قول ابن تيمية بقيام الحوادث باللَّه عزّوجل
بسم الله الرحمن الرحيم
قال العلّامة طاب ثراه: «وأنّ أمره ونهيه وإخباره حادث، لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وإخباره».
فقال ابن تيميّة: «فيقال: هذه مسألة كلام الله تعالى والناس فيها مضطربون ...» إلى أن قال: «فإن قلتم لنا: فقد قلتم بقيام الحوادث بالرب! قلنا لكم: نعم، وهذا قولنا الذي دلّ عليه الشرع والعقل» «1». وقال أيضاً: «فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به! قلنا: ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنّة تتضمّن ذلك مع صريح العقل، وهو قول لازم لجميع الطوائف، ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته، ولفظ الحوادث مجمل .. فقد يراد به الأمراض والنقائص واللَّه تعالى منزّه عن ذلك ... ولكن يقوم به ما يشاؤه ويقدر عليه، من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دلّ عليه الكتاب والسنّة» «2».ويقول في فتاويه: «وقد ظنّ من ذكر من هؤلاء كأبي يعلى وأبي الحسن ابن الزاغوني أنّ الامّة قاطبةً اتّفقت على أنه لا تقوم به الحوادث، وجعلوا ذلك الأصل الذي اعتمدوه، وهذا مبلغهم من العلم. وهذا الإجماع نظير غيره من الإجماعات الباطلة المدّعاة في الكلام ونحوه وما أكثرها، فمن تدبّرها وجد عامّة المقالات الفاسدة يبنونها على مقدّمات لا تثبت إلّا بإجماع مدّعى أو قياس، وكلاهما عند التحقيق يكون باطلًا. ثمّ من العجب أنّ بعض متكلّمة أهل الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم يدّعون مثل هذا الإجماع مع النصوص الكثيرة عن أصحابهم بنقيض ذلك، بل عن إمامهم وغيره من الأئمة» «3». هذا، وقد استدلّ لما ذهب إليه في منهاج السنّة «4» بما هذا ملخّصه كما ذكر أحد أتباعه بقوله: «هل يجوّز ابن تيميّة قيام الحوادث بذاته تعالى؟ الجواب: إن ابن تيميّة لا يرى من ذلك مانعاً، لا من جهة العقل ولا من جهة النقل، بل يرى أن العقل والنقل متضافران على وجوب قيام الامور الإختيارية به تعالى، وأما تلك المقدّمة القائلة: إن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فهي صحيحة إن اريد آحاد الحوادث وأفرادها المتعاقبة في الوجود، فإنّ لكلّ واحدٍ منها مبدأً ونهايةً، فما لم يخل منها فهو إمّا أن يكون معها أو بعدها، وعلى التقديرين يكون حادثاً، وأما إن اريد جنس الحوادث فهي باطلة، فإن الجنس يجوز أن يكون قديماً، إن كان كلّ فرد من أفراده حادثاً، حيث أنه لا يلزم من حدوث كلّ فردٍ حدوث الجملة، لأن حكم الجملة غير حكم الأفراد» «5». ثمّ قال الشيخ هراس:«إن ابن تيميّة قد بنى على هذه القاعدة (قدم الجنس وحدوث الأفراد) كثيراً من العقائد، وجعلها مفتاحاً لحلّ مشاكل كثيرة في علم الكلام، وهي قاعدة لا يطمئن إليها العقل كثيراً، فإن الجملة ليست شيئاً أكثر من الأفراد مجتمعةً، فإذا فرض أن كلّ فردٍ منها حادث لزم من ذلك حدوث الجملة قطعاً». قال: «فإن ابن تيمية بعد أن أورد المذاهب المختلفة أخذ في تقرير مذهبه الذي يدّعي أنه مذهب السلف، ولكن عليه من المآخذ ما سبق أن أشرنا إليه من تجويز قيام الحوادث بذاته تعالى، وابتنائه على تلك القاعدة الفلسفيّة التي تقول بقدم الجنس مع حدوث أفراده، وهي قاعدة يصعب تصوّرها كما قلنا» «6». فهذا الشيخ المدافع عنه والمؤيّد لعقائده يقرّر أن قوله بقيام الحوادث بذاته تعالى مما أُخذ على ابن تيميّة، وأنّه قد تبع الكراميّة في ذلك، وهم من المجسّمة ... ويصرّح بأنّ القاعدة المذكورة يصعب تصوّرها ... وهذا عجيب. لكنّ الأعجب اعتراف ابن تيمية نفسه بأنّه متناقض! فإنّه يقول:«.. إن كان القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضدّه لزم تسلسل الحوادث، وتسلسل الحوادث إن كان ممكناً كان القول الصحيح قول أهل الحديث الذين يقولون لم يزل متكلماً إذا شاء، كما قاله ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنّة، وإن لم يكن جائزاً أمكن أن يقوم به الحادث بعد أن لم يكن قائماً به كما يفعل الحوادث بعد أن لم يكن فاعلًا لها وكان قولنا هو الصحيح، فقولكم أنتم باطل على كلا التقديرين. فإن قلتم لنا: أنتم توافقونا على امتناع تسلسل الحوادث، وهو حجتنا وحجتكم على نفى قدم العالم. قلنا لكم: موافقتنا لكم حجة جدلية، وإذا كنا قد قلنا بامتناع تسلسل الحوادث موافقة لكم، وقلنا بأن القابل للشيء قد يخلو عنه وعن ضدّه مخالفة لكم. وأنتم تقولون: إن قبل الحوادث لزم تسلسلها وأنتم لا تقولون بذلك. قلنا: إن صحّت هاتان المقدمتان- ونحن لا نقول بموجبهما- لزم خطؤنا إما في هذه وإمّا في هذه، وليس خطؤنا فيما سلّمناهُ لكم بأولى من خطئنا فيما خالفناكم فيه، فقد يكون خطؤنا في منع تسلسل الحوادث، لا في قولنا إن القابل للشيء يخلو عنه وعن ضدّه، فلا يكون خطؤنا في إحدى المسألتين دليلًا على صوابكم في الأخرى التي خالفناكم فيها. أكثر ما في هذا الباب أنا نكون متناقضين، والتناقض شامل لنا ولكم ولأكثر من تكلّم في هذه المسألة ونظائرها ..» «7». ومن ناحية أخرى فقد سبق إيراد قوله «.. فإذا قالوا لنا فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به. قلنا: ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة ...» ... إلى أن قال ... «.. ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته، ولفظ الحوادث مجمل، فقد يراد به: الأمراض والنقائص واللَّه تعالى منزّه عن ذلك .. ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه» «8». وهنا يمكن الردّ على ابن تيمية بما أقرّه ... لقد أقرّ بأن اللَّه منزه عن النقائص ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه ... ونحن نسأله: هل هناك حوادث متّصفة بالكمال الذي يليق باللَّه .. كمال لا يلحقه نقص .. حتى تجيز قيام هذا النوع من الحوادث بذات اللَّه تعالى؟ كلّا، ولو سلّمنا جدلًا بهذه المقدمة الخاطئة التي لا تستند إلى شيء من العقلأو الشرع .. فإن عجز كلامه يرد عليه ... لقد قال: ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه. وهل المشاء إلّا مخلوقاً؟ وهل المقدور إلّا مخلوقاً؟ وهنا سؤال آخر:هل المخلوق كامل أم ناقص؟ لا شك أن المخلوق ناقص مفتقر إلى غيره بدليل أنه مشاء وأنه مقدور.إن دعوى ابن تيمية هي: قيام الحوادث بذات اللَّه تعالى .. وبعبارة أخرى:قيام المخلوق بذات اللَّه تعالى لأن الحادث مخلوق .. وبعبارة ثالثة: قيام الناقص باللَّه الكامل .. وبعبارة رابعة: إتصاف اللَّه الكامل بالناقص .. وهكذا.إن الكامل لا يحلّ به نقص أبداً .. وإلّا تنافى كونه كاملًا .. ولكان حادثاً ..واللَّه تعالى منزّه عن الحدوث .. فجواز اتصاف الكامل بالناقص خُلف، إذ يكون كاملًا لا كاملًا .. وهذا باطل، فيستحيل أن تقوم الحوادث باللَّه تعالى، إذ يستحيل أن يقوم به ناقص ويتصف به. ويقول الكوثري: «.. نسبة القول بقيام الفعل الحادث باللَّه سبحانه إلى أحمد وجعفر الصّادق وابن عبّاس رضي اللَّه عنهم، نسبة كاذبة وفرية مكشوفة. وقول أحمد: إن اللَّه لم يزل متكلّماً إن شاء، بمعنى أن الكلام صفة قديمة، وأنه تعالى يكلم أنبياءه متى شاء بدون حرف ولا صوت بالوحي ومن وراء حجاب أو بإرسال رسول، وهو متكلم خالق قبل أن يكلم الرسول ويخلق الخلق، كما صرح بذلك غلام الخلال من قدماء الحنابلة في المقنع. وأما عثمان بن سعيد الدارمي السجزى مؤلف النقض على المريسي، فكان فيما سبق لا يخوض في صفات اللَّه سبحانه كما هو طريقة السلف .. ثم انخدع بالكرامية وأصبح مجسّماً مختل العقل عند تأليفه المذكور، وهو حقيق بأن يكون قدوةً للناظم .. ونسجل هنا على الناظم اعتقاده قيام الحوادث بذات اللَّه سبحانه وتعالى واعتقاده أن هذه الحوادث لا أول لها.وإني ألفت نظر حضرة القارىء إلى هذه العقيدة، وهل تتّفق مع دعوى أنه إمام دونه كلّ إمام؟ بل هل تتفق هذه العقيدة مع دعوى أنه في عداد المسلمين؟» «9».ويقول: «إتفقت فرق المسلمين سوى الكرامية وصنوف المجسمة على أن اللَّه سبحانه منزّه عن أن تقوم به الحوادث وأن تحلّ به الحوادث ... وأن يحلّ في شيء من الحوادث، بل ذلك مما علم من الدين بالضرورة. ودعوى أن اللَّه لم يزل فاعلًا متابعة منه للفلاسفة القائلين بسلب الإختيار عن اللَّه عزّوجلّ، وبصدور العالم منه بالإيجاب، ونسبة ذلك إلى أحمد والبخاري وغيرهما من السلف كذب صريح وتقوّل قبيح، ودعوى أن تسلسل الحوادث في جانب الماضي تصوّر غير محال لا يصدر ممّن يعي ما يقول، فمن تصوّر حوادث لا أوّل لها تصوّر أنه ما من حادث محقق إلّا وقبله حادث محقق، وأن ما دخل بالفعل تحت العدّ والإحصاء غير متناه. وأما من قال بحوادث لا آخر لها، فهو قائل بأن حوادث المستقبل لا تنتهي إلى حادث محقق إلّا وبعده حادث مقدر، فأين دعوى عدم تناهي ما دخل تحت الوجود في جانب الماضي من دعوى عدم تناهي ما لم يدخل تحت الوجود في المستقبل؟» «10».ويقول أبو الحسن تقي الدين السبكي:«.. وأما الحشوية، فهي طائفة رذيلة جهال ينتسبون إلى أحمد، وأحمد مبرّأ منهم، وسبب نسبتهم إليه أنه قام في دفع المعتزلة، وثبت في المحنة رضي اللَّه عنه، ونقلت كليمات ما فهمها هؤلاء الجهال فاعتقدوا هذا الإعتقاد السيء، وصار المتأخر منهم يتبع المتقدم إلّا من عصمه اللَّه، وما زالوا من حين نبغوا مستذلين ليس لهم رأس ولا من يناظر، وإنما كانت لهم في كلّ وقت ثورات ويتعلّقون ببعض أتباع الدول ويكفي اللَّه شرّهم. وما تعلّقوا بأحد إلّا كانت عاقبته إلى سوء، وأفسدوا اعتقاد جماعة شذوذ من الشافعية وغيرهم، ولا سيّما بعض المحدّثين الذين نقصت عقولهم، أو غلب عليها من أضلّهم فاعتقدوا أنهم يقولون بالحديث. ولقد كان أفضل المحدّثين في زمانه بدمشق ابن عساكر يمتنع من تحديثهم ولا يمكّنهم أن يحضروا مجلسه، وكان ذلك أيام نور الدين الشهيد وكانوا مستذلين غاية الذلّة. ثم جاء في أواخر المائة السابعة رجل له فضل ذكاء واطّلاع، ولم يجد شيخاً يهديه، وهو على مذهبهم وهو جسور متجرد لتقرير مذهبه، ويجد أموراً بعيدة فبجسارته يلتزمها، فقال بقيام الحوادث بذات الرب سبحانه وتعالى، وأن اللَّه سبحانه ما زال فاعلًا، وأن التسلسل ليس بمحال فيما مضى كما هو فيما سيأتي، وشق العصا وشوّش عقائد المسلمين، وأغرى بينهم، ولم يقتصر ضرره على العقائد في علم الكلام حتى تعدّى وقال: إن السفر لزيارة النبي (صلّى اللَّه عليه وسلّم) معصية» «11». ثمّ إن ابن تيمية نفسه لم يستطع إثبات أن لفظ (قيام الحوادث بذاته تعالى)قد ورد عن السلف، بل من العجيب أنه نقل الإجماع على خلاف رأيه كما سبق وأوردنا. ولما كان الإجماع لا يوافق مذهبه إدّعى أنه من الإجماعات الباطلة ... «.. وهذا الإجماع نظير غيره من الإجماعات الباطلة المدّعاة في الكلام ونحوه وما أكثرها ...». ثم يعجب من أن بعض أهل الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم يخالفونه ويثبتون الإجماع على استحالة قيام الحوادث بذاته تعالى .. «... ثم من العجب أن بعض متكلّمة أهل الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم يدّعون مثل هذا الإجماع ..». فابن تيمية لا يعترف بالإجماع إلّا إذا كان موافقاً لرأيه! ولا يعترف بأصحاب أحمد إلّا إذا وافقوه! فالإجماع باطل بمخالفته لابن تيمية .. وأصحاب أحمد ليسوا بسلف بمخالفتهم لابن تيمية. وقد بيّن العلماء بطلان التسلسل للحوادث من جهة الماضي- وهو ما أجازه ابن تيمية- ببراهين واضحة .. نذكر منها برهان التطبيق المشهور .. نقلًا عن حاشية البيجوري على جوهرة التوحيد «.. وإنما كان التسلسل مستحيلًا لأدلّة أقامها المتكلّمون .. أجلّها برهان التطبيق. وتقريره: أنك لو فرضت سلسلتين، وجعلت إحداهما من الآن إلى ما لا نهاية له، والأخرى من الطوفان إلى ما لا نهاية له، وطبقت بينهما بأن قابلت بين أفرادهما من أوّلهما، فكلّما طرحت من الآنية واحداً وهكذا .. فلا يخلو إما أن يفرغا معاً فيكون كلّ منهما له نهاية وهو خلاف الفرض، وإن لم يفرغا لزم مساواة الناقص للكامل وهو باطل .. وإن فرغت الطوفانية دون الآنية كانت الطوفانية متناهية والآنية أيضاً كذلك، لأنها إنما زادت على الطوفانية بقدر متناه وهو ما من الطوفان إلى الآن، ومن المعلوم أن الزائد على شيء متناه بقدر متناه يكون متناهياً بالضرورة» «12». ويقول الكوثري «.. والناظم المسكين قائل بحوادث لا أوّل لها؛ إنخداعاً منه بشبهة أوردها الفلاسفة في بحث الحدوث، غير متصور إتصاف اللَّه سبحانه بصفاته العليا قبل صدور الأفعال منه تعالى، واستنكار شيخه (كان اللَّه ولم يكن شيء معه) مما استبشعه ابن حجر في فتح البارى جدّ الإستبشاع. وحدوث الأفعال فيما لا يزال لا يلزم منه تعطيل الصّفات أصلًا، لا في زمن حدوث الأفعال ولا في غيره، وهو تعالى سريع الحساب وشديد العقاب قبل خلق الكون وقبل النشور، وهل يتصور عاقل أن يحاسب اللَّه خلقه أو يعاقبهم قبل أن يخلقهم؟ وهذا يهدّ مزاعم الناظم الذي يجري الصفات على مجرى واحد ..» «13». وقال «.. لو كان الناظم سعى في تعلّم أصول الدين عند أهل العلم قبل أن يحاول الإمامة في الدين، لبان له الفرق بين الماضي والمستقبل في ذلك، ولعلم أن كلّ ما دخل في الوجود من الحوادث متناه محصور، وأما المستقبل فلا يحدث فيه حدث محقق إلّا وبعده حادث مقدر لا إلى غير نهاية بخلاف الماضي كما سبق ...». .. ثمّ قال «.. عدم فناء النوع في الأزل بمعنى قدمه، وأين قدم النوع مع حدوث أفراده؟ وهذا لا يصدر إلّا ممّن به مس، بخلاف المستقبل وقد سبق بيان ذلك. وقال أبو يعلى الحنبلي في المعتمد (محفوظ تحت رقم 45 من التوحيد في ظاهرية دمشق): والحوادث لها أول ابتدأت منه خلافاً للملحدة. وهو من أئمة الناظم. فيكون هو وشيخه من الملاحدة على رأي أبي يعلى هذا .. فيكونان أسوأ حالًا منه في الزيغ، نسأل اللَّه السلامة» «14». إثبات أن قول ابن تيمية يحمل معه دليل بطلانه: ولو سلّمنا جدلًا بزعم ابن تيمية بأن الحوادث قديمة بالنوع حادثة الأفراد .. وبأن حدوث الأفراد لا يستدعي حدوث الجنس. فليقل لنا ابن تيمية: ما الذي يجعله قائماً بذات اللَّه تعالى؟ جنس الحوادث أم أفرادها؟ فالأمر لا يخلو من أحدهما. فإن كان ما يجعله قائماً بذاته تعالى هو الأفراد .. فهو مسلّم بأن الأفراد حادثة .. ومسلّم أيضاً بأن قيام ذلك بذات اللَّه يستلزم حدوث اللَّه تعالى .. إذ سلّم بالقضية القائلة بأن ما لا يخلو من الحادث فهو حادث... نقل ذلك هرّاس عنه عن منهاج السنة «.. وأما تلك المقدمة القائلة إن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فهي صحيحة إن أريد آحاد الحوادث وأفرادها ...» «15». وإن كان ما يجعله قائماً بذات اللَّه تعالى هو جنس الحوادث .. والجنس قديم عنده، فعلى هذا نقول له: هذا الجنس القديم في زعمك إما أن يكون عدميّاً وإما أن يكون وجوديّاً. فإن كان أمراً عدميّاً لا وجود له .. ولا تحقق له في الأفراد .. فيكون وصف المعدوم بالقدم عبثاً مصادماً لبداهة العقل وضرورة الفكر .. إذ كيف يكون المعدوم قديماً. وإن كان هذا الجنس القديم أمراً وجوديّاً .. فيلزم عليه أمور:
أولًا: يكون ابن تيمية قد خالف أساس دعواه .. وناقض نفسه بنفسه .. لأنه ادّعى قيام الحادث بذات اللَّه تعالى .. وهنا يقول بأن الجنس قديم.
ثانياً: إما أن يكون هذا الجنس القديم القائم بذات اللَّه تعالى قد قام بمشيئة اللَّه أم لا. فإن قام بمشيئته يكون الخلف، لأن كونه مشاءً يفيد أنه لم يكن موجوداً ثم وجد .. لضرورة ثبوت الإختيارية للَّه تعالى، لأننا إذا لم نقل بأن هذا الجنس لم يكن موجوداً ثم وجد، ترتب على ذلك سلب الإختيار عن اللَّه عزّوجلّ وهو باطل، فعلى هذا يكون الجنس حادثاً قديماً، وهذا خلف. وبالتالي: إن كان الجنس القديم موجوداً بغير إرادة ومشيئة، لكان في هذا سلب الإختيار عن اللَّه وهو محال .. فالقول بالقدم النوعي محال.
ثالثاً: إذا كان هذا الجنس قديماً وجودياً فهو غير اللَّه تعالى- بلا ريب- بدليل أن أفراد هذا الجنس حادثة باتّفاق .. فيلزم على هذا تعدّد القدماء .. وتعدّد القدماء باطل عقلًا وشرعاً. وبعد .. فقد مضينا في مناقشة ابن تيمية هنا على طريق التسليم الجدلي فقط لا الواقعي .. وإلّا فإن الواقع كما تقرر سابقاً هو: إن الجملة ليست شيئاً أكثر من الأفراد مجتمعة .. فإذا تقرّر أن كلّ فرد منها حادث لزم من ذلك حدوث الجملة قطعاً، فعلى هذا يستحيل وجود حوادث لا أول لها. ثمّ أين هذا الجدل والشرود الضار بالعقيدة .. وهذا التخبط الفلسفي .. أين هذا من صفاء السلف وضياء بصيرتهم وقوة إيمانهم .. وطهارة فطرتهم وسلامة عقيدتهم ... كما يدّعى لهم في تراجمهم؟ فما أبعد ما خاض فيه إبن تيمية ... ما أبعده مما كان عليه أئمة السلف.
( 1) منهاج السنّة 2/ 380.
( 2) منهاج السنة 2/ 381.
( 3) الفتاوى الكبرى 5/ 107.
( 4) منهاج السنة 2/ 272- 273.
( 5) ابن تيمية السلفي: 107.
( 6) ابن تيمية السلفي: 131.
( 7) منهاج السنة 2/ 383- 384.
( 8) منهاج السنة 2/ 381.
( 9) الردّ على النونيّة: 71.
( 10) الردّ على النونيّة: 16.
( 11) السيف الصقيل: 15- 17.
( 12) حاشية البيجوري على جوهرة التوحيد: 28.
( 13) الرد على النونية: 31.
( 14) الرد على النونية: 74- 75.
( 15) منهاج السنة 1/ 426- 427.