قانون دفع الله الناس ببعضهم
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)(1). وقال تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً)(2). ومعناه أن حروب الناس وصراعاتهم تجري في ظاهرها بقوانين مادية طبيعية لكنها واقعة تحت السيطرة الإلهية، وأن الله تعالى يتدخل فيها بالشكل الذي يضمن عدم فساد المجتمع البشري بدرجة مفرطة، ويضمن بقاء مجموعات تعبد الله تعالى في الأرض. فالآيتان تقرران قانوناً إلهياً في التحكم في صراعات الناس، وقد فسره الإمام الكاظم (عليه السلام) بقوله: (ما التقت فئتان قط إلا نُصِرَ أعظمهما عفواً)(3), وفصَّله الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله: (ما التقت فئتان قط من أهل الباطل إلا كان النصر مع أحسنهما بقية على أهل الاسلام)(4). ومعنى ذلك أن ما يقع هو الأفضل النسبي دائماً، ولو وقع غيره لكان أسوأ منه! وأن الله تعالى تكفل بتجديد القوى الفاعلة في حياة البشر، وأن يُبقي منها الأكثر عفواً والأقل قتلاً وإبادة للناس، ثم الأكثر (ليبرالية) وقبولاً لوجود جماعات تعبد الله تعالى في أرضه، حتى بأنواع خاطئة من العبادة! وبهذا القانون تكون موجة المغول داءً ضرورياً ودواءً لحالة الأمة، وكاسحةً شريرة لقوى أشد شراً منها على مستقبل الأمة ووجودها، وأن كل خسارات الأمة بالمغول يجبرها فسح المجال لطاقات التجديد المطلوبة. فما دامت الأمة وصلت في ظل الخلافة العباسية الى درجة القبول بحكم خليفة سكران لا يهتم بغزو المغول لعاصمته وقصره، ويتفضل بإصدار أمره الخلافي المقدس فيقول: قتلوا راقصتي فكثفوا الستائر! والقبول بسلطان سلاطين الخلافة الخوارزمي، قائد أكبر قوة عسكرية للمسلمين، وهو فاسد يُغرم بغلام خصي له، ويُجَنُّ لموته فيحمل جنازته معه ويسير بجيشه الى تبريز ويطلب من أهلها أن يخرجوا استقبالاً لغلامه الميت فيخرجون، ويَقتل الذي يقول له إن غلامه مات! فلو استمر مسار الأمة هذا، فلا بد أن يصل الى أسوأ من غزو المغول! ولو استمر تعاظم توسع الفرنسيين في العالم، وقد كانوا أكبر قوة استعمارية قبل الإنكليز وروسيا وألمانيا، وقبل وجود أمريكا، لرأيت اليوم من يفكر بغير الفرنسية، يعلق على أعواد المشانق! ولو حكم الإنكليز العالم بلا معارض، لرأيت التخطيط الماكر للعالم أن تصب كل ثرواته حتى الملِّيم في جزيرة الآلهة الإنقلس. ولو حكم الألمان العالم بلا معارض، لكان عليك أينما كنت من العالم أن تقف عند تقاطع الطريق وتؤدي التحية: هايل هتلر! ولو حكم الأمريكان العالم بلا معارض، لحرثوه طولاً وعرضاً كما حرث المغول ما قدروا عليه منه! وإذا أردنا أن نفهم هذا القانون الإلهي في مسار العثمانيين، فهم بمقياس العالم يومذاك ضرورة، حيث كانوا في مطلعهم تحدياً عسكرياً مغولياً لازماً وعَيْناً حمراء للأمة في مقابل جبابرة الغرب، ثم كانوا على علاتهم وجوداً مفيداً للدين لتنشأ شعوب الأمة على الإعتقاد بالإسلام ونبيه (صلى الله عليه وآله) وقرآنه، الذي يُلقلقون به ألسنتهم، ويقولون للناس إنهم يؤمنون به! لكنهم لو حكموا العالم بلا معارض، لفرضوا عليه باسم الإسلام ثقافة المغول المخزونة في دمهم بكل ما فيها من عنف وغطرسة وتحلل أخلاقي، ولأظهروا جدهم (أرطغرل) وتسموا باسمه، وقد أخفوه لأنه في حسهم إسم مغولي! ولانتسبوا اليه بدل انتسابهم الى ابنه عثمان، فصار العالم (طُغْرُلياً)! ولو حكموا العالم الإسلامي بلا معارض، لفرضوا عليه إسلامهم المغولي الناصبي، وأبادوا الشيعة والتشيع بالكامل! لكن الله عز وجل قدَّر وقضى لمشروعه في عترة نبيه (صلى الله عليه وآله) أن يتواصل، وتكون لهم شيعةٌ يتنامون مع العصور، وظلامةٌ تتواصل فتمثل المأساة الضرورية لخط الهدى الإلهي على يد البشر، حتى يبلغ الله تعالى أمره، ويُظهر وليه المذخور لإقامة العدل في العالم عجل الله تعالى فرجه الشريف! قال الإمام الباقر (عليه السلام) إنه يتذكر في طفولته عندما كان في مكة مع جده الإمام الحسين (عليه السلام) فجاء السيل ودخل المسجد الحرام، فاضطرب الناس وقالوا ذهب السيل بمقام إبراهيم (صلى الله عليه وآله) فأمر الحسين (عليه السلام) منادياً وقال له: (ناد: إن الله تعالى قد جعله علماً، لم يكن ليذهب به! فاستقَرُّوا)(5). فمن السذاجة أن نتصور أن الأحداث الطبيعية ومثلها السياسية والعسكرية، ليست تحت السيطرة الكاملة. (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). وبهذا القانون بقي الشيعة في العالم، وخاصة في العراق وإيران.
__________
(1) البقرة: 251.
(2) الحج: 40.
(3) الكافي: 2/108.
(4) الكافي: 8/152.
(5) الكافي: 4/223.