صيانة القرآن من التحريف : موسّع
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إنّ الكتبَ السماويّة التي عَرَضَها الأنبياء السابقون تعَرضت - وللأسف - من بعدهم للتحريف بالتدريج بسبب الأغراض المريضة، وبسبب مواقف النفعيّين. ويشهَد بذلك - مضافاً إلى إخبار القرآنِ الكريم بذلك - شواهدُ تاريخيّة قاطعةٌ. كما أنّ مطالعة نفس تلك الكتب والتأمل في محتوياتها من المواضيع تدلُّ على ذلك أيضاً، فإنّ هناك طائفة من المواضيع في هذه الكتب لا يمكن أن يؤيّدها الوحيُ الإلهيّ. هذا بغضّ النظر عن أنّ الإنجيل الحاضر يحتوي في أكثره على حياة السيّد المسيح (عليه السلام)، وحتى صَلْبِهِ. ولكن رغم وقوع التحريفات الواضحة في الكتب السماويّة السابقة، فإنّ القرآنَ الكريم بقي مصوناً من أيّ نوعٍ من أنواع التحريف، والتغيير. فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك للبشرية من بعده (مائةً وأربع عَشَرة) سورة قرآنيّة، كاملة، وقد قام كُتّابُ الوَحي، وبالخُصوص الإمامُ عليٌّ (عليه السلام) بكتابة الوحي، وتدوينه منذ البداية. وَلِحُسن الحظّ لم ينقص من القرآن الكريم، وسُوَره، وآياتِهِ شيءٌ قَطّ رغم مرور قرابة (15) قرناً على بدء نزول القرآن، كما لم يُزَد عليه شيءٌ أبداً.
ونشير فيما يلي إلى بعض الأدلّة على عَدَم تحريف القرآنِ الكريم:
1. كيف يمكن أن يجدَ التحريفُ سبيلاً إلى القرآنِ الكريم، في حين أنّ الله تعالى تعهَّدَ صراحةً بحفظ القرآن، بنفسِهِ إذ قال: «إنّا نَحْنُ نَزَّلنا الِذّكْرَ وَإنّا لَهُ لحافِظُونَ»«1».
2. إنّ الله تعالى نفى تطرُّق أيِّ نوعٍ من أنواع الباطل إلى القرآن الكريم مهما يكن مصدرُهُ، نفياً قاطعاً فقال: «لا يأتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِن خَلْفِهِ تِنْزِيلٌ مِن حَكِيمٍ حَمِيدٍ»«2». إنَّ الباطلَ الّذي يمكن أنْ يَتَطَرَّقَ إلى القرآن الكريمِ بصُوَرِهِ المختلفة، والذي قد نفاه الله تعالى نفياً قاطعاً، لا شكَّ هو الباطل الذي يوجب وَهْنَ القرآن الكريم، ويُضعِفُ مِن مكانتهِ ويَحُطُّ من مَنزلتِهِ، وحيث إنّ النَقْصَ من القُرآنِ الكريم، أو الزيادة في كلماته، وألفاظه مما يوهن مكانة القرآن قطعاً، ويقيناً، ويَحطُّ من شأنه، لهذا لا يوجد أيّ لونٍ من ألوانِ الزيادةِ والنقص في القرآن الكريم أبَداً، ويقيناً.
3. إنّ التاريخ يشهدُ بأنَّ المسلمين كانوا يعتنون بالقرآن الكريم تعلّماً وتعليماً، قراءةً وحِفظاً أشدّ الاعتناء، وكان العرب في عصر النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يتمتّعون بحافظةٍ قويّةٍ وذاكرةٍ حادّة بحيث إذا سمعوا خطبةً أو قصيدةً طويلةً مرةً واحدةً حَفِظوها، وأتقنوها. وعلى هذا كيف يمكن أن يُقال أنّ كتاباً مثل هذا، مع كثرة قارئيه، ووفرة حافظيه والمعتنين به، تعرّض للتحريف، أو الزيادة والنقصان؟!
4. لا شكَّ في أنّ الإمام أميرَ المؤمنين عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام) كان يختلف مع الخلفاءِ، في بعض المسائل، وكان يُظهِرُ مخالفَتُهُ لهم في موارد مختلِفة بِصُورةِ منطقيّة، وتتمثل هذه الإعتراضات في الخطبة الشقشقيّة وبعض مناشداته على سبيل المثال. ولكنّه لم يُسَمعْ ولا مرّةً واحدةً بأنّه (عليه السلام) تَحَدّثَ - ولا بِكلَمَةٍ واحدةٍ - عن تحريف القرآن الكريم، طيلة حياته. فإذا كان هذا التحريف حدث - والعياذ بالله - لما سَكتَ عنه الإمامُ أميرُ المؤمنين (عليه السلام)، بل - على العكس من ذلك - نجده (عليه السلام) يدعو إلى التأمُّل والتَدَبُّر في القرآنِ الكريمِ ومن ذلك قولهُ: «لَيْسَ لأَحدٍ بَعْد القُرآنِ مِن فاقَةٍ ولا بَعْدَ القرآنِ مِن غِنىً فكونوا من حَرَثَتِهِ وأتباعِهِ»«3».
وبالنظر إلى هذه الأدلة ونظائرها أكّدَ علماءُ الشيعة الإمامية واتّباعاً لأهل البيت (عليهم السلام) منذ أقدم العصور الإسلامية، على صيانة القرآن الكريم من التحريف نذكر منهم:
1. الفضل بن شاذان (المتوفّى 260 هـ ق) والذي كان يعيش في عصر الأئمة (عليهم السلام)، وذلك في كتاب الإيضاح/ 217.
2. الشيخ الصدوق (المتوفّى 381 هـ ق) في كتاب الاعتقادات/ 93.
3. الشيخ المفيد (المتوفّى 413 هـ ق) في كتاب أجوبة المسائلالسروّية، المطبوع ضمن مجموعة الرسائل/ 266.
4. السيّد المرتضى (المتوفّى 436 هـ ق) في كتاب: جواب المسائل الطرابلسيات الذي نقل الشيخ الطبرسي كلامه فيه، في مقدمة تفسيره: مجمع البيان.
5. الشيخ الطوسيّ المعروف بشيخ الطائفة (المتوفّى 460 هـ ق) في كتاب: التبيان 1/ 3.
6. الشيخ الطبرسيّ (المتوفّى 548 هـ ق) في مقدمة كتابه: «مجمع البيان»، حيث أكَّدَ فيها على عدم وقوع التحريف في القرآن الكريم.
7. السيد ابن طاووس (المتوفّى 664 هـ ق) في كتاب: «سعد السعود/ 144» حيث يقول فيه: إن عدم التحريف هو رأي الإماميّة.
8. العلامة الحِلّي (المتوفّى 726 ه. ق) في كتاب: «أجوبة المسائل المهنّائية/ 121» حيث يقول فيه: «الحقُّ أنّه لا تبديلَ ولا تأخير ولا تقديم فيه، وأنّه لم يُزَد فيه ولم يُنْقص، ونعوذ بالله تعالى من أن يُعتَقَدَ مثلُ ذلك، فإنّه يوجب التَطَرُّق (أي تطرّق الشَكّ والوَهْن) إلى معجزة الرَسُّول (عليه السلام) المنقولة بالتّواتر». ونكتفي بهذا القدر من أسماء علماء الإمامية المنكرين للتحريف، ونؤكّد على أنّ هذا كان ولم يزل إعتقاد عُلَماء الامامية، ويتّضح ذلك من مراجعة ما كتبه ويقوله مراجع الشيعة في العصر الحاضر. مناقشة الروايات الدالّة على تحريف القرآن وردّها لقد وَرَدَت في كتب الحديث، والتفسير، رواياتٌ يدل بعضُها على وُقوع التحريف في القرآن الكريم، ولكن يجب أن ننتبه إلى النقاط التالية:
أوّلًا: أنّ أكثر هذه الروايات نُقِلَتْ بواسطة أفراد غير موثوق بهم وجاءت في كتب لا قيمة لها. مثل كتاب «القراءات» لأحمد بن محمد السياري (المتوفّى 286 ه ق) الذي ضَعَّفَهُ علماءُ الرجال وضعَّفوا رواياته، واعتبروه فاسد المذهب«4», أو كتاب علي بن أحمد الكوفي (المتوفّى 352 هـ ق) الذي قال عنه علماء الرجال بأنّه صار غالياً في أُخريات حياته«5».
ثانياً: بعض هذه الروايات التي حُمِلَت على التحريف، لها جانبُ التفسير، أي أنّها تفسّر الآية، وتكون من قبيل تطبيق المفادِ الكليّ للآية على مصاديقه، أو أحد مصاديقه. غير أنّ البعضَ تصوّر أنّ ذلك التفسير والتطبيق هو جزءٌ مِن القرآن الكريم، وقد حُذِفَ، أو سقطَ من القرآن الكريم. فمثلًا فُسرت لفظةُ «الصِراط المُستَقيِم» في سورة الحمد في الروايات بـ«صراط النبي وأهل بيته» ومن الواضح جدّاً أنّ مثل هذا التفسير هو نوع من أنواع التطبيق الكليّ على المصداق الأكمل«6».
ولقد قَسَّمَ الإمامُ الخمينيّ رحمه الله الرواياتِ التي فُهِمَ منها وقوعُ التحريف في القرآن الكريم إلى ثلاثة أقسام:
ألف: الروايات الضَعيفةُ التي لا يمكن الإستفادة منها والأخذ بها أبداً.
ب: الروايات المختلَقَة التي تلوح عليها علائم الوضع والإختلاق.
ج: الروايات الصحيحة التي لو تأمَّلْنا فيها بدقّة لاتّضح أنّ المقصودَ منها ليس هو التحريف اللَفظيّ (أي الزيادة والنقصان اللفْظِيّ) بل هو تحريف حقائِقها ومفاهيمها«7».
ثالثاً: انّ الواجب على الذين يريدون التعرّف على المعتقد الواقعي لأتباع مذهب من المذاهب، أنْ يرجعوا إلى الكتب الاعتقاديّة والعِلمية لذلك المذهب، لا الكتب الحديثية (أي التي تضم الأحاديث والأخبار) التي يَهتَمُّ مؤلفها في الأغلب بجمع الأحاديث وتدوينها، تاركاً التحقيق فيها، والإستفادة منها للآخرين.
كما أنّه لا يكفي لمعرفة المعتقد الحقيقيّ والمسَلَّم لأي مذهَبٍ من المذاهب، الرجوعُ إلى الآراء الشاذّة التي طَرَحَها أو يطرحُها أفرادٌ من أتباع ذلك المذهب.
وأساساً لا يمكن الإستناد إلى قولِ فردٍ أو فردين في مقابل رأي الأكثريّة القاطعة والساحقة من عُلَماء المذهب وجعله مِلاكاً صحيحاً للحُكمِ على ذلك المَذهَب.
وفي خاتمة البحث عن التحريف من الضَروريّ أنْ نُذَكّرَ بعدة نقاط هي:
1. إنّ اتّهام بعض المذاهب الإسلامية البعضَ الآخر بتحريف القرآن وخاصّة في العصر الحاضر لا يستفيد منهُ سوى أعداء الإسلام، وخصومه، ومناوئيه.
2. إذا أقدَمَ أحدُ علماء الإمامية بكتابة كتاب حولَ تحريف القرآن، وجب أن نعتبر ذلك رأيه الشخصيّ وليس رأيَ الأكثريّة الساحقة من علماء الإمامية. ولهذا نرى أنّه أقدم علماءُ كثيرون من الإِمامية على كتابة ردودٍ عديدةٍ على ذلك الكتاب. تماماً كما حَدَثَ في أوساط أهل السنة حيث أقدم أحدُ علماء مصر على تأليف كتابٍ في تحريف القرآن باسم «الفرقان» عام 1345 هـ ق، فَرَدَّ عليه علماءُ الأزهر، وأمَرُوا بمصادَرَتِهِ.
3. إنّ من العجيب جداً أن يحمل بَعْضُ المغرضين الذين أيسوا من الأساليب الأُخرى، كلّ هذه التصريحات القاطعة من قِبَل علماء الشيعة الإماميّة بعدم تحريف القرآن الكريم على «التقيّة»!! فإنّه يقال لهؤلاء بأنّ «التقية» ترتبط بأحوال شخصٍ يكون في ظروف الخوف والخطر، وهؤلاء العلماء الكبار لم يكونوا يخافون أَحداً حتّى يضطرّوا إلى ممارسة «التقيّة». ثم إنّ هذه الكتب قد ألّفها علماءُ الإمامية - في الأساس - لأتباع المذهب الشيعيّ، والهدف منها هو تعليم عقائد الشيعة لأتباع ذلك المذهب، ولهذا فإنّ من الطبيعي أنْ تحتوي هذه الكتُبُ على العَقائِدِ الحقيقية(8).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحجر9.
(2) فصلت42.
(3) نهج البلاغة الخطبة176.
(4) رجال النجاشي ج1ص211رقم الترجمة190.
(5) رجال النجاشي ج1ص96رقم الترجمة689.
(6) مجمع البيان للطبرسي ج1ص28.
(7) تهذيب الاصولج2ص96.
(8) العقيدة الإسلامية، للشيخ السبحاني.