
كالترمذي وابن عمر بن عبد البر وغيرهما، وقالا: لم يظهر منه كذب، وإنما الذي كان منه أنه من محبي علي ومفضليه على غيره.
وقال الشيخ عباس القمي: كان الحرث الأعور بن عبد الله من المقدمين في أصحاب علي، بفقهه وعلمه بالسنن والفرائض والحساب، وكان من أحسب الناس، وقد تعلم منه الشعبي الفرائض والحساب.
وقال المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين: إنه كان من رجال الشيعة ومن كبار علماء التابعين ومن أفقه الناس وأعلمهم بالفرائض في عصره. وقال عنه في المراجعات، عن محمّد بن سيرين:
إنه كان من أوعية العلم، وانه أدرك أربعة من أصحاب ابن مسعود وفاته الخامس، وهو الحرث بن عبد الله، أفضلهم وأحسنهم. وقد سلط الله على الشعبي من كذبه واستخف به من الثقات المتثبتين، ومنهم إبراهيم النخعي. وقال عنه الشيخ محمّد طه: انه من الأولياء وأصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام).
ومن الفقهاء سليمان بن مهران الاسدي الكوفي (الملقب بالأعمش)، وقد وصفه جماعة من أعلام أهل السنة بالفضل والوثاقة والاستقامة والتشيع، وأنه كان عالما بالفقه. لقي كبار التابعين، وروى عنه سفيان الثوري وحفص ابن غياث وغيرهما من التابعين.
وكان مزّاحا، فلقد جاءه أصحاب الحديث يوما فخرج إليهم وقال: لو لا أن في منزلي من هو أبغض إلي منكم ما خرجت إليكم، يعني بذلك زوجته، وكان محدث أهل الكوفة في زمانه، وقد ظهر له أربعة آلاف حديث، ولم يكن في زمانه من طبقته من هو أكثر منه حديثا. وقيل فيه: لم يكن أحد في الكوفة أقرأ منه لكتاب الله، ولا أجود حديثا وأسرع إجابة. وقال فيه عيسى بن يونس: ما رأيت السلاطين والأغنياء، عند أحد أحقر منهم عند الأعمش، مع فقره وحاجته، ولقب بالأعمش لسيلان دمعته وضعف بصره.
وقد وصفه المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين بالتشيع والوثاقة، اعتمادا على كتب الحديث والرجال والفرق. وذكر أن هشام بن عبد الملك بعث إليه أن يكتب له مناقب عثمان ومساوئ علي (عليه السلام)، فأخذ القرطاس ووضعه في فم شاة وقال للرسول: هذا جوابه. فقال له الرسول: لقد توعّدني بالقتل إن لم آته بجوابك، وتوسل إليه بمن حضر مجلسه، ولما ألحوا عليه أن يكتب له الجواب، أخذ القرطاس وكتب عليه: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فلو كان لعثمان مناقب أهل الأرض ما نفعتك، ولو كان لعلي مساوئ أهل الأرض ما ضرتك، فعليك بخويصة نفسك.
ثمّ قال في المراجعات: ولقد احتج بحديثه أصحاب الصحاح الستة وغيرهم. وروى عنه جماعة، منهم أبو سفيان الثوري وابن عيينة وحفص بن غياث وآخرون.
وقال الشهيد الثاني: أن أصحابنا المصنفين في الرجال تركوا ذكره، ولقد كان حريا لاستقامته وفضله. وقد ذكره العامة في كتبهم وأثنوا عليه، مع اعترافهم بتشيعه، رحمه الله.
ومن فقهاء الشيعة ومراجع المسلمين، أبو الأسود الدؤلي. قال المرحوم السيد حسن الصدر عن الجاحظ: إن أبا الأسود الدؤلي معدود في طبقات الناس، وهو في كلها مقدم مأثور عنه، معدود في التابعين والفقهاء والمحدثين والشعراء والإشراف. وعن الراغب في المحاضرات: أنه كان من أكمل الرجال رأيا وعقلا، وكان شيعيا ثقة في الحديث، سريع الجواب. وعن أبي الفرج الأصفهاني: إنه كان من سادات التابعين وأعيانهم، وقد وضع علم النحو بإرشاد علي (عليه السلام) إليه.
وقال المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين: لقد احتج بحديثه أصحاب الصحاح الستة، وحديثه في صحيح البخاري ومسلم، عن أبي ذر الغفاري وعمر بن الخطاب، وله في بعض الصحاح عن غيرهما. وروى عنه جماعة في الصحيحين وفي صحيح البخاري.
وقال الشيخ عباس القمي: إن معاوية أرسل إليه هدية من أنواع الحلوى، بقصد استمالته وصرفه عن علي (عليه السلام)، فأخذت ابنة له صغيرة لقمة منها ووضعتها في فمها، فقال لها أبو الأسود: إنها سم أرسلها إلينا معاوية ليخدعنا عن أمير المؤمنين، فألقتها الصبية من فمها وقالت: قبحها الله من هدية. وعالجت نفسها حتّى قاءت ما أكلته منها. وكان مما أوصى ولده: ((يا بني، إذا وسع الله عليك فابسط وإذا امسك عليك فامسك ولا عز كالعلم. إن الملوك حكام الناس والعلماء حكام الملوك)).
ومن فقهائهم ورواتهم عامر بن وائلة بن عبد الله بن عمر الليثي. ولقد عده ابن قتيبة، في المعارف، من رجال الشيعة. وقال ابن عبد البر في الكنى من الاستيعاب انه نزل الكوفة يوم كان علي بها، وصحبه إلى أن قتل، وبعد ذلك رجع إلى مكة. وكان فاضلا عاقلا وفصيحا حاضر الجواب.
ولما وفد على معاوية سأله كيف وجّدك على خليلك أبي الحسن؟ قال: كوجد أم موسى على موسى، واشكوا إلى الله التقصير. قال له معاوية: لقد كنت فيمن حصر عثمان؟ قال: لا، لكني كنت فيمن حضره. قال فما منعك من نصره؟ قال: وأنت ما منعك من نصره، إذ تربصت به ريب المنون، وكنت في أهل الشام، وكلهم تابع لك؟ فقال له معاوية: أو ما ترى طلبي لدمه نصرة له؟ قال: انك لكما قال الشاعر:
لألفينك بعد الموت تندبني***وفي حياتي ما زودتني زادي
قال في المراجعات: روى عنه كل من الزهري والحريري وعبد الملك بن ابجر وقتادة والوليد بن جميع ومنصور بن حياة والقاسم بن أبي بردة وعمر بن دينار وعكرمة بن خالد وغيرهم. وحديثهم عنه موجود في صحيح مسلم وروى في الصلاة ودلائل النبوة عن معاذ بن جبل. وروى في القدر عن عبد الله بن مسعود. وروى عن كل من علي (عليه السلام) وحذيفة بن أسيد وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وعمر بن الخطاب، كما يعلم متتبعو حديث مسلم، والباحثون عن رجال الأسانيد في صحيحه.
ومنهم طاوس بن كيسان الخولاني اليماني. قال في المراجعات: وقد أرسل أهل السنة أنه من رجال الشيعة إرسال المسلمات. وعده من رجالهم كل من الشهرستاني وابن قتيبة في المعارف. واحتج به أصحاب الصحاح الستة وغيرهم، وحديثه عن ابن عباس وغيره.
وروى عنه في البخاري، مجاهد وعمر بن دينار وابنه عبد الله وغيرهم. وقال المرحوم السيد محسن الأمين: وطاوس اليماني تلميذ ابن عباس، تابعي. وقد عده ابن خشبة، فيما حكي عنه، من اعلم الناس بالتفسير. وعده ابن قتيبة، في المعارف من الشيعة، والشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب علي بن الحسين (عليه السلام) وكان منقطعاً إليه, وقال الشيخ محمّد الخضري في حديثه عن الفقهاء اليمن: طاوس بن كيسان من الأبناء، سمع زيد بن ثابت وعائشة وأبا هريرة وغيرهم، وكان رأساً في العلم والعمل. وقال عنه عمر بن دينار: ما رأيت أحداً مثل طاوس. وقال قيس بن سعيد: كان طاوس فينا مثل ابن سيرين في أهل البصرة. وقال الذهبي:كان طاوس شيخ أهل اليمن وبركتهم وفقيههم، له جلالة عظيمة.
وقال الشيخ كاظم الساعدي: أن هشام بن الحكم قال له عظني، قال: سمعت أمير المؤمنين عليّا (عليه السلام) يقول: أن في جهنم حّيات كالتلال وعقارب كالبغال، تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته. وفي تنقيح المقال: يستفاد من حديثه مع هشام انه كان شيعياً لأنه لقب عليّا بأمير المؤمنين، وليس ذلك من طريقة العامة. كما يستفاد منه انه متصلب في دينه. وأقل ما يستفاد كونه من الحسان، والمعروف في تصنيف الأحاديث أن الخير الحسن ما كان راويه شيعياً.
ومنهم إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي، وقد وصفه ابن قتيبة في معارفه بالتشيع، وأرسل ذلك إرسال المسلمات، ونقل حديثه البخاري ومسلم عن عم أمه علقمة بن قيس وغيره.وروي عنه في الصحيحين وفي صحيح مسلم جماعة كثيرون.
وقال الأستاذ الخضري: إبراهيم بن يزيد النخعي فقيه العراق. روى عن علقمة ومسروق والأسود وغيرهم . وهو شيخ حماد أبي سلمة الفقيه المعروف. كان من العلماء ذوي الإخلاص. وقال عبد الملك بن أبي سليمان: سمعت سعيد ابن جبير يقول: تستفتوني وفيكم إبراهيم النخعي؟ وقال عنه الدكتور محمّد يوسف: كان إبراهيم بن يزيد النخفي زعيم أهل الرأي وشيخ حماد بن أبي سليمان، شيخ الامام أبي حنيفة، وكان فقيه العراق بالاتفاق. وممن اخذ عنهم الفقه علقمة بن النخعي.
وقد ذهب الامام الجليل إلى أن أحكام الشريعة لها معان معقولة، كما قامت على علل تفهم من الكتاب والسنة، وان على الفقيه إدراك هذه العلل ليجعل الأحكام تدور معها . وكان على خلاف في ذلك مع سعيد بن المسيب، الذي كان همه البحث عن النصوص والآثار أكثر من بحثه عن العلل.
وبمثل ذلك ذكره عباس القمي، وزاد أن الشيخ الطوسي عدّه من أصحاب علي بن الحسين زين العابدين وقد ذكره المقمقاني واستقرب كونه إمامياً من قسم الحسان وأيد ذلك بأن الشيخ في رحاله عده من أصحاب الإمامين أمير المؤمنين وحفيده الامام زين العابدين عليهما السلام ومنهم إسماعيل بن عبد الرحمن المعروف بالسدي. قال القمي: كان نظير مجاهد وقتادة والشعبي ومقاتل، ممن يفسرون القرآن بآرائهم . وعدّه الشيخ الطوسي في أصحاب الامام زين العابدين وولده الامام الباقر (عليهما السلام). ونقل عن ابن حجر انه صدوق متهم، رمي بالتشيع. وعن السيوطي انه قال في إتقان المقال: أمثل التفاسير، تفسير إسماعيل السدي. روى عنه الأئمة، مثل الثوري وشعبة ويحيى بن سعيد القطان.
ونقل المرحوم العلامة شرف الدين، عن الذهبي في الميزان: انه رماه بالتشيع، وقال: لقد أخذ عنه الثوري وأبو بكر بن عياش وخلق من تلك الطبقة. واحتج به مسلم وأصحاب السنن الأربعة، ووثقه احمد، وقال عنه ابن عدي انه صدوق. وقال يحيى بن سعيد: ما رأيت أحدا يذكر السدي إلاّ بخير. وقال فيه إبراهيم النخعي: انه تفسير القرآن، تفسير القوم وقال المرحوم السيد حسن الصدر: انه كان من أصحاب الامام زين العابدين (عليه السلام) ونص على تشيعه ابن قتيبة، في كتابه المعارف، والحافظ العسقلاني في التهذيب وذكره النجاشي وأبو جعفر الطريسي في المصنفين من الشيعة. وقد ذكره المرحوم العلامة الأمين بمثل ما نقلناه عن هؤلاء الإعلام. وزاد على ذلك ان إسماعيل بن أبي خالد كان يقول: السدي أعلم بالقرآن من الشعبي ومنهم عمر بن عبد الله أبو إسحاق السبيعي. قال في المراجعات: كان أبو إسحاق من رؤوس المحدثين، الذين لا يحمد النواصب مذاهبهم في الفروع والأصول لأنهم نسجوا فيها على منوال أهل البيت، وتقيدوا بهم في كل ما يرجع إلى الدين.
ونقل عن الجوزجاني، في ترجمة زبيد اليامي من الميزان، انه قال: كان من أهل الكوفة قوم لا يحمد الناس مذاهبهم، وهم رؤوس محدثي أهل الكوفة، مثل أبي إسحاق السبيعي ومنصور وزبيد والأعمش، وغيرهم من أقرانهم، احتملهم الناس لصدق ألسنتهم في الحديث. وكان أبو إسحاق من بحار العلم، قواماً بأمر الله، احتج به أصحاب الصحاح الستة وغيرهم. وقد جاء حديثه في كل من الصحيحين عن البراء بن عازب وزيد بن أرقم وسليمان ابن صرد وغيرهم. وقال عنه الشيخ عباس القمي انه من أعيان التابعين. وقد صلى أربعين سنة صلاة الغداة بوضوء العتمة. وكان يختم القرآن في كل ليلة. ولم يكن في زمانه أعبد ولا أوثق في الحديث، عند الخاص والعام، ومن ثقات علي ابن الحسين. وقد رأى عليّا وابن عباس وابن عمر وغيرهم من الصحابة. وروي عنه الأعمش والثوري وشعبة وغيرهم.
وقال عنه الشيخ محمّد طه نجف، انه من أعيان التابعين، ولد في الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين (عليه السلام). وكان من ثقات علي بن الحسين، ولم يكن في زمانه اعبد منه، ولا أوثق في الحديث، عند الخاص والعام.
ومنهم شريك بن عبد الله بن سنان النخعي. وقد عدّه ابن قتيبة من رجال الشيعة، وأرسل ذلك إرسال المسلمات في كتابه المعارف. وأقسم عبد الله ابن إدريس، كما في أواخر ترجمة شريك من الميزان، أن شريكاً لشيعي. وروي أبو داود الرهاوي، كما في الميزان،انه سمع شريكاً يقول: علىٍّ خير البشر، ومن تتبع سيرته علم انه كان من موالي أهل البيت، وقد روي عن أوليائهم علماً جماً. وقال ابنه عبد الرحمن، كما جاء في الميزان: كان عند أبي عشرة آلاف مسألة، عن جابر الجعفي، وعشرة آلاف غرائب. وقال عبد الله المبارك كان شريك أعلم بحديث الكوفيين من سفيان، وكان عدوا لأعداء علي وسيء القول فيهم. وقد ذكر في مجلسه معاوية، ووصف بالحلم، فقال: ليس بحليم من سفه الحق وقاتل علي بن أبي طالب. وقد وصفه الذهبي بالحافظ الصادق وانه من أوعية العلم، حمل عن إسحاق الأزرق تسعة آلاف حديث وقد احتج بشريك مسلم وأرباب السنن الأربعة. وقد وصفه الشيخ عباس القمي بمثل ذلك.
وقد جاء ذكره في تاريخ الفقه الإسلامي، مع جماعة من فقهاء الكوفة التابعين، الذين تصدروا للإفتاء والتشريع في عصرهم.
مما ذكرنا، يتبين أن الشيعة، قد ساهموا في حقلي التشريع والإفتاء في عهد التابعين، وكانوا فيه من مراجع المسلمين في عصرهم. وقد أخذ عنهم الفقهاء والمحدثون ممن عاصرهم وتأخر عنهم، بالرغم من قسوة الحكام عليهم، والرقابة الشديدة على جميع تصرفاتهم، نظرية كانت أو عملية، بدافع القضاء على التشيع والحد من نشاطه، وتسخير جميع الطبقات لمصالحهم وأغراضهم السياسية.
ولكن لم يكتب لهم النجاح الكلي، فيما بذلوه من جهود في هذا السبيل، فقد برز الشيعة من هنا وهناك في شتى الميادين الإسلامية العلمية منها وغيرها. غير أن الذي يبدو على فقهاء الشيعة في هذا العصر، أن آراءهم في الفقه لم تظهر عليها صبغة التشيع، كما ظهرت في عهد الصحابة وفي عصر الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام، ولعل ذلك من الأسباب صرفت أنظار الحكام عنهم، وترك لهم المجال للاتصال بالجماهير، ونشر آرائهم في الفقه وأحاديثهم بين الناس. ويؤيد ذلك ما جاء في رواية محمّد بن عمرو بن عبد العزيز الكشي، أن يحيى بن أم الطويل طلبه الحجاج وعرض عليه النجاة، أن هو لعن عليّا (عليه السلام). ولما امتنع عن ذلك أمر بقطع يديه ورجليه وقتله. أما سعيد بن المسيب، فنجا منه لأنه كان يفتي بقول العامة. وكان آخر أصحاب رسول الله ومن اشهر المفتين في زمانه.
وأما أبو خالد الكابلي، فهرب إلى مكة وأخفى نفسه بها. واستجار عامر بن وائلة، الفقيه الشيعي بعبد الملك، وكانت له يد عنده.
لقد كان التشيع يشغل الجانب الأكبر من تفكير الأمويين والطبقات الحاكمة منهم، لان المبدأ الذي ترتكز عليه نظرية التشيع، يحمل في معناه روح الثورة على كل حاكم لا يتخذ المبادئ الإسلامية دستوراً عملياً لحكومته، ويقرر عدم الاعتراف بسلطانه، لا سيما وان المسلمين قد نهجوا منهجاً عقلياً في تفكيرهم، بعد اتصالهم بالشعوب التي غزاها الإسلام وتأثر الفكر العربي بالأقطار الأجنبية.
وكان الشيعة من أكثر الفرق الإسلامية انطلاقاً في تفكيرهم وإنتاجهم الموافق للأصول التي وضعها القرآن الكريم والحديث النبوي. فنظرية الاختيار مثلاً، التي تحمل في معناها أن الإنسان هو الذي يصنع مصيره وأعماله، وهو المسؤول عن كل تصرفاته، من غير أن يكون مجبوراً على شيء منها، هذه النظرية تجعل الحاكم مسؤولاً عن جميع أعماله وتصرفاته. ونظرية العدل، التي تقرر استحالة الظلم من الخالق، ولازمها عدم مساواة المجرم بغيره في الجزاء، وان: (من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)، وإلاّ كان ظالماً لعباده.
هاتان النظريتان، كانتا مسرحاً للجدل والنقاش، بين فرق المسلمين. وقد سلك فيهما الشيعة مسلكاً يتفق مع القرآن وأحاديث الرسول، ويجعل الإنسان حاكماً كان أو لم يكن، مسؤولاً عن جميع تصرفاته وأعماله، بينما سلك فيهما غير الشيعة، مسلكاً يتفق مع هوى الحكام ورغباتهم، لأنهم يرون فيه المبررات لتصرفاتهم وعدوانهم على كل من لا يقر سياستهم الجائرة.
لذا فإن الحكام، من الأمويين وغيرهم، قد أمعنوا في تسخير الأفكار وشراء الضمائر، وتقتيل فريق من فقهاء الشيعة ومفكريهم، كيحيى بن أم الطويل وسعيد بن جبير وغيرهما، ومراقبة الباقين منهم مراقبة دقيقة، تحصى عليهم حتّى أنفاسهم، ليتم له إخضاع الناس لدولتهم والاعتراف بشرعية خلافتهم.
وكان من نتيجة ذلك، أن الذين سلموا من الحجاج وغيره من الولاة، كابن المسيّب والقاسم بن محمّد وغيرهما، كانوا يفتون بما يوافق العامة أحياناً، ويروون حتّى عن أبي هريرة، عميل الأمويين الأكبر.
وظلوا يمارسون الحياة العلمية والنشاط الفكري، الذي بدت طلائعه في ذلك العهد من حياة المسلمين. ومن اجل ذلك كان للفقهاء من الشيعة في هذا الدور طابع خاص، لم يكن في الدور الذي تقدمه وتأخر عنه. ففي الدور الذي تقدمه، وهو دور الصحابة، كان لكل واحد من الصحابة أن يفتي بما سمعه عن الرسول ويحدث بما رواه عنه. وكل ما في الأمر أن من بيدهم سلطة التنفيذ، لم يسهلوا الطريق لجميع الرواة والمفتين. لذا فان آراء الفقهاء والمفتين من الشيعة لم تظهر إلاّ في بعض مسائل الفقه، كما ظهر ذلك في الفصل الذي تحدثنا فيه عن دور التشيع في الفقه الإسلامي بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه واله).
أما في الدور المتأخر عن عصر التابعين،‍ وهو الدور الذي يبتدئ في الشطر الأخير من حياة الامام الباقر ويستمر إلى نهاية عهد الامام الصادق (عليهما السلام). فقد تيسر لهذين الإمامين وأصحابهما، التعبير عن آرائهم في أصول الإسلام وفروعه، وشاع الجدل والنقاش بينهم وبين غيرهم من الفقهاء والفلاسفة، في مباحث الفقه والكلام وغيرهما من الشبه التي انتشرت بين المسلمين بواسطة اتصالهم بالبلاد التي غزاها الإسلام.
وجمعت مدرسة الامام الصادق آلاف الطلاب من مختلف الأقطار الإسلامية، وانتشر فقهه وحديثه بين الملايين من الناس، ومن أجل ذلك نسب إليه المذهب.
ومهما كان الحال ، فلقد كان الفقهاء ورواة الحديث من الشيعة، يعدون بالمئات في عصر التابعين وتابعيهم، وعليهم كانت تعتمد مدارس الفقه والحديث، في مكة والمدينة والكوفة، وبقية المدن الإسلامية الكبرى وعن الذهبي في ميزان الاعتدال، أن التشيع كثر في عهد التابعين كثرة مفرطة.
وقال في ترجمة أبان بن تغلب، بعد ما نقل توثيقه عن جماعة من الأعلام، كإبن حنبل وابن معين وأبي حاتم، لقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع، وحد الثقة العدالة والإتقان؟ وجوابه أن البدعة ضربان: صغرى كغلو التشيع، أو التشيع بلا غلو ولا تحرف، وهذا كثر من التابعين وتابعيهم،‍ مع الدين والورع والصدق، فلو رد حديث هؤلاء لذهبت جملة الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة.
وان المتتبع في مجاميع الفقه، التي دونت بعد عصر التابعين، كموطأ مالك أول كتاب ألف في الفقه، بإشارة من أبي جعفر المنصور. يرى انه يعتمد في كثير من أبواب الفقه على فقهاء الشيعة، كسعيد بن المسيب والقاسم بن محمّد وابن جبير، وهو في الغالب يذكر آراءهم في مختلف المسائل الفقهية، ويجعل منها دليلاً على ما يذهب إليه وإذا أردنا أن نستقصي آراءهم في الفقه، كما دونها مالك في موطئه لبلغت كتاباً مستقلاً.
وإذا رجعنا إلى غير الشيعة وتتبعنا ولو قليلاً، وجدنا أن كثيراً ممن اشتهروا في الفقه في عصر التابعين وما بعد، قد أخذوه عن علي وابن عباس وأبي بن كعب وابن المسيب وغيرهم، أو عن تلاميذ هؤلاء، من الموالي والتابعين، لا سيما عليٍّ (عليه السلام) وابن عمه حبر الأُمّة فقد أخذ عنهما المتقدم والمتأخر.

 

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/05/02   ||   القرّاء : 1810



البحث في القسم :


  

جديد القسم :



 كيف تأخذون دينكم عن الصحابة واغلبهم مرتدون ؟؟؟.

 ردّ شبهة ان الامامة في ولد الحسين لا الحسن اقصاء له ؟

 ردّ شبهة ان علي خان الامانة بعد ستة اشهر من رحيل رسول الله ؟؟؟.

 ردّ شبهة ان الحسن بايع معاوية وتنازل له عن الخلافة ؟؟.

 فضائل مسروقة وحق مغتصب وتناقض واضح

 فضائل مسروقة وحق مغتصب وتناقض واضح

 أعتراف الألباني بصحة حديث الحوأب

 الجزاء الشديد لمن نقض العهد الأكيد ؟؟؟

 حديث الثقلين وبعض الحقائق الكامنة

 حديث الغدير/ وكفر من لا يأخذ بكلام رسول الله بحكم ابن باز؟؟

ملفات عشوائية :



 تفاصيل خروج الامام المهدي من كتب السنة باسانيد صحيحة

 كلام في حديث (وهو وليكم بعدي)

 ماذا فعلوا بوعد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يصل رحم عمه أبي طالب؟

 دليل السيد الخوئي في ابطال نسخ التلاوة

 ابن تيمية لم ياخذ الفقهاء بشئ من فقه علي.مع انه اعلم الصحابة!

 عقيدة ابن تيمية في رؤية الباري عز وجل

 نظرة الى كتاب فصل الخطاب للمحدث النوري

 إمام أهل السنة الخطيب البغدادي :من يحمل الصفات على ظاهرها فهو مجسم

 ظهور مصلح عالمي في آخر الزمان

 وصية النبي وارتداد الصحابة

إحصاءات :

  • الأقسام الرئيسية : 24

  • الأقسام الفرعية : 90

  • عدد المواضيع : 841

  • التصفحات : 1817012

  • التاريخ : 29/03/2024 - 00:01

Footer