التوسّل : موسّع
بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ حياةَ البَشَر قائمةٌ على أساس الاستفادة من الوسائل الطبيعيّة والإستعانة بالأسباب، التي لِكلّ واحدٍ منها أثرٌ خاصٌ.
فَكُلُّنا عندما نعطش نشربُ الماء، وعندما نجوعُ نأكلُ الطعام، وعندما نريد الانتقالَ من مكانٍ إلى آخر نستخدم وسائلَ النَقل، وعندما نريد إيصال صوتنا إلى مكانٍ نستخدم الهاتفَ، لأنّ رفعَ الحاجة عن طريق الوسائل الطبيعيّة - بشرط أن لا نعتقد بإستقلالها في التأثير - هو عينُ «التوحيد» ومن صميمه.
فالقرآنُ الكريمُ وهو يُذكّرُنا بقصّة ذي القرنين في بنائه للسدِّ يُخبرُنا كيف طلب العونَ والمعونة من النّاس إذ قال: «فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً»«1».
وإنّ الذين يُفسّرُون الشركَ بالتعلُّق والتوسُّل بغير الله، إنَّما يصحُّ كلامُهم هذا إذا اعتقد الإنسانُ بتأثيرِ الوسائل والأسباب على نحوِ الإستقلال والأصالةِ.
وأمّا إذا اعتقد بأنَّها تؤثّر بإذن الله فإنّه سينتهي حينئذ إلى نتيجةٍ لا تُخرِجُه عَن مسيرِ التوحيد.
ولقد قامَت حياةُ البشرية من أوّل يوم على هذا الأساس والقاعدة أي على الاستفادة من الوسائل والوسائط الموجودة، ولم يزل يتقدم في هذا السبيل.
والظاهر أنّ التَوَسُّل بالأسباب والوسائلِ الطبيعيّة لِيس مَحَطّاً للمناقشة والبحث، إنّما الكلام هو في الأسباب غير الطبيعيّة التي لا يعرفها البَشرُ، ولا سبيلَ له إليها إلّا عن طريق الوحي.
فإذا وُصِفَ شيءٌ في الكتاب والسُّنة بالوسِيلِيَّةِ كانَ حكمُ التوسّل به نظير حكم التوسّلِ بالأُمور الطبيعيّة.
وعلى هذا الأساس فإنّنا إنّما يجوز لنا التوسل بالأسباب غير الطبيعيّة إذا لاحَظنا مطلبين:
1. إذا ثَبَتَ كونُ ذلك الشيء «وسيلةً» لنيل المقاصد الدنيويّة أو الأُخروية بالكتاب أو السنة.
2. إذا لم نعتقد بأيّة أصالةٍ أو استقلال للوسائل والأَسباب، بل اعتبرنا تأثيرها منوطاً بالإذنِ الإلهي والمشيئةِ الإلهيّة.
إنّ القرآنَ الكريمَ يدعونا إلى الإستفادة من الوسائل المعنوية إذ يقول:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِليْهِ الوَسِيلَةَ وجاهِدُوا فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»«1».
هذا ويجب الإنتباهُ إلى أنّ «الوسيلة» لا تعني (التقرُّب) بل تعني الشيء الذي يوجب التقرّبَ إلى الله، وأحَد هذه الطرق هو الجهادُ في سبيل الله الذي ذُكِرَ في الآية الحاضِرة كما يمكن أن تكون أشياء أُخرى وسيلة للتقرّب أيضاً«2».
التوسُّل بأسماء الله الحسنى ودعاء الصالحين
ثَبَت في الأصلِ السابقِ أنّ التوسّلَ بالأسباب الطبيعيّة، وغير الطبيعيّة (بشرط أن لا تُصبَغ بصبغة الأصالة ولا يعتقد فيها بالإستقلال في التأثير) عينُ التوحيد، ولاشك في أنّ القيام بالواجباتِ والمستحبّاتِ، كالصَّلاة والصَّوم والزَّكاة والجِهاد في سبيل الله وغير ذلك وسائل معنويّة تُوصِل الإنسان إلى المقصد الأسمى، ألا وهو التقرّبُ إلى الله تعالى.
فالإنسان في ظلّ هذه الأعمال يجد حقيقة العبوديَّة، ويتقرّب في المآل إلى الله تعالى.
ولكن يجب الإنتباهُ إلى أنّ الوسائل غير الطبيعيّة لا تنحصر في الإتيان بالأعمالِ العبادِيّةِ، بل هناك سلسلة من الوسائل ذكرَت في الكتابِ والسُّنةِ يستعقبُ التوَسلُ بها استجابةَ الدعاءِ، نذكر بعضَها فيما يأتي:
1. التوسُّل بالأسماء والصّفات الإلهيَّة الحُسنى التي ورَدَت في الكتاب العزيز، والسُّنة الشريفة، إذ يقول سبحانه:«وَللهِ الأسْماءُ الحُسْنى فادْعُوهُ بِها»«3».
ولقد وَرَدَ التوسُّل بالأسماء والصفات الإلهيّة في الأدعية الإسلامية كثيراً.
2. إن التوسُّل بأدعية الصالحين، والذين يكون أفضلُ أنواعه: التوسّلُ بالأنبياء والأولياء المقرّبين إلى الله، لِيَدعو للإنسان في محضر ذي الجلال.
إنّ القرآنَ الكريمَ يحثُّ الذين ظَلَموا أنْفُسَهم (أي العُصاة) إلى أن يذهَبوا إلى رسولِ الله (صلى الله عليه و آله و سلم) ويطلبوا منه أن يَستغفِرَ لهم، إلى جانب استغفارِهم هم بأنفسِهم، ويبشِّرُهم بأنّهم سيجدون الله توّاباً رحيماً:«وَلوْ أنّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ جاءُوك فَاْستغَفُروا اللهَ واْسَتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لوجَدُوا اللهَ توّاباً رَحِيماً»«4».
ويَذمُّ في آية أُخرى المنافقين، بأنّهم كلّما دُعوا إلى الذهاب إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) لِيَستغفر لهم أعرَضوا عن ذلك إذ يقول:
«وَإذا قِيْلَ لَهُمْ تعالَوْا يَسْتغْفِرْ لَكُمْ رسُوْلُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيتهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتكْبرُون»«5».
ويُستفاد من بعض الآيات أنّه كان مثل هذا العَمَل جارياً ورائجاً في الأُمم السابقة.
وللمثال: طلبَ أبناءُ يعقوب من أبيهم أن يستغفرَ لهم، واستجاب لهم أبوهم يعقوبُ (عليه السلام) ووعدهم بذلك:
«يا أبانا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إنا كُنّا خاطِئِين* قال سَوْفَ أسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَبِّي إنّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحيمُ»«6».
ومن الممكن أنْ يُقال أنّ التوسُّل بدعاء الصالحين يكون في صورةٍ خاصّة عين التوحيد (أو على الأقلّ مفيداً ومؤثراً) وهي إذا كان من نتوسّلُ به على قيد الحياة.
أمّا إذا ماتَ الأنبياء والأولياء فكيفَ يكونُ التوسُّل بهم مُفيداً وعين التوحيد؟
في الجواب على هذا الإشكال لابدّ من التذكير بنقطتين:
ألف: إذا افترَضْنا أنّ التوسُّل بالنَبي أو الوليّ مشروطٌ بكونهم على قيد الحياة، ففي هذه الصورة يكون التوسُّل بالأنبياء والأولياء الإلهيّين بعد الموت مجرّد عملٍ غيرِ مفيد، لا أنّه يكون موجباً للشرك.
وقد غُفِلَ عن هذه النقطة الهامّة في الغالب، وتَصوّر البعض أنّ الموتَ والحياةَ رمزُ التوحيد والشرك! مع أنّ هذا الشرط (أي حياة النبيّ أو الولي عند توسُّلِ الآخرين به) ملاكٌ لكون التوسّل مفيداً أو غير مفيدٍ، لا أنّه «ملاكٌ» لكون التوسُّلِ عَمَلًا توحِيديّاً أو شِركيّاً.
ب: إنّ تأثيرَ التوسّل وكونَه مفيداً يُشترط فيه أمران:
1. أن يكونَ الفردُ المتوسَّلُ به مُتصِفاً بالعلم والشعور والقدرة.
2. أن يكونَ بين المتوسّلِ، والمتوسَّل به ارتباط واتصال وكلا هذين الشرطين (الإدراك والشعور ووجود الارتباط بينهم وبين المتوسَّل بهم) موجودان في التوسّلِ بالأنبياء، وإن فارقت أرواحُهم أجسْادَهم وذلك ثابت بالأدلة العقلية والنقلية الواضحة.
إنَّ وجودَ الحياة البرَزَخيّة من المسائل القرآنيّةِ والحديثيّةِ المسلّمة الضَّرُوريّة.
فإذا كانَ الشهداء الّذين قُتلُوا في سبيلِ الحقِّ أحياءً حسب تصَريح القرآن الكريم، فأولى أن يكون أنبياء الشهداء والأولياء المقرّبون أحياءً عند ربّهم - خاصة وانّ أكثرهم قد استشهد في سبيل الله - أيضاً بحياة أعلى وأفضل.
ثم إنّ هناكَ أدلةً كثيرةً على وجود الارتباط بيننا وبين الأولياء الإلهيين نذكر بعضَها:
1. إنّ جميع المسلمين يقولون في نهاية الصَلاة مخاطِبين رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله و سلم) : «السَّلامُ عَليكَ أيُّها النبيُّ ورحمةُ اللَّهِ وَبَرَكاتهُ».
فهل هم يقولون ما يقولونه لغواً وعبثاً؟ وهل النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) لا يسمع كلّ هذه التحيات وكل هذا السلام ولا يردّ عليها؟!!
2. إنّ النبيَ الأكرم أَمَر- في معركة بدر - بأن تلقى أجسادُ المشركين في بئر (قليب) ثم وَقَفَ يُخاطبهم قائلًا: لَقَد وَجَدْنا ما وَعَدنا ربُّنا حقاً، فهل وَجَدتُم ما وَعَدَكم ربُّكم حَقاً؟
فقال أحدُ أصحاب النبي (صلى الله عليه و آله و سلم): يا رسولَ اللَّه أتكلم الموتى؟!فقالَ النبيُ (صلى الله عليه و آله و سلم): «ما أنْتُمْ بأسَمعَ مِنْهُمْ»«7».
3. لقد ذَهَبَ رسولُ اللَّه (صلى الله عليه و آله و سلم) إلى البقيع مراراً وقال مخاطباً أَرواح الراقدين في القبور والأجداث: «السَلامُ على أهلِ الدّيار مِن المؤمِنين والمؤمِنات».
وفي رواية كان يقولُ: «السلامُ عليكمْ دارَ قومٍ مؤمِنين»«8».
4. روى البخاريُ في صحيحهِ أنّه لما تُوفّي النبيُ (صلى الله عليه و آله و سلم) دخل أ بو بكر حجرة عائشة ثم ذهبَ إلى حيث سُجِّيَ رسولُ اللَّهِ (صلى الله عليه و آله و سلم) فكَشَفَ عن وجهِ رسولِ الله (صلى الله عليه و آله و سلم) وقَبَّلهُ ثم قال وهو يَبكي:
بأَبي أنتَ يا نبيَّ الله؛ لا يجمعُ اللهُ عليكَ موتَتَين أمّا الموتة الأُولى التي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فقد متّها«9».
وإذا لم يكن لرسول اللَّه (صلى الله عليه و آله و سلم) حياةٌ برزخيّةٌ، ولم يكن بينه وبيننا أيُّ ارتباط فكيف خاطَبَه أبو بكر قائِلًا: يا نبيّ الله؟!
5. عندما كان الإمامُ عليٌ (عليه السلام) يغسّل رسولَ اللهِ (صلى الله عليه و آله و سلم) ويجهّزه قال: انقطَعَ بموتِكَ ما لمْ يَنْقَطِعْ بموتِ غَيْرِك مِن النُبوَّة والإنْباءِ، وأخبارِ السماء بأبي أنَت وأُمّي اذكُرْنا عند ربِّكَ واجْعَلْنا مِن بالِكَ«10».
وفي الختام نُذَكّرُ بأنّ للتَوَسُّلِ بالأنبياء والأولياء صُوَراً مختلِفةً جاء شرحُها في كُتُبِ العَقائد.
__________
(1) الكهف/ 95
(2) المائدة/ 3
(3) قال الراغبُ الإصفهاني في مفرداته( في مادة وسل): الوَسيلة التوصّلُ إلى الشيء برغبة، وحقيقةُ الوسيلة إلى الله سبيلُه بالعلمِ والعِبادة وتحرّي مكارم الشريعة
(4) الأعراف/ 180
(5) النساء/ 64
(6) المنافقون/ 5
(7) يوسف/ 97- 98
(8) صحيح البخاري، ج 5، باب قتل أبي جهل؛ والسيرة النبويّة لابن هشام: 2/ 292 وغير
(9) صحيح مسلم، ج 2، باب ما يقال عند دخول القب
(10) نهج البلاغة قسم الخطب، الرقم 235