المرأة في القرآن الكريم
لقد تناول القرآن الكريم فيما تناول مما تحتاجه البشرية في جميع أدوارها نظام الأسرة، وعالج مشاكل المرأة لأنها نصف هذا المجتمع الكادح المكافح في سبيل اعداد البنات والأبناء ليعد من هؤلاء وأولئك آباء وأمهات صالحات، ولما كان للمرأة تاريخها وجهادها وصبرها على بناء الأسرة وإعداد الجيل الصاعد، اولاها الأسلام من عنايته ورعايته، وساوى بينها وبين الرجل في كثير من الأحيان، بعد أن مرت عليها أجيال وأحقاب انحرفت فيها أمم وأجيال عن واجبها وحقها واتخذت منها سلعة تباع وتشرى وازورت عن إنصافها وانصرفت عن الأخذ بيدها والأعتراف بما لها من حق ووجود، والتاريخ مليء بما نالها من ضيق وما لحقها على يد الأمم قبل الاسلام وبعده من ضيم، فكانت تنتقل زوجة الأب بين وراثة كما تنتقل بقية متروكاته، وقد يشترك جماعة في زوجة واحدة وبعض العرب كانوا يشتركون في كل شيء حتّى في الزوجة، والأخوة جميعا يشتركون في زوجة واحدة وتكون الرئاسة للأخ الأكبر. وإذا أراد الأتصال بها وضع عصاه على باب خيمتها لتكون علامة للآخرين فلا يدخلون عليهما، وكان للزواج عندهم انواع كثيرة منها أنه يتفق على امرأة واحدة ما دون العشرة فيشتركون بها فإذا حملت وأولدت ذكرا دعتهم إليها بعد أيام من ولادتها وألحقته بمن تشاء منهم، وليس لأحد منهم رأي في ذلك، بل الرأي لها وحدها، وإذا وضعت بنتا اخفت أمرها عنهم. ومنها نكاح الاستبضاع وهو أن يسلم الرجل زوجته رجلا آخر من أهل الشجاعة والكرم والصحة، ثمّ يعتزلها إلى أن يبين حملها من ذلك الرجل، وربما كان يطلب منها أن تفتش عن أهل الشجاعة والكرم لتلد له منهم ولدا يجمع تلك الصفات إلى كثير من تلك الاخبار التي رواها الاخباريون عن العرب في جاهليتهم. وقد نص القرآن الكريم على مقدار امتهانهم للمرأة واحتقارهم لها لا سيما إذا ولدت انثى قال سبحانه: (وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت) وفي آية اخرى: (إذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ايمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون), وهذه الآية تؤكد لنا ما روته الأحاديث عن قسوة العرب على المرأة ومدى احتقارهم لها، وقد ساءهم نزول الوحي حينما جاء ينصف المرأة ويجعل لها نصيبا من المال كغيرها من الوارث، فعاتب بعض العرب الرسول في ذلك محتجا عليه بأنها لا تركب الفرس ولا تقابل العدو، وكان يحق لأبن الزوج أن يتزوج بزوجة أبيه إذا لم تك أما له، فحرم عليهم الاسلام هذا الزواج ونهت عنه الاية الكريمة من سورة النساء قال سبحانه: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء).
عناية الاسلام بالمرأة:
أن الاسلام منذ فجره الأول قد ساوى بينها وبين الرجل في كثير من الحقوق والواجبات وحفظ لها حقها وكرامتها وصان لها عفافها وشرفها كي لا تكون فريسة للرجل لا ينظر إليها إلاّ من الناحية الجنسية والشهوات الجامحة، وسواء صحت الحوادث التي نقلت عن قسوة الأمم عليها أو لم تصح فمما لا شك فيه أن المرأة المسلمة قد استقبلت حياة جديدة حافلة بالعزة والكرامة، لم تعهد منذ تاريخها حياة أفضل من حياتها في ظل الأسلام، ولم تر من العناية والتقدير من أي أمة سبقت الاسلام او تأخرت عنه ما لاقته من الاسلام، فقد وضعها في مكانها وأعطاها كل ما لها وكلفها بما عليها وخاطبها كما خاطب الرجل ورعاها كما رعاه.
وعلى كل حال فقضية الرجل والمرأة قضية خالدة ما خلدت الانسانية، باقية ما بقي الدهر.
فالحياة لم تقم بالرجل وحده ولا بالمرأة وحدها، بل بهما معا تنتظم الحياة لأنهما من نفس واحدة كما قال عز وجل: (خلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء), فأصبح الزوجان أزواجا والنفسان عالما ضخما يموج بالانفس ويزخر بالحياة. يسير ما قدر له السير، ويمضي إلى غايته وأهدافه يعين بعضه بعضا ويكمل كل من شطريه الشطر الآخر، وتلك سنة اللّه في جميع الحيوانات بل في جميع الاحياء على السواء.
قال سبحانه: (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)
فلم يكن أثر المرأة في الحياة هذه بأقل من أثر الرجل، ولم تكن فيها عاملا ثانويا ولا مجرد شهوة وموضع متعة، وإنما هي عامل له من الأثر ما للرجال، وإذا عرف كل منهما مكانه وقام برعاية واجبه، استقام أمر الاسرة ومن وراء ذلك يستقيم أمر الجماعة، وان الباحث في تعاليم الاسلام وسيرة رسوله الكريم يرى مقدار عنايته بها ورعايته لحقها ومساواتها للرجال في كل شيء حتّى في المسجد والجمعة والجماعة ومجالس الوعظ والارشاد، ولم يكن يبخل عليها بنصائحه وإرشاداته إذا طلبت منه ذلك، فوق ما يتاح لها أن تشهده مع الرجال، وكثيرا ما كان يردد على مسامع اصحابه ما لها من آثار مجيدة في تكوين الأسرة وسعادة البيت.
أما من الناحية السياسية والاجتماعية، فالتاريخ غني بالشواهد على ما سجلته من صفحات ناصعة وبطولات وتضحيات في سبيل الاسلام. ومنذ اللحظة الاولى كانت المرأة عاملا إيجابيا له أثره البالغ في تاريخ الاسلام فأول قلب غزاه هذا الدين المجيد بعد قلب علي (عليه السلام) هو قلب خديجة زوجة النبي (صلى الله عليه واله) وان الموقف الذي وقفته تلك السيدة الجليلة سيدة المسلمات الاولى من زوجها صاحب الدعوة، والاسلام لم ينبلج نوره ولن يستبن بعد ضياءه والعرب كلهم يتواثبون للنقمة منه، هذا الموقف لم يقفه أحد من المسلمين ولا من بني عمه الاقربين إلاّ إذا استثنينا عليّا (عليه السلام) غير هذه السيدة الجليلة لقد دخل عليها وقلبه يرتجف حينما أتاه الوحي لأول مرة في أول آية انزلت عليه من القرآن المجيد: (أقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم)، ولما قص عليها هذا النبأ ومدى خشيته من ذلك، قالت له ببشاشتها التي اعتادت أن تقابله بها: ((واللّه، لا يحزنك اللّه أبدا، إنك تصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين عند النوائب، أبشر يا ابن عم واثبت)). ولما خافت ان لا تكون في حديثها معه قد بلغت ما تريد، من راحة زوجها العظيم واطمئنانه بالمصير الذي سيكون اخذت بيده تريد ابن عمها ورقة بن نوفل وكان جليلا وكبيرا ومجربا للأمور، وما أن وصلت إليه حتّى بدأت تقص عليه ما جرى لزوجها ولما انتهت من حديثها معه، بشره بالنبوة التي كان ينتظرها العارفون والقارئون لكتب اللّه المنزلة على أنبيائه. وتمنى ورقة بن نوفل أن تمتد حياته لينال نصيبه من الاسلام ويقوم بنصرة محمّد (صلى الله عليه واله) ومضت خديجة التي كانت أول من آمن برسالة محمّد (صلى الله عليه اله) بعد علي (عليه السلام) تبذل مالها وجاهها في سبيل هذا الدين، وترعى له بيته وولده. حتّى قال فيها الرسول بعد أن قوي أمر الاسلام كلمته الخالدة: (قام الاسلام بسيف علي ومال خديجة), كانت قدوة لغيرها من المسلمات في الجهاد والدفاع عن هذا الدين اللواتي تحملن في سبيله الاذى وصبرن على العذاب، حتّى أمرهن الرسول بالهجرة إلى الحبشة وكن ثماني عشرة امرأة. ولما فرض اللّه على الرسول ان يجاهد الكفار والمنافقين كانت المرأة بجانب الرجل المسلم تدافع وتناضل. وحدث لبعضهن ان تركت زوجها وولدها وانضمت إلى صفوف المسلمين، فلم تغب المرأة عن مشهد من مشاهد الرسول مع اعدائه فقامت بأوفر نصيب في خدمة الدين تضمد الجروح وتهيء الطعام وتحمل السيف والرمح وتقف في مصاف الابطال والشجعان وقد سجل التاريخ لأم عمارة موقفها البارز بين ابطال المشركين حتّى قال فيها الرسول: ما التفت يمينا وشمالا إلاّ ورأيت أم عمارة. وقال مخاطبا ولدها: أمك خير من مقام فلان وفلان، ولقد خرجت المرأة المسلمة إلى الجهاد بعد وفاة الرسول لقتال المرتدين. وكانت نهاية مسيلمة زعيم المرتدين على يد أم عمارة التي أقسمت أن لا ترجع إلاّ بعد قتل الدعي مسيلمة الكذاب. وهكذا بقيت المرأة المسلمة تناضل وتجاهد عن دين اللّه في صفوف الابطال والشجعان حتّى قضى الاسلام على جمع مناوئيه، وانتظم عقده البلاد العربية واندفع نوره يسري بين الاحياء ويغمر الارجاء ويدحر الظلمات وتأذن اللّه لنور الحق بالغلب، وجاء نصر اللّه والفتح ودخل الناس في دينه أفواجا.
أتراه بعد ذلك ينقصها شيئا من حقها، او يكرم الرجل او يحابيه على حسابها.
ان كل ما تمسك به الحاقدون على مبادئ الأسلام وعلى الاديان أن الاسلام جعل للرجل سلطانا على المرأة، وأباح له أن يجمع بين أربع وضاعف نصيبه من الميراث ولم يقبل شهادتها في بعض الامور، وفي البعض الذي تقبل فيه لا بد من امرأتين لتعادل شهادة الرجل، إلى غير ذلك من الفوارق التي اتخذ منها أعداء الدين الذين جرفتهم إباحية الغرب، وسيلة للتشنيع والدس على الاسلام. ونحن لا ننكر على هؤلاء ان التشريع قد اشتمل على هذه المواد، ولكن لم يصنع ذلك انتقاصا لها وامتهانا لحقها وتكريما للرجل وإيثارا له عليها، حاشا الاسلام السمح الذي حفظ للجماعة والفرد حقهما، والغى جميع الامتيازات والفوارق بين الطبقات ولم ير لأي إنسان ميزة على أخيه الانسان إلاّ بالعمل الطيب، وأكد ذلك في كثير من آيات الكتاب الكريم، فقال: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت), (ولا تزر وازرة وزر أخرى), (بل توفى كل نفس ما عملت), (ومن يعمل من الصالحات من ذكر وانثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون فتيلا) (فاستجاب لهم ربهم اني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وانثى).
وقال سبحانه: (ان المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين اللّه كثيرا والذاكرات أعد اللّه لهم مغفرة وأجرا كريما).
فقد ساوت الآية بينهما في العمل والجزاء ورسمت لكل منهما طريق السعادة والفوز برضوان اللّه ونعمه. وبعد ذلك لا بد وأن يكون التفاوت بين الجنسين في بعض مواد التشريع مستمدا من الاعباء والتبعات الملقاة على عاتقها وقد يكون لمصلحة ادركها المشرع، وعلى أساسها كان هذا التعاون بين الرجل والمرأة. وليس بوسعنا الآن، ونحن نتحدث عن آيات التشريع في القرآن الكريم بصورة اجمالية، تمهيدا لموضوع الكتاب، ان نستقصي كل ما يمكن ان يكون أساسا لهذه الاحكام، التي اتخذها المهوشون وسيلة لحملاتهم ضد الاسلام لان ذلك يؤدي بنا إلى الخروج عن موضوع الكتاب.
ولعلنا سننشر في أثناء حديثنا عن آيات التشريع، التي تعرضت لميراث المرأة وقبول شهادتها وتعدد الزوجات، إلى بعض الجهات التي يمكن أن تكون الاساس في هذا التفاوت بين الجنسين لهذه المواد.