اضطهاد الخلافة القرشية لعترة النبي (عليه الصلاة والسلام) !
النبي اضطهاد الخلافة القرشية لعترة (صلى الله عليه وآله وسلم)
علياً (عليه السلام) وشيعته بمجرد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
كان علي (عليه السلام) وبنو هاشم مشغولين بجنازة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأسرع أبو بكر وعمر وأبو عبيدة واثنان من الأوس، وصفقوا على يد أبي بكر ليكون خليفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأدان علي (عليه السلام) وبنو هاشم وشيعتهم هذا التصرف، واجتمعوا في بيت علي، فأعلن طلقاء قريش تأييد هم لأبي بكر، وقاموا قبل دفن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمهاجمة بني هاشم وأنصارهم وهددوهم أن يحرقوا البيت عليهم إن لم يبايعوا!
وقد اضطر علي (عليه السلام) للسكوت تنفيذاً لوصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يتحمل ظلمهم له ويصبر، من أجل مصلحة الإسلام العليا.
ونكتفي من الأحداث الكثيرة التي وقعت أيام وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) برواية ابن قتيبة وهو من أئمة السنة، قال في كتابه: الإمامة والسياسة:1/19:
« إن أبا بكر رضي الله عنه تفقد قوماً تخلفوا عن بيعته عند علي كرم الله وجهه، فبعث إليهم عمر رضي الله عنه فجاء فناداهم وهم في دار علي، فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لأحرقنها على من فيها! فقيل له: يا أبا حفص إن فيها فاطمة! فقال وإن! فخرجوا فبايعوا إلا علياً فإنه زعم أنه قال: حلفت أن لا أخرج ولا أضع ثوبي على عاتقي حتى أجمع القرآن، فوقفت فاطمة رضي الله عنها على بابها، فقالت: لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضراً منكم! تركتم رسول الله جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا ولم تردوا لنا حقنا!
فأتى عمر أبا بكر فقال له: ألا تأخذ هذا المتخلف عنك بالبيعة؟ فقال أبو بكر لقنفد وهو مولى له: إذهب فادع لي علياً، قال فذهب إلى علي فقال له: ما حاجتك؟ فقال يدعوك خليفة رسول الله ، فقال علي: لسريع ما كذبتم على رسول الله ! فرجع فأبلغ الرسالة، قال فبكى أبو بكر طويلاً! فقال عمر الثانية: لا تمهل هذا المتخلف عنك بالبيعة! فقال أبو بكر لقنفد: عد إليه فقل له: خليفة رسول الله يدعوك لتبايع، فجاءه قنفد فأدى ما أمر به، فرفع عليٌّ صوته فقال: سبحان الله لقد ادعى ما ليس له, فرجع قنفد فأبلغ الرسالة فبكى أبو بكر طويلاً!
ثم قام عمر فمشى معه جماعة، حتى أتوا باب فاطمة فدقوا الباب فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها: يا أبت يا رسول الله ، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة! فلما سمع القوم صوتها وبكاءها، انصرفوا باكين وكادت قلوبهم تنصدع وأكبادهم تنفطر! وبقي عمر ومعه قوم، فأخرجوا علياً فمضوا به إلى أبي بكر فقالوا له: بايع، فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا: إذا والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك، فقال: إذا تقتلون عبداً لله وأخاً رسوله! قال عمر: أما عبد الله فنعم وأما أخو رسوله فلا، وأبو بكر ساكت لا يتكلم، فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك! فقال: لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه! فلحق علي بقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يصيح ويبكي وينادي: ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي!».
2- تخاذل الأنصار عن نصرة علي (عليه السلام)
بعد فتح مكة قررت قريش أن تعزز قوتها في المدينة، فأمرت الطلقاء بالهجرة اليها، ليكونوا سنداً لقائد قريش الجديد عمر بن الخطاب ويبادروا عند موت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأخذ الخلافة! وقد بلغ عددهم في المدينة ألوفاً لأن عدد الذين كتب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أسماءهم في جيش أسامة سبع مئة قرشي! (فتح الباري:8/116)
وعندما جاؤوا الى المدينة سموا أنفسهم مهاجرين فأعلن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «لا هجرة بعد الفتح» (مسند أحمد:2/215)!
ونشطوا في الدعاية ضد علي وبني هاشم، حتى غضب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مقولاتهم وصعد المنبر وردها، أكثر من مرة!
واستغل الطلقاء العداوة بين الأوس والخزرج. فقد كان الأوس عند وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا رئيس، ولما رأى رئيس الخزرج سعد بن عبادة أن قريشاً ستصرف الخلافة عن عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، طمع فيها وأخذ يُقنع الأوس بأن يبايعوه، وكانت حجته أن الأنصار أولى من قريش بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن قريشاً عادوه ونصره الأنصار وقاتلوهم وقدموا الشهداء حتى أخضعوهم وأدخلوهم في الإسلام.
لكن الطلقاء أقنعوا الأوس وخوفوهم من حكم الخزرج، فوقف اثنان منهم الى جانبهم في السقيفة وصفقوا معهم على يد أبي بكر، وساعدهم أن سعد بن عبادة كان يومها مريضاً، فلم يكن اعتراضه عليهم قوياً!
وبقي سعد ومعه الخزرج معارضاً لبيعة أبي بكر وعمر، لكن اعتراضهم لم يكن مؤثراً، وعندما تولى عمر نفى سعداً الى سوريا، ثم أرسل خالداً فقتله!
وبعد أن هاجموا دار علي (عليه السلام) وأجبروه وأنصاره على بيعة أبي بكر، حمل علي فاطمة (عليها السلام) على دابة وكانت مريضة لأنها أسقطت جنينها في حادثة هجومهم، وأخذ معه ابنيه الحسن والحسين (عليهما السلام)، وقصد بيوت كبار الأنصار، وطالبهم هو وفاطمة ببيعتهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة على أن يحموا أهل بيته وذريته كما يحمون أنفسهم وذراريهم، ولا ينازعوا الأمر أهله! فتأثروا بكلامهما ووعدوهما النصرة، لكنهم خافوا من قريش، ولم يتحركوا تحركاً مؤثراً.
وقد وصف أمير المؤمنين (عليه السلام) موقفه فقال: « أخبرني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما الأمة صانعة بي بعده، فلم أك بما صنعوا حين عاينته بأعلم مني، ولا أشد يقيناً مني به قبل ذلك، بل أنا بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أشد يقيناً مني بما عاينت وشهدت! فقلت يا رسول الله فما تعهد إليَّ إذا كان ذلك؟ قال: إن وجدت أعواناً فانبذ إليهم وجاهدهم، وإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك واحقن دمك، حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنتي أعواناً!
وأخبرني (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الأمة ستخذلني وتبايع غيري وتتبع غيري، وأخبرني أني منه بمنزلة هارون من موسى، وأن الأمة سيصيرون من بعده بمنزلة هارون ومن تبعه والعجل ومن تبعه... إن موسى أمر هارون حين استخلفه عليهم إن ضلوا فوجد أعواناً أن يجاهدهم، وإن لم يجد أعواناً أن يكف يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم. وإني خشيت أن يقول لي ذلك أخي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لم فرقت بين الأمة ولم ترقب قولي، وقد عهدت إليك إن لم تجد أعواناً أن تكف يدك وتحقن دمك ودم أهل بيتك وشيعتك...
فلما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مال الناس إلى أبي بكر فبايعوه وأنا مشغول برسول الله بغسله ودفنه. ثم شغلت بالقرآن، فآليت على نفسي أن لا أرتدي إلا للصلاة حتى أجمعه في كتاب، ففعلت.
ثم حملت فاطمة وأخذت بيد ابنيَّ الحسن والحسين، فلم أدع أحداً من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلا ناشدتهم الله في حقي ودعوتهم إلى نصرتي، فلم يستجب لي من جميع الناس إلا أربعة رهط: سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير، ولم يكن معي أحد من أهل بيتي أصول به ولا أقوى به».
وقال (عليه السلام) : «وأيم الله ، لولا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن يعود الكفر ويبور الدين، لكنا على غير ما كنا لهم عليه».
وقال (عليه السلام) : إن الله لما قبض نبيه استأثرت علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم، والناس حديثوا عهد بالإسلام، والدين يمخض مخض الوَطَب، يفسده أدنى وهْن، ويعكسه أدنى خَلف». (البحار:32/62).
3- خطة عمر لعزل بني هاشم حتى بعد وفاته!
قال المحامي الأردني أحمد حسين يعقوب في كتابه: الخطط السياسية لتوحيد الأمة الإسلامية/262، ملخصاً: «أدركت بطون قريش ما يرمي له محمد، وفهمت توجه الترتيبات الإلهية، وأنه صار بحكم المؤكد أن قيادة عصر ما بعد النبوة ستكون في بني هاشم، وبالتحديد في علي الذي قتل الأحبة والسادات، ومن بعد علي ستكون في بنيه، فمن يتقدم عليهم وهم أبناء الرسول، ومن يحاربهم وهم ناصية بني هاشم، ومن يرفض الإنقياد لهم وهم أبناء النبي، وإذا تحققت هذه النوايا والتوجهات، فمعنى ذلك أن الهاشميين قد أخذوا النبوة وأخذوا الخلافة معاً، أو جمعوا ما بين النبوة والخلافة، وبين الدين والملك معاً، وهذا يعني أنهم قد أخذوا الشرف كله، واختصوا بالفخر كله، وحرموا منهما بطون قريش، وتلك والله كارثة برأيهم، الموت خير من مواجهتها أو العيش في ظلالها!
وتفتقت عقلية بطون قريش عن خطة قبلية سياسية مثلى، تجمع بين الصيغة السياسية الجاهلية وبين نظام الإسلام السياسي، وتقوم على خلط الأوراق وإعادة ترتيبها من جديد، تحت إشراف رجالات البطون المسكونة أنفسهم بمرض الصيغة السياسية الجاهلية! لذلك وضعوا مجموعة من الأوراق لمواجهة الترتيبات الإلهية لعصر ما بعد النبوة، والإلتفاف عليها»!
ثم عدد المؤلف أوراق البطون القرشية، ومنها أنهم عصبوا دم ساداتهم الذين قُتلوا في مواجهة قريش للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعلي (عليه السلام)! فهو الذي قتلهم بوصفه حامل راية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كل المواقع، وبوصفه أقوى فرسان الإسلام على الإطلاق.
ثم أوضح كيف قرر زعماء بطون قريش معالجة منظومة الحقوقية الإلهية التي وثقت مكانة أهل البيت (عليهم السلام) بالقرآن الكريم والسنة، فاخترقوا الآيات بالتأويل والتفسير، وتحميل النص عدة معان تضيع المقصود الشرعي منه!
ثم اخترقوا سنة النبي بفروعها الثلاثة: القول والفعل والتقرير، برفع شعار: حسبنا كتاب الله ، بمعنى أن القرآن وحده يكفي ولا حاجة لسنة النبي! بل رفعوا هذا الشعار بمواجهة النبي نفسه عندما أراد أن يكتب وصيته للأمة! رفعه عمر بن الخطاب. وعندما تُوَّج أبو بكر رفعه رسمياً وتم حصر ما يمكن حصره من الأحاديث النبوية المكتوبة وأمر بإحراقها! وكذلك فعل عمر، ومنعا رسمياً رواية السنة أو كتابتها، لأن كتاب الله وحده يكفي!
ولم يكتفوا باختراع مقولة لا يجوز لبني هاشم أن يجمعوا بين النبوة والخلافة حتى قرروا عزلهم سياسياً عزلاً كاملاً! ثم قال: «وعملياً وطوال رئاسة ذلك النفر للأمة لم يصدف أن استعملوا أو استعانوا بأي رجل من آل محمد، ولا بأي رجل يتعاطف مع آل محمد، وذلك من قبيل سد الذرائع!
قال عبد الله بن عباس: إن عمر قد أرسل إليه وقال له: إن عامل حمص قد هلك وكان من أهل الخير، وأهل الخير قليل وقد رجوت أن تكون منهم، وفي نفسي منك شيء لم أره منك وأعياني ذلك فما رأيك بالعمل لي؟ قال ابن عباس فقلت: لن أعمل لك حتى تخبرني بالذي في نفسك؟ قال عمر ما تريد إلى ذلك؟ قال ابن عباس فقلت: أريده فإن كان شيء أخاف منه على نفسي خشيت منه عليها الذي خشيت، وإن كنت بريئاً من مثله علمت أني لست من أهله فقبلت عملك هنالك، فإني قلما رأيتك طلبت شيئاً إلا عاجلته! فقال عمر: يا بن عباس إني خشيت أن تأتي الذي هو آت (الموت) وأنت في عملك فتقول هلم إلينا ولا هلم إليكم دون غيركم!
فمن حرص عمر على مصلحة المسلمين وكراهيته المطلقة لرئاسة آل محمد يريد حتى بعد وفاته أن يتأكد بأنه لا يوجد في ولايات الدولة ولا أعمالها رجل واحد يؤيد حق آل محمد بالرئاسة!
وهو يثق بمعاوية ويثق بكل ولاته لأنه وإياهم على خط واحد، ولهم هدف واحد وهو الحيلولة بين آل محمد وبين الرئاسة العامة للأمة، لأن ذلك النفر لا يرون أنه ليس للأمة مصلحة في رئاسة آل محمد، بل المصلحة كل المصلحة بإبعاد آل محمد عن حقهم برئاسة الأمة، وإبعاد أولياء آل محمد عن الولايات والإمارات والأعمال والوظائف العامة، حتى لا يوطدوا لآل محمد!
لهذه الأسباب هان على ذلك النفر تجاهل سنة الرسول، وكافة الترتيبات الإلهية المتعلقة بنظام الحكم أو بمن يخلف الرسول، وأقنعوا أنفسهم بأن الترتيبات الإلهية التي أعلنها الرسول في هذا المجال ليست في مصلحة الإسلام، ولا في مصلحة المسلمين! ومع الأيام أقنعوا الأكثرية التي حكموها بذلك! إن هذا لهو البلاء المبين!» (راجع للمؤلف نفسه: أين سنة الرسول وماذا فعلوا بها/206).
4- شهادة فاطمة الزهراء (عليها السلام)
قال ابن قتيبة في الامامة والسياسة:1/22:«فقال عمر لأبي بكر رضي الله عنهما: انطلق بنا إلى فاطمة فإنا قد أغضبناها، فانطلقا جميعاً فاستأذنا على فاطمة فلم تأذن لهما، فأتيا علياً فكلماه فأدخلهما عليها، فلما قعدا عندها حوَّلت وجهها إلى الحائط، فسلما عليها فلم ترد عليهما السلام!
فتكلم أبو بكر فقال: يا حبيبة رسول الله ، والله إن قرابة رسول الله أحب إلى من قرابتي، وإنك لأحب إلي من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أني متُّ ولا أبقى بعده، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله ، إلا أني سمعت أباك رسول الله يقول: لا نورث، ما تركنا فهو صدقة. فقالت: أرأيتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله تعرفانه وتفعلان به؟ قالا: نعم. فقالت: نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول: رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟
قالا: نعم سمعناه من رسول الله . قالت: فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه! فقال أبو بكر أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة! ثم انتحب أبو بكر يبكي حتى كادت نفسه أن تزهق وهي تقول: والله لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها!
ثم خرج باكياً فاجتمع إليه الناس فقال لهم: يبيت كل رجل منكم معانقاً حليلته مسروراً بأهله وتركتموني وما أنا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم أقيلوني بيعتي! قالوا: يا خليفة رسول الله إن هذا الأمر لا يستقيم، وأنت أعلمنا بذلك إنه إن كان هذا لم يقم لله دين، فقال: والله لولا ذلك وما أخافه من رخاوة هذه العروة ما بت ليلة ولي في عنق مسلم بيعة، بعدما سمعت ورأيت من فاطمة!
قال: فلم يبايع علي كرم الله وجهه حتى ماتت فاطمة رضي الله عنهما، ولم تمكث بعد أبيها إلا خمساً وسبعين ليلة»!
وفي دلائل الإمامة للطبري/134، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «قبضت فاطمة في جمادى الآخرة يوم الثلاثاء لثلاث خلون منه، سنة إحدى عشر من الهجرة، وكان سبب وفاتها أن قنفذاً مولى الرجل لكزها بنعل السيف بأمره، فأسقطت محسناً ومرضت من ذلك مرضاً شديداً».
وفي مسائل علي بن جعفر/325، عن الإمام الكاظم (عليه السلام) قال: «إن فاطمة (عليها السلام) صدِّيقة شهيدة».
وفي الإحتجاج:1/109: «ثم نادى عمر حتى أسمع علياً: والله لتخرجن ولتبايعن خليفة رسول الله ، أو لأضرمن عليك بيتك ناراً! ثم رجع فقعد إلى أبي بكر وهو يخاف أن يخرج عليٌّ بسيفه لما قد عرف من بأسه وشدته، ثم قال لقنفذ: إن خرج وإلا فاقتحم عليه، فإن امتنع فأضرم عليهم بيتهم ناراً! فانطلق قنفذ فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن، وبادر علي إلى سيفه ليأخذه فسبقوه إليه فتناول بعض سيوفهم فكثروا عليه فضبطوه وألقوا في عنقه حبلاً أسود، وحالت فاطمة بين زوجها وبينهم عند باب البيت، فضربها قنفذ بالسوط على عضدها، فبقي أثره في عضدها من ذلك مثل الدملوج (السوار) من ضرب قنفذ إياها، فأرسل أبو بكر إلى قنفذ: أضربها فألجأها إلى عضادة باب بيتها، فدفعها فكسر ضلعاً من جنبها، وألقت جنيناً من بطنها، فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت من ذلك شهيدة، صلوات الله عليها»!
وروى الشيخ المفيد في الإختصاص/185، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال في حديث: «فرفسها برجله وكانت حاملة بابن اسمه المحسن فأسقطت المحسن من بطنها، ثم لطمها! فكأني أنظر إلى قرط في أذنها حين نُقِفَت (انخرمت) ثم أخذ الكتاب فخرقه، فمضت ومكثت خمسة وسبعين يوماً مريضة مما ضربها عمر، ثم قبضت». راجع: المسترشد/376، ومأساة الزهراء (عليها السلام)، ونظرية عدالة الصحابة/324.
5- أدارة علي (عليه السلام) فتح إيران والشام وفلسطين ومصر
قال (عليه السلام) في كتابه لأهل مصر: «أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) نذيراً للعالمين ومهيمناً على المرسلين، فلما مضى تنازع المسلمون الأمر من بعده، فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أهل بيته، ولا أنهم مُنَحُّوهُ عني من بعده! (يقصد (عليه السلام) أن عملهم كان غير معقول) فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)! فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان كما يزول السراب، أو كما يتقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتَنَهْنَهْ». (نهج البلاغة:3/118).
فقد قام علي (عليه السلام) بتطمين أبي بكر وعمر بأنه لن يثور عليهما، وحثهما على فتح بلاد فارس والروم كما وعد الله بها رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فاطمأنا الى صدقه، ورجعا اليه في الشدائد، وأطلقا يده في إدارة الفتوحات، فقوَّى نفوس القادة والجنود، ووضع الخطط، واختار الفرسان ووجههم، فحققوا انتصارات تاريخية حتى شملت الدولة الإسلامية كل إيران وبلاد الشام ومصر.
لكن الحكومات نسبت تلك الفتوحات الى أبي بكر وعمر وعثمان، وأخفت دور علي (عليه السلام)، فكان يشكو ظلامته ويسجلها للتاريخ فيقول (عليه السلام) : «ولولا أن قريشاً جعلت إسمه (صلى الله عليه وآله وسلم) ذريعة إلى الرياسة، وسلماً إلى العز والأمرة لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً، ولأرتدت في حافرتها، وعاد قارحها جذعاً وبازلها بكراً! ثم فتح الله عليها الفتوح فأثْرت بعد الفاقة، وتمولت بعد الجَهد والمخمصة، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً، وقالت: لولا أنه حق لما كان كذا، ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها وحسن تدبير الأمراء القائمين بها، فتأكد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين، فكنا نحن ممن خمل ذكره وخبت ناره وانقطع صوته وصيته، حتى أكل الدهر علينا وشرب، ومضت السنون والأحقاب بما فيها، ومات كثير ممن يعرف، ونشأ كثير ممن لا يعرف! الله م إنك تعلم أني لم أرد الأمرة، ولا علو الملك والرياسة، وإنما أردت القيام بحدودك والأداء لشرعك، ووضع الأمور في مواضعها وتوفير الحقوق على أهلها، والمضي على منهاج نبيك، وإرشاد الضال إلى أنوار هدايتك» (شرح النهج:20/298).
ومن تلاميذ علي (عليه السلام) القادة الذين اختارهم للفتوحات:
حذيفة بن اليمان، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر، وأبو ذر الغفاري، وخالد بن سعيد بن العاص وأخواه أبان وعمرو، وهاشم بن أبي وقاص المعروف بالمرقال، وأولاده عبد الله وعتبة، وبريدة الأسلمي، وعبادة بن الصامت، وأبو أيوب الأنصاري، وعثمان بن حنيف وإخوته، وعبد الرحمن بن سهل الأنصاري، ومالك بن الحارث الأشتر وإخوته، وعدد من القادة النخعيين، وصعصعة بن صوحان العبدي وإخوته، والأحنف بن قيس، وحجر بن عدي الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وأبو الهيثم بن التيهان، وجعدة بن هبيرة ابن أخت أمير المؤمنين (عليه السلام)، والنعمان بن مقرن، وبديل بن ورقاء الخزاعي، وجرير بن عبد الله البجلي، ومحمد بن أبي حذيفة، وأبو رافع وأولاده، والمقداد بن عمرو، وواثلة بن الأسقع الكناني، والبراء بن عازب، وبلال مؤذن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعبد الله بن خليفة البجلي، وعدي بن حاتم الطائي، وأبو عبيد بن مسعود الثقفي، وجارية بن قدامة السعدي، وأبو الأسود الدؤلي ومحمد بن أبي بكر، والمهاجر بن خالد بن الوليد.. وغيرهم. ولكل واحد من هؤلاء أدوار مهمة عتَّمت عليها الخلافة، وأبرزت أشخاصاً ليس لهم دور أصلاً، أو لهم أدوار شكلية أو ثانوية! (راجع دور علي (عليه السلام) وتلاميذه في الفتوحات للمؤلف).
6- خلافة علي (عليه السلام) والحروب التي شنوها عليه
حكم أبو بكر سنتين ونصفاً ومات مسموماً، وأوصى بعده الى عمر بن الخطاب فحكم عشر سنوات ونصفاً ومات مقتولاً، وأوصى بالخلافة بشكل غير مباشر الى عثمان، حيث جعلها في ستة وأعطى حق النقض لعبد الرحمن بن عوف، ليختار عثمان أخ زوجته. وحكم عثمان اثنتي عشرة سنة، ونقم عليه الصحابة وأهل البصرة وأهل الكوفة وأهل مصر، لتسليطه بني أمية على المسلمين وطلبوا منه تغيير الولاة الأمويين فلم يفعل، فحاصروه وطلبوا منه أن يخلع نفسه فلم يفعل، فقتلوه وحرَّموا دفنه في مقابر المسلمين، وتظاهروا مطالبين علياً (عليه السلام) بأن يقبل بيعتهم بالخلافة فقبل، وبايعوه مختارين غير مجبرين.
وبعد ثلاثة أشهر نكث طلحة والزبير، وخرجوا عليه مع عائشة واحتلوا البصرة، فكانت بينهم حرب الجمل، وانتصر عليهم علي (عليه السلام) وعفا عنهم.
ثم خرج عليه معاوية وتمسك بحكم الشام، فكانت بينهما حرب صفين الصعبة، واتفقوا على تحكيم حكمين فاختلف الحكمان ولم يصلا الى نتيجة! وبقي معاوية مسيطراً على الشام، فانشق الخوارج على علي (عليه السلام) بحجة أنه أخطأ في قبول التحكيم وكفر، وطلبوا منه أن يعترف على نفسه بالكفر ليقاتلوا معه معاوية! وأخذوا يعيثون فساداً في المجتمع، فحاربهم علي (عليه السلام) وانتصر عليهم.
وأخذ يتهيأ لحرب معاوية، فاغتاله الخوارج في مسجد الكوفة وهو يصلي، وكانت خلافته (عليه السلام) نحو خمس سنين ونصفاً.
7- شهادة الإمام الحسن (عليه السلام)
عندما استشهد عليٌّ (عليه السلام) أجمع المهاجرون والأنصار على مبايعة ولده الإمام الحسن (عليه السلام)، فنهض بالحكم وتجهز لحرب معاوية، وتحرك بجيشه الى المدائن، وأرسل اثني عشر ألفاً مقدمة لجيشه باتجاه الشام.
وفي طريقه الى المدائن أحس (عليه السلام) بخيانة بعض قادة جيشه، حيث تعرض لمحاولات اغتيال، فقرر القبول بعرض معاوية الصلح، واتصلت بينهما المراسلات حتى أرسل معاوية صحيفة بيضاء مختومة، ليكتب فيها الإمام ما شاء من شروط، فاشترط عليه شروطاً عديدة، منها أن لا يتسمى بأمير المؤمنين، ولا يَسُبَّ علياً (عليه السلام)، وأن تكون الخلافة بعده للإمام الحسن (عليه السلام)، فإن لم يكن حياً فالإمام الحسين (عليه السلام)، وأن يعوض على قتلى صفين.. الخ.
وتم الإتفاق على الصلح وحضر معاوية الى الكوفة، وبايعه الإمام الحسن (عليه السلام) على الشروط المكتوبة، وعاد الإمام (عليه السلام) وبنو هاشم الى المدينة.
ولم يطل الوقت حتى أظهر معاوية تجبره، وأعلن نقض شروط الصلح، وأنه يضعها تحدت قدمه! وقام بدس السم للإمام الحسن (عليه السلام)، وأجبر المسلمين على بيعة ابنه يزيد من بعده! (راجع جواهر التاريخ للمؤلف).
8- شهادة الإمام الحسين (عليه السلام)
حكم معاوية بعد صلحه مع الإمام الحسن (عليه السلام) نحو عشرين سنة، وفي السنة العاشرة منها قتل الإمام الحسن (عليه السلام)، وأجبر المسلمين على البيعة لولده يزيد!
وعندما هلك معاوية بعث يزيد الى والي المدينة أن يُجبر الإمام الحسين (عليه السلام) وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر، على البيعة له، فإن أبوا أن يقتلهم ويبعث اليه رؤوسهم! فبايعه عبد الله بن عمر، وامتنع الحسين (عليه السلام) وابن الزبير وذهبا الى مكة، فأرسل يزيد مجموعة من شياطينه ليغتالوا الحسين (عليه السلام) عند الكعبة، فقرر الحسين (عليه السلام) إجابة دعوة أهل الكوفة وقصد العراق، وفضل أن يبتعد عن الكعبة حتى لا تستحل به حرمة البيت.
وحاصره جيش يزيد في كربلاء، وطلبوا منه أن يبايع يزيداً فأبى، وقاتلهم حتى استشهد (عليه السلام) مع جميع أهل بيته وأصحابه، في وقعة فجيعة هزت ضمير الأمة كلها! (راجع: مقتل الحسين (عليه السلام) للمقرم وأبو الشهداء للعقاد، وغيرها كثير في الموضوع).
9- هلاك يزيد وتشيُّع ابنه معاوية الثاني (رحمه الله )
سرعان ما هلك يزيد بن معاوية بعد قتله الإمام الحسين (عليه السلام)، ففي السنة الثانية هاجم يزيد المدينة المنورة واستباحها وقتل فيها ألوفاً! ثم غزا مكة وقد تحصن فيها ابن الزبير، فحاصره ورمى الكعبة بالمنجنيق، وأهلكه الله عندما كان جيشه يحاصر مكة، فقد شرد به فرسه في الصيد، ولم يعثروا على جثته!
وقام بعده ولي عهده ابنه معاوية الثاني، وفي خطاب العرش طعن في جده معاوية وأنه غصب الخلافة من علي (عليه السلام)، وطعن بأبيه يزيد لقتله الإمام الحسين (عليه السلام)، وطلب من بني أمية أن يخولوه ليعطي الخلافة الى أهلها، ولم يخبرهم لمن! وكان يريد إعطاءها الى الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام)!
فبايعه بنو أمية وطلبوا منه مهلة ليتداولوا في الأمر. واستمرت مداولاتهم ثلاثة أشهر، حتى قتلو معاوية الثاني بالسم، واختلفوا في مَن يبايعون بعده وبقي منصب الخلافة فارغاً أكثر من سنة، وانتهى صراعهم بأن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان سنة 65هجرية.
10- جهاد الأئمة أبناء الحسين (عليهم السلام)
برز بعد الحسين أبناؤه الأئمة (عليهم السلام) وكان لهم أدوارٌ كبيرة ومؤثرة في الأمة، سواء في تبليغ الإسلام وترسيخ معالمه، أو في مواجهة حكام بني أمية، ثم حكام بني عباس، ومقاومة تحريفهم للإسلام، واضطهادهم للمسلمين.
فقد نهض بهذه المسؤولية الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) وبعده أبناؤه الإمام محمد الباقر، وجعفر الصادق، وموسى الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد الجواد، وعلي الهادي، والحسن العسكري، وهو والد الإمام المهدي الموعود المنتظر (عليهم السلام).
وكان لهؤلاء الأئمة (عليهم السلام) مكانة عظيمة عند الأمة، حتى أنها ثارت على بني أمية وقاتلتهم غضباً لقتلهم الإمام الحسين (عليه السلام)، وسيطر الثوار وهم المختار الثقفي وإبراهيم بن مالك الأشتر، على العراق وإيران، لكن الإمام زين العابدين (عليه السلام) لم يتبن ثورتهم ودولتهم، وشكرهم لطلبهم بثأر أبيه الحسين (عليه السلام)، ولم يقبل الحضور الى العراق لإدارة دولتهم.
11- خُطة الأمويين والعباسيين لإبادة عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)!
قال المفيد (رحمه الله ) في الإرشاد:1/311: «ومن آيات الله تعالى فيه (أمير المؤمنين (عليه السلام))أنه لم يُمْنَ أحدٌ في ولده وذريته بما مُنِيَ (عليه السلام) في ذريته، وذلك أنه لم يُعرف خوفٌ شمل جماعة من ولد نبي ولا إمام (عليهم السلام) ولا ملك زمان، ولا بر ولا فاجر، كالخوف الذي شمل ذرية أمير المؤمنين (عليه السلام)! ولا لحقَ أحداً من القتل والطرد عن الديار والأوطان والإخافة والإرهاب، ما لحق ذرية أمير المؤمنين (عليه السلام) وولده!
ولم يجر على طائفة من الناس من ضروب النكال ما جرى عليهم من ذلك، فقتلوا بالفتك والغيلة والإحتيال، وبنيَ على كثير منهم وهم أحياء البنيان، وعذبوا بالجوع والعطش حتى ذهبت أنفسهم على الهلاك، وأحوجهم ذلك إلى التفرق في البلاد ومفارقة الديار والأهل والأوطان، وكتمان نسبهم عن أكثر الناس! وبلغ بهم الخوف إلى الإستخفاء من أحبائهم فضلاً عن الأعداء، وبلغ هربهم من أوطانهم إلى أقصى الشرق والغرب والمواضع النائية في العمران، وزهد في معرفتهم أكثر الناس، ورغبوا عن تقريبهم والإختلاط بهم، مخافة على أنفسهم وذراريهم من جبابرة الزمان». انتهى.
ومع معرفة المنصور بمقام الإمام الصادق (عليه السلام) واعتقاده بأنه إمام رباني، فقد قرر قتله وحاول ذلك مرات حتى قتله بالسم!
قال محمد بن الإسكندري: «كنت من خواص المنصور أبي جعفر الدوانقي، وكنت أقول بإمامة أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) فدخلت يوماً على أبي جعفر الدوانيقي وإذا هو يفرك يديه ويتنفس تنفساً بارداً، فقلت: يا أمير المؤمنين ما هذه الفكرة؟ فقال: يا محمد إني قتلت من ذرية فاطمة بنت رسول الله ألفاً أو يزيدون، وقد تركت سيدهم! فقلت له: ومَن ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال: ذلك جعفر بن محمد»! (دلائل الإمامة للطبري الشيعي:298).
وفي مقاتل الطالبيين/233: «حدثنا جعفر بن محمد (عليه السلام) من فيه إلى أذني قال: لما قتل إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بباخمرى، حُسرنا عن المدينة ولم يُترك فيها منا محتلم، حتى قدمنا الكوفة فمكثنا فيها شهراً، نتوقع فيها القتل! ثم خرج إلينا الربيع الحاجب فقال: أين هؤلاء العلوية؟ أدخلوا على أمير المؤمنين رجلين منكم من ذوي الحجى. قال: فدخلنا إليه أنا والحسن بن زيد، فلما صرت بين يديه قال لي: أنت الذي تعلم الغيب؟ قلت: لا يعلم الغيب إلا الله . قال: أنت الذي يجبى إليك هذا الخراج. قلت: إليك يجبى يا أمير المؤمنين الخراج. قال: أتدرون لم دعوتكم؟ قلت: لا. قال: أردت أن أهدم رباعكم، وأروع قلوبكم، وأعقر نخلكم، وأترككم بالسراة لا يقربكم أحد من أهل الحجاز وأهل العراق فإنهم لكم مفسدة»!
وروى الطبري:6/343: « لما عزم المنصور على الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدى، وكان المهدى بالري قبل شخوص أبي جعفر، فأوصاها بما أراد وعهد إليها ودفع إليها مفاتيح الخزائن، وتقدم إليها وأحلفها ووكد الإيمان أن لا تفتح بعض تلك الخزائن، ولا تطلع عليها أحداً لا المهدي ولا هي! إلا أن يصح عندها موته، فإذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدى وليس معهما ثالث حتى يفتحا الخزانة! فلما قدم المهدي من الري إلى مدينة السلام، دفعت إليه المفاتيح وأخبرته عن المنصور أنه تقدم إليها فيه ألا يفتحه ولا يطلع عليه أحداً حتى يصح عندها موته، فلما انتهى إلى المهدى موت المنصور وولي الخلافة، فتح الباب ومعه ريطة فإذا أزج كبير فيه جماعة من قتلاء الطالبيين وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم! وإذا فيهم أطفال ورجال شباب ومشايخ، عدة كثيرة! فلما رأى ذلك ارتاع لما رأى، وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها وعمل عليهم دكان»!
والأزج غرفة مخروطية داخل غرفة (راجع: لسان:2/208، والصحاح:1/298) وكان فيها جماجم العلويين رضوان الله عليهم، وذنبهم أنهم شخصيات يخشى المنصور أن يخالفوا ابنه المهدي بعده فيثوروا عليه، فقتلهم ولم يُسلِّم جثثهم لذويهم، واحتفظ بهم نموذجاً ليورثه لأبنه ويؤكد عليه مواصلة سياسته في إبادتهم! ولعله كتب نسب كل منهم في رقعة ليقول لأبنه لا تخف من كونهم أبناء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفاطمة وعلي (عليهما السلام)!
ولم يسمع المهدي كلام أبيه المنصور فكان حكمه فسحة للإمام الكاظم (عليه السلام) وشيعته، لكن ابنه موسى الهادي واصل سياسة جده المنصور وعمل لإبادة الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وكل ذرية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذا ابنه هارون الرشيد!
وقد دفعت هذه السياسة العلويين الى الثورة على العباسيين، فكانت ثورة فخ وهو مكان قرب مكة، يعرف بوادي الزاهرية. (معجم البلدان:4/237).
قال اليعقوبي في تاريخه:2/404: «وبويع لموسى الهادي بن محمد المهدي، وأمه أم ولد يقال لها الخيزرانة بماسبذان، وكان غائباً بجرجان وأخذ له أخوه هارون البيعة... وارتحل من جرجان بعد ثلاثة أيام إلى العراق فنزل بعيسى آباذ، وكان المهدي بنى هذا الموضع فاستتمه موسى وكان به منزله، وولى الغطريف بن عطاء خاله خراسان وأعمالها، فقدم خراسان وكانت هادئة والأمور ساكنة والملوك في الطاعة، فظهر منه أمور قبيحة وضعف شديد فاضطربت البلاد، وتحرك جماعة من الطالبيين، وصاروا إلى ملوك النواحي فقبلوهم ووعدوهم بالنصر والمعونة، وذلك أن موسى ألح في طلب الطالبيين وأخافهم خوفاً شديداً وقطع ما كان المهدي يجريه لهم من الأرزاق والأعطية، وكتب إلى الآفاق في طلبهم وحملهم! فلما اشتد خوفهم وكثر من يطلبهم ويحث عليهم، عزم الشيعة وغيرهم إلى الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي، وكان له مذهب جميل وكمال ومجد، وقالوا له: أنت رجل أهل بيتك، وقد ترى ما أنت وأهلك وشيعتك فيه من الخوف والمكروه، فقال: وإني وأهل بيتي لا نجد ناصرين فننتصر، فبايعه خلق كثير ممن حضر الموسم فقال لهم: إن الشعار بيننا أن ينادي رجل: من رأى الجمل الأحمر، فما وافاه إلا أقل من خمس مائة، وكان ذلك في سنة 169هـ بعد انقضاء الموسم، فلقيه سليمان بن أبي جعفر، والعباس بن محمد بن علي، وموسى بن عيسى بفخ، فانهزم ومن كان معه وافترقوا، وقتل الحسين بن علي وجماعة من أهله، وهرب خاله إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي فصار إلى المغرب، فغلب على ناحية تتاخم الأندلس يقال لها فاس، فاجتمعت عليه كلمة أهلها، فذكر أهل المغرب أن موسى وجه إليه من اغتاله بسم في مسواك فمات، وصار إدريس بن إدريس مكانه، وولده بها إلى هذه الغاية يتوارثون تلك المملكة...فلم تزل البلاد مضطربة أيام موسى كلها».
ورويت عن الأئمة (عليهم السلام) في مدحه عدة روايات وهي تدل على شرعية ثورته، ويظهر أن هدفها وقف خطة العباسيين في إبادة العلويين!
ففي مقاتل الطالبيين/304: أن صاحب فخ (رحمه الله ) قال: «ما خرجنا حتى شاورنا أهل بيتنا، وشاورنا موسى بن جعفر، فأمرنا بالخروج».
وفي مقاتل الطالبيين/302: «جاء الجند بالرؤس إلى موسى والعباس، وعندهم جماعة من ولد الحسن والحسين، فلم يتكلم أحد منهم بشيء إلا موسى بن جعفر (عليه السلام) فقال له: هذا رأس الحسين! قال: نعم، إنا لله وإنا إليه راجعون، مضى والله مسلماً صالحاً صواماً قواماً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله! فلم يجيبوه بشيء».
وفي عمدة الطالب:183، والسلسلة العلوية لأبي نصر البخاري، عن الإمام الجواد (عليه السلام) قال: «لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخ».
12- خُطة الأمويين والعباسيين لإبادة شيعة أهل البيت (عليهم السلام)
في مختصر البصائر/14: «وكتب معاوية إلى عماله في جميع البلدان أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي (عليه السلام) وأهل بيته شهادة! ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع الأقطار: أنظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطائه ورزقه! وشفع ذلك بنسخة أخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكلوا به وأهدموا داره»!
وفي الإحتجاج: 2/17: «ونادى منادي معاوية (في الحج): أن قد برئت الذمة ممن يروي حديثاً من مناقب علي وفضل أهل بيته (عليهم السلام)! وكان أشد الناس بلية أهل الكوفة لكثرة من بها من الشيعة، فاستعمل زياد ابن أبيه وضم إليه العراقين الكوفة والبصرة، فجعل يتتبع الشيعة وهو بهم عارف، يقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وصلبهم في جذوع النخل، وسمل أعينهم، وطردهم وشردهم، حتى نفوا عن العراق، فلم يبق بها أحد معروف مشهور، فهم بين مقتول أو مصلوب أو محبوس، أو طريد أو شريد!
وكتب معاوية إلى جميع عماله في جميع الأمصار: أن لا تجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة، وانظروا قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه، ومحبي أهل بيته وأهل ولايته، والذين يروون فضله ومناقبه، فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا بمن يروي من مناقبه واسم أبيه وقبيلته!
ففعلوا حتى كثرت الرواية في عثمان وافتعلوها، لما كان يبعث إليهم من الصلات والخلع والقطايع، من العرب والموالي، وكثر ذلك في كل مصر وتنافسوا في الأموال والدنيا، فليس أحد يجئ من مصر من الأمصار فيروي في عثمان منقبة أو فضيلة، إلا كتب اسمه وأجيز».
وفي شرح النهج: 11/43:«وقد روي أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر قال لبعض أصحابه: يا فلان ما لقينا من ظلم قريش إيانا وتظاهرهم علينا؟! وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس؟! إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبض وقد أخبر أنا أولى الناس بالناس، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه، واحتجَّت على الأنصار بحقنا وحجتنا، ثم تداولتها قريش واحد بعد واحد، حتى رجعت إلينا فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتى قتل، فبويع الحسن ابنه وعوهد، ثم غدر به وأسلم ووثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه، ونهبت عسكره وعولجت خلاليل أمهات أولاده! فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته وهم قليل حق قليل!
ثم بايع الحسين (عليه السلام) من أهل العراق عشرون ألفاً ثم غدروا به، وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم، وقتلوه!
ثم لم نزل أهل البيت نُستذل ونستضام، ونُقصى ونُمتهن، ونُحرم ونُقتل ونُخاف! ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا!
ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم، وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلدة، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله، ليبغضونا إلى الناس!
وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن (عليه السلام)، فقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة، وكان من يذكر بحبنا والإنقطاع إلينا، سجن أو نهب ماله أو هدمت داره! ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين (عليه السلام).
ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة وأخذهم بكل ظنة وتهمة، حتى إن الرجل ليقال له زنديق أو كافر، أحب إليه من أن يقال شيعة علي (عليه السلام)! وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير ولعله يكون ورعاً صدوقاً، يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها ولا كانت ولا وقعت! وهو يحسب أنها حق، لكثرة من قد رواها، ممن لم يعرف بكذب ولا بقلة ورع»!
وقال الطبري في تاريخه:4/187: «إن معاوية بن أبي سفيان لما ولى المغيرة بن شعبة الكوفة في جمادى سنة41هـ، دعاه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا، وقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة فأنا تاركها اعتماداً على بصرك بما يرضيني ويسعد سلطاني ويصلح رعيتي، ولست تاركاً إيصاءك بخصلة: لا تَتَحَمَّ عن شتم علي وذمه! والترحم على عثمان والإستغفار له، والعيب على أصحاب علي والإقصاء لهم، وترك الإستماع منهم! وبإطراء شيعة عثمان والإدناء لهم والإستماع منهم!
فقال المغيرة: قد جُربت وجُربت وعملت قبلك لغيرك، فلم يذمم بي دفع ولا رفع ولا وضع، فستبلو فتحمد أو تذم! قال: بل نحمد إن شاء الله » وتاريخ الكوفة / 315 وجمهرة خطب العرب:2/184، والمنتظم: 5/241، والنصائح الكافية /100).
وقال أحمد بن حنبل في مسنده: 1/189: «لما خرج معاوية من الكوفة استعمل المغيرة بن شعبة قال: فأقام خطباء يقعون في علي، قال: وأنا إلى جنب سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل (ابن عم عمر) قال فغضب فقام فأخذ بيدي فتبعته فقال: ألا ترى إلى هذا الرجل الظالم لنفسه، الذي يأمر بلعن رجل من أهل الجنة»!
وفي سنن البيهقي (5/113):«قال ابن عباس: الله م العنهم فقد تركوا السنة من بغض علي»!وهو يدل على إنكارهم سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتحريفهم المتعمد لها، بغضاً بعلي والعترة (عليهم السلام)!
13- خلفاء بني أمية يقدسون الإمام زين العابدين (عليه السلام)
طمأنَ الإمام زين العابدين (عليه السلام) الأمويين، بأنه لا يريد الثورة عليهم، فكانوا يفصلون حسابه عن الثائرين عليهم، لكنه لم يقف ضد من خرج على الدولة طلباً بثأر أبيه الإمام الحسين (عليه السلام)، ولذلك كان الخليفة الأموي متحيراً فيه، فلا هو ثائر يعطي على نفسه الحجة لقتله، ولا هو مطيع للسلطة كعلماء البلاط!
وكتب الحجاج حاكم العراق الى خليفته عبد الملك بن مروان: «إن أردت أن يثبت ملكك فاقتل علي بن الحسين»!
لأنه يراه المرجع الروحي لحركات الهاشميين والشيعة ضد بني أمية بشعار يالثارات الحسين (عليه السلام)، وأنه يباركها مع سلب مسؤوليته عنها!
فأجابه عبد الملك كما روى البيهقي في المحاسن/39: «جنبني دماء آل أبي طالب فإني رأيت بني حرب لما قتلوا الحسين نزع الله ملكهم». (واليعقوبي:2/304، وأنساب الأشراف/1794، والبصائر والذخائر/546، ونثر الدرر/385، وخاص الخاص للثعالبي/66 وجواهر المطالب:2/278، والعقد الفريد/966 2، ومروج الذهب:3/179، والإشراف لابن أبي الدنيا/255).
وقال في العقد الفريد/1103: «فلم يتعرض الحجاج لأحد من الطالبيين في أيامه».
وفي الصراط المستقيم:2/180:«كتب الحجاج إلى عبد الملك: إن أردت أن يثبت ملكك فاقتل علي بن الحسين! فرد عليه: جنبني دماء بني هاشم، وبعث بالكتاب إليه سراً فجاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في النوم إلى علي بن الحسين (عليه السلام) وأعلمه! فكتب إلى عبد الملك: إنه قد شكره الله لك وثبَّت به ملكك وزاد في عمرك، فلما قرأه وجد تاريخ الكتاب واحداً!».
وفي الصواعق المحرقة:2/583:«فكوشف به زين العابدين فكتب إليه: إنك كتبت للحجاج يوم كذا سراً في حقنا بني عبد المطلب بكذا وكذا، وقد شكر الله لك ذلك وأرسل به إليه! فلما وقف عليه وجد تاريخه موافقاً لتاريخ كتابه للحجاج، ووجد مخرج الغلام موافقاً لمخرج رسوله للحجاج! فعلم أن زين العابدين كوشف بأمره فَسُرَّ به، وأرسل إليه مع غلامه بوقر راحلته دراهم وكسوة، وسأله أن لا يخليه من صالح دعائه» ونحوه الخرائج:1/256.
ولم يقتل عبد الملك الإمام زين العابدين (عليه السلام) لكن ابنه الوليد قتله بالسم!
وظهرت محبة الناس للإمام زين العابدين (عليه السلام) في الحج عندما أراد هشام ولي عهد أبيه عبد الملك بن مروان، أن يستلم الحجر الأسود فلم يستطع من زحام الناس، فجاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) فانفسح له الناس احتراماً وهيبة!
قال الذهبي في سيرته:4/398: «وكان له جلالة عجيبة، وَحَقَّ له والله ذلك، فقد كان أهلاً للإمامة العظمى لشرفه وسؤدده وعلمه وتألهه وكمال عقله.
قد اشتهرت قصيدة الفرزدق وهي سماعنا: أن هشام بن عبد الملك حج قبيل ولايته الخلافة، فكان إذا أراد استلام الحجر زوحم عليه، وإذا دنا علي بن الحسين من الحجر تفرقوا عنه إجلالاً له، فوجم لها هشام وقال: من هذا، فما أعرفه! فأنشأ الفرزدق يقول:
هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأتَهُ **** والبيتُ يعرفُهُ والحلُّ والحَرَمُ
هذا ابنُ خَيْرِ عبادِ الله كلِّهِمُ **** هذا التّقيُّ النقيُّ الطاهرُ العَلَمُ
هذا الذي أحمدُ المختارُ والدُه **** صلى عليه إلهي ما جرى القلمُ
لو يعلمُ الركنُ من قد جاء يلثِمُهُ **** لَخَرَّ يَلْثِمُ منهُ ما وطى القَدَمُ
هذا عليٌّ رسولُ الله والدُه **** أمست بنور هداه تهتدي الأمم
الى آخر القصيدة. فأمر هشام بحبس الفرزدق فبعث إليه علي بن الحسين باثني عشر ألف درهم وقال: أعْذُرْ أبا فراس، فردَّها وقال: ما قلت ذلك إلا غضباً لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فردها إليه وقال: بحقي عليك لمَّا قبلتها، فقد علم الله نيتك ورأى مكانك، فقبلها».
وقال الذهبي في تاريخه:6/438: «وليس للحسين رضي الله عنه عقب إلا من زين العابدين، وأمه أمَة، وهي سلافة بنت يزدجرد آخر ملوك فارس...
قال أبو جعفر الباقر: عاش أبي ثمانٍ وخمسين سنة. وقال الواقدي: حدثني حسين بن علي بن الحسن أن أباه مات سنة أربع وتسعين، وكذا قال البخاري، وأبو عبيد، والفلاس، وروي عن جعفر بن محمد».
وقال الراغب في محاضرات الأدباء:1/344: «قال عمر بن عبد العزيز يوماً وقد قام من عنده علي بن الحسين (لعله عندما كان والي المدينة) : مَنْ أشرفُ الناس؟ فقالوا: أنتم. فقال: كلا، أشرف الناس هذا القائم من عندي آنفاً، من أحب الناس أن يكونوا منه ولم يحب أن يكون من أحد». ونثر الدرر/286، والمناقب:3/304.
وفي تاريخ اليعقوبي:2/305: «ذكره يوماً عمر بن عبد العزيز فقال: ذهب سراج الدنيا وجمال الإسلام وزين العابدين».
وكان الزهري إمام بني أمية: «إذا حدث عن علي بن الحسين قال: حدثني زين العابدين علي بن الحسين، فقال له سفيان بن عيينة: ولمَ تقول له زين العابدين؟ قال: لأني سمعت سعيد بن المسيب يحدث عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إذا كان يوم القيامة ينادي مناد أين زين العابدين فكأني أنظر إلى ولدي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يخطرُ بين الصفوف). (علل الشرائع:1/229).
وقد استثمر الإمام زين العابدين (عليه السلام) هذا الإحترام فنشط في نشر سلوك التقوى والعبادة في المسلمين، وفي مواجهة خطط السلطة في تحريف الإسلام ومعاداة علي وأهل البيت (عليهم السلام).
14- احترام خلفاء بني أمية وبني العباس للإمام الباقر (عليه السلام)
قال الزبيدي في شرح القاموس:6/105: «عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له: يوشك أن تبقى حتى تلقى ولداً لي من الحسين يقال له محمد، يبقر العلم بقراً، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام. خرَّجه أئمة النسب».
وفي مناقب آل أبي طالب:3/328:«وحديث جابر مشهور معروف، رواه فقهاء المدينة والعراق كلهم بطرق كثيرة عن سعيد بن المسيب، وسليمان الأعمش، وأبان بن تغلب، ومحمد بن مسلم، وزرارة بن أعين، وأبي خالد الكابلي» أنظر الكافي:1/469.
وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق:54/268،أن عمر بن عبد العزيز عندما ولي الخلافة أرسل الى الإمام الباقر (عليه السلام) وطلب حضوره، ليشاوره في أمور الخلافة، ثم رد اليه فدكاً وكتب: «هذا ما رد عمر بن عبد العزيز، ظلامة محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بفدك». (الخصال/105، والمناقب:3/337.
وأخبر الإمام الباقر (عليه السلام) العباسيين بأنهم سيحكمون بعد بني أمية، قال: «نعم يا داود، والله لا يملك بنو أمية يوماً إلا ملكتم مثليه، ولا سنة إلا ملكتم مثليها وليتلقفها الصبيان منكم كما تلقف الصبيان الكرة! هذا ما عهده إلي أبي! فلما ملك الدوانيقي تعجب من قول الباقر (عليه السلام)». (الكافي:8/210، والخرائج:1/273).
وكان الدوانيقي يعتقد بالإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) ويحدث بحديث النداء السماوي باسم المهدي (عجل الله فرجه) ويقول: لولا أني سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقوله ثم حدثني به أهل الأرض ما قبلته منهم، ولكنه محمد بن علي»! (الكافي:8/209).
15- رفض الإمام الصادق (عليه السلام) قبول الخلافة!
عندما ضعفت الدولة الأموية أخذ الحسنيون والعباسيون يعملون في الثورة عليها، وكان الإمام الصادق (عليه السلام) أكثر نفوذاً منهم، لكنه لم يعمل لتسلم السلطة ولم يقبل أن يعمل أحد باسمه، وجاءه أبو سلمة الخلال وأبو مسلم الخراساني فرفض تأييدهما! وعندما انتصرت ثورتهم قام قائدها الأعلى أبو سلمة الخلال بحبس أولاد العباس أربعين يوماً، وفي رواية المسعودي شهرين، وراسل الإمام الصادق (عليه السلام) عارضاً عليه البيعة بالخلافة، فرفض أشد الرفض!
قال في عمدة الطالب/101: «ولما قدم أبو العباس السفاح وأهله سراً على أبي سلمة الخلال الكوفة، ستر أمرهم وعزم أن يجعلها شورى بين ولد علي والعباس حتى يختاروا هم من أرادوا، ثم قال: أخاف أن لا يتفقوا، فعزم على أن يعدل بالأمر إلى ولد علي من الحسن والحسين، فكتب إلى ثلاثة نفر منهم: جعفر بن محمد علي بن الحسين وعمر بن علي بن الحسين وعبد الله بن الحسن، ووجه بالكتب مع رجل من مواليهم من ساكني الكوفة، فبدأ بجعفر بن محمد فلقيه ليلاً وأعلمه أنه رسول أبي سلمة وأن معه كتاباً إليه منه، فقال: وما أنا وأبو سلمة وهو شيعة لغيري؟ فقال الرسول: تقرأ الكتاب وتجيب عليه بما رأيت. فقال جعفر لخادمه: قدم مني السراج، فقدمه فوضع عليه كتاب أبي سلمة فأحرقه فقال: ألا تجيبه؟ فقال: قد رأيت الجواب»!
قال اليعقوبي:2/350: «وكان من قدم إلى الكوفة من بني هاشم (العباسيين) اثنين وعشرين رجلاً منهم: داود وسليمان وعيسى وصالح وإسماعيل وعبد الله وعبد الصمد بنو علي بن عبد الله بن عباس، وموسى بن داود، وجعفر ومحمد ابنا سليمان، والفضل وعبد الله ابنا صالح، وأبو العباس ومحمد ابنه، وجعفر ومحمد ابنا المنصور، وعيسى بن موسى بن محمد، وعبد الوهاب ومحمد ابنا إبراهيم، ويحيى بن محمد، والعباس بن محمد».
وقال المسعودي في مروج الذهب/890: «وأخفى أبو سَلَمة أمر أبي العباس ومن معه ووكل بهم وكيلاً.. فبعث بمحمد بن عبد الرحمن بن أسلم وكان أسلم مولىً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكتب معه كتابين على نسخة واحدة إلى أبي عبد الله جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وإلى أبي محمد عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب، يدعو كلَّ واحد منهما إلى الشخوص إليه ليصرف الدعوة إليه، ويجتهد في بيعة أهل خراسان له، وقال للرسول: العَجَلَ العَجَلَ فلا تكونَنَّ كوافد عاد (بعثوه فاختار لهم سحابة سوداء كانت عليهم) فقدم محمد بن عبد الرحمن المدينة على أبي عبد الله جعفر بن محمد فلقيه ليلاً، فلما وصل إليه أعلمه أنه رسول أبي سَلَمة ودفع إليه كتابه فقال له أبو عبد الله : وما أنا وأبو سَلَمة وأبو سَلَمة شيعة لغيري؟! قال: إني رسول فتقرأ كتابه وتجيبه بما رأيت، فدعا أبو عبد الله بسراج ثم أخذ كتاب أبي سلمة فوضعه على السراج حتى احترق، وقال للرسول: عرِّف صاحبك بما رأيت!
ثم أنشأ يقول متمثلاً بقول الكميت بن زيد (رحمه الله ):
أيا مُوقِداً ناراً لغيرك ضوؤها ويا حاطباً في غير حبلك تحطب»!
وفي الكافي:8/274: «عن الفضل بن سليمان الكاتب، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فأتاه كتاب أبي مسلم فقال: ليس لكتابك جواب أخرج عنا! فجعلنا يسارُّ بعضنا بعضاً فقال: أي شيء تَسَارُّون؟ يا فضل إن الله عز ذكره لا يعجل لعجلة العباد، ولإزالة جبل عن موضعه أيسر من زوال ملك لم ينقض أجله! ثم قال: إن فلان بن فلان، حتى بلغ السابع من ولد فلان. قلت فما العلامة فيما بيننا وبينك جعلت فداك؟ قال: لا تبرح الأرض يا فضل حتى يخرج السفياني فإذا خرج السفياني فأجيبوا الينا. يقولها ثلاثاً، وهو من المحتوم».
وفي مناقب آل أبي طالب:3/356: «قال أبو هريرة الأبَّار صاحب الصادق (عليه السلام) :
ولما دعا الداعون مولاي لم يكن ليُثْنَى عليه عزمُه بصواب
ولما دعوه بالكتاب أجابهم بحرق الكتاب دون رد جواب
وما كان مولاي كمشري ضلالة ولا ملبساً منها الردى بثواب
ولكنه لله في الأرض حجة دليل إلى خير وحسن مآب».
وإثبات الوصية/158،ونحوه الخرائج:2/645، وإعلام الورى/272، ودلائل الإمامة/140.
16- الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أبو المذاهب وأستاذ أئمتها
يعترف أئمة المذاهب بأن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أبُ المذاهب الفقهية وأستاذ أئمتها، ويروون تعظيمهم له (عليه السلام)!
1 - قال الإمام مالك بن أنس: « ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد، فضلاً وعلماً وورعاً، وكان لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إما صائماً، وإما قائماً، وإما ذاكراً. وكان من عظماء البلاد، وأكابر الزهاد الذين يخشون ربهم، وكان كثير الحديث طيب المجالسة كثير الفوائد، فإذا قال: قال رسول الله ، اخْضَرَّ مرةً واصْفَرَّ أخرى حتى لينكره من لا يعرفه». (مناقب آل أبي طالب:3/396).
وقال مالك أيضاً: «اختلفتُ إلى جعفر بن محمد زماناً، وما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصل، وإما صائم، وإما يقرأ القرآن، وما رأيته يحدِّث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا على طهارة. وكان لا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء العباد الزهاد الذين يخشون الله ، ولقد حججت معه سنة، فلما أتى الشجرة أحرم فكلما أراد أن يُهِلَّ كاد يغشى عليه فقلت له: لا بد لك من ذلك، وكان يكرمني وينبسط إلي، فقال: يا أبن أبي عامر إني أخشى أن أقول لبيك الله م لبيك، فيقول: لا لبيك ولا سعديك! قال مالك: ولقد أحرم جده علي ابن حسين، فلما أراد أن يقول الله م لبيك أو قالها، غُشِيَ عليه وسقط عن ناقته» (التمهيد لابن عبد البر:2/67، وبعضه تهذيب التهذيب:2/88).
ولو سألت مالكاً: ما دامت هذه عقيدتك في أستاذك، فلماذا أسست مذهباً ضده، ولماذا لم ترو عنه في كتابك الموطأ إلا خمسة أحاديث؟!
فجوابه: أن المنصور العباسي أمره بذلك، والمأمور معذور!
2-وسئل أبو حنيفة: «من أفقه من رأيت؟ قال: جعفر بن محمد، لمَّا أقْدَمَهُ المنصور بعث إليَّ فقال: يا أبا حنيفة إن الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمد، فهيّءِ له مسائلك الشداد، فهيأت له أربعين مسألة، ثم بعث إليَّ أبو جعفر وهو بالحيرة فأتيته فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه، فلما بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر، فسلمت عليه فأومأ إليَّ فجلست، ثم التفت إليه فقال: يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة. فقال: نعم أعرفه. ثم التفت إليَّ فقال: ألق على أبي عبد الله من مسائلك، فجعلت ألقي عليه ويجيبني، فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربما تابعنا، وربما تابعهم، وربما خالفنا جميعاً، حتى أتيت على الأربعين مسألة فما أخل منها بشيء!
ثم قال أبو حنيفة: أليس قد روينا: أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس»! (المناقب: 3/378، وتهذيب الكمال:5/79، وسير الذهبي:6/258، وكامل ابن عدي:2/132، وغيرها).
ولو سألت أبا حنيفة: ما دامت هذه عقيدتك في أستاذك، فلماذا أسست مذهباً ضده، وخالفت فقهه؟ فجوابه: هكذا أمرني أبو جعفر المنصور!
3- وقال الذهبي في سيره:6/257:«عن عمرو بن أبي المقدام قال: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين! قد رأيته واقفاً عند الجمرة يقول: سلوني، سلوني! وعن صالح بن أبي الأسود: سمعت جعفر بن محمد يقول سلوني قبل أن تفقدوني، فإنه لا يحدثكم أحد بعدي بمثل حديثي»!
4- قال ابن حجر في الصواعق: « ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان. روى عنه الأئمة الأكابر كيحيى بن سعيد وابن جريح، ومالك، والسفيانين، وأبي حنيفة، وشعبة، وأيوب».
5- وقال الشيخ محمد أبو زهرة: «لا نستطيع في هذه العجالة أن نخوض في فقه الإمام جعفر، فإنّ أُستاذ مالك وأبي حنيفة وسفيان بن عيينة، لا يمكن أن يدرس فقهه في مثل هذه الإلمامة». (موسوعة أصحاب الفقهاء:2/30).
6- وقال ابن أبي الحديد: «أما أصحاب أبي حنيفة فأخذوا عن أبي حنيفة، وأما الشافعي فهو تلميذ تلميذ أبي حنيفة، وأما ابن حنبل فهو تلميذ الشافعي. وأبو حنيفة قرأ على جعفر الصادق، وعلمه ينتهي إلى علم جده علي (عليه السلام)».
7- وقال الإيجي في المواقف:3/638:« كان أبو يزيد (البسطامي) مع علو طبقته سَقَّاءً في دار جعفر الصادق رضي الله عنه، وكان معروف الكرخي بواب دار علي بن موسى الرضا، هذا مما لا شبهة في صحته، فإن معروفاً كان صبياً نصرانياً فأسلم على يد علي بن موسى وكان يخدمه. وأما أبو يزيد فلم يدرك جعفراً بل هو متأخر عن معروف ولكنه كان يستفيض من روحانية جعفر». والطرائف /520.
9-وترجم الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء:3/192، للإمام الصادق (عليه السلام) بتفصيل، وروى هيبة المنصور له، وروى منعه لأبي حنيفة من القياس، قال: « الإمام الناطق ذو الزمام السابق، أبو عبدالله جعفر بن محمد الصادق، أقبل على العبادة والخضوع، وآثر العزلة والخشوع، ونهى عن الرئاسة والجموع..
أحمد بن عمرو بن المقدام الرازي قال: وقع الذباب على المنصور فذبه عنه فعاد فذبه حتى أضجره، فدخل جعفر بن محمد عليه فقال له المنصور: يا أبا عبد الله لم خلق الله الذباب؟ قال: ليُذَلَّ به الجبابرة!
أقبل على أبي حنيفة فقال: يا نعمان حدثني أبي عن جدي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس قال الله تعالى له: أسجد لآدم، فقال:أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. فمن قاس الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنه اتبعه بالقياس!
زاد ابن شبرمة في حديثه: ثم قال جعفر: أيهما أعظم قتل النفس أو الزنا؟ قال قتل النفس. قال: فإن الله عز وجل قبل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلا أربعة! ثم قال: أيهما أعظم الصلاة أم الصوم؟ قال: الصلاة، قال: فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة فكيف ويحك يقوم لك قياسك؟! إتق الله ولا تقس الدين برأيك».
17- أسس المنصور العباسي المذاهب لمواجهة الإمام الصادق (عليه السلام)
روى الجميع أن المنصور العباسي قام بتأسيس المذاهب الأربعة لمواجهة الإمام الصادق وأهل البيت (عليهم السلام)، فقال الذهبي في سيره (8/111) وابن خلدون في مقدمته/18، إن المنصور أحضر مالك بن أنس وقال له بدهائه: «لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك! وإني قد شغلتني الخلافة، فضع أنت للناس كتاباً ينتفعون به، تجنب فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر ووطئه للناس توطئة قال مالك: فوالله لقد علمني التصنيف يومئذ! وقال القاضي عياض في ترتيب المدارك/124:«قال مالك: فقلت له: إن أهل العراق لا يرضون علمنا (لأنهم شيعة أو متأثرون بهم)! قال: يُضربُ عليه عامَّتُهم بالسيف وتقطع عليه ظهورهم بالسياط»!
وشرط عليه المنصور أن لا يروي عن علي (عليه السلام)! ولذلك لا تجد في الموطأ أي رواية عن علي (عليه السلام)! (مستدرك الوسائل:1/20).
واعترف أبو حنيفة كما تقدم آنفاً أن المنصور قال له:« إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد، فهيء له مسائلك الشداد.. فلما بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر»!
فهذان إمامان من ائمة المذاهب الأربعة، أقرَّا بأن السلطة ثبتتهما ضد أستاذهما الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)! والشافعي تلميذ تلميذ أبي حنيفة، وابن حنبل تلميذ الشافعي, (راجع ترجمة المنصور العباسي في جواهر التاريخ).
18- الإمام الكاظم (عليه السلام) يواجه طغيان بني العباس!
روى علماء السنة كالذهبي في سير أعلام النبلاء:6/272،والمزي في تهذيب الكمال:29/49، عن الفضل بن الربيع عن أبيه، قال: «لما حبس المهدي موسى بن جعفر رأى ال مهدي في النوم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يقول: يا محمد: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ! قال الربيع: فأرسل إليَّ ليلاً فراعني ذلك، فجئته فإذا هو يقرأ هذه الآية، وكان أحسن الناس صوتاً، وقال: عليَّ بموسى بن جعفر، فجئته به فعانقه وأجلسه إلى جنبه وقال: يا أبا الحسن إني رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في النوم يقرأ عليَّ كذا، فتؤمنني أن تخرج عليَّ أو على أحد من ولدي؟ فقال: والله لا فعلت ذاك، ولا هو من شأني!قال: صدقت. يا ربيع أعطه ثلاثة آلاف دينار، ورده إلى أهله إلى المدينة».
وفي عيون أخبار الرضا (عليه السلام):2/87: «عن الريان بن شبيب قال: سمعت المأمون يقول: ما زلت أحب أهل البيت وأظهر للرشيد بغضهم تقرباً إليه! فلما حج الرشيد كنت ومحمد والقاسم معه، فلما كان بالمدينة استأذن عليه الناس وكان آخر من أذن له موسى بن جعفر، فدخل فلما نظر إليه الرشيد تحرك ومدَّ بصره وعنقه إليه حتى دخل البيت الذي فيه، فلما قرب جثى الرشيد على ركبتيه وعانقه، ثم أقبل عليه فقال له: كيف أنت يا أبا الحسن، وكيف عيالك وعيال أبيك؟ كيف أنتم، ما حالكم؟ فما زال يسأله هذا وأبو الحسن يقول: خير خير. فلما قام أراد الرشيد أن ينهض، فأقسم عليه أبو الحسن فأقعده وعانقه، وسلم عليه وودعه!
قال المأمون: وكنت أجرأ وُلْد أبي عليه، فلما خرج أبو الحسن موسى بن جعفر قلت لأبي: يا أمير المؤمنين لقد رأيتك عملت بهذا الرجل شيئاً ما رأيتك فعلته بأحد من أبناء المهاجرين والأنصار، ولا ببني هاشم، فمن هذا الرجل؟!
فقال: يا بني هذا وارث علم النبيين، هذا موسى بن جعفر بن محمد! إن أردت العلم الصحيح فعند هذا! قال المأمون: فحينئذ انغرس في قلبي محبتهم».
وفي رواية:«ثم قام، فقام الرشيد لقيامه وقبل عينيه ووجهه، ثم أقبل عليَّ وعلى الأمين والمؤتمن فقال: يا عبد الله ويا محمد ويا إبراهيم، إمشوا بين يدي عمكم وسيدكم، خذوا بركابه وسووا عليه ثيابه وشيعوه إلى منزله. فأقبل عليَّ أبو الحسن موسى بن جعفر سراً بيني وبينه، فبشرني بالخلافة فقال لي: إذا ملكت هذا الأمر فأحسن إلى وُلدي، ثم انصرفنا. وكنت أجرأ ولد أبي عليه، فلما خلا المجلس قلت: يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي قد أعظمته وأجللته وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟! قال: هذا إمام الناس وحجة على خلقه وخليفته على عباده! فقلت: يا أمير المؤمنين أوليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟ فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق. والله يا بني إنه لأحق بمقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مني ومن الخلق جميعاً، ووالله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإن الملك عقيم!
فلما أراد الرحيل من المدينة إلى مكة أمر بصرة سوداء فيها مائتا دينار، ثم أقبل على الفضل بن الربيع فقال له: إذهب بهذه إلى موسى بن جعفر وقل له: يقول لك أمير المؤمنين: نحن في ضيقة وسيأتيك بِرُّنَا بعد الوقت، فقمت في صدره فقلت: يا أمير المؤمنين تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وساير قريش وبني هاشم ومن لا تعرف حسبه ونسبه، خمسه آلاف دينار إلى ما دونها، وتعطي موسى بن جعفر وقد أعظمته وأجللته مئتي دينار أخس عطيه أعطيتها أحداً من الناس؟! فقال: أسكت لا أم لك، فإني لو أعطيت هذا ما ضمنته له ما كنت أمنته أن يضرب وجهي غداً بمئه ألف سيف من شيعته ومواليه! فَقْرُ هذا وأهل بيته أسلمُ لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم»!
ثم حج الرشيد، واعتقل الإمام الكاظم (عليه السلام) وحبسه في البصرة ثم في بغداد، ففي سير الذهبي:6/270: «موسى الكاظم الإمام القدوة، السيد أبو الحسن العلوي، والد الإمام علي بن موسى الرضا، مدني نزل بغداد. ذكره أبو حاتم فقال: ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين. قال الخطيب: أقدمه المهدي بغداد ورده، ثم قدمها وأقام ببغداد في أيام الرشيد، قدم في صحبة الرشيد سنة تسع وسبعين ومئة، وحبسه بها إلى أن توفي في محبسه...حج الرشيد فأتى قبر النبي ومعه موسى بن جعفر فقال: السلام عليك يا رسول الله ، يا ابن عم، افتخاراً على من حوله! فدنا موسى وقال: السلام عليك يا أبتِ، فتغير وجه هارون وقال: هذا الفخر يا أبا الحسن حقاً».
وفي كنز الفوائد/166: «ثم نهض معتمداً على يد أبي الحسن موسى بن جعفر حتى انتهى إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فوقف عليه فقال: السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا ابن عم، افتخاراً بذلك على قبائل العرب الذين حضروا معه واستطالةً عليهم بالنسب! قال فنزع أبو الحسن موسى يده من يده وقال: السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبه! قال فتغير وجه الرشيد ثم قال: يا أبا الحسن إن هذا لهو الفخر». وتاريخ بغداد:3/32، وتهذيب الكمال:29/49، والكافي:4/553، وروضة الواعظي/215، والفصول المختارة/36، والإحتجاج:2/167.
وأضاف في المناقب: 3/434: «فتغير وجه هارون وأمر به فأخذ من المسجد».
«بعث موسى الكاظم إلى الرشيد برسالة من الحبس يقول: إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك معه يوم من الرخاء، حتى نفضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء، يخسر فيه المبطلون»! (سير الذهبي:6/271).
وقال الذهبي: «له مشهد عظيم مشهور ببغداد، دفن معه فيه حفيده الجواد، ولولده علي بن موسى مشهد عظيم بطوس، وكانت وفاة موسى الكاظم في رجب سنة ثلاث وثمانين ومئة. عاش خمساً وخمسين سنة وخلف عدة أولاد».
وروى في الكافي:1/258، عن أحد شهود العدول الرسميين في بغداد قال: « جمعنا السندي بن شاهك ثمانين رجلاً من الوجوه المنسوبين إلى الخير، فأدخلنا على موسى بن جعفر، فقال لنا السندي: يا هؤلاء، أنظروا إلى هذا الرجل هل حدث به حدث؟ فإن الناس يزعمون أنه قد فعل به ويكثرون في ذلك! وهذا منزله وفراشه موسع عليه غير مضيق، ولم يرد به أمير المؤمنين سوءً، وإنما ينتظر به أن يقدم فيناظر أمير المؤمنين! وهذا هو صحيح موسع عليه في جميع أموره فسلوه، قال: ونحن ليس لنا هم إلا النظر إلى الرجل والى فضله وسمته، فقال موسى بن جعفر: أما ما ذكر من التوسعة وما أشبهها فهو على ما ذكر، غير أني أخبركم أيها النفر أني قد سقيت السم في سبع تمرات، وأنا غداً أخضرُّ، وبعد غد أموت! قال: فنظرت إلى السندي بن شاهك يضطرب ويرتعد مثل السعفة»!
وقد أجمع المسلمون على زيارة قبره والتوسل به الى الله تعالى: «وقد كان الإمام الشافعي يقول قبر موسى الكاظم الترياق المجرب». (كرامات الأولياء للسجاعي/6).
ورووا كراماته ونبل أخلاقه، ومنها: «أن رجلاً من آل عمر كان بالمدينة يؤذيه ويشتم علياً، وكان قد قال له بعض حاشيته: دعنا نقتله فنهاهم وزجرهم، وأعطاه مالاً، فقام العمري فقبل رأسه وقال: الله أعلم حيث يجعل رسالاته، وجعل يدعو له»! (سير أعلام النبلاء للذهبي:6/271).
19- المأمون يُجبر الإمام الرضا (عليه السلام) على ولاية عهده!
بعد قتل هارون الرشيد للإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، أظهر ولده الإمام الرضا (عليه السلام) إمامته، فقال له ابن أبي حمزة:
«لقد أظهرت شيئاً ما كان يظهره أحد من آبائك ولا يتكلم به! قال (عليه السلام) : بلى والله لقد تكلم به خير آبائي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمَّا أمره الله تعالى أن ينذر عشيرته الأقربين، جمع من أهل بيته أربعين رجلاً وقال لهم إني رسول الله إليكم، وكان أشدهم تكذيباً له وتأليباً عليه عمه أبو لهب، فقال لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : إن خدشني خدش فلست بنبي! فهذا أول ما أبدع لهم من آية النبوة! وأنا أقول: إن خدشني هارون خدشاً فلست بإمام، فهذا ما أُبْدِعُ لكم من آية الإمامة»! (اختيار معرفة الرجال:2/764، ومعجم رجال الحديث:12/240).
وروى الصدوق في الأمالي/125:«عن أبي الصلت الهروي قال: إن المأمون قال للرضا (عليه السلام) : يا ابن رسول الله ، قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك وورعك وعبادتك، وأراك أحق بالخلافة مني! فقال الرضا: بالعبودية لله عز وجل أفتخر وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله عز وجل.
فقال له المأمون: إني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك وأبايعك! فقال له الرضا (عليه السلام) : إن كانت الخلافة لك وجعلها الله لك، فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسك الله وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك! فقال له المأمون: يا ابن رسول الله ، لا بد لك من قبول هذا الأمر، فقال: لست أفعل ذلك طائعاً أبداً، فما زال يجهد به أياماً حتى يئس من قبوله فقال له: فإن لم تقبل الخلافة ولم تحب مبايعتي لك، فكن ولي عهدي لتكون لك الخلافة بعدي!
فقال الرضا (عليه السلام): والله لقد حدثني أبي عن آبائه عن أمير المؤمنين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أني أخرج من الدنيا قبلك مقتولاً بالسم مظلوماً، تبكي عليَّ ملائكة السماء وملائكة الأرض، وأدفن في أرض غربة إلى جنب هارون الرشيد!
فبكى المأمون، ثم قال له: يا ابن رسول الله ، ومن الذي يقتلك، أو يقدر على الإساءة إليك وأنا حي؟ فقال الرضا (عليه السلام) : أما إني لو أشاء أن أقول من الذي يقتلني لقلت! فقال المأمون: يا ابن رسول الله ، إنما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك ودفع هذا الأمر عنك ليقول الناس: إنك زاهد في الدنيا!
فقال الرضا (عليه السلام): والله ما كذبت منذ خلقني ربي عز وجل، وما زهدت في الدنيا للدنيا، وإني لأعلم ما تريد!
فقال المأمون: وما أريد؟ قال: لي الأمان على الصدق؟ قال: لك الأمان. قال: تريد بذلك أن يقول الناس: إن علي بن موسى لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة!
فغضب المأمون ثم قال: إنك تتلقاني أبداً بما أكرهه، وقد أمنت سطواتي، فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلا أجبرتك على ذلك، فإن فعلت وإلا ضربت عنقك!
فقال الرضا (عليه السلام) : قد نهاني الله عز وجل أن ألقي بيدي إلى التهلكة، فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك على أني لا أولي أحداً ولا أعزل أحداً، ولا أنقض رسماً ولا سنة، وأكون في الأمر من بعيد مشيراً. فرضي منه بذلك وجعله ولي عهده، على كراهة منه (عليه السلام) لذلك».
وقال عضد الدين الإيجي وهو من كبار أئمة السنة، عن الجفر والجامعة: «وهما كتابان لعلي رضي الله تعالى عنه، قد ذكر فيهما على طريقة علم الحروف الحوادث التي تحدث إلى انقراض العالم، وكان الأئمة المعروفون من أولاده يعرفونهما ويحكمون بهما. وفي كتاب قبول العهد الذي كتبه علي بن موسى رضي الله عنهما إلى المأمون: إنك قد عرفت من حقوقنا ما لم يعرفه آباؤك فقبلت منك عهدك، إلا أن الجفر والجامعة يدلان على أنه لا يتم». (شرح المواقف:2/60).
20- قَتَلَ المأمون الإمام الرضا (عليه السلام) وقَتَلَ المعتصم الإمام الجواد (عليه السلام)
كتب المأمون الى الإمام الرضا (عليه السلام) عندما أحضره من المدينة، أن يأتي معه بمن أحب من أهل بيته، ولكن الإمام (عليه السلام) تعمد أن يبقي ابنه الوحيد الإمام الجواد (عليه السلام) في المدينة، وكان عمره عندما استشهد الإمام بضع سنين، وأخبر أنه الإمام بعده وأوصى اليه: «عن معمر بن خلاد قال: سمعت الرضا (عليه السلام) وذكر شيئاً فقال: ما حاجتكم إلى ذلك، هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيرته مكاني، وقال: إنا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القذة بالقذة». (الكافي:1/320).
وفي الكافي:1/322،عن الخيراني عن أبيه قال: كنت واقفاً بين يدي أبي الحسن (عليه السلام) بخراسان فقال له قائل: يا سيدي إن كان كَوْنٌ فإلى من؟ قال: إلى أبي جعفر ابني، فكأن القائل استصغر سن أبي جعفر، فقال أبو الحسن: إن الله تبارك وتعالى بعث عيسى بن مريم رسولاً نبياً صاحب شريعة مبتدأة، في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر».
وفي دلائل الامامة/391: « ومكث أبو جعفر (عليه السلام) مستخفياً بالإمامة، فلما صار له ست عشر سنة وجه المأمون من حمله وأنزله بالقرب من داره، وعزم على تزويجه ابنته واجتمعت بنو هاشم وسألوه أن لا يفعل ذلك، فقال لهم: هو والله الأعلم بالله ورسوله وسنته وأحكامه من جميعكم، فخرجوا من عنده وبعثوا إلى يحيى بن أكثم فسألوه الإحتيال على أبي جعفر بمسألة في الفقه يلقيها عليه فلما اجتمعوا وحضر أبو جعفر (عليه السلام) قالوا: يا أمير المؤمنين هذا يحيى بن أكثم، إن أذنت أن يسأل أبا جعفر عن مسألة في الفقه فينظر كيف فهمه، فأذن المأمون في ذلك، فقال يحيى لأبي جعفر (عليه السلام) : ما تقول في محرم قتل صيداً؟
قال أبو جعفر (عليه السلام) : في حِلٍّ أو في حرم، عالماً أو جاهلاً، عمداً أو خطأ، صغيراً أو كبيراً، حراً أو عبداً، مبتدئاً أو معيداً، من ذوات الطير أو غيرها، من صغار الصيد أو من كبارها، مصراً أو نادماً، رمى بالليل في وكرها أو بالنهار عياناً، محرماً للعمرة أو الحج؟ فانقطع يحيى انقطاعاً لم يخف على أحد من أهل المجلس وتحير الناس تعجباً من جوابه...قال المأمون: يا أبا جعفر إن رأيت أن تبين لنا ما الذي يجب على كل صنف من هذه الأصناف التي ذكرت...»
وأراد المأمون من الإمام الجواد (عليه السلام) أن يقيم عنده في بغداد، ليكون تحت رقابته ويبعده عن شيعته وعامة المسلمين، فأقام في بغداد فترة ثم رجع الى المدينة وأخذ معه زوجته أم الفضل بنت المأمون، وكانت عدوة له كأبيها، ولم يرزق منها أولاداً، بل رزق ابنين وبنتين من غيرها!
وعندما توفي المأمون وولي أخوه المعتصم فرض على الإمام (عليه السلام) أن يسكن في بغداد، فجاء مع زوجته أم الفضل لفترة أيضاً، وترك زوجته وأولاده في المدينة وفي سنة (220هجرية) قامت أم الفضل بسُمِّ الإمام (عليه السلام)، فدعا عليها، فأصيبت بداء في موضع حساس ولم ينفع لها علاج حتى هلكت! (دلائل الامامة/395).
وقد حاولت السلطة محاصرة الإمام (عليه السلام) في حياة القصور وإبعاده عن شيعته، وتضعيف عقيدتهم به! لكنه (عليه السلام) كان حاسماً في برنامجه، فلم يكن يحضر مجالسهم إلا مضطراً، وكان يتصل بالناس، وقد وجه علماء شيعته ليملؤوا فراغ غيابه، ويردوا شبهات علماء السلطة!
قال لهم كما في الإحتجاج (1/9): «من تكفل بأيتام آل محمد المنقطعين عن إمامهم، المتحيرين في جهلهم، الأسارى في أيدي شياطينهم وفي أيدي النواصب من أعدائنا، فاستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم، وقهر الشياطين برد وساوسهم، وقهر الناصبين بحجج ربهم ودلائل أئمتهم، ليحفظوا عهد الله على العباد، أكثرُ من فضل السماء على الأرض، والعرش والكرسي والحُجُب على السماء! وفضلهم على العباد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء».
وكان في غيابه المفروض عليه عن شيعته يهيؤهم لتحمل الغيبة الآتية الطويلة لإمامهم المهدي (عجل الله فرجه)، قال: «لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم من العلماء الداعين إليه والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله ، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله ، ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها. أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل».
وعندما لم يستطع المعتصم أن تؤثر على عقيدة شيعة الإمام (عليه السلام) به، قرر قتله!
قال عمر بن فرج الرخجي وهو وزير عباسي (تاريخ الذهبي:17/284): «قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : إن شيعتك تدعي أنك تعلم كل ماء في دجلة ووزنه، وكنا على شاطئ دجلة؟ فقال (عليه السلام) : يقدر الله تعالى على أن يُفَوِّضَ علم ذلك إلى بعوضة من خلقه أم لا؟ قلت: نعم يقدر. فقال: أنا أكرم على الله تعالى من بعوضة، ومن أكثر خلقه» والبحار:50/100.
وأوصى (عليه السلام) الى ابنه علي الهادي (عليه السلام)، قال إسماعيل بن مهران: «لما خرج أبو جعفر (عليه السلام) من المدينة إلى بغداد في الدفعة الأولى من خرجتيه، قلت له عند خروجه: جعلت فداك إني أخاف عليك في هذا الوجه، فإلى من الأمر بعدك؟ فكرَّ بوجهه إلي ضاحكاً وقال: ليس الغيبة حيث ظننت في هذه السنة.
فلما أخرج به الثانية إلى المعتصم صرت إليه فقلت له: جعلت فداك أنت خارج فإلى من هذا الأمر من بعدك؟ فبكى حتى اخضلت لحيته ثم التفت إليَّ فقال: عند هذه يخاف عليَّ، الأمر من بعدي إلى ابني علي». (الكافي:1/323).
21- المتوكل العباسي يجبر الإمام الهادي (عليه السلام) على الإقامة بسامراء
بعد أن قتل المعتصم الإمام الجواد (عليه السلام) أرسل سرية عسكرية الى المدينة لإحضار ولده الإمام علي الهادي (عليه السلام) الى بغداد، فجعل الإمام طريقه على النجف وزار أمير المؤمنين (عليه السلام) بزيارة بليغة تجسد الإصرار على إمامة أمير المؤمنين والعترة (عليهم السلام)، وتعتبر تحدياً للمعتصم، وقد رواها الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي القاسم بن روح وعثمان بن سعيد العمري، عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري، عن أبيه (عليهما السلام) وأولها: « السلام على محمد رسول الله ، خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وصفوة رب العالمين، أمين الله على وحيه، وعزائم أمره، الخاتم لما سبق، والفاتح لما استقبل، والمهيمن على ذلك كله، ورحمة الله وبركاته وصلواته وتحياته. السلام على أنبياء الله ورسله، وملائكته المقربين، وعباده الصالحين. السلام عليك يا أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، ووارث علم النبيين، وولي رب العالمين، ومولاي ومولى المؤمنين ورحمة الله وبركاته. السلام عليك يا أمير المؤمنين، يا أمين الله في أرضه، وسفيره في خلقه وحجته البالغة على عباده. السلام عليك يا دين الله القويم، وصراطه المستقيم. السلام عليك أيها النبأ العظيم، الذي هم فيه مختلفون وعنه يسألون... الى آخر الزيارة وهي طويلة». (كتاب المزار لمحمد بن المشهدي/263).
وقد نجاه الله من شر المعتصم وعاد (عليه السلام) الى المدينة، وبقي حتى هلك المعتصم وانتقلت العاصمة الى سامراء وتولى المتوكل، فقرر أن يلزمه بالإقامة فيها:
ففي الكافي:1/501: «أخذت نسخة كتاب المتوكل إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) من يحيى بن هرثمة في سنة ثلاث وأربعين ومائتين، وهذه نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن أمير المؤمنين عارف بقدرك، راع لقرابتك، موجب لحقك، يقدر من الأمور فيك وفي أهل بيتك ما أصلح الله به حالك وحالهم، وثبت به عزك وعزهم، وأدخل اليمن والأمن عليك وعليهم، يبتغي بذلك رضاء ربه وأداء ما افترض عليه فيك وفيهم.
وقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد الله بن محمد عما كان يتولاه من الحرب والصلاة بمدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقك واستخفافه بقدرك، وعندما قرفك به ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين براء تك منه، وصدق نيتك في ترك محاولته، وأنك لم تؤهل نفسك له.
وقد ولى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل، وأمره بإكرامك وتبجيلك، والإنتهاء إلى أمرك ورأيك، والتقرب إلى الله وإلى أمير المؤمنين بذلك. وأمير المؤمنين مشتاق إليك يحب إحداث العهد بك والنظر إليك، فإن نشطت لزيارته والمقام قبله، ما رأيت شخصت ومن أحببت من أهل بيتك ومواليك وحشمك، على مهلة وطمأنينة، ترحل إذا شئت وتنزل إذا شئت، وتسير كيف شئت، وإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ومن معه من الجند مشيعين لك، يرحلون برحيلك ويسيرون بسيرك، والأمر في ذلك إليك حتى توافي أمير المؤمنين، فما أحد من إخوته وولده وأهل بيته وخاصته ألطف منه منزلة، ولا أحمد له أثرة ولا هو لهم أنظر وعليهم أشفق وبهم أبر وإليهم أسكن منه إليك، إن شاء الله تعالى. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، وكتب إبراهيم بن العباس وصلى الله على محمد وآله وسلم».
ويتضح منه هيبة المتوكل للإمام الهادي (عليه السلام)، وأنه كان اتهمه بالتحضير للثورة عليه! وأمر والي المدينة بمضايقته، ثم قرر أن يحضره الى سامراء.
وفي بحار الأنوار (50/207) عن مروج الذهب للمسعودي، قال: «عن يحيى بن هرثمة قال: وجهني المتوكل إلى المدينة لإشخاص علي بن محمد بن علي بن موسى (عليهم السلام) لشيء بلغه عنه، فلما صرت إليها ضج أهلها وعجوا ضجيجاً وعجيجاً ما سمعت مثله! فجعلت أسكنهم وأحلف أني لم أؤمر فيه بمكروه، وفتشت منزله فلم أصب فيه إلا مصاحف ودعاء وما أشبه ذلك، فأشخصته وتوليت خدمته وأحسنت عشرته، فبينا أنا في يوم من الأيام والسماء صاحية والشمس طالعة إذ ركب وعليه ممطر قد عقد ذنب دابته فتعجبت من فعله، فلم يكن من ذلك إلا هنيئة حتى جاءت سحابة فأرخت عزاليها، ونالنا من المطر أمر عظيم جداً فالتفت إلي فقال: أنا أعلم أنك أنكرت ما رأيت، وتوهمت أني أعلم من الأمر ما لم تعلم، وليس ذلك كما ظننت ولكني نشأت بالبادية، فأنا أعرف الرياح التي تكون في عقبها المطر فتأهبت لذلك!
فلما قدمت إلى مدينة السلام (بغداد) بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري وكان على بغداد فقال: يا يحيى إن هذا الرجل قد ولده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمتوكل من تعلم، وإن حرضته عليه قتله وكان رسول الله خصمك! فقلت: والله ما وقفت منه إلا على أمر جميل! فصرت إلى سامراء فبدأت بوصيف التركي وكنت من أصحابه، فقال لي: والله لئن سقط من رأس هذا الرجل شعرة لا يكون الطالب بها غيري! فتعجبت من قولهما، وعرفت المتوكل ما وقفت عليه من أمره، وسمعته من الثناء فأحسن جائزته، وأظهر بره وتكرمته».
أقول: إسحاق بن إبراهيم الطاهري من الأمراء وقادة الجيش عند العباسيين وكان والي بغداد من قبل المتوكل، والطاهري نسبة الى طاهر بن الحسين، وهو قائد جيش المأمون الذي دخل الى بغداد وقتل أخاه الأمين!
ووصيف التركي من كبار قادة الجيش العباسي في سامراء، وكان كفيل المستعين الذي صار خليفة. (تاريخ الطبري:7/433). فكلاهما من أركان الدولة العباسية، ومع ذلك لهما اعتقاد ديني بالإمام الهادي (عليه السلام)!
ورغم مراقبة المتوكل وتضييقه على الإمام (عليه السلام) كانت له مكانة وهيبة في سامراء ومنزلة خاصة في نفوس رجال القصر وعائلة المتوكل، حتى أن والدة المتوكل كانت تنذر له النذور لقضاء حوائجها، وابنه المنتصر صار من شيعته.
وقد حاول المتوكل أن يشوه صورة الإمام (عليه السلام) ويجبره على مشاركته في شرب الخمر فلم يستطع: «كان المتوكل يقول: ويحكم قد أعياني أمر ابن الرضا، أبى أن يشرب معي أو ينادمني أو أجد منه فرصة في هذا! فقالوا له: فإن لم تجد منه فهذا أخوه موسى قصاف عزاف، يأكل ويشرب ويتعشق. قال: إبعثوا إليه فجيئوا به حتى نموه به على الناس ونقول ابن الرضا! فكتب إليه وأشخص مكرماً وتلقاه جميع بني هاشم والقواد والناس على أنه إذا وافى أقطعه قطيعة وبنى له فيها، وحول الخمارين والقيان إليه ووصله وبره وجعل له منزلاً سَرِياً حتى يزوره هو فيه، فلما وافى موسى تلقاه أبو الحسن في قنطرة وصيف، وهو موضع يتلقى فيه القادمون، فسلم عليه ووفاه حقه ثم قال له: إن هذا الرجل قد أحضرك ليهتكك ويضع منك، فلا تقر له أنك شربت نبيذاً قط، فقال له موسى: فإذا كان دعاني لهذا فما حيلتي؟قال: فلا تضع من قدرك ولا تفعل فإنما أراد هتكك فأبى عليه فكرر عليه، فلما رأى أنه لا يجيب قال: أما إن هذا مجلس لا تجتمع أنت وهو عليه أبداً! فأقام ثلاث سنين يبكر كل يوم فيقال له: قد تشاغل اليوم فرح فيروح، فيقال: قد سكر فبكر فيبكر، فيقال: شرب دواء! فما زال على هذا ثلاث سنين حتى قتل المتوكل ولم يجتمع معه عليه»! (الكافي:1/502).
وداهم المتوكل بيت الإمام (عليه السلام) في سامراء وأراد به شراً، فدفع الله شره عنه.
قال المسعودي في مروج الذهب:2/78: «وقد كان سُعِيَ بأبي الحسن علي بن محمد إلى المتوكل، وقيل له إن في منزله سلاحاً وكتباً وغيرها من شيعته، فوجه إليه ليلاً من الأتراك وغيرهم مَنْ هجم عليه في منزله على غفلة ممن في داره، فوجده في بيت وحده مغلق عليه وعليه مِدْرَعة من شَعَرٍ، ولا بساط في البيت إلا الرمل والحصى، وعلى رأسه مِلحَفة من الصوف متوجهاً إلى ربه يترنم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد، فأخذ على ما وجد عليه وحمل إلى المتوكل في جَوْفِ الليل، فمثل بين يديه والمتوكل يشرب وفي يده كأس، فلما رآه أعْظَمه وأجلسه إلى جَنبِه ولم يكن في منزله شيء مما قيل فيه، ولا حالة يتعلل عليها بها فناوله المتوكل الكأس الذي في يده، فقال: يا أمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط، فأعْفِنِي منه! فعافاه، وقال: أنشدني شعراً أستحسنه، فقال: إني لقليل الرواية للأشعار، فقال: لا بد أن تنشدني فأنشده:
باتوا على قُلَل الأجْبَال تحرسهم**** غُلْبُ الرجال فما أغنتهمُ القُلَلُ
واستنزلوا بعد عزّ عن معاقلهم**** فأودعوا حُفَراً، يا بئس ما نزلوا
ناداهمُ صارخ من بعد ما قبروا**** أين الأسرة والتيجان والحلل؟
أين الوجوه التي كانت مُنَعَّمة**** من دونها تضرب الأستار والكِلَلُ
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم**** تلك الوجوه عليها الدود يقتتلُ
قد طالما أكلوا دهراً وما شربوا**** فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكِلُوا
وطالما عمروا دوراً لتحصنهم**** ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا
وطالما كنزوا الأموال وادَّخروا**** فخلفوها على الأعداء وارتحلوا
أضحت مَنَازِلُهم قفْراً مُعَطلة**** وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا
قال فأشفق كل من حضر على عَلِيٍّ، وظن أن بادرة تبدر منه إليه، قال: واللّه لقد بكى المتوكل بكاءً طويلًا حتى بلت دموعه لحيته، وبكى مَنْ حضره! ثم أمر برفع الشراب ثم قال له: يا أبا الحسن أعليك دَيْنٌ؟ قال: نعم أربعة آلاف دينار فأمر بدفعها إليه، ورده إلى منزله من ساعته مكرماً»! ومآثر الإنافة في محاسن الخلافة:1/232، وتاريخ أبي الفداء/233، وحياة الحيوان/553، وكلها مصادر سنية.
وقال في مآثر الإنافة في محاسن الخلافة:1/230، عن المتوكل: «وحظيَ في زمانه أهل الأدب، إلا أنه كان شديد البغض لعلى بن أبي طالب رضي الله عنه ولأهل بيته على خلاف ما كان عليه المأمون. وكان من جملة ندمائه عبادة المخنث. وكان يشد على بطنه مخدة تحت ثيابه ويكشف رأسه وهو أصلع ويرقص ويقول: قد أقبل الأصلع البطين. خليفة المسلمين! يعني علياً رضي الله عنه، والمتوكل يضحك! ففعل ذلك يوماً بحضرة ولده المنتصر فقال له: يا أمير المؤمنين إن علياً ابن عمك، فكل أنت لحمه إذا شئت ولا تدع مثل هذا الكلب وأمثاله يطمع فيه! فقال المتوكل للمغنين غنوا:
غار الفتى لابن عمه**** رأس الفتى في حَرِ أمه
وبلغ من بغضه لعلي وأهل بيته أنه في سنة ست وثلاثين ومائتين أمر بهدم قبر الحسين بن علي وما حوله من المنازل، ومنع الناس من زيارته! ومن غريب ما اتفق له في ذلك أنه طلب علياً الزكي ويقال له علي الهادي وعلي التقي، أحد الأئمة الإثني عشر، وبعث إليه جماعة من الترك ليحضروه، فهجموا عليه ببيته فوجدوه في بيت مغلق وعليه مدرعة شعر، وهو مستقبل القبلة يترنم بآيات من القرآن.».الى آخر ما تقدم من مروج الذهب.
ونلاحظ أن الإمام الهادي (عليه السلام) جاء بعائلته معه الى سامراء، وكان عمر ابنه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بضع سنوات. وذكر الدميري أن الإمام الهادي (عليه السلام) بقي في سامراء «عشرين سنة وتسعة أشهر». (حياة الحيوان/255).
«وكانت في أيام إمامته (عليه السلام) بقية ملك المعتصم، ثم ملك الواثق خمس سنين وسبعة أشهر، ثم ملك المتوكل أربع عشرة سنة، ثم ملك ابنه المنتصر ستة أشهر، ثم ملك المستعين وهو أحمد بن محمد بن المعتصم سنتين وتسعة أشهر، ثم ملك المعتز وهو الزبير بن المتوكل ثماني سنين وستة أشهر، وفي آخر ملكه استشهد ولي الله علي بن محمد (عليهما السلام) ودفن في داره بسر من رأى». (إعلام الورى:2/109).
22- الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) يواجه النظام العباسي الدموي
« عن علي بن عمر النوفلي قال: كنت مع أبي الحسن (عليه السلام) في صحن داره، فمر بنا محمد ابنه، فقلت له: جلعت فداك هذا صاحبنا بعدك؟ فقال: لا، صاحبكم بعدي الحسن.. أوصى أبو الحسن إلى ابنه الحسن (عليهما السلام) قبل مضيه بأربعة أشهر، وأشهدني على ذلك وجماعة من الموالي». (الكافي:1/325).
وفي الخرائج:1/478: « عن عيسى بن صبيح قال: دخل الحسن العسكري (عليه السلام) علينا الحبس وكنت به عارفاً، فقال لي: لك خمس وستون سنة وشهر ويومان، وكان معي كتاب دعاء عليه تاريخ مولدي، وإني نظرت فيه فكان كما قال! وقال: هل رزقت ولداً؟ قلت: لا فقال: الله م ارزقه ولداً يكون له عضداً، فنعم العضد الولد، ثم تمثل:
من كان ذا عضد يدرك ظلامته**** إن الذليل الذي ليس له عضد
قلت: ألك ولد؟ قال إي والله سيكون لي ولد يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، فأما الآن فلا، ثم تمثل:
لعلك يوما أن تراني كأنما**** بَنِيَّ حواليَّ الأسودُ اللوابدُ
فإن تميماً قبل أن يلد الحصى**** أقام زماناً وهو في الناس واحدُ»
وروى في الكافي:1/512: «دخل العباسيون على صالح بن وصيف.. عندما حبس أبا محمد (عليه السلام)، فقال لهم صالح: وما أصنع قد وكلت به رجلين من أشر من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم، فقلت لهما ما فيه؟ فقالا: ما تقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله، لا يتكلم ولا يتشاغل، وإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا ويداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا! فلما سمعوا ذلك انصرفوا خائبين».
وكان محمد المنتصر بن المتوكل شيعياً، وكان أبوه يسخر منه ويؤذيه، ويسميه الرافضي! قال المنتصر: «زرع والدي الآس في بستان وأكثر منه، فلما استوى الآس كله وحسن، أمر الفراشين أن يفرشوا له على دكان في وسط البستان وأنا قائم على رأسه، فرفع رأسه إليَّ وقال: يا رافضي سل ربك الأسود عن هذا الأصل الأصفر ماله من بين ما بقي من هذا البستان قد اصفرّ، فإنك تزعم أنه يعلم الغيب؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إنه ليس يعلم الغيب! فأصبحت إلى أبي الحسن من الغد وأخبرته بالأمر، فقال: يا بني إمض أنت واحفر الأصل الأصفر فإن تحته جمجمة نخرة، واصفراره لبخارها ونتنها! قال ففعلت ذلك فوجدته كما قال، ثم قال لي: يا بني لا تخبرن أحداً بهذا الأمر، إلا لمن يحدثك بمثله» (الثاقب في المناقب/538).
وفي الخرائج:1/422، عن طبيب نصراني قال: « كنت تلميذ بختيشوع طبيب المتوكل وكان يصطفيني، فبعث إليه الحسن بن علي بن محمد بن الرضا أن يبعث إليه بأخص أصحابه عنده ليفصده، فاختارني وقال: قد طلب مني ابن الرضا من يفصده فصر إليه، وهو أعلم في يومنا هذا من تحت السماء، فاحذر أن تعترض عليه فيما يأمرك به! فمضيت إليه فأمر بي إلى حجرة، وقال: كن هاهنا إلى أن أطلبك، قال وكان الوقت الذي دخلت إليه فيه عندي جيداً محموداً للفصد، فدعاني في وقت غير محمود له، وأحضر طشتاً عظيماً ففصدت الأكحل، فلم يزل الدم يخرج حتى امتلأ الطشت، ثم قال لي إقطع فقطعت، وغسل يده وشدها، وردني إلى الحجرة، وقدم من الطعام الحار والبارد شيء كثير، وبقيت إلى العصر، ثم دعاني فقال: سرح ودعا بذلك الطشت فسرحت، وخرج الدم إلى أن امتلأ الطشت، فقال إقطع فقطعت وشد يده، وردني إلى الحجرة، فبت فيها. فلما أصبحت وظهرت الشمس دعاني وأحضر ذلك الطشت وقال: سرح فسرحت، فخرج من يده مثل اللبن الحليب إلى أن امتلأ الطشت، ثم قال إقطع فقطعت وشد يده، وقدم إلي تخت ثياب وخمسين ديناراً، وقال: خذها واعذر وانصرف، فأخذت وقلت: يأمرني السيد بخدمة؟ قال: نعم، تحسن صحبة من يصحبك من دير العاقول، فصرت إلى بختيشوع وقلت له القصة، فقال: أجمعت الحكماء على أن أكثر ما يكون في بدن الإنسان سبعة أمنان من الدم، وهذا الذي حكيت لو خرج من عين ماء لكان عجباً! وأعجب ما فيه اللبن! ففكر ساعة، ثم مكثنا ثلاثة أيام بلياليها نقرأ الكتب على أن تجد لهذه الفصدة ذكراً في العالم فلم نجد، ثم قال: لم تبق اليوم في النصرانية أعلم بالطب من راهب بدير العاقول، فكتب إليه كتاباً يذكر فيه ما جرى، فخرجت وناديته فأشرف عليَّ فقال: من أنت؟ قلت: صاحب بختيشوع. قال: أمعك كتابه؟ قلت: نعم، فأرخى لي زبيلاً فجعلت الكتاب فيه فرفعه فقرأ الكتاب ونزل من ساعته! فقال: أنت الذي فصدت الرجل؟ قلت: نعم قال: طوبى لأمك! وركب بغلاً وسرنا، فوافينا سر من رأى وقد بقي من الليل ثلثه، قلت: أين تحب: دار أستاذنا أم دار الرجل؟ قال: دار الرجل، فصرنا إلى بابه قبل الأذان الأول ففتح الباب وخرج إلينا خادم أسود وقال: أيكما راهب دير العاقول؟ فقال: أنا جعلت فداك، فقال: إنزل، وقال لي الخادم: إحتفظ بالبغلين وأخذ بيده ودخلا، فأقمت إلى أن أصبحنا وارتفع النهار، ثم خرج الراهب وقد رمى بثياب الرهبانية ولبس ثياباً بيضاً وأسلم، فقال: خذني الآن إلى دار أستاذك، فصرنا إلى باب بختيشوع، فلما رآه بادر يعدو إليه ثم قال: ما الذي أزالك عن دينك؟ قال: وجدت المسيح وأسلمت على يده! قال: وجدت المسيح؟! قال: أو نظيره، فإن هذه الفصدة لم يفعلها في العالم إلا المسيح، وهذا نظيره في آياته وبراهينه! ثم انصرف إليه ولزم خدمته إلى أن مات»!.
وروى في الكافي (1/503) عن أحمد بن عبيد الله بن خاقان، وكان ناصبياً من كبار موظفي الدولة العباسية، فجرى في مجلسه يوماً ذكر العلوية ومذاهبهم فقال:
«ما رأيت ولا عرفت بسر من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا، في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته وبني هاشم، وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر، وكذلك القواد والوزراء وعامة الناس، فإني كنت يوماً قائماً على رأس أبي، وهو يوم مجلسه للناس إذ دخل عليه حجابه فقالوا: أبو محمد بن الرضا بالباب، فقال بصوت عال: إئذنوا له، فتعجبت مما سمعت منهم أنهم جسروا يكنون رجلاً على أبي بحضرته، ولم يكن عنده إلا خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يكنى، فدخل رجل أسمر، حسن القامة جميل الوجه جيد البدن حدث السن له جلالة وهيبة، فلما نظر إليه أبي قام يمشي إليه خطى، ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقواد، فلما دنا منه عانقه وقبل وجهه وصدره وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه الذي كان عليه وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه، وجعل يكلمه ويفديه بنفسه، وأنا متعجب مما أرى منه، إذ دخل الحاجب فقال: الموفق قد جاء، وكان الموفق إذا دخل على أبي، تقدم حجابه وخاصة قواده، فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سماطين إلى أن يدخل ويخرج، فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد يحدثه حتى نظر إلى غلمان الخاصة، قال حينئذ: إذا شئت جعلني الله فداك ثم قال لحجابه: خذوا به خلف السماطين حتى لا يراه هذا، يعني الموفق، فقام وقام أبي وعانقه ومضى، فقلت لحجاب أبي وغلمانه: ويلكم من هذا الذي كنيتموه على أبي وفعل به أبي هذا الفعل؟ فقالوا: هذا علوي يقال له الحسن بن علي يعرف بابن الرضا، فازددت تعجباً ولم أزل يومي ذلك قلقاً متفكراً في أمره وأمر أبي وما رأيت فيه، حتى كان الليل وكانت عادته أن يصلي العتمة ثم يجلس فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات وما يرفعه إلى السلطان، فلما صلى وجلس جئت فجلست بين يديه وليس عنده أحد فقال لي: يا أحمد لك حاجة؟ قلت: نعم يا أبه فإن أذنت لي سألتك عنها؟ فقال: قد أذنت لك يا بني فقل ما أحببت، قلت: يا أبه من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل، وفديته بنفسك وأبويك؟
فقال: يا بني ذاك إمام الرافضة، ذاك الحسن بن علي المعروف بابن الرضا، فسكت ساعة، ثم قال: يا بني لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا، وإن هذا ليستحقها في فضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه، ولو رأيت أباه رأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً، فازددت قلقاً وتفكراً وغيظاً على أبي وما سمعت منه واستزدته في فعله وقوله فيه ما قال! فلم يكن لي همة بعد ذلك إلا السؤال عن خبره والبحث عن أمره، فما سألت أحداً من بني هاشم والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلا وجدته عنده في غاية الإجلال والإعظام والمحل الرفيع والقول الجميل والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه! فعظم قدره عندي إذ لم أر له ولياً ولا عدواً إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه!
فقال له بعض من حضر مجلسه من الأشعريين: يا أبا بكر فما خبر أخيه جعفر؟ فقال: ومن جعفر فتسأل عن خبره؟ أوَ يُقرن بالحسن جعفر معلن الفسق فاجر ماجن شريب للخمور، أقل من رأيته من الرجال وأهتكهم لنفسه، خفيف قليل في نفسه، ولقد ورد على السلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن بن علي ما تعجبت منه وما ظننت أنه يكون! وذلك أنه لما اعتل بعث إلى أبي أن ابن الرضا قد اعتل فركب من ساعته فبادر إلى دار الخلافة ثم رجع مستعجلاً ومعه خمسة من خدم أمير المؤمنين كلهم من ثقاته وخاصته، فيهم نحرير، فأمرهم بلزوم دار الحسن وتعرف خبره وحاله، وبعث إلى نفر من المتطببين فأمرهم بالإختلاف إليه وتعاهده صباحاً ومساء، فلما كان بعد ذلك بيومين أو ثلاثة أخبر أنه قد ضعف، فأمر المتطببين بلزوم داره، وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممن يوثق به في دينه وأمانته وورعه، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً، فلم يزالوا هناك حتى توفي، فصارت سر من رأى ضجة واحدة!
وبعث السلطان إلى داره من فتشها وفتش حجرها وختم على جميع ما فيها وطلبوا أثر ولده، وجاؤوا بنساء يعرفن الحمل، فدخلن إلى جواريه ينظرن إليهن، فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حمل فجعلت في حجرة ووكل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم، ثم أخذوا بعد ذلك في تهيئته وعطلت الأسواق، وركبت بنو هاشم والقواد وأبي وسائر الناس إلى جنازته، فكانت سر من رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة! فلما فرغوا من تهيئته بعث السلطان إلى أبي عيسى بن المتوكل فأمره بالصلاة عليه، فلما وضعت الجنازة للصلاة عليه دنا أبو عيسى منه فكشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم من العلوية والعباسية والقواد والكتاب والقضاة والمعدلين، وقال: هذا الحسن بن علي بن محمد بن الرضا مات حتف أنفه على فراشه، حضره من حضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان ومن القضاة فلان وفلان ومن المتطببين فلان وفلان.
ثم غطى وجهه وأمر بحمله فحمل من وسط داره، ودفن في البيت الذي دفن فيه أبوه، فلما دفن أخذ السلطان والناس في طلب ولده، وكثر التفتيش في المنازل والدور وتوقفوا عن قسمة ميراثه، ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهم عليها الحمل لازمين حتى تبين بطلان الحمل، فلما بطل الحمل عنهن قسم ميراثه بين أمه وأخيه جعفر، وادعت أمه وصيته وثبت ذلك عند القاضي.
والسلطان على ذلك يطلب أثر ولده، فجاء جعفر بعد ذلك إلى أبي فقال: إجعل لي مرتبه أخي وأوصل إليك في كل سنة عشرين ألف دينار، فزبره أبي وأسمعه وقال له: يا أحمق السلطان جرد سيفه في الذين زعموا أن أباك وأخاك أئمة ليردهم عن ذلك فلم يتهيأ له ذلك، فإن كنت عند شيعة أبيك أو أخيك إماماً فلا حاجة بك إلى السلطان أن يرتبك مراتبهما ولا غير السلطان، وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا، واستقله أبي عند ذلك واستضعفه وأمر أن يحجب عنه، فلم يأذن له في الدخول عليه حتى مات أبي، وخرجنا وهو على تلك الحال، والسلطان يطلب أثر ولد الحسن بن علي».
وروى في الكافي:1/509، عن نصير الخادم قال: «سمعت أبا محمد غير مرة يكلم غلمانه بلغاتهم: ترك وروم وصقالبة، فتعجبت من ذلك وقلت: هذا ولد بالمدينة ولم يظهر لأحد حتى مضى أبو الحسن، ولا رآه أحد فكيف هذا؟ أحدث نفسي بذلك، فأقبل علي فقال: إن الله تبارك وتعالى يبين حجته من سائر خلقه بكل شيء، ويعطيه اللغات ومعرفة الأنساب والآجال والحوادث، ولولا ذلك لم يكن بين الحجة والمحجوج فرق»!
وقال الطبري في دلائل الإمامة/423: «عاش بعد أبيه أيام إمامته بقية ملك المعتز، ثم ملك المهتدي، ثم ملك أحمد بن جعفر المتوكل المعروف بالمعتمد، اثنين وعشرين سنة وأحد عشر شهراً، وبعد خمس سنين من ملكه استشهد ولي الله وقد كمل عمره تسعاً وعشرين سنة. ومات مسموماً يوم الجمعة لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول، سنة ستين ومائتين من الهجرة، بسر من رأى ودفن في داره إلى جانب قبر أبيه (عليهما السلام)».
23- الخليفة العباسي يستنفر للقبض على الإمام المهدي (عليه السلام)
كان الخلفاء العباسيون يعرفون إمامة الأئمة من ذرية الحسين (عليهم السلام)، وقد صرح بذلك المنصور والرشيد والمأمون وغيرهم، وكان المتوكل وأولاده يتخوفون من ولادة الإمام الثاني عشر لأنه المهدي الموعود ويخشون أن يزول ملكهم على يده!
لذلك اشتدت رقابتهم على الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) لأنه الإمام الحادي عشر، وتركزت على الولد الذي سيولد له (عليه السلام)، كما رأيت في رواية ابن الوزير.
ولعل هذا السبب في أن الإمام (عليه السلام) لم يتزوج رسمياً واكتفى بالتسري أي بالجواري، فكانت نساء الخليفة أو مخابرات القصر تراقبن الجواري، وقد عرفن أن الإمام (عليه السلام) يحب الجارية الرومية نرجس، فغير الإمام (عليه السلام) إسمها عدة مرات وسماها صيقل، وريحانة، وسوسن (روضة الواعطين/266) حتى اصطفاها الله تعالى ورزقها الإمام المهدي (عج الله فرجه).
روى الطوسي في الغيبة/140، عن أبي عبد الله المطهري، عن حكيمة بنت محمد بن علي الرضا (عليهما السلام) قالت: «بعث إلي أبو محمد (عليه السلام) سنة خمس وخمسين ومأتين في النصف من شعبان وقال: يا عمة إجعلي الليلة إفطارك عندي فإن الله عز وجل سيسرك بوليه وحجته على خلقه خليفتي من بعدي، قالت حكيمة: فتداخلني لذلك سرور شديد وأخذت ثيابي عليَّ وخرجت من ساعتي حتى انتهيت إلى أبي محمد (عليه السلام) وهو جالس في صحن داره وجواريه حوله فقلت: جعلت فداك ياسيدي الخلف ممن هو؟ قال: من سوسن، فأدرت طرفي فيهن فلم أر جارية عليها أثر غير سوسن، قالت حكيمة: فلما أن صليت المغرب والعشاء الآخرة أتيت بالمائدة فأفطرت أنا وسوسن وبايتها في بيت واحد، فغفوت غفوة ثم استيقظت، فلم أزل مفكرة فيما وعدني أبو محمد (عليه السلام) من أمر ولي الله (عليه السلام)، فقمت قبل الوقت الذي كنت أقوم في كل ليلة للصلاة، فصليت صلاة الليل حتى بلغت إلى الوتر، فوثبت سوسن فزعة وخرجت فزعة، وأسبغت الوضوء ثم عادت فصلت صلاة الليل وبلغت إلى الوتر، فوقع في قلبي أن الفجر قد قرب فقمت لأنظر فإذا بالفجر الأول قد طلع، فتداخل قلبي الشك من وعد أبي محمد (عليه السلام) فناداني من حجرته: لا تشكي وكأنك بالأمر الساعة قد رأيته، إن شاء الله تعالى. قالت حكيمة: فاستحييت من أبي محمد (عليه السلام) ومما وقع في قلبي، ورجعت إلى البيت وأنا خجلة، فإذا هي قد قطعت الصلاة وخرجت فزعة فلقيتها على باب البيت فقلت: بأبي أنت وأمي هل تحسين شيئاً؟ قالت: نعم يا عمة إني لأجد أمراً شديداً قلت: لا خوف عليك إن شاء الله تعالى، وأخذت وسادة فألقيتها في وسط البيت وأجلستها عليها وجلست منها حيث تقعد المرأة من المرأة للولادة، فقبضت على كفي وغمزت غمزة شديدة، ثم أنت أنة وتشهدت، ونطرت تحتها فإذا أنا بولي الله صلوات الله عليه متلقياً الأرض بمساجده، فأخذت بكتفيه فأجلسته في حجري فإذا هو نظيف مفروغ منه، فناداني أبو محمد (عليه السلام) : يا عمة هلمي فأتني بابني، فأتيته به فتناوله وأخرج لسانه فمسح عينيه ففتحها، ثم أدخله في فيه فحنكه ثم في أذنيه، وأجلسه في راحته اليسرى فاستوى ولي الله جالساً، فمسح يده على رأسه وقال له: يا بني أنطق بقدرة الله, فاستعاذ ولي الله (عليه السلام) من الشيطان الرجيم واستفتح: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيم، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ. وصلى على رسول الله وعلى أمير المؤمنين والأئمة واحداً واحداً حتى انتهى إلى أبيه! فناولنيه أبو محمد وقال: يا عمة رديه إلى أمه حتى تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ، فرددته إلى أمه وقد انفجر الفجر الثاني فصليت الفريضة، وعقبت إلى أن طلعت الشمس، ثم ودعت أبا محمد وانصرفت إلى منزلي، فلما كان بعد ثلاث اشتقت إلى ولي الله ، فصرت إليهم فبدأت بالحجرة التي كانت سوسن فيها، فلم أر أثراً ولا سمعت ذكراً، فكرهت أن أسأل، فدخلت على أبي محمد، فاستحييت أن أبدأ بالسؤال، فبدأني فقال: هو يا عمة في كنف الله وحرزه وستره وغيبه، حتى يأذن الله له، فإذا غيب الله شخصي وتوفاني ورأيت شيعتي قد اختلفوا فأخبري الثقات منهم، وليكن عندك وعندهم مكتوماً، فإن ولي الله يغيبه الله عن خلقه ويحجبه عن عباده، فلا يراه أحد حتى يقدم له جبرئيل (عليه السلام) فرسه، لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً»!
في كمال الدين:2/475، عن أبي الأديان من حديث قال: «ودخلت سر من رأى يوم الخامس عشر كما ذكر لي (عليه السلام) فإذا أنا بالواعية في داره وإذا به على المغتسل، وإذا أنا بجعفر بن علي أخيه بباب الدار، والشيعة من حوله يعزونه ويهنونه، فقلت في نفسي: إن يكن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة، لأني كنت أعرفه يشرب النبيذ ويقامر في الجوسق ويلعب بالطنبور، فتقدمت فعزيت وهنيت، فلم يسألني عن شيء، ثم خرج عقيد فقال: يا سيدي قد كفن أخوك فقم وصل عليه، فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله يقدمهم السمان، والحسن بن علي، قتيل المعتصم المعروف بسلمة، فلما صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن علي صلوات الله عليه على نعشه مكفناً، فتقدم جعفر بن علي ليصلي على أخيه، فلما هم بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج، فجبذ برداء جعفر بن علي وقال: تأخر يا عم فأنا أحق بالصلاة على أبي، فتأخر جعفر وقد اربَدَّ وجهه واصْفَرَّ، فتقدم الصبي وصلى عليه».
أقول: هكذا انذهل جعفر وتأخر، وصلى خلف الإمام المهدي (عجل الله فرجه) ومعه ابن الخليفة والقضاة والقادة والوزراء وبقية هيئة الدولة، ثم غاب الإمام (عليه السلام) قبل أن يقبضوا عليه! ولما أفاقوا من ذهولهم أخبروا الخليفة بما حدث فشدد البحث والتفتيش عن الإمام (عليه السلام)، لأنه يعلم أنه الثاني عشر الموعود، ويخشى أن يكون ظهوره في زمنه.