أدلة الأحكام في عهد التابعين
لم تختلف أدلة الأحكام في عهد التابعين عن عهد الصحابة، فالكتاب والسنة هما المرجعان الأولان في جميع العصور، واليهما يرجع الفقيه لمعرفة الأحكام. وقد حدث في عصر الصحابة، بعد وفاة الرسول، أصلان آخران: هما الإجماع والقياس وفيما وصل إلينا من آثارهم أنهم لم يرجعوا إلى هذين الأصلين، إلاّ إذا تعذر عليهم معرفة الحكم عن طريق الكتاب والسنة.
وفي ذلك يقول الخضري في تاريخ التشريع الإسلامي كان الشيخان إذا استشارا جماعة في حكم، واتفقت آراؤهم فيه، أفتي به وسمي ذلك إجماعاً، أما إذا لم تتفق الآراء، كان الحكم بالرأي، حسبما يستوحيه الفقيه من المناسبات والمصالح. وكان من نتيجة ذلك القياس، الذي اعتمد عليه الصحابة، وأصبح من أدلة الأحكام عندهم، واشتهر به جماعة من التابعين، وأصبح أداة طيعة أمينة على الأحكام عند الأحناف.
وقد وضع نواته عمر بن الخطاب، في كتابه إلى أبي موسى الأشعري: اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك، فان إلحاق أمر بآخر لمجرد المشابهة والمماثلة ـ كما جاء في هذه الوثيقة ـ هو آخر مرحلة وصل إليها المتطرفون في العمل بالقياس. ولم يعهد ذلك في حياة الرسول، ولا عن أحد من الصحابة قبله. ويبدو انه كان مستقلاً في تفكيره وجازماً في أموره، إذا رأى المصلحة في شيء أقدم عليه، وان خالف نصوص القرآن والسنة. فقد منع إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة. وهذا مفروض بنص القرآن الكريم كما جاء في الآية 61 من سورة النور: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل اللّه وابن السبيل).
وقد جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، إلى أبي بكر في خلافته فقالا: يا خليفة رسول اللّه، إن عندنا أرضاً سبخة، ليس فيها كلأ ولا ماء، فان رأيت أن تعطيناها، فاقطعهما إياها وكتب لهما بها كتاباً واشهد عليه، فانطلقا إلى عمر، فلما سمع بما في الكتاب تناوله من أيديهما، ثمّ تفل فيه ومحاه، وقال إن رسول اللّه كان يتألفكما، والإسلام قليل ضعيف.
ولما فتح المسلمون ارض العراق بالسيف، أبقاها بيد أهلها وفرض عليهم حصة من الناتج، واحتج بأنها لو قسّمت على الفاتحين، لم يبق للدولة من الموارد ما يكفيها لشؤون الجيش والعمران والتعليم، وغير ذلك من المهمات، وبقيت ملكاً لهم ولأبنائهم من بعدهم، فتنهار ميزانية الدولة، لأنها تقوم على الفتوحات والغزو. مع أن النصوص الإسلامية تقضي بأن تكون غنيمة من الغنائم، يأخذ الامام منها الخمس والأربعة الأخماس الباقية يملكها الفاتحون، كما جاء في تاريخي الفقه الإسلامي والتشريع الإسلامي.
وقد منع من نكاح المتعة، مع انه احد فردي النكاح في زمن الرسول وأبي بكر، وأمضى الطلاق الثلاث إذا كان بلفظ واحد، مع اعترافه أن الرسول اعتبره طلقة واحدة، إلى غير ذلك من الموارد التي كان يفتي فيها برأيه، ولو خالف المنصوص عليه من كتاب أو سنة. ولكنه يعتمد على أن المصالح التي كان التشريع من اجلها قد ذهبت أو حدث ما هو أولى منها بالرعاية والعناية، مع بقاء النص القرآني ثابتاً غير منسوخ.
قال الأستاذ خالد محمّد خالد: لقد ترك عمر بن الخطاب النصوص الدينية المقدسة من القرآن والسنة، عندما دعته المصلحة لذلك. فبينما يقسم القرآن للمؤلفة قلوبهم حظا من الزكاة، ويؤيده الرسول وأبو بكر، يأتي عمر بن الخطاب فيقول: لا يعطي على الإسلام شيء، وبينما يجيز الرسول (صلى الله عليه وآله) وأبو بكر بيع أمهات الأولاد، يأتي عمر فيحرم بيعهن، وبينما كان الطلاق الثلاث في مجلس واحد يقع واحداً بحكم السنة والإجماع، جاء عمر وحطم السنة والإجماع.
وهذا النوع من الاجتهاد مبني على تقييد الأحكام، المنصوص عليها في الكتاب والسنة، بالمصالح المستنبطة، أو تحديدها بزمان خاص. ولم يذهب إليه حتّى القائلون بأن المصالح المرسلة والاستحسان من أدلة الأحكام، لان الاستحسان هو العدول عن قياس إلى آخر أقوى منه. والمصالح المرسلة التي يعبر عنها الغزالي بالاستصلاح، هي المصلحة التي لم يشرع الشارع حكما على طبقها ولم يدل دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها. ولا يجوز الاعتماد عليهما في الأحكام عند القائلين بهما، إلاّ مع فقد النص، من كتاب أو سنة.
ومن الصعب أن نجد لهذا النوع من الاجتهاد ما يبرره، بعد توفر الأدلة من الكتاب والسنة: أما بنصوصيتها، أو بإطلاقها وعمومها. وأما الاجتهاد الذي لا بد منه، بعد أن كانت الحوادث غير متناهية، فمن موارده ما إذا كان النصوص الواردة في الوقائع المتخلفة ظنية الدلالة على نحو يكون المراد مردداً بين أمرين أو أمور، وكلها لا تتنافى وأغراض المشرع. ففي مثل ذلك لا بد من الاجتهاد لتعيين مراد المتكلم.
ولكنه اجتهاد في حدود فهم المراد من النص وترجيح احد معنييه أو معانيه. وعلى المجتهد في مثل هذه الحالة، أن يبذل جهده في هذا الترجيح بالرجوع إلى الأصول اللغوية والقواعد المجعولة لتعيين المراد من ظواهر الكلام. أما الواقعة التي لا يشملها النص بعمومه أو بإطلاقه ولم ينعقد عليها إجماع الفقهاء، فلا بد فيها من الاجتهاد بالرأي في مقام الإفتاء والقضاء، وذلك بالرجوع إلى القواعد العامة والأصول التي لا بد من الرجوع إليها في مثل ذلك، شرعية كانت أو عقلية.
وهذا النوع من القضاء والإفتاء بالرأي، هو الذي أقرّه الرسول في حديث معاذ بن جبل، وامتدحه عليه، وحمد اللّه الذي وفق رسول رسوله لما يريد اللّه ورسوله على تقدير صحة الرواية وليس منه القياس والاستحسان كما القائلون بهما، ومهما كان الحال فقد ظهر الاجتهاد بين فقهاء الصحابة وبرز في فتاويهم وأقضيتهم في تطبيق آيات الأحكام ونصوص السنة في موارد كثيرة وتعداهما إلى القياس والاستحسان. ولكن هذه النزعة لم تكن بارزة في أحكامهم وأقضيتهم، كما برزت في عهد التابعين وتابعيهم، وعلى الأخص بين فقهاء العراق، الذين اشتهروا بالرأي، كما اشتهر فقهاء الحجاز بالحديث، لأسباب أهمها تلك الحياة المتجددة والمتغيرة بما عرض لها من تطورات سريعة، بعد أن فتح اللّه على المسلمين بلاد الفرس والرومان وشمالي أفريقيا، وغيرها من الأقطار التي غزاها الإسلام.
ومما لا شك فيه أن لكل من هذه الأقطار حضارتها وعوائدها وأعرافها التي تخصها. وكم يرى من الفرق بين الحياة التي كان يحياها الرسول وصحابته في دنياهم المحدودة يوم ذاك، تلك الحياة البسيطة الهادئة، وبين تلك الحياة التي عاش فيها الفقهاء بعد عصر الرسول وصحابته، وانتشر فيها الإسلام في الشرق والغرب والشمال والجنوب، فكان مما لا بد منه أن يتأثر العرب الغزاة، بما في تلك البلاد، من العادات والتقاليد والنظم الاقتصادية والاجتماعية، مما تتصل بحياة الإنسان اتصالاً مباشراً وتؤثر على تفكيرهم، حتّى في فهم نصوص القرآن وذلك من دواعي نمو التشريع وتضاعف جهود الفقهاء وحملة الحديث، في تطبيق تلك القواعد العامة، التي وردت في الكتاب والسنة على تلك الوقائع والحوادث التي تجددت مع الزمن، لاسيما وان المأثور عن الرسول (صلى الله عليه وآله) من قضاء وأحكام، في الموارد الخاصة وما طبقه من تلك القواعد الكلية التي وردت في الكتاب على الحوادث والوقائع التي مرت في عصره تلك الموارد والموضوعات التي أعطاها الرسول أحكامها لم تكن في الغالب تشبه ما تجدد مع الزمن من أوضاع وحوادث اقتضتها طبيعة الحياة الجديدة التي استقبلها المسلمون بما فيها من عادات وأعراف تخصها.
واقتضى ذلك أن تتضاعف جهود العلماء والمفتين في البحث عن النصوص الإسلامية وفهم المراد منها ليستطيعوا ربطها بتلك الكليات التي وردت في الكتاب والسنة وتطبيقها على الجزئيات التي تتجدد مع الزمن. وهذا ما لم تدع إليه الحاجة في عصر التشريع وما بعده من عصر الصحابة، لعدم التبدل المحسوس في الأوضاع، في تلك الفترة من الزمن. ومن اجل ذلك، كان لعصر التابعين ذلك الطابع الخاص، واشتهر فيه العمل بالرأي والاجتهاد بين الفقهاء، وعلى الأخص ما كان منهم خارج الحجاز، كالعراق مثلاً، التي اشتهر فقهاؤها بأهل الرأي.
وهذا النوع من الاجتهاد مما لا بد منه في مثل هذه الحالات، لان الإسلام بطبيعته لا يحجز في الرأي على أحد، ما دام العلماء يسيرون في فلك القرآن وسنة الرسول، الذي لا ينطق عن الهوى.
على انه قد يتعسر أحياناً على القضاة والفقهاء، ربط بعض الحوادث بتلك القواعد العامة، التي وردت في الكتاب والسنة، أو تطبيقها على الجزئيات المتجددة وفي مثل ذلك لا مفر من الحكم بآرائهم، بعد الفحص والتحري عن الواقع، وقد اقر الرسول (صلى الله عليه وآله) معاذاً وامتدحه في قضائه في مثل هذه الحالات كما ذكرنا على تقدير صحة الحديث.
ومهما كان الحال، فالاجتهاد الذي شاع بين فقهاء التابعين وامتازوا به عن فقهاء الصحابة، لم يكن خارجاً عن فلك القرآن والسنة، وإنما كان في فهمهما، وتطبيق الكليات على ما تجدد من الحوادث التي لم يكن شيء منها في الغالب يشبه ما كان في عصر التشريع وما بعده من فجر عصر الصحابة وقد يتعداهما إلى القياس وغيره. وليس السبب فيه ما يدعيه المستشرق (جولد شيهر) من أن الإسلام لم يأت إلى العالم بطريقة كاملة، وان القرآن نفسه لم يعط من الأحكام إلاّ القليل، ولا يمكن أن تكون أحكامه شاملة لهذه العلاقات غير المنتظرة كلها، مما جاء عن الفتوح، وانه كان مقصوراً على حالات العرب الساذجة ومعنياتها، بحيث لا يكفي لتلك الأوضاع الجديدة التي نجمت عن الفتوح.
ومن ذلك ينتهي إلى أن الاجتهاد كان مما لا بد منه. وعلى أساسه تطور الفقه، وشاع العمل بالرأي بين الفقهاء.
ولا بد لنا من الوقوف معه حول هذا الرأي وعلى الأخص عند قوله: أحكام الإسلام كانت مقصورة على حالات العرب الساذجة.
فالناظر في أدلة التشريع، سواء في ذلك ما ورد منها في العبادات، أو معاملات، أو الأحوال الشخصية والجنائية وغيرها يرى القرآن لم يتوجه في تلك الخطابات إلى طبقة خاصة، أو صنف من أصناف الإنسان، في عصر من العصور؛ بل توجه بما فيه من تشريع وغيره إلى العالم كله بطريقة كاملة. جمعت بين الدنيا والدين، وهو كغيره من بقية القوانين، جاء بشكل نظام كلي وشامل، وترك التفاصيل للقائمين على الدين والمشرفين على تنفيذه وتطبيقه. ومن ثمّ كان هذا القانون الإلهي قابلاً للتطبيق في كل حال وزمان، إذا عرف القائمون عليه كيف يستوحون أحكامه وأسراره. وهل يكون القرآن مقصوراً على حياة العرب الساذجة، على حد زعم المستشرق (جولد شيهر)، مع أنه يؤكد في أكثر من آية أن الرسول كان إلى الناس كافة، من غير فرق بين العرب وغيرهم، ولا بين الأبيض والأسود، وأنه خاتم الأنبياء ورسالته خاتمة الرسالات المنزلة من السماء؟ وكيف يكون النبي رسولاً إلى الناس كافة، كما جاء في آيات القرآن، وشريعته مقصورة على الحياة البسيطة الساذجة، التي كان يحيياها عرب البادية في عصره. وما الفائدة من إرساله إلى الناس كافة، إذا لم تكن شريعته لجميع الناس، ولم يعالج مشاكل الناس كافة.
ويبدو أن الكاتب في آرائه حول الشريعة الإسلامية يحاول الدس وتشويه الحقائق وإظهار التشريع الإسلامي على غير واقعه.
إن الكاتب يريد أن يقول للمسلمين، بوحي من أسياده المستعمرين، أن شريعتكم لا تكفي لحل مشاكلكم، فعليكم بغيرها من القوانين، التي تضمن لكم السعادة والعيش الهنيء، في ظل الاستعمار والصهيونية؛ وان قرآنكم لم يعالج سوى مشاكل العرب الساذجة، الذين كانوا في عصر نبيكم. أما مشاكل الحياة التي تتطور يوماً بعد يوم، والتي لا بد لها من حلول تضمن للإنسان الخير والهدوء، فاطلبوها من غير القرآن ـ واهجروه فانه لا يغني عنكم شيئاً.
ومهما كان الحال، فالاجتهاد في عصر التابعين، مما تستدعيه الحاجة، وتقتضيه طبيعة ذلك العصر. ومما لا شك فيه أن الدواعي إليه في بعض الأقطار الإسلامية، كان أكثر منها في البعض الأخر.
ويمكن تلخيص الأسباب التي من أجلها شاع الاجتهاد والرأي بين فقهاء التابعين، وامتازوا بها على من تقدم من فقهاء الصحابة، بالأسباب التالية:
أولاً: كثرة النوازل والحوادث الناتجة عن انبثاق فجر جديد للإسلام، بعد أن تعدى حدود البلاد العربية، التي انبثق فجره بها إلى تلك البلاد التي تختلف أشد الاختلاف، في عاداتها وتقاليدها وجميع شؤونها الاقتصادية والاجتماعية، فأدى ذلك حتماً إلى الاختلاف في جميع أسباب الحياة وشؤونها، وكان من آثار ذلك أن تجددت لسكان تلك البلاد حوادث لم تكن في الغالب تشبه ما كان في عصر الرسول وصحابته، وكان من المفروض على الفقهاء أن يعلّموا الناس الأحكام، ويفقّهوا الناس في الدين، حسبما تقتضيه الحاجة. وفي مثل ذلك لا بد من الاجتهاد في فهم النصوص الإسلامية وتطبيقها على الحوادث التي تقتضيها أوضاع تلك البلاد وأعرافها الخاصة. وقد تدعوا الحاجة إلى الحكم بالرأي أحياناً، فيما إذا لم تتوفر النصوص، أو كانت محاطة بما يوجب عدم الوثوق بها، أو عدم الاطمئنان لدلالتها.
ثانياً: كثرة الكذب في الحديث، بعد أن فسح الأمويون المجال لفئة من الدخلاء على الإسلام وقربوهم، لأغراض سياسية، حتّى وضعوا آلاف الأحاديث في الحلال والحرام وغيرهما، بين الأحاديث الصحيحة. فلم يعد بالإمكان تصديق كل ما يروى عن الرسول، بعد أن وصل الحديث إلى التابعين، وفيه الصحيح والمكذوب. وكان من نتيجة ذلك أن كثيراً من الأحاديث، كانت محلاً للريب والشبهة بنظر الفقهاء المتفرقين في الأمصار. واقتضى ذلك عدم الأخذ بها والاعتماد على الاجتهاد والرأي أحياناً.
ومجمل القول في ذلك: أن كثرة الأحاديث الموضوعة، وانتشارها بين الأحاديث الصحيحة، دعى الكثير من الفقهاء في عصر التابعين، إلى ترك بعض الأحاديث لعدم الوثوق بصحتها، والحكم بالرأي في بعض الحوادث، عند من لا يثق بالحديث المروي في ذلك الحادث. وقد يكون الحديث الواحد، موثوقاً به عند فقيه ومتروكاً عند آخر. ولذا فإن فقهاء الحجاز قد اشتهروا بالحديث، لأنهم كانوا أعرف بالحديث الصحيح من غيرهم؛ واشتهر غيرهم بالرأي، لعدم وثوقهم بكل ما وصل إليهم من الأحاديث المروية عن الرسول.
وكان ممن اشتهر بذلك فقهاء الكوفة، وأشهرهم بهذه الصفة إبراهيم بن يزيد النخعي، وهو من حواري علي بن الحسين (عليهما السلام)، على رواية الشيخ الطوسي في رجاله.
ثالثاً: اتصال العرب الغزاة بغيرهم من العناصر الأجنبية، التي دخلت الإسلام، وكانت تعتمد على الفكر أكثر من اعتمادها على الحفظ الذي اعتمده العرب في الأدب والفقه والحديث وجميع شؤونهم. ومن بين هؤلاء الذين دخلوا الإسلام نبغ فريق منهم في الفقه والحديث، عرفوا بالموالي، كانوا قد أخذوه من الصحابة وتلامذتهم. وأصبح في كل حاضرة إسلامية فقيه منهم، يرجع إليه الكثيرون من الناس في أحكام دينهم.
قال مصطفى عبد الرزاق: (لقد انتقل الفقه، بعد موت العبادلة في جميع البلدان إلى الموالي، فكان فقيه مكة عطاء بن رياح: وفقيه أهل اليمن طاووس، وفقيه أهل اليمامة يحيى بن كثير، وفقيه أهل الكوفة إبراهيم، وفقيه أهل البصرة الحسن، وفقيه أهل الشام مكحول، وفقيه أهل خراسان عطاء؛ إلاّ المدينة، فكان فقيهها سعيد بن المسيب).
وكان لتلك البلاد التي خضعت لعلم الإسلام حظ من العلم والحضارة، بينما كانت الأمية تغلب على العرب. ولذلك غلب على جماعة من الصحابة وصف (القراء)، لأنهم كانوا يقرؤون القرآن، ويكتبون بين أمة أمية، لا تقرأ ولا تكتب.
ونتج من اتساع الإسلام وانتقال الفقه إلى التابعين، من العرب وغيرهم، الذين انتشروا في البلاد، لتعليم الأحكام، وألفوا حياتها وأساليبها، في البحث والمحاكمة بين محتملات الأدلة، أن نهجوا منهجاً جديداً في التوصل إلى الأحكام، فبحثوا عن العلل والأسباب والمصالح والمفاسد، بطريقة لم تكن معروفة في زمن الصحابة، ولم تدع الحاجة إليها. وقد أدى هذا الأسلوب إلى اختلاف آرائهم في الفقه، وكثر الخلاف بينهم في الفروع، فكان ذلك من أسباب اشتهارهم بالرأي؛ بينما اشتهر فقهاء الحجاز بالحديث، لان الجو الذي عاشوا فيه، لم يفرض عليهم أن ينهجوا في البحث عن النصوص طريق التابعين. كما وأن قربهم من عصر الرسول واشتهار أحاديثه بينهم ومعرفتهم الكاملة بأحوال رواتها عنه، سهّل لهم معرفة الصحيح واستفادة الأحكام منها.
والرأي الذي شاع في عصر التابعين ليس هو غير الإفتاء بما يراه الفقيه، بعد اليأس عن الدليل، من كتاب أو سنة صحيحة، وهو الذي أقره الرسول (صلى الله عليه وآله) في حديث معاذ بن جبل وامتدحه عليه. وهذا غير القياس، الذي وضع نواته عمر بن الخطاب، في وثيقته إلى أبي موسى الأشعري، واشتهر به الأحناف وأيده المالكية وغيرهم. ولا نعني بذلك أنه لم يكن بين فقهاء التابعين من يتخذ القياس دليلاً في الأحكام، وإنما المقصود أن العمل بالرأي أحياناً إذا تعذر على الفقيه أخذ الحكم من الكتاب والسنة، قد أقره الإسلام ما لم يتعارض مع النصوص القرآنية والنبوية، وليس فيما أقره الإسلام إشارة إلى القياس من قريب أو بعيد مع العلم بأنه قد شاع بين بعض الصحابة بعد وفاة الرسول. ومهما كان الحال فقد اشتهر فقهاء الحجاز بالحديث وفقهاء العراق بالرأي؛ ولكن ذلك لا يعني أن فقه الحجاز كله مستند إلى حديث، وفقه العراق وغيرها مستند إلى الرأي. والشيء الثابت أنه كان حتّى فقهاء الحجاز من يفتي برأيه أحياناً، إذا لم تتوفر إليه النصوص من الكتاب أو السنة.
قال الأستاذ الشيخ محمّد أبو زهرة: (والرأي كان مأخوذاً به في المدينة وسائر مدن الحجاز. وقد رأينا الفقهاء السبعة الذين مثلوا الفقه المدني أصدق تمثيل، كان كبيرهم ابن المسيب، لا يهاب الفتيا، حتّى لقب بالجريء؛ ولا يجرؤ على الإكثار من الإفتاء، من لا يجرؤ على الرأي، ولا يوصف بالجريء في الفتيا من يقف عند النص أو الأثر لا يعدوه. بل يوصف بالجريء من يسير في دائرة المأثور، ويكثر من التخريج عليه والسير على منهاجه، وليس ذلك إلاّ الرأي).
قال عنه في موضع آخر من كتابه: (وكان سعيد بن المسيب كثير الإفتاء بالرأي). وكانن عمر بن الخطاب يفتي برأيه أحياناً ويعمل بالقياس، تمشياً مع المصلحة التي يراها، حتّى ولو خالف النصوص القرآنية والنبوية. ولا شك بأن جماعة من الفقهاء في الحجاز قد أخذوا من قضائه وفقهه ونهجوا على طريقته في الفقه والقضاء.
ومهما يكن الحال، فالإفتاء بالرأي، المرادف للاجتهاد، لا بد منه للفقيه في النصوص وفيما لا نص فيه، بعد الفحص والاطمئنان إلى الواقع.
ومجمل القول: أن الإفتاء بالرأي، فيما إذا لم يكن لدى المفتين دليل من كتاب أو سنة، أو كان لديه ما يفيد الحكم منهما، ولكنه لم يكن نصاً فيه بأن كان يحتمله ويحتمل غيره، فإعمال الرأي في مثل ذلك للتوصل إلى الواقع، ليس بالبعيد أن يكون قد نشأ في التشريع الإسلامي منذ بدأ المسلمون يأخذون الأحكام من الكتاب والحديث. وقد شاع ذلك بين الصحابة وفقهاء الحجاز، الذين اشتهروا بعد ذلك بالحديث، لوفرة حظهم منه؛ كما اشتهر فقهاء العراق وغيرهم بالرأي للأسباب التي ذكرناها والرأي بهذا المعنى، لا بد للفقيه من اللجوء إليه، بعد أن كان الفقه الإسلامي مستمداً من هذين الأصلين الكريمين.
أما الرأي يرادف القياس، والذي غالى به بعض أنصاره، فعارض به السنة وخصص به القرآن، فلم يكن شائعاً بين فقهاء العراق، وبالأخص فقهاء الشيعة منهم، الذين تزعموا تدريس الفقه والإفتاء في عصرهم، كإبراهيم بن يزيد النخعي وعلقمة بن قيس وأمثالهما.
فالإفتاء بالرأي في مثل هذه الحالات، في مقابل الإمساك عن الفتوى كما كان الحال بالنسبة إلى بعض من عاصرهم من الفقهاء. ويؤيد ذلك ما ذكره الخضري في (تاريخ التشريع الإسلامي) ومصطفى عبد الرزاق في (تمهيد لتاريخ الفلسفة).
إن الفقيه الشعبي، المعاصر لإبراهيم بن يزيد النخعي، كان إذا عرضت له الفتيا، ولم يجد فيها نصاً، انقبض عن الفتوى بينما كان إبراهيم وغيره يفتون حسب اجتهادهم.