إبطال ما أستدل به لإمامة أبى بكر
بسم الله الرحمن الرحيم
لننظر في أهمّ أدلّتهم على إمامة أبي بكر، ولننظر ماذا يقولون هم في هذه الأدلّة. نصّ عبارة [شرح المواقف] «1»: المقصد الرابع: في الإمام الحق بعد رسول اللَّه، هو عندنا أبو بكر، وعند الشيعة علي ... لنا وجهان- أي دليلان- الأول: إنّ طريقه- طريق الإمام- وتعيين الإمام، إمّا النص أو الإجماع ... أمّا النصّ فلم يوجد «2»، وأمّا الإجماع، فلم يوجد على غير أبي بكر إتفاقاً من الأُمّة ... الإجماع منعقد على حقيّة إمامة أحد الثلاثة: أبي بكر وعلي والعباس [أي: الشبهة محصورة بين هؤلاء الثلاثة] ثمّ إنّهما [إي علي والعباس] لم ينازعا أبا بكر، ولو لم يكن على الحق [أبو بكر] لنازعاه. إذن، فإنّ الدليل على إمامة أبي بكر هو عن طريق الإجماع، وقد اعترف بعدم وجود النص. فالدليل الأول على إمامة أبي بكر هو الإجماع.ويقول صاحب [شرح المقاصد] «3» في المبحث الثالث في طريق ثبوت الإمامة: إنّ الطريق إمّا النص وإمّا الاختيار «4»، والنص منتفٍ في حقّ أبي بكر، مع كونه إماماً بالإجماع. فظهر إلى الآن أنْ لا نصّ على أبي بكر، وأنّ الدليل هو الإجماع. يبقى طريق ثالث، هم أيضاً يتعرضون لذلك الطريق، وهو طريق الأفضلية، فكما بحثنا نحن يبحثون هم أيضاً عن الأفضلية، ولكنّهم عندما يبحثون عن الأفضلية يختلفون في اشتراطها في الإمام، فمن أنكر اعتبار الأفضليّة فلا داعي له للإصرار على أفضلية أبي بكر، كالفضل ابن روزبهان، وأمّا الذي يعتبر الأفضليّة في الإمام، فلابدّ وأن يصرّ على أفضليّة أبي بكر، لأنّه قائل بإمامة أبي بكر، ومن هؤلاء القائلين بالأفضليّة ابن تيميّة، ولذا يصرّ على أفضليّته، ويكذّب كلّما يستدلّ به الإماميّة على أفضليّة علي (عليه السّلام).
أدلّة القوم على أفضلية أبي بكر: حينئذ نرجع إلى بحث الأفضليّة في كتاب المواقف وشرح المواقف «5» يقول:
المقصد الخامس: في أفضل الناس بعد رسول اللَّه، هو عندنا وأكثر قدماء المعتزلة أبو بكر، وعند الشيعة وعند أكثر متأخّري المعتزلة علي. فيظهر إلى هنا: أنّ الدليل عندهم على إمامة أبي بكر: الإجماع والأفضليّة، بناء على اعتبار الأفضليّة في الإمام، والنصّ عندهم مفقود. أمّا نحن، فقد أقمنا الأدلّة الثلاثة كلّها على إمامة أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام). هم يقولون بعدم النصّ على أبي بكر ويعترفون بهذا، فتبقى دعوى الأفضليّة، ثمّ دعوى الإجماع على إمامة أبي بكر. فلننظر إلى أدلّتهم على الأفضليّة:
الدليل الأول:
قوله تعالى «وَسَيُجَنَّبُهَا اْلأَتْقَى* الَّذي يُؤْتي مالَهُ يَتَزَكَّى* وَما لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى» «6». يقول في [شرح المواقف]: قال أكثر المفسّرين، وقد اعتمد عليه العلماء: إنّها نزلت في أبي بكر، فهو أتقى، ومن هو أتقى فهو أكرم عند اللَّه تعالى، لقوله عزّوجلّ: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» «7»، فيكون أبو بكر هو الأفضل عند اللَّه سبحانه وتعالى. ولا ريب أنّ من كان الأفضل والأكرم عند اللَّه، هو المتعيّن للإمامة والخلافة بعد رسول اللَّه، وهذا لا إشكال فيه، وأبو بكر هو الأفضل، الأفضل من الأُمّة كلّها بعد رسول اللَّه، فهوالمتعيّن للخلافة بعده (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم).
الدليل الثاني:
قوله (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم): «إقتدوا باللَّذين من بعدي أبي بكر وعمر». فإنّ «اقتدوا» أمر، والخطاب لعموم المسلمين، وهذا الخطاب العام يشمل عليّاً، فعلي أيضاً مأمور بالاقتداء بالشيخين، فيجب على علي أنْ يكون مقتدياً بالشيخين، والمقتدى هو الإمام. وهذا حديث نبوي يروونه في كتبهم، فحينئذ، يكون دليلًا على إمامة أبي بكر، وخلافة عمر فرع خلافة أبي بكر، فإذا ثبتت خلافة أبي بكر ثبتت خلافة عمر، وليس البحث الآن في خلافة عمر بن الخطّاب.
الدليل الثالث:
إنّ النبي (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم) قال لأبي الدرداء: «واللَّه ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على رجل أفضل من أبي بكر». وهذا في الحقيقة يصلح لأنْ يكون نصّاً على إمامة أبي بكر، فإذا كان النبي يُقسم على أنه ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على رجل أفضل من أبي بكر، كان أبو بكر أفضل من علي، وتقديم المفضول على الفاضل أو تقديم الفاضل على الأفضل قبيح، فيكون أبو بكر هو المتعين للخلافة والإمامة بعد رسول اللَّه.
الدليل الرابع:
قوله (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم) لأبي بكر وعمر: «هما سيّدا كهول أهل الجنّة ما خلا النبيين والمرسلين». ومن كان سيّد القوم، كبير القوم، فهو الإمام لهم، هو المقتدى بينهم، هو المتّبع، وعلي أيضاً من الناس، فيكون علي من جملة من عليه أن يتّبع الشيخين، وهما سيّدا كهول أهل الجنّة.
الدليل الخامس:
قوله عليه السّلام: «ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أنْ يتقدّم عليه غيره».إذن، غير أبي بكر لا يجوز أنْ يتقدّم على أبي بكر، وهذا يشمل عليّاً أيضاً، فعلي لا يجوز له أنْ يتقدّم على أبي بكر، ولا يجوز لأحدٍ أن يدّعي التقدم لعليّ على أبي بكر، لأنّه سيخالف قول رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم).
الدليل السادس:
تقديمه- أي تقديم النبي أبا بكر- في الصلاة مع أنّها أفضل العبادات، فأبو بكر صلّى في مكان النبي (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم) في مرض النبي، وكانت صلاته تلك على ما يروون بأمرٍ من النبي، والصلاة أفضل العبادات، فإذا صلّى أحد في مكان النبي وأمّ المسلمين بأمر من النبي، فيكون هذا الشخص صالحاً لأنْ يكون إماماً للمسلمين بعد النبي.
الدليل السابع:
قوله (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم): «خير أُمّتي أبو بكر ثمّ عمر».وهذا أيضاً حديث يروونه في كتبهم.
الدليل الثامن:
قوله (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم): «لو كنت متّخذاً خليلًا دون ربي لاتّخذت أبا بكر خليلًا».
الدليل التاسع:
قوله (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم) وقد ذكر عنده أبو بكر: «وأين مثل أبي بكر، كذّبني الناس وصدّقني، وآمن بي وزوّجني ابنته، وجهّزني بماله، وواساني بنفسه، وجاهد معي ساعة الخوف».
الدليل العاشر:
قول علي (عليه السّلام): «خير الناس بعد النبيين أبو بكر ثمّ عمر ثمّ اللَّه أعلم».هذه هي عمدة أدلّتهم على أفضليّة أبي بكر، تجدون هذه الأدلّة في: كتب الفخر الرازي، وفي الصواعق المحرقة، وفي شرح المواقف، وفي شرح المقاصد، وفي عامة كتبهم من المتقدّمين والمتأخرين، وحتى المعتزلة، فإنّهم أيضاً يشاركون الأشاعرة في الاستدلال بمثل هذه الأدلّة على إمامة أبي بكر، إلّاالمعتزلة المتأخرين الذين لا يقولون بأفضليّة أبي بكر، وإنّما يقولون بأفضليّة علي، لكن يقولون بأنّ المصلحة اقتضت أن يتقدّم أبو بكر على علي في الإمامة.
مناقشة أدلّة القوم عَلى أفضلية أبي بكر
ذكرنا عامّة أدلّتهم، ولو سألتني عن أهمّ تلك الأدلّة لذكرت لك: قضيّة الصّلاة أوّلًا، وحديث «إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»، فهما أهم هذه الأدلّة العشرة. لكنّا نبحث عن كلّ هذه الأدلّة واحداً واحداً، على ضوء كتبهم، وعلى أساس رواياتهم، وأقوال علمائهم.
الدليل الأول:
قوله تعالى: «وَسَيُجَنَّبُهَا اْلأَتْقَى* الَّذي يُؤْتي مالَهُ يَتَزَكَّى* وَما لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى». هذه آية قرآنية، ولابد من ملاحظة إنّ دلالة الآية على إمامة احد تتوقّف على ثبوت نزولها فيه وبدليل معتبر، وإلّا فالآية من القرآن، وليس فيها اسم علي ولا اسم غير علي. وقوله تعالى: «وَسَيُجَنَّبُهَا اْلأَتْقَى» يتوقّف الاستدلال به على مقدّمات، حتّى تتمّ دلالة الآية على إمامة أبي بكر ....
أوّلًا: الاستدلال بهذه الآية على إمامة أبي بكر يتوقّف على سقوط جميع الأدلّة التي أقامها الإمامية على عصمة علي (عليه السّلام)، وإلّا فالمعصوم أكرم عند اللَّه سبحانه وتعالى ممّن يؤتي ماله يتزكّى، فإذن، يتوقّف الاستدلال بهذه الآية على إمامة أبي بكر- لو كانت نازلةً فيه- على عدم تماميّة تلك الأدلّة التي أقامها الإمامية على عصمة علي (عليه السّلام)، وإلّا فلو تمّ شيء من تلك الأدلّة، لكان علي أكرم عند اللَّه سبحانه وتعالى، وحينئذ، يبطل هذا الاستدلال.
وثانياً: يتوقف الاستدلال بهذه الآية المباركة لأكرميّة أبي بكر، على أنْ لا يتمّ ما استُدلّ به لأفضليّة علي (عليه السّلام)، وإلّا لتعارضا بناء على صحة هذا الاستدلال وحجيّة الحديث الوارد في ذيل هذه الآية المباركة، ويكون الدليلان حجّتين متعارضين، ويتساقطان، فلا تبقى في الآية هذه دلالة على إمامته.ولكنّ ممّا لا يحتاج إلى أدلّة إثباتٍ هو: أنّ عليّاً (عليه السّلام) لم يسجد لصنم قط، وأبو بكر سجد، ولذا يقولون- إذا ذكروا عليّاً-: كرّم اللَّه وجهه، وهذا يقتضي أن يكون علي أكرم عند اللَّه سبحانه وتعالى.
ثالثاً: يتوقف الاستدلال بهذه الآية المباركة على نزول الآية في أبي بكر، والحال أنّهم مختلفون في تفسيرها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إنّ الآية عامّة للمؤمنين ولا اختصاص لها بأحد منهم.
القول الثاني: إنّ الآية نازلة في قصّة أبي الدحداح وصاحب النخلة، راجعوا [الدر المنثور في التفسير بالمأثور] «8»، يذكر لكم القصة في ذيل هذه الآية، وإنّ الآية بناء على هذا القول نازلة بتلك القصة ولا علاقة لها بأبي بكر.
القول الثالث: إنّ الآية نازلة في أبي بكر. فالقول بنزول الآية المباركة هو أحد ثلاثة أقوال عندهم. لكن هذا القول- أي القول بنزول الآية في أبي بكر- يتوقف على صحة سند الخبر به، وإذا لم يتمّ الخبر الدال على نزول الآية في أبي بكر يبطل هذا القول. وإليكم المصدر الذي ذُكر فيه خبر نزول الآية في أبي بكر، وتصريحه بضعف سند هذه الرواية: الرواية يرويها الطبراني، ويرويها عنه الحافظ الهيثمي في [مجمع الزوائد]، ثمّ يقول: فيه مصعب بن ثابت، وفيه ضعف «9».
فالقول الثالث الذي هو أحد الأقوال في المسألة، يستند إلى هذه الرواية، والرواية ضعيفة. ومصعب بن ثابت حفيد عبداللَّه بن الزبير، فهو مصعب بن ثابت بن عبداللَّه بن الزبير، وآل الزبير منحرفون عن أهل البيت كما هو مذكور في الكتب المفصّلة المطوّلة، ومصعب بن ثابت: ضعّفه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، وقال أبو حاتم: لا يحتجّ به، وقال النسائي: ليس بالقوي، وهكذا قال غير هؤلاء «10». فكيف يستدلّ بالآية المباركة على أكرميّة أبي بكر وأفضليّته، وفي المسألة ثلاثة أقوال، والقول بنزولها في أبي بكر يستند إلى رواية واحدة، وتلك الرواية ضعيفة؟ مضافاً: إلى أنّ هذا الاستدلال موقوف على عدم تماميّة أدلّة الإماميّة على أفضليّة أمير المؤمنين وإمامته ... كما ذكرنا.
الدليل الثاني:
الحديث: «إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر».هذا الحديث من أحسن أدلّتهم على إمامة الشيخين ...، يستدلون بهذا الحديث في كتب الكلام، وفي كتب الأُصول أيضاً، واستناداً إلى هذا الحديث يجعلون اتفاق الشيخين حجة، ويعتبرون سنّة الشيخين إستناداً إلى هذا الحديث حجة، فالحديث مهمّ جدّاً، لاسيّما وأنّه في مسند [أحمد بن حنبل] «11»، وأيضاً في [صحيح الترمذي] «12»، وأيضاً في [مستدرك الحاكم] «13»، فهو حديث موجود في كتب معتبرة مشهورة، ويستدلّون به في بحوث مختلفة. ولكن بإمكانكم أن ترجعوا إلى أسانيد هذا الحديث، وتدقّقوا النظر في حال تلك الأسانيد، على ضوء أقوال علمائهم في الجرح والتعديل، ولو فعلتم هذا ودقّقتم النظر وتتبعتم في الكتب، لرأيتم جميع أسانيده ضعيفة، وكبار علمائهم ينصّون على كثير من رجال هذا الحديث بالضعف، ويجرحونهم بشتّى أنواع الجرح. لكنّكم لابدّ وأنْ تطلبون منّي أن أذكر لكم خلاصة ما يقولونه في هذا المقام، وأُقرّب لكم الطريق فلا تحتاجون إلى مراجعة الكتب، فأقول:قال المنّاوي في شرح هذا الحديث في [فيض القدير في شرح الجامع الصغير] «14»: أعلّه أبو حاتم وقال البزّار كابن حزم لا يصح «15».
فهؤلاء ثلاثة من أئمّتهم يردّون هذا الحديث: أبو حاتم، أبو بكر البزّار، وابن حزم الأندلسي.
والترمذي حيث أورد هذا الحديث في كتابه بأحسن طرقه، يضعّفه بصراحة، فراجعوا كتاب [الترمذي] وهو موجود «16».
وإذا ما رجعتم إلى كتاب [الضعفاء الكبير] لأبي جعفر العُقيلي، لرأيتموه يقول منكر لا أصل له «17».
وإذا رجعتم إلى [ميزان الإعتدال] يقول نقلًا عن أبي بكر النقّاش: وهذا الحديث واهٍ «18».
ويقول الدارقطني- وهو أمير المؤمنين في الحديث عندهم في القرن الرابع الهجري-: هذا الحديث لا يثبت «19».
وإذا رجعتم إلى كتاب العلّامة العبري الفرغاني المتوفّى سنة 743 ه، يقول في [شرحه على منهاج البيضاوي]: إنّ هذا الحديث موضوع «20».
ولو رجعتم إلى [ميزان الاعتدال] لرأيتم الحافظ الذهبي يذكر هذا الحديث في مواضع عديدة من هذا الكتاب، وهناك يردّ هذا الحديث ويكذّبه ويبطله، فراجعوا «21» إن شئتم.
وإذا رجعتم إلى [تلخيص المستدرك] ترونه يتعقّب الحاكم ويقول: سنده واه جدّاً «22».
وإذا رجعتم إلى [مجمع الزوائد] للهيثمي حيث يروي هذا الحديث عن طريق الطبراني يقول: وفيه من لم أعرفهم «23».
وإذا رجعتم إلى [لسان الميزان] «24» لابن حجر العسقلاني الحافظ شيخ الإسلام، لرأيتموه يذكر هذا الحديث في أكثر من موضع، وينصّ على سقوطه.
وإذا رجعتم إلى أحد أعلام القرن العاشر من الهجرة، وهو شيخ الإسلام الهروي، له كتاب [الدر النضيد من مجموعة الحفيد]- وهذا الكتاب مطبوع موجود- يقول: هذا الحديث موضوع «25».
وابن درويش الحوت، يورده في كتابه [أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب]، ويذكر الأقوال في ضعف هذا الحديث وسقوطه وبطلانه «26» «27».
فهذا الحديث- إذن- لا يليق لأنْ يستدلّ به على مبحث الإمامة، سواء كان يستدلّ به الشيعة الإمامية أو السنّة، حتّى لو أردنا أن نستدلّ عليهم بمثل هذا الحديث لإمامة علي (عليه السّلام)، وهو حديث تبطله هذه الكثرة من الأئمّة، فلا يمكن الإحتجاج به على القوم لإثبات الإمامة أصلًا، ولا يمكن الإستدلال به في مورد من الموارد.
ولذا نرى بعضهم لمّا يرى سقوط هذا الحديث سنداً، ومن ناحية أُخرى يراه حديثاً مفيداً لإثبات إمامة أبي بكر دلالة ومعنىً، يضطر إلى أن ينسبه إلى الشيخين والصحيحين كذباً.
فالقاري- مثلًا- ينسب هذا الحديث في كتابه [شرح الفقه الأكبر] إلى صحيحي البخاري ومسلم، وليس الحديث موجوداً في الصحيحين، ممّا يدلّ على أنّهم يعترفون بسقوط هذا الحديث سنداً، لكنّهم غافلون عن أنّ الناس سينظرون في كتبهم وسيراجعونها، وسيحقّقون في المطالب التي يذكرونها. ثمّ كيف يأمر رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم) بالإقتداء بالشيخين، مع أنّ الشيخين اختلفا في كثير من الموارد، فبمن يقتدي المسلمون؟ وكيف يأمر رسول اللَّه بالإقتداء بالشيخين، مع أنّ الصحابة خالفوا الشيخين في كثير ممّا قالا وفعلا؟ وهل بإمكانهم أن يفسّقوا أولئك الصحابة الذين خالفوا الشيخين في أقوالهما وأفعالهما، وتلك الموارد كثيرة جدّاً؟!
الدليل الثالث:
قول رسول اللَّه لأبي الدرداء: «ما طلعت شمس ولا غربت ...» إلى آخره.
هذا الحديث ضعيف للغاية عندهم، فقد رواه الطبراني في [الأوسط] بسند قال الهيثمي: فيه إسماعيل بن يحيى التيمي، وهو كذّاب.
وفي مجمع الزوائد بسند آخر يرويه عن الطبراني ويقول: فيه بقيّة [بقيّة بن الوليد] وهو مدلّس وهو ضعيف «28».
وهو ساقط عند علماء الرجال.
الدليل الرابع:
«هما سيّدا كهول أهل الجنّة».
هذا الحديث يرويه البزّار، والطبراني، كلاهما عن أبي سعيد. قال الهيثمي حيث رواه عنهما في [مجمع الزوائد]: فيه علي بن عابس، وهو ضعيف. ويرويه الهيثمي عن البزّار عن عبيداللَّه بن عمر ويقول في راويه عبدالرحمن بن ملك: هو متروك «29».ليس لهذا الحديث سند غير هذين السندين.
الدليل الخامس:
«ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أنْ يتقدّم عليه غيره».ومن حسن الحظ: أنّ الحافظ ابن الجوزي أورد هذا الحديث في كتاب [الموضوعات] وقال: هذا حديث موضوع على رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم) «30». وإذا كانت فتاوى ابن الجوزي معتبرة عند ابن تيميّة وأمثاله، فليكنْ قوله وفتواه في هذا المورد أيضاً حجة.
الدليل السادس:
وأمّا صلاة أبي بكر، وهي مسألة مهمة جدّاً لسببين:
السبب الأوّل: إنّ خبر صلاة أبي بكر وارد في الصحيحين، لا بسند بل أكثر،ووارد في المسانيد والسنن، وفي أكثر كتبهم المعتبرة المشهورة «31».
وثانيا: الصّلاة أفضل العبادات، وإذا كان رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم) قد أرسل أبا بكر ليصلّي في مكانه في حال مرضه ودنوّ أجله، فإنّه سيكون دليلًا على أنّه يريد أنْ يرشّحه للخلافة من بعده، فيكون حديث صلاة أبي بكر في مكان رسول اللَّه، من أحسن الأدلّة على إمامة أبي بكر.
ولو راجعتم الكتب، لرأيتم اهتمامهم بهذا الحديث، واستدلالهم به وجعله على رأس جميع الأدلّه، وفي أوّل ما يحتجّون به لإمامة أبي بكر.رووا هذا الحديث عن عدّة من الصحابة، يروون هذا الخبر مرسلًا، أو يسمعون الخبر من عائشة وتكون هي الواسطة في نقله، وحينئذ تنتهي جميع أسانيد هذا الخبر إلى عائشة، وعائشة متّهمة في نقل مثل هذه القضايا لسببين:
الأوّل: مخالفتها لعلي.
الثاني: كونها بنت أبي بكر.
ولكنْ بغضّ النظر عن هذه الناحية، لو نظرنا إلى ملابسات هذه القضية والقرائن الداخلية في ألفاظ الخبر، وكذلك القرائن الخارجية التي لها علاقة لهذا الموضوع، لرأيتم أن إرسال أبي بكر إلى الصلاة كان بإيعاز من عائشة نفسها، ولم يكن من رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم). فمن جملة القرائن المهمة التي لها الأثر البالغ في فهم هذه القضية: قضيّة أمر رسول اللَّه بخروج القوم مع أُسامة، قضية بعث أُسامة، وتأكيده (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم) على هذا البعث إلى آخر لحظة من حياته المباركة. أمّا أنّ النبي كان يؤكّد على بعث أُسامة، وإلى آخر لحظة من حياته، فلم يخالف فيه أحد، ولا خلاف فيه أبداً، وهو مذكور في كتبنا وفي كتبهم. وأمّا أنّ كبار الصّحابة وعلى رأسهم أبو بكر وعمر كانا في هذا البعث، فهذا أيضاً ثابت بالكتب المعتبرة التي نقلت هذا الخبر، فكيف يأمر رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم) بخروج أبي بكر في بعث أُسامة، ويؤكّد على خروجه إلى أخر لحظة من حياته، ومع ذلك يأمر أبا بكر أنْ يصلّي في مكانه؟ وهنا يضطرّ مثل ابن تيميّة لأن ينكر وجود أبي بكر في بعث أُسامة، ويقول: هذا كذب «32»، لأنّه يعلم بأنّ وجود أبي بكر في بعث أُسامة، يعني كذب خبر إرسال أبي بكر إلى الصلاة، ولكنّ مسألة الصلاة من أهمّ أدلّتهم على إمامة أبي بكر، إذن، لابدّ من الإنكار، والحال أنّ وجود أبي بكر بعث أُسامة لا يقبل الإنكار أبداً. أنقل لكم عبارة واحدة فقط، يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتاب [فتح الباري بشرح البخاري]:قد روى ذلك- أي كون أبي بكر في بعث أُسامة- الواقدي وابن سعد، وابن إسحاق، وابن الجوزي، وابن عساكر، وغيرهم «33». أي: وغيرهم من علماء المغازي والحديث.ولذا لمّا توفّي رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم) كان أُسامة بجيشه في خارج المدينة، ولمّا ولّي أبو بكر اعترض أُسامة ولم يبايع أبا بكر، قال: أنا أمير على أبي بكر وكيف أُبايعه؟ ولذا لمّا سيّر أبو بكر أُسامة بما أمره رسول اللَّه به، استأذن منه إبقاء عمر في المدينة المنورة، ليكون معه في تطبيق الخطط المدبرة.إنّ القرائن الداخلية والخارجية تقتضي كذب هذا الخبر، أي خبر: أنّ النبي أرسل أبا بكر إلى الصّلاة.ولكن لا نكتفي بهذا القدر، ونضيف أنّ عليّاً (عليه السّلام) كان يعتقد، وكذا أهل البيت كانوا يعتقدون، بأنّ خروج أبي بكر إلى الصلاة كان بأمر من عائشة لا من رسول اللَّه.قال ابن أبي الحديد: سألت الشيخ- أي شيخه وأُستاذه في كلام له في هذه القضية- أفتقول أنت أنّ عائشة عيّنت أباها للصلاة ورسول اللَّه لم يعيّنه؟ فقال: أمّا أنا فلا أقول ذلك، لكن عليّاً كان يقوله، وتكليفي غير تكليفه، كان حاضراً ولم أكن حاضراً «34».ولا نكتفي بهذا القدر، فنقول:سلّمنا بأنّ رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم) هو الذي أمر أبا بكر بهذه الصلاة، فكم من صحابي أمره رسول اللَّه بأن يصلّي في مكانه في مسجده وفي محرابه، ولم يدّع أحد ثبوت الإمامة بتلك الصلاة لذلك الصحابي.لكنْ لكم أن تقولوا: بأنّ الصلاة في أُخريات حياته تختلف عن الصلاة في الأوقات السابقة، هذه الصلاة بهذه الخصوصية حيث كانت في أواخر حياته فيها إشعار بالنصب، بنصب أبي بكر للإمامة من بعده.فاسمع لواقع القضية، واستمع لما يأتي:إنّه لو كان رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم) هو الآمر، فقد ذكرت تلك الأخبار أنّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم) خرج بنفسه الشريفة- معتمداً على رجلين ورجلاه تخطّان على الأرض- ونحّى أبا بكر عن المحراب، وصلّى تلك الصلاة بنفسه.لكنّهم يعودون فيقولون: بأنّ صلاة أبي بكر كانت أيّاماً عديدة، وهذا الذي وقع من رسول اللَّه وقع مرّة واحدةً فقط.
قلت:
أوّلًا: لم تكن الصّلاة أيّاماً، بل هى صلاة واحدة، وهي صلاة الصبح من يوم الإثنين، فكانت صلاة واحدة.
وثانياً: على فرض أنّه قد صلّى أيّاماً وصلوات عديدة، ففعل رسول اللَّه ذلك في آخر يوم من حياته، وخروجه بهذا الشكل معتمداً على رجلين ورجلاه تخطّان على الأرض، دليل على أنّه عزله بعد أن نصبه لو صحّ هذا النصب.
فلو سلّمنا أنّ الآمر بهذه الصّلاة هو رسول اللَّه، لو سلّمنا هذا، فرسول اللَّه ملتفت إلى أنّهم سيستدلّون بهذه الصلاة على إمامته من بعده، ويجعلون هذا الفعل إشعاراً بالإمامة والخلافة العامة من بعده (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم)، فخرج بهذا الشكل ليرفع هذا التوهّم وليزيل هذا الإشعار، وهذا موجود في نفس الروايات التي اشتملت في أوّلها على أنّ رسول اللَّه هوالآمر بهذه الصلاة بزعمهم.
وهنا نكات:
النكتة الأولى: قالت الروايات: إنّه خرج معتمداً على رجلين، والراوي عائشة بنت أبي بكر- كما ذكرنا، الأخبار كلّها تنتهي إليها- خرج رسول اللَّه معتمداً على رجلين ورجلاه تخطّان الأرض، وتنحّى أبو بكر عن المحراب، وصلّى تلك الصلاة بنفسه الشريفة.وخروجه بهذه الصّورة، دليل على العزل لو كان هناك نصّ.وعائشة ذكرت أحد الرجلين اللذين اعتمد عليهما رسول اللَّه لدى خروجه، ولم تذكر اسم الرجل الثاني، وقد كان الرجل الثاني علي (عليه السّلام)، ممّا يدلّ على انزعاجها من هذا الفعل.يقول ابن عباس للراوي: أسمّتْ لك الرجل الثاني؟ قال: لا.قال: هو علي، ولكنّها لا تطيب نفساً بأن تذكره بخير «35».
النكتة الثانية: إنّه لمّا رأى بعض القوم أنّ خروج النبي بهذه الصورة وصلاته بنفسه وعزل أبي بكر، سيهدم أساس استدلالهم بهذه الصّلاة على إمامة أبي بكر بعد رسول اللَّه، وضع حديثاً في أنّ رسول اللَّه لم يعزل أبا بكر، وإنّما جاء إلى الصلاة معتمداً على رجلين، وصلّى خلف أبي بكر «36»، فثبتت القضية وقويت.وبعبارة أُخرى: رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم) ينصب أبا بكر عملًا، مضافاً إلى إرساله إلى الصلاة لفظاً وقولًا، إذ يأتي معتمداً على رجلين حينئذ ورجلاه تخّطان الأرض ويصلّي خلف أبي بكر.ومن الذي يمكنه حينئذ من أنْ يناقش في إمامة أبي بكر وكونه خليفة لرسول اللَّه، مع اقتداء رسول اللَّه به في الصلاة، ألا يكفي هذا لأن يكون دليلًا على إمامة أبي بكر لمن عدا رسول اللَّه؟نعم، وضعوا هذا الحديث للدلالة على أنّ رسول اللَّه اقتدى بأبي بكر.لكن الشيخين لم يرويا هذا الحديث، أي هذه القطعة من الحديث غير موجودة في الصحيحين، إن المخرج في الكتابين: إنّ رسول اللَّه نحّاه أو تنحّى أو تأخّر أبو بكر، وصلّى رسول اللَّه بنفسه تلك الصلاة.أمّا هذا الحديث، فموجود في مسند أحمد، وهو حديث كذب قطعاً، وكذّبه غير واحد من كبار الأئمّة من حفّاظ أهل السنّة، وحتّى أنّ بعضهم كالحافظ أبي الفرج ابن الجوزي ألّف رسالة خاصة في بطلان حديث اقتداء النبي (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم) بأبي بكر، وهل من المعقول أن يقتدي النبي بأحد أفراد أُمّته، فيكون ذلك الفرد إماماً للنبي؟ هذا غير معقول أصلًا.رسالة ابن الجوزي مطبوعة منذ ثلاثين سنة تقريباً لأوّل مرّة«37».
النكتة الثالثة: إنّ النبي (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم) بعد أن خرج إلى الصّلاة وصلّى بنفسه الشريفة، ونحّى أبا بكر، لم يكتف بهذا المقدار، وإنّما جلس على المنبر بعد تلك الصّلاة، وخطب، وذكّر بالقرآن والعترة، وأمر الناس باتّباعهما والاقتداء بهما، فأكّد رسول اللَّه بخطبته هذه ما دلّ عليه فعله، أي حضوره للصلاة وعزله لأبي بكر عن المحراب، ثمّ أضاف في هذه الخطبة بعد الصلاة أنّ على جميع المسلمين أن يخرجوا مع أُسامة، وأكّد على وجوب هذا البعث وعلى الإسراع فيه.وبعد هذا كلّه، لا يبقى مجال للاستدلال بحديث تقديمه في الصلاة.
الدليل السابع:
قوله (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم): «خير أمّتي أبو بكر وعمر».هذا الحديث بهذا المقدار ذكره القاضي الإيجي «38» وشارحه وغيرهما أيضاً.لكن الحديث ليس هكذا، للحديث ذيل، وهم أسقطوا الذيل ليتمّ لهم الاستدلال، فاسمعوا الحديث كاملًا:عن عائشة، قلت: يا رسول اللَّه، من خير الناس بعدك؟ قال: «أبو بكر»، قلت:ثمّ مَن؟ قال: «عمر».هذا المقدار الذي استدلّ به هؤلاء.لكن بالمجلس فاطمة (سلام اللَّه عليها)، قالت فاطمة: يا رسول اللَّه، لم تقل في علي شيئاً!قال: «يا فاطمة، علي نفسي، فمن رأيتيه يقول في نفسه شيئاً؟».فيستدلّون بصدر الحديث بقدر ما يتعلّق بالشيخين، ويجعلونه دليلًا على إمامة الشيخين، ويسقطون ذيله، وكأنّهم لا يعلمون بأنّ هناك من يرجع إلى مصادر الحديث ويقرؤه بلفظه الكامل.لكن الحديث- مع ذلك- ضعيف سنداً، فراجعوا كتاب [تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة] «39».
الدليل الثامن:
قوله (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم): «لو كنت متّخذاً خليلًا دون ربّي لاتّخذت أبا بكر» «40».ويكفي في الجواب عن هذا الحديث أن نقول: إذا كان رسول اللَّه قال في حقّ أبي بكر: «لو كنت متّخذاً خليلًا لاتّخذت أبا بكر»، فقد جاءت الرواية عندهم في حقّ عثمان:إنّه اتّخذه خليلًا!فبالنسبة إلى أبي بكر يقول «لو» أمّا في حقّ عثمان يقول: «اتّخذته خليلًا»،يقول: «إنّ لكلّ نبيّ خليلًا من أُمّته، وإنّ خليلي عثمان بن عفّان» «41».فيكون أفضل من أبي بكر.وأنا أيضاً اعتقادي على ضوء رواياتهم في مناقب المشايخ أرى أنّ عثمان أفضل من أبي بكر وعمر، لمناقبه الموجودة في كتبهم، ومن جملتها هذا الحديث، لكنه حديث باطل مثله «42».
الدليل التاسع:
قوله (صلّى اللَّه عليه وآله): وأين مثل أبي بكر...........الى اخر الحديث.
وهذا الحديث:أمّا سنداً، فقد أدرجه الحافظ السيوطي في كتابه [اللآلي المصنوعة بالأحاديث الموضوعة] «43»، وأيضاً أدرجه الحافظ ابن عرّاق صاحب [كتاب تنزيه الشريعة] «44» في كتابه هذا المؤلف في خصوص الروايات الموضوعة.أمّا دلالة، فإنّه يدلّ على أنّ أبا بكر كان يعطي من ماله رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم)، وكان يصرف من أمواله الشخصية عليه وأنه قد كان رسول اللَّه بحاجة إلى مال أبي بكر وإنفاقه عليه، وهذا من القضايا الكاذبة، وقد وصل كذب هذا الخبر إلى حدٍّ التجأ مثل ابن تيميّة إلى التصريح بكذبه، مثل ابن تيميّة يصرّح بأنّ هذا غير صحيح «45».وهكذا يضع الواضعون الفضائل والمناقب، حتى إذا كانت مستلزمة للطعن في رسول اللَّه.فهذا الحديث كذب سنداً ودلالة.
الدليل العاشر:
ما رووه عن علي (عليه السّلام) في فضل الشيخين، منها الرواية التي ذكرها هؤلاء أنّه قال: خير الناس بعد النبيين أبو بكر ثمّ عمر ثمّ اللَّه أعلم «46».ليس هذا اللفظ وحده، بل لهم أحاديث أُخرى، وألفاظ أُخرى أيضاً ينقلونها عن علي في فضل الشيخين، لكن:
أوّلًا: أبو بكر نفسه يعترف بأنّه لم يكن خير الناس، ألم يقل: ولّيتكم ولست بخيركم؟وهذا موجود في [الطبقات] لابن سعد «47».أو: أقيلوني فلست بخيركم، كما في المصادر الكثيرة «48».
وثانياً: ذكر صاحب [الإستيعاب] بترجمة أمير المؤمنين «49» (سلام اللَّه عليه)، وكذا ذكر ابن حزم في كتاب [الفصل] «50»، وذكر غيرهما من كبار الحفّاظ: إنّ جماعة كبيرة من الصحابة كانوا يفضّلون عليّاً على أبي بكر.فإذا كان علي بنفسه يعترف بأفضليّة الشيخين منه، كيف كان أولئك يفضّلون عليّاً عليهما؟لقد ذكروا أسماء عدّة من الصحابة كانوا يقولون بأفضليّة علي، منهم: أبو ذر،وسلمان، والمقداد وعمّار، و ...، وعلي يعترف بأفضليّة الشيخين منه!!هذه أخبار مكذوبة على أمير المؤمنين (عليه السّلام).إذن، لم نجد دليلًا من أدلّة القوم سالماً من الطعن والجرح والإشكال، إمّا سنداً ودلالة، وإمّا سنداً، على ضوء كتبهم وكلمات علمائهم.فتلك الأحاديث من الأحاديث الموضوعة التي لا أساس لها، باعترافهم، لا سيّما حديث «اقتدوا باللذين من بعدي».والمهم: قضيّة الصلاة، فصلاة أبي بكر في حياة رسول اللَّه قد تشعر بإمامته بعده، لكن رسول اللَّه عزله عن المحراب، وصلّى تلك الصلاة بنفسه، إن صحّ خبر إرساله أبا بكر إلى الصلاة.مضافاً: إلى أنّ إمامة الشيخين يجب أن تبحث من ناحية أُخرى، وهي: أنّ هناك موانع، أنّ هناك قضايا تمنع من أن يكونا إمامين للمسلمين، تلك القضايا كثيرة ومذكورة في الكتب، ولم يكن من منهجنا التعرض لتلك القضايا.
مناقشة الاجماع على خلافة أبي بكر
ويبقى الإجماع، إجماع الصّحابة على خلافة أبي بكر،وأيّ إجماع هذا الذي يدّعونه على إمامة أبي بكر؟! وتلك قضايا السقيفة وملابسات بيعة أبي بكر وإمامته التي يقولون، ولربّما نتعرّض لبعض النقاط المتعلّقة بهذا الأمر في بحثنا عن الشورى التي خصّصنا لها ليلة. ولكن الذي يكفي أن أقوله هنا هو: أنّ صاحب [شرح المقاصد] «51» وغيره من كبار علماء الكلام يقولون: بأنّا عندما ندّعي الإجماع، لا ندّعي وقوع الإجماع حقيقةً، عندما نقول قام الإجماع على خلافة أبي بكر، ليس بمعنى أنّ القوم كلّهم كانوا مجمعين وموافقين على إمامته، بل إنّ إمامته قد وقعت في الحقيقة ببيعة عمر فقط وفي السقيفة، بعد النزاع بين الحاضرين من المهاجرين والأنصار، وإلقاء النزاع بين الأنصار الأوس والخزرج، يكفي أنْ أُشير إلى هذا المطلب.لكن مع ذلك، عندما نراجع هذه الكتب يقولون بأنّ الأولى أنْ نسكت عن مثل هذه القضايا ولا نتكلّم عنها، فإنّ رسول اللَّه قد أمر بالسكوت عمّا سيقع بين أصحابه، فلا داعي لطرح مثل هذه القضايا وللتعرض لمثل هذه الأُمور.وإنّي أرى من المناسب أنْ أقرأ لكم نصّ عبارة السعد التفتازاني في [شرح المقاصد]، لتروا كيف يضطربون، وإنّهم إلى أين يلتجئون، يقول السعد:إنّ جمهور علماء الملّة وعلماء الأُمة أطبقوا على ذلك- أي على إمامة أبي بكر- وحسن الظن بهم يقتضي بأنّهم لو لم يعرفوه بدلائل وإمارات لما أطبقوا عليه.قلت: إذا كان كذلك، إذا كنّا مقلّدين للصحابة من باب حسن الظن بهم، فلماذا أتعبنا أنفسنا؟ ولماذا اجتهدنا فنظرنا في الأدلّة وجئنا بالآية والحديث، كنّا من الأوّل نقول: بأنّا في هذه المسألة مقلّدون للصحابة، فعلوا كذا ونحن نقول كذا، لاحظوا، ثمّ يقول التفتازاني:يجب تعظيم الصحابة والكفّ عن مطاعنهم، وحمل ما يوجب بظاهره الطّعن فيهم على محامل وتأويلات، سيّما المهاجرين والأنصار.
خاتمة المطاف
وعندما ينقل السّعد عن الإماميّه قولهم: إنّ بعد رسول اللَّه إماماً، وليس غير علي، لانتفاء الشرائط من العصمة والنصّ والأفضليّة عن غيره- وقد رأيتم كيف كان هذا الإنتفاء في بحوثنا السابقة- يتهجّم ويشتم الشيخ المحقق نصير الدين الطوسي وسائر علماء الإماميّة، فلاحظوا كلامه، سأنقل نصّ عبارته، لتقفوا على مقدار فهم هؤلاء، وعلى حدّ أدبهم، ثم تقارنوا بين كلام الإماميّة وكلام هؤلاء القوم، يقول:احتجّت الشيعة بوجوه لهم في إثبات إمامة علي بعد النبي من العقل والنقل، والقدح فيما عداه من أصحاب رسول اللَّه الذين قاموا بالأمر، ويدّعون في كثير من الأخبار الواردة في هذا الباب التواتر، بناء على شهرته فيما بينهم، وكثرة دورانه على ألسنتهم، وجريانه في أنديتهم، وموافقته لطباعهم، ومقارعته لأسماعهم، ولا يتأمّلون كيف خفي على الكبار من الأنصار والمهاجرين، والثقات من الرواة والمحدّثين، ولم يحتجّ البعض على البعض، ولم يبرموا عليه الإبرام والنقض، ولم يظهر إلّابعد انقضاء دور الإمامة وطول العهد بأمْر الرسالة، وظهور التعصّبات الباردة، والتعسّفات الفاسدة وإفضاء أمر الدين إلى علماء السوء، والملك إلى أُمراء الجور، ومن العجائب أنّ بعض المتأخرين من المتشغّبين، الذين لم يروا أحداً من المحدّثين ولا رووا حديثاً في أمر الدين، ملؤوا كتبهم من أمثال هذه الأخبار والمطاعن في الصحابة الأخيار، وإن شئت فانظر في كتاب التجريد المنسوب إلى الحكيم نصير الدين الطوسي، كيف نصر الأباطيل وقرّر الأكاذيب ... «52».قلت: أمّا نصير الدين الطوسي، فإنّا نشكر التفتازاني على قناعته بهذا المقدار من الشتم والسبّ له! نشكره على اكتفائه بهذا المقدار!فإنّ ابن تيميّة ذكر في الشيخ نصير الدين الطوسي بسبب تأليفه كتاب التجريد واستدلاله في هذا الكتاب على إمامة علي من كتب أهل السنّة، ذكره بما لا يمكن أن يتفوّه به مسلم في حقّ أدنى الناس، ذكره بما لا يقال، ونسب إليه الكبائر والعثرات التي لا تقال، وقد خصّصنا ليلةً للتحقيق حول هذا الموضوع، وسنتعرض لكلامه بعون اللَّه. هذا فيما يتعلق بالشيخ نصير الدين الطوسي.وأمّا أصل المطلب، فإنّا قد أقمنا الأدلّة على إمامة علي من نفس كتبهم، وبيّنا صحّة تلك الأدلّة من نفس كتبهم، وقد ذكرنا احتجاجاتنا بكلّ أدب ومتانة ووقار، لم نتعرض لأحد منهم بسبّ أو شتم، فأثبتنا إمامة أمير المؤمنين بالنص، وأثبتنا إمامته بالعصمة، وأثبتنا إمامته بالأفضليّة، كلّ ذلك من كتبهم، كلّ ذلك بناء على أقوال علمائهم، واستشهدنا بأفضل الطرق والأسانيد، واستندنا إلى أشهر الكتب والمؤلّفات، لم يكن منّا سبّ ولا شتم ولا تعصّب ولا تعسّف.ثمّ نظرنا إلى أدلّتهم في إمامة أبي بكر، أمّا النص فقالوا هم: بعدم وجوده، وأمّا الإجماع، فلا إجماع حتّى اضطرّوا إلى الإعتراف بعدم انعقاده، وربما نتعرّض لذلك في ليلة خاصة، وأمّا الأفضليّة فتلك أفضل أدلّتهم، وقد نظرنا إليها واحداً واحداً على ضوء كتبهم، فما ذنبنا إنْ لم يتم دليل على إمامة أبي بكر؟ وتمّ الدليل من كتبهم على إمامة علي. لماذا لا يريدون البحث عن الحقيقة؟ لماذا تكون الحقيقة مرّة؟ لماذا يلجؤون إلى السبّ والشتم؟ ولماذا هذا التهجّم؟ ألا يكفي ما واجهه علماؤنا منذ العصور الأولى إلى يومنا هذا، من سبّ وشتم وقتل وسجن وطرد وتشريد؟ إلى متى؟ ولماذا هذا؟ نحن نريد البحث عن أمر حقيقي واقعي يتعلّق بمن يحكم علينا من قبل اللَّه ونريد أن نقتدي به بعد رسول اللَّه، نريد أن نتعلّم منه، أن يكون واسطة بيننا وبين ربّنا، في أُمورنا الإعتقادية وفي أُمورنا العملية، أيفي الأُصول والفروع وفي جميع الجهات، نريد أن نبحث عن الحقيقة ونتوصّل إليها، فإذا وصلنا إلى الحقيقة وعثرنا على الحق حينئذ نقول لربّنا: إنّا قد نظرنا في الأدلّة وبحثنا عن الحقيقة، فكان هذا ما توصّلنا إليه، وهذا إمامنا، وهذا منهجنا ومسلكنا، ليكون لنا عذراً عند اللَّه سبحانه وتعالى، وكلّ هذا البحث لهذا الهدف، وليس لحبّ أو بغض، ليس لدينا أيّ غرض، وما الداعي إلى الشتم؟ وإلى متى تكون الحقيقة مرّة؟وإلى متى لا يريدون استماع الحق وأخذه وقبوله؟ والشتم لماذا؟ وهل يتفوّه به إلّا السوقه؟ إلّاالجهلة؟ وصلّى اللَّه على محمّد وآله الطاهرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) شرح المواقف 8/ 354.
( 2) فيعترف وينصّ على عدم وجود نص من اللَّه ورسوله على أبي بكر، وإنْ كان يدّعي عدم وجود نصعلى علي، لكن كلامنا الآن في أبي بكر.
( 3) شرح المقاصد 5/ 255.
( 4) لاحظوا: شارح المواقف يقول: الإجماع، شارح المقاصد يقول: الإختيار، وفرقٌ بين الإجماع والإختيار، وكلّ هذا سيتّضح في محلّه بالتفصيل.
( 5) شرح المواقف 8/ 365.
( 6) شرح المواقف 8/ 365.
( 7) سورة الحجرات( 49): 13.
(8) الدرّ المنثور 8/ 532.
( 9) مجمع الزوائد 9/ 50.
( 10) تهذيب التهذيب 10/ 144.
( 11) مسند أحمد 5/ 382، 385.
( 12) صحيح الترمذي 6/ 45 رقم 3663، و 137 رقم 3805.
( 13) المستدرك على الصحيحين 3/ 75.
( 14) فيض القدير 2/ 56.
( 15) المصدر 2/ 56.
( 16) صحيح الترمذي 6/ 138.
( 17) الضعفاء الكبير 4/ 95.
( 18) ميزان الإعتدال 1/ 142.
( 19) لسان الميزان 5/ 237.
( 20) شرح المنهاج: مخطوط.
( 21) ميزان الإعتدال 1/ 105، 141 و 43/ 610.
( 22) تلخيص المستدرك 3/ 75- 76.
( 23) مجمع الزوائد 9/ 53.
( 24) لسان الميزان 1/ 188، 272 و 5/ 237.
( 25) الدرّ النضيد من مجموعة الحفيد: 97.
( 26) أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب: 48.
( 27) هذا، وللحافظ ابن حزم الأندلسي في الاستدلال بهذا الحديث كلمة مهمة جدّاً، إنّه يقول ما هذا نصّه: ولو أننا نستجيز التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحاً أو أبلسوا أسفاً لاحتججنا بما روي: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، ولكنّه لم يصح ويعيذنا اللَّه من الاحتجاج بما لا يصح» الفصل في الملل والنحل 4/ 88.
( 28) مجمع الزوائد 9/ 44.
( 29) مجمع الزوائد 9/ 53.
( 30) كتاب الموضوعات 1/ 318، 2/ 100.
( 31) مسند أحمد 1/ 356، 6/ 34، صحيح البخاري 1/ 162 و 165 كتاب الأذان، صحيح مسلم 2/ 23، سنن ابن ماجة 1/ 389، سنن النسائي 2/ 304.
( 32) منهاج السنّة 4/ 276.
( 33) فتح الباري 8/ 124.
( 34) شرح نهج البلاغة 9/ 198.
( 35) مسند أحمد 6/ 34 و 38، سنن ابن ماجة 1/ 517.
( 36) مسند أحمد 1/ 209.
( 37) هذه الرّسالة ألّفها الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي، المتوفّى سنة 597، ردّاً على معاصره الحافظ عبدالمغيث الحنبلي، ولذا أسماها ب[ آفة أصحاب الحديث في الردّ على عبدالمغيث]، طبعت لأوّل مرّة بتحقيقنا سنة 1399.
( 38) المواقف 3/ 624 و 631.
( 39) تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة 1/ 367.
( 40) مسند أحمد 1/ 377 و 409 و 433 و 439 و 455 و 463.
( 41) الجامع الصغير 2/ 416 رقم 7331، كنز العمّال 11/ 587 رقم 32708.
( 42) تنزيه الشريعة 1/ 392.
( 43) اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 1/ 295.
( 44) تنزيه الشريعة 1/ 344.
( 45) منهاج السنّة 4/ 448.
( 46) المصنّف للصنعاني 3/ 448، كنز العمّال 13/ 8 رقم 36098.
( 47) طبقات ابن سعد 3/ 182.
( 48) مجمع الزوائد 5/ 183، شرح نهج البلاغة 1/ 168، 17/ 155، تاريخ الخلفاء: 54.
( 49) الإستيعاب 3/ 1090.
( 50) الفصل في الملل والنحل 3/ 32 و 70.
( 51) شرح المقاصد 5/ 254.
( 52) شرح المقاصد 5/ 267.