هل الاعتقاد بالسلطة الغيبية للأشخاص شرك؟
بسم الله الرحمن الرحيم
لا شكّ في أنّ طلب الحاجة من أحد ـ بصورة جدية ـ إنّما يصحّ إذا اعتقد طالب الحاجة بأنّ المطلوب منه قادرٌ على إنجاز حاجته.
وهذه القدرة قد تكون قدرة ظاهرية ومادية، كأن نطلب من أحد أن يسقينا ماءً ويجعله تحت تصرفنا ومتناول أيدينا.
وقد تكون القدرة قدرة غيبية خارجة عن نطاق المجالات الطبيعية والقوانين المادية، كأن يعتقد أحدٌ بأنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) قلع باب خيبر بقدرة خارجة عن قدرة الإنسان العادي، وأنّه قلعه بقدرة غيبية. أو يعتقد أنّ المسيح (عليه السلام) كان يقدر بقدرة غيبية على منح الشفاء لمن استعصى علاجه من دون أن يستعمل دواء أو يقوم بإجراء عملية جراحية للمريض.
إنّ الاعتقاد بمثل هذه القدرة الغيبية إن كان ينطوي على الإيمان بأنّها مستندة إلى الإذن الإلهي والمشيئة والقدرة الإلهية، فهي حينئذ لا تختلف عن القدرة المادية الظاهرية، بل هي كالقدرة المادية التي لا يستلزم الاعتقاد بها الشرك، لأنّه سبحانه الذي أعطى القدرة المادية لذلك الفرد هو أيضاً أعطى القدرة الغيبية لآخر، دون أن يُعدّ المخلوق خالقاً وأن يتصوّر استغناءه عن الله سبحانه وتعالى.
النظرية الوهابية:
ثمّ إنّ الوهابيّين قالوا: لو أنّ أحداً طلب من أحد أولياء الله ـ حيّاً كان أم ميّتاً ـ شفاء علّته أو ردّ ضالّته أو أداء دينه، فهذا ملازم لاعتقاد السلطة الغيبية في حقّ ذلك الولي، وأنّ له سلطة على الأنظمة الطبيعية الحاكمة على الكون، والاعتقاد بمثل هذه السلطة لغير الله عين الاعتقاد بإلوهية ذلك المسؤول، وطلب الحاجة في هذا الحال يكون مشركاً.
فلو طلب إنسان ضامئ الماء من خادمه، فقد اتّبع الأنظمة الطبيعية لتحقيق مطلبه، فلا يُعدّ ذلك شركاً; أمّا إذا طلب الماء من إمام أو نبي موارى تحت التراب أو يعيش في مكان بعيد، فإنّ مثل هذا الطلب ملازم للاعتقاد بسلطة غيبية لهذا النبي أو الإمام بحيث يستطيع أن يوفر الماء للسائل من دون التوسّل بالأسباب والعلل المادية، وهذا عين الاعتقاد بإلوهية المسؤول.
وممّن صرّح بهذا الكلام أبو الأعلى المودودي، فإنّ عبارته تحكي عن ذلك، حيث قال: صفوة القول إنّ التصوّر الذي لأجله يدعو الإنسان الإله ويستغيثه ويتضرّع إليه، هو ـ لا جرم ـ تصوّر كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة والقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة(1)
مناقشة نظرية المودودي:
إنّ أساس الخطأ الذي وقع فيه الكاتب أنّه تصوّر أنّ الاعتقاد بالسلطة الغيبية للأشخاص يُعدّ شركاً وثنويةً مطلقاً، ولم يفرّق أو لم يرد أن يفرّق بين نوعين من الاعتقاد، فلا شكّ أنّه يوجد فرق أساسيٌ بين الاعتقاد بالسلطة الغيبية المتكئة على السلطة والقدرة الإلهية وبين الاعتقاد بالسلطة المستقلة عن سلطة الله سبحانه، والذي يُعدّ سبباً للشرك هو الاعتقاد الثاني دون الأوّل.
إنّ القرآن الكريم يذكر وبصراحة تامة أسماء عدد من الأشخاص الذين كانوا يتمتعون بسلطة غيبية وأنّ إرادتهم كانت حاكمة على القوانين الطبيعية.
وها نحن نذكر أسماء عدد من هؤلاء الذين صرح القرآن بامتلاكهم لتلك القدرة.
1. النبي يوسف (عليه السلام) والسلطة الغيبية
لقد أمر يوسف (عليه السلام) إخوته بقوله الذي حكاه عنه القرآن الكريم: (اذْهَبُوا بِقَمِيصي هذا فَألْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً... فَلَمّا أَنْ جاءَ الْبَشيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً... )(2).
إنّ ظاهر الآية يفيد أنّ رجوع البصر إلى يعقوب كان بإرادة يوسف، وأنّه لم يكن فعلاً مباشرياً لله سبحانه، وإنّ ما فعله يوسف كان بقدرة مكتسبة منه سبحانه.
ولو كان إشفاء يعقوب مستنداً إلى الله سبحانه مباشرة بلا دخالة يوسف، لما أمر إخوته أن يلقوا قميصه على وجه أبيهم، بل يكفي هناك دعاؤه من مكان بعيد، وليس عمله هذا إلاّ تصرّفاً لولي الله في الكون بإذنه سبحانه.
2. موسى (عليه السلام) والقدرة الغيبية
لقد أمر اللّه موسى (عليه السلام) أن يضرب بعصاه الحجر لتنفجر منه اثنتا عشرة عيناً بعدد قبائل بني إسرائيل، قال تعالى: (...اضْربْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً... )(3).
كما أمره سبحانه مرّة أُخرى أن يضرب بعصاه البحر لينفلق البحر أمام بني إسرائيل، كما في قوله تعالى: (فَأَوحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْق كَالطَّودِ الْعَظِيم )(4).
ولا شكّ أنّه لا يمكن أن ننكر تأثير ضرب موسى بالعصى وإرادته ذلك العمل، في تفجير العيون وتحوّل ماء البحر كالطود العظيم، وإن كان إذنه سبحانه ومشيئته فوق إرادة موسى (عليه السلام) وعمله.
3. النبي سليمان (عليه السلام) والسلطة الغيبية
إنّ النبيّ سليمان (عليه السلام) كان يتحلّى بمواهب وقدرات غيبية كثيرة وواسعة، ولقد أشار القرآن الكريم إلى تلك المواهب بقوله تعالى: (وأُوتينا من كُلِّ شَيْء )(5).
ولقد أشارت الآيات القرآنية إلى تلك المواهب بصورة مفصلة، كما في الآيات 17ـ 44 من سورة النمل، والآية 12 من سورة سبأ، و81 من سورة الأنبياء، و36ـ 40 من سورة ص، بحيث ترشدنا تلك الآيات إلى عظمة القدرة الموهوبة لسليمان (عليه السلام) ،ولكي يطلّع القرّاء الكرام بصورة إجمالية على تلك القدرات نذكر قسماً من الآيات التي تتعلّق بهذا النبي، ليتّضح جلياً أنّ الاعتقاد بالقدرات الغيبية لأولياء اللّه من المسائل التي أخبر القرآن الكريم عنها.
أشار القرآن الكريم أنّه كان لسليمان سلطة على الجن والطير، وكان يعلم لغة الطيور والحشرات، كما ورد في قوله تعالى: (وَوَرِثَ سُليمانُ داودَ وَقالَ يا أَيُّهَا النّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْء إِنَّ هذا لَهُوَ الفَضْلُ الْمُبين وَحُشِرَ لِسُلَيْمَـنَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتّى إِذا أَتَوا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْل ادْخُلُوا مَسَكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيمانُ وَجُنُودُه وَهُمْ لا يَشْعُرُون * فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَولِها وَقالَ رَبِّ أَوزِعْني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ... )(6).
وأنت إذا اطّلعت على قصة الهدهد والمهمة التي أُوكلت إليه من قبل سليمان (عليه السلام) ليحمل رسالته إلى ملكة سبأ، كما يصف ذلك القرآن الكريم، تأخذك الدهشة والعجب لهذا الأمر، لذلك ندعو إلى مطالعة الآيات 20ـ 44 من سورة النمل والتدبّر وإمعان النظر فيها.
كما أنّ صريح القرآن الكريم يرشد إلى أنّ سليمان (عليه السلام) كانت له السلطة الغيبية على الريح بحيث تجري بإرادته وطبقاً لأوامره يقول تعالى: (ولِسُلَيْمَـنَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الّتي بَـرَكْنَا فِيها وَكُنّا بِكُلِّ شَيْء عَـلِمِينَ )(7).
والنكتة الجديرة بالانتباه هي قوله تعالى: (تَجْري بِأَمْرِهِ ) حيث تشير إلى أنّ الريح كانت تأتمر بأمر سليمان (عليه السلام) وتخضع لإرادته.
4. المسيح (عليه السلام) والسلطة الغيبية
إنّ متابعة الآيات القرآنية المباركة يرشد إلى القدرات الغيبية التي كان يتحلّى بها السيد المسيح (عليه السلام) ونحن ـ وعلى نحو الإشارة لمقامه (عليه السلام) ـ نذكر الآية التي تحدث فيها (عليه السلام) عن قدراته ومواهبه: (...أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرَاً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ )(8).
وإذا كان السيد المسيح قد قيّد كلّ آية يخبر بها عن نفسه، كالخلق وإحياء الموتى بـ (إِذن الله) فلأنّه ـ و بلا شكّ ـ لا يستطيع أيُّ نبي التصرف في الكون إلاّ بإذنه سبحانه، كما ورد ذلك في قوله سبحانه: ( ...وَما كانَ لِرَسُول أَنْ يَأْتِيَ بِآيَة إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ... )(9).
وفي الوقت نفسه نسب السيد المسيح (عليه السلام) تلك الأفعال الغيبية لنفسه حيث يقول: أنا (أُبرئ ) و( احي ) و( أُنبئكُم بِما تأكُلون وما تدخرون في بيوتكم ) فإنّها تدلّ على المراد من البحث دلالة واضحة، وذلك لأنّ الجميع قد ورد بصيغة المتكلّم.
وليس أنبياء الله: يوسف و موسى وسليمان والمسيح هم وحدهم يتحلّون بقدرات غيبية وسلطة على عالم الطبيعة فقط، بل هناك الكثير من الأنبياء والملائكة يمتلكون تلك القدرات الغيبية، وقد وصف القرآن الكريم جبرئيل بأنّه (شديد القوى)(10) ووصف الملائكة بقوله: ( فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً )(11).
كما وصف القرآن الكريم الملائكة بصفات عديدة، منها: أنّها مدبرة لشؤون العالم، وأنّها تتوفى الأنفس، وأنّها الحافظة للإنسان والرقيب عليه، وأنّها الكاتبة لأعمال الإنسان، والمهلكة للأقوام والشعوب الكافرة، وأنّه وبلا شك أنّ من يمتلك أدنى درجات الاطّلاع على القرآن الكريم يعرف وبلا ريب أنّ الملائكة تمتلك قدرات وطاقات غيبية، وأنّها بالاتّكاء على القدرة الإلهية تقوم بأعمال خارقة للعادة.
فإذا كان الاعتقاد بالسلطة الغيبية لأحد ملازماً للاعتقاد بإلوهيته، لزم أن يكون جميع هؤلاء آلهة من وجهة نظر القرآن الكريم، وهذا ما لا يقول به أحد من الناس.
إنّ طريق حلّ هذه القضية إنّما يتم من خلال التفريق بين القدرة الاستقلالية وبين القدرة المكتسبة، حيث إنّ الاعتقاد باستقلالية قدرة الأنبياء والملائكة وغيرهم يُعدُّ وبلا ريب شركاً، ولكن الاعتقاد بأنّ تلك القدرات والطاقات مكتسبة من القدرة الإلهية المستقلة ومستندة إليها، يُعدُّ عين التوحيد وروح الوحدانية.
____________
(1) المصطلحات الأربعة: 17.
(2) يوسف:93ـ 96.
(3) البقرة: 60.
(4) الشعراء: 63.
(5) النمل: 16.
(6) النمل:16ـ 19.
(7) الأنبياء: 81.
(8) آل عمران: 49.
(9) الرعد: 38.
(10) النجم: 5.
(11) النازعات: 5.