أدوار التشريع وأصوله بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه واله) عند الشيعة
لقد بزغ فجر الإسلام والعالم أحوج من أي وقت مضى إلى نظام شامل لجميع نواحي الحياة يجمع الناس على الحق ويساوي بينهم في الحقوق والواجبات ويوحد بينهم في عبادة إله واحد لا شريك له ولا نظير، ويدعوهم إلى العمل بجد وإخلاص لبناء مجتمع صالح تسوده العدالة ويسيطر فيه الخير والهدى على الشر والطغيان فجاء محمّد (صلى الله عليه وآله) بشريعته الخالدة البعيدة في أصولها عن الأوهام والخرافات، والتي هي في فروعها أداة طبيعية لحل المشاكل وتذليل مشاكل الحياة في كل زمان ومكان. وطبيعي أن يتم التشريع على مراحل مختلفة وان يبلغ ما قدّر له من نضج وكمال بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى.
والتشريع في مرحلته الأولى، كان عماده القرآن والسنة على اختلافها من قول الرسول، أو فعله وتقريره ونحوا من اثنين وعشرين عاما تكامل فيها التشريع بواسطة الوحي، وبلّغ الرسول بدوره كل ما أُوحي إليه من تشريعات وخلافها بنفسه بواسطة من كان يختارهم للتبليغ خارج المدينة التي اتخذها المقر الرئيسي لدولته الفتية الناشئة، وبوفاته انتهت المرحلة الأولى من مراحل التشريع، وانقطعت بوفاته أخبار السماء، ولكنه خلّف للبشرية تشريعا كاملا وافيا بحاجاتهم مهما طال الزمان وتطورت الحياة، ولم يبقَ على المسلمين من بعده إلاّ الرجوع إلى الكتاب الكريم والسنة النبوية والتفريع والتطبيق واستلهامهما لإعطاء الحوادث المتجددة حكمها في كل زمان ومكان بالطرق المألوفة في مقام التفاهم.
المرحلة الثانية من مراحل التشريع:
هذه المرحلة تبتدئ بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) حيث انقطع الوحي بوفاته، ولم يعد من سبيل إلى المسلمين إلاّ الرجوع إلى نصوص القرآن وظواهره، وإلى السنة المروية عن الرسول (صلى الله عليه وآله) سواء منها ما كان في مقام التشريع، وما ورد عنه في أحكام الحوادث، وحل الخصومات ونحو ذلك. ومما لا شك فيه أن المهمة الملقاة على عاتق الصحابة في هذا الدور تتطلب جهدا منهم في تفريع الأحكام وتطبيق الأصول والقواعد العامة على الجزئيات والموارد المختلفة، ذلك لان أكثر آيات التشريع قد وضعت المبادئ العامة، وتركت تفصيلها وبيان ماهيتها وكيفيتها إلى الرسول (صلى الله عليه وآله)، وبعضها لم يكن صريحا في المراد بنحو يمتنع عن التأويل ولا يتسع لأكثر من معنى، وما هو نص في مورده من آيات الكتاب الكريم ينحصر في موارد محدودة، والسنة لم تكن مدونة في كتاب مستقل، بل كانت في صدور الحفاظ المتفرقين، وقد أكلت حروب الردة جماعة منهم، على أن السنة الصحيحة لم تتعرض لأحكام الجزئيات ما كان منها وما هو كائن، لا سيما وقد انتشر الإسلام انتشارا عظيما سريعا في سنوات معدودات، ونال المسلمون من الغنى في المال وزخرف الحياة ما لا عهد لهم به من قبل، بعد استيلائهم على بلاد الفرس والرومان، تلك البلاد الغنية بحضاراتها وعلومها المتمدنة كأرقى ما وصلت إليه المدنية في ذلك العصر، فواجه المسلمون بعد وفاة الرسول مسائل كثيرة، ومشاكل في كل شأن من شؤون الحياة نتجت عن اتصال العرب بغيرهم وتطور الحياة في مختلف الميادين وكل هذه الحوادث تحتاج إلى تشريعات لم يكونوا يحتاجون إليها من قبل ولم ترد نصوص في الكتاب والسنة تتعرض لأحكامها، فنتج من كل ذلك أصلان من أصول التشريع وهما الإجماع والقياس. وأصبحت أصول التشريع أربعة بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه واله)، ويبدو أن الإجماع في المرحلة الأولى من مراحل تطوره كان قوامه اتفاق جماعة من الفقهاء على رأي واحد من المسألة الواحدة.
قال الدكتور محمّد يوسف موسى: كان أبو بكر إذا سئل عن شيء أو جاءه خصم في قضية من القضايا نظر أولا إلى القرآن، فإن وجد فيه حكم الواقعة المطلوب معرفة حكم اللّه فيها قضى به، فان لم يجد ما يريد لجأ إلى ما يعرفه من أحاديث الرسول فإن وجد طلبه قضى به، فإن لم يجد لا في الكتاب ولا في السنة لجأ إلى الصحابة، فإن وجد عند احدهم في ذلك شيئا عن الرسول قضى به. وحمد اللّه على أن في الأمة من يحفظ علم رسوله وان أعياه الأمر جمع من يرى من خيار الناس وأهل الرأي والعلم فاستشارهم، ثمّ يقضي بما يجتمعون عليه.
وأضاف إلى ذلك: أن عمر بن الخطاب بعد أن آلت إليه خلافة المسلمين، إذا لم يجد ما يبغي في القرآن والحديث، فإن لم يجد لأبي بكر قضاء في المسألة، أخذ بما يجمع عليه أهل العلم والرأي من الصحابة.
وقد تضاعفت الحاجة إلى الخروج من تلك الأزمة التي أحس بها المسلمون بعد وفاة الرسول وهي فقرهم في المصادر التي تحل مشاكلهم وتؤمن لها الحول الصحيحة عندما اخذ الكثيرون من الصحابة ينزحون عن المدينة إلى تلك البلاد التي فتحها المسلمون، وما نتج عن ذلك من شيوع الحديث والكذب فيه، وتعمق المسلمين في دراسة القرآن والسنة، فكان من الطبيعي أن تضعف الثقة ببعض المرويات عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وان يصح الحديث عند شخص ولا يصح عند غيره، وان يصبح استفادة الحكم من الكتاب منوطا بالاجتهاد في الغالب، ولذا كثر الاختلاف بين الصحابة في فهم آيات التشريع وفي الفتوى واعتماد كل منهم على أحاديث ينسبها إلى الرسول مؤيدة لادعائه وعلى بعض الآيات القرآنية.
ومهما كان الحال فالإجماع قد وضع نواته الشيخان أبو بكر وعمر عندما كانت الحوادث تعرض عليهما و لا يجدان لها حلا في الكتاب والسنة، ويؤيد ذلك ما جاء في تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ الخضري: أن أبا بكر كان إذا لم يجد في الكتاب نصا، ولا عند الناس سنة يجمع الناس ويستشيرهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيئ قضى به.
وأضاف إلى ذلك: كان الشيخان إذا استشارا جماعة في حكم فأشاروا فيه برأي تبعه الناس، ولا يسوغ لأحد أن يخالفه، وسمي إبداء الرأي بهذا الشكل إجماعا.
وجاء عن المبسوط للسرخسي: أن عمر كان يستشير الصحابة مع فقهه، حتّى كان إذا رفعت إليه حادثة قال ادعوا عليّا وادعوا لي زيدا. فكان يستشيرهما ثمّ يفصل بما اتفقا عليه.
وقال الشعبي: كانت القضية ترفع إلى عمر بن الخطاب فربما تأمل في ذلك ويستشير أصحابه.
ورووا عن سعيد بن الحسيب أن عليّا (عليه السلام) قال: قلت يا رسول اللّه الأمر ينزل بنا ما لم ينزل فيه القرآن، ولم تمض فيه منك سنة قال: اجمعوا له العالمين فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد.
إلى غير ذلك من الوثائق التي تنص على أن الصحابة كانوا يقدسون رأي الجماعة إذا اتفقوا على شيء واحد وكان ذلك منهم البذرة الأولى للإجماع الذي تتطور أخيرا وأصبح موضع جدل بين العلماء في بعض نواحيه كما سنعرض بعض الآراء فيه في الفصول الآتية:
وقد غالى بعض أنصار الإجماع فادعوا بأن الرسول (صلى الله عليه وآله) هو الذي وضع لهم نواته ورووا عنه أنه قال: ما اجتمعت أمتي على ضلال، ويد اللّه مع الجماعة، وانه أمرهم بأن يجمعوا العالمين ويعملوا برأيهم فيما إذا عرضت عليهم مشكلة ولم يجدوا حكمها في الكتاب والسنة.
كما استدلوا أيضا بالآية من سورة النساء: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا).
وبالآية من سورة البقرة: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا).
وبالآية من سورة آل عمران: (اعتصموا بحبل اللّه جميعا ولا تفرقوا) إلى غير ذلك من الآيات التي اعتمد عليها أنصار هذا النوع من الإجماع.
القياس:
الأصل الرابع الذي التجأ إليه المسلمون بعد وفاة الرسول لحل مشاكلهم القياس، وقد وجدوا فيه منفّسا لهم في الخروج من تلك الأزمة التي أحاطت بهم نتيجة لكثرة الحوادث التي واجهتهم بعد أن اتصلوا بغيرهم من الأمم المتحضرة.
والقياس المصطلح عند العاملين به، تسوية واقعة لم يرد نص بحكمها بواقعة ورد نص بحكمها في الحكم الذي ورد به النص لتساوي الواقعتين في علة ذلك الحكم، ولعل عمر بن الخطاب كان من أكثر الصحابة عملا به وتحمسا له وأوصى القضاة والولاة الذين كان يرسلهم إلى مختلف الأقطار بالرجوع إليه والاعتماد عليه في القضاء والإفتاء، فقد أمر شريح القاضي حينما أرسله إلى الكوفة ليقضي بين أهلها أن يجتهد برأيه في الحوادث التي لم يجد عليها نصا في الكتاب والسنة.
وكتب إلى أبي موسى الأشعري احد قضاته. والقضاء فريضة محكمة أو سنة متبعة وأضاف إلى ذلك: الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك ثمّ اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى اللّه وأشبهها بالحق.
وقد راج القياس بعد عصر الصحابة وتلقاه أكثر الفقهاء بالقبول ولا سيما بين فقهاء العراق وبخاصة الأحناف وعندما بدأ العلماء في التدوين وتعليل الحوادث كان للقياس النصيب الوافر من الأدلة على جواز الرجوع إليه في استخراج الأحكام عند القياسيين، فقد استدلوا على اعتباره بالكتاب والسنة والإجماع والعقل، وجاء في بعض أدلتهم أن الرسول نفسه كان يرجع إلى القياس في كثير من الوقائع التي كانت تعرض عليه ولم يوحَ إليه بحكمها.
وبأنه حينما أرسل معاذ بن جبلة إلى اليمن ليقضيَ بين أهلها، قال له كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: اقضي بكتاب اللّه فأن لم أجد فبسنة رسول اللّه، فإن لم أجد اجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول اللّه صدره بيده وقال: الحمد للّه الذي وفق رسول اللّه لما يرضي رسول اللّه، حيث اقره ودعا له على العمل بالرأي الشامل للقياس.
وقد تحدثنا عن القياس والإجماع مفصلا وعن المراحل التي مرا بها
منذ نشأتهما في فجر الإسلام إلى المرحلة الأخيرة من المراحل التي استقرا عليها.
ومع أن الحاجة الملحة لمعرفة أحكام الحوادث المتجددة هي التي اضطرتهم إلى الاعتماد على الإجماع والقياس واعتبارهما اصلين من أصول التشريع من حيث عدم توفر النصوص الكافية بأحكام الحوادث المتجددة على حد زعمهم، مع كل ذلك فإنهم كما يتراءى من سيرتهم كانوا يتشددون في قبول المرويات عن الرسول (صلى الله عليه وآله) ولا يقبلون الحديث إلاّ بعد تحليف الراوي أو تقديم البينة.
وجاء في بعض المرويات أن عمر بن الخطاب كان يضرب المكثرين من الرواية بدرته، وقيل لأبي هريرة لمَ أكثرت من الحديث، أكنت تحدث في زمن عمر هكذا؟ قال: لو كنت أحدث في زمن عمر بمثل ما أحدثكم ضربني بمخفقته.
وعن الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ: إن الصدّيق جمع الناس بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) لما رآهم يحدثون عنه فقال: أنكم تحدثون عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم اشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول اللّه شيئا، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب اللّه فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه. وأضاف إلى ذلك في الكتاب المذكور: أن قرضة بن كعب قال: لما سيرنا عمر بن الخطاب إلى العراق مشى معنا وقال لنا: أتدرون لِمَ شيّعتكم؟ قالوا مكرمة لنا قال: ومع ذلك فإنكم تأتون أهل قرية لهم دوي في القرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم جردوا الحديث واقلوا من الرواية عن رسول اللّه وأنا شريككم، فلما قدم قرضة قالوا حدثنا: فقال لهم لقد نهانا عمر عن الحديث.
ولما حدث أبي بن كعب عن بناء بيت المقدس انتهره عمر بن الخطاب وهم يضربه، فاستشهد أبي بن كعب بجماعة من الأنصار، ولما شهدوا بأنهم سمعوا الحديث من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) تركه، فقال له أبي أتتهمني على حديث رسول اللّه قال: يا أبا المنذر، واللّه ما اتهمتك عليه، ولكني كرهت أن يكون الحديث عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ظاهرا. إلى غير ذلك من المرويات الكثيرة التي تؤكد أنهم مع حاجتهم الملحة إلى حديث الرسول (صلى الله عليه وآله) كانوا يتشددن في قبول الرواية، وينهون عن التحدث بسنته، ويبدو أن الخليفة الثاني كان من أشدهم تحمسا واندفاعا لمنع الصحابة من إظهار الحديث، ويؤيد ذلك قوله لأبي بن كعب: كرهت أن يكون الحديث عن رسول اللّه (صلى اله عليه وآله) ظاهرا.
ولكن الذين قاموا بهذه المحاولة من الصحابة قد تذرعوا بالسببين التاليين:
1 ـ مخافة الكذب على الرسول (صلى الله عليه وآله) كما يظهر ذلك من بعض النصوص.
2 ـ التخوف من اتجاه المسلمين نحو الحديث وهجر القرآن كما جاء في حديث عمر بن الخطاب مع قرضة الأنصاري. وقال محمّد عجاج الخطيب في كتابه السنة قبل التدوين: وقد كان تشدد عمر بن الخطاب للمحافظة على القرآن بجانب المحافظة على السنة، فقد خشي أن يشتغل الناس بالرواية عن القرآن الكريم، وأراد أن يحفظ المسلمون القرآن جيدا ثمّ يعتنوا بالحديث الشريف الذي لم يكن قد دون كله في عهد الرسول.
ومهما كان الحال فالذي تؤيده النصوص التاريخية أن الخلفية الثاني هو الذي حمل لواء التشدد في الرواية والتضييق على السنة ومعاقبة المكثرين من المحدثين، وأنه كان يحاول صرف الأنظار عنها بدليل قوله لأبي بن كعب: كرهت أن يكون الحديث عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ظاهرا، هذا القول يبعث على التساؤل ويثير الشكوك حول هذه المحاولة ولا سيما والمسلمون بعد انقطاع الوحي بوفاة الرسول، وبعد أن تضاعفت حاجتهم إلى النصوص الشرعية بسبب الحوادث المتجددة والتبدل الذي طرأ على حياتهم قد أصبحوا في أمس الحاجة إلى سنته وسيرته لاستلهام الحلول لمشاكلهم من أي وقت مضى وليس من المستبعد أن تكون المصلحة السياسية هي التي فرضت عليهم التشدد في الرواية والتضييق على الرواة، مخافة أن ينتشر بين المسلمين ما حدث به النبي (صلى الله عليه وآله) في فضل اخصامهم السياسيين الذين اُبعدوا بالأمس القريب عن الخلافة بحجة أن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يوص بها لأحد من الناس، وترك أمرها إلى الأمة لتختار لنفسها من تراه صالحا لهذه المهمة.
ومجمل القول لقد كان من نتائج الموقف الذي وقفه الصحابة بعد الرسول من الاعتماد على اجتهاداتهم والتشدد في الحديث، إن وقع اختلاف بينهم في كثير من الأحكام، وعلى سبيل المثال نذكر موردا من تلك الموارد التي كانت محلا للخلاف بين أئمة التشريع من الصحابة.
لقد أفتى علي (عليه السلام) بأن الحامل المتوفي عنها زوجها عليها أن تعتد بأبعد الأجلين، بمعنى أنها إذا ولدت قبل أن تمضي على وفاته أربعة اشهر وعشرا عليها أن تنتظر إلى تمام هذه المدة، وان انتهت المدة المذكورة قبل أن تضع حملها تمتد عدتها إلى وضع الحمل، ويمكن أن يكون هذا الحكم منه (عليه السلام) مستمدا من الآيتين الواردتين لبيان حكم الحامل إذا طلقها الزوج أو توفي عنها.
قال سبحانه في سورة الطلاق: (وأولات الأحمال اجلهن أن يضعن حملهن) وقال في الآية 234 في سورة البقرة: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهم أربعة أشهر وعشراً).
فهاتان الآيتان تتعارضان في الحامل المتوفي عنها زوجها إذا أولدته قبل مضي أربعة اشهر وعشر، فالآية الأولى تقضي بانتهاء عدتها بوضع الحمل كما تقضي الثانية بعدم انتهاء عدتها إلاّ بعد مضي أربعة أشهر وعشرة أيام من تاريخ الوفاة، ومقتضى القواعد المقررة في مباحث الأصول للجمع بين الأدلة المتعارضة، هو الأخذ بما أفتى به علي (عليه السلام).
وقد أفتى عمر بن الخطاب: بأن عدتها تنتهي بوضع الحمل واعتمد في ذلك على ما روي من أمر سبيقة بنت الحارث الأسلمية. فإنها بعد أن أولدت لخمسة وعشرين يوما من وفاة زوجها أفتاها النبي (صلى الله عليه وآله) بانقضاء عدتها وقال الشيخ الخضري في تاريخ التشريع الإسلامي: أن عليا (عليه السلام) في فتواه قد عمل بالآيتين جميعاً.
ومن أمثلة الخلاف بين الصحابة، ما جاء في بعض المرويات أن رجلاً تزوج من امرأة ولم يفرض لها صداقا ومات قبل أن يدخل بها، فأفتاهم عبد اللّه ابن مسعود بأن لها صداق أمثالها من النساء، وكان ابن مسعود متخوفا من هذا القضاء، ولما حدثه معقل بن سنان الأشجعي احد الصحابة أن رسول اللّه قضى بمثل ذلك ارتاحت نفسه، ولكن عليّا (عليه السلام) قد خالفه في ذلك وأفتاهم بأن عليها أن تعتد وترث من ماله ولا صداق لها إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي أوردها المؤلفون في تاريخ التشريع وتدوين السنة، ويبدو من تلك الأمثلة أن عليّا (عليه السلام) كان طرفا في أكثر الخلافات التي كانت تحدث بين الصحابة في تشريع الأحكام بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأن أحكامهم لا تنسجم مع النصوص القرآنية، ولا مع المبادئ العامة للتشريع، ولا بد لهم من الوقوع في هذه الفوضى بعد أن تشددوا في قبول الأحاديث، وفتحوا باب الاجتهاد والعمل بالرأي، وقاسوا الأشياء بالأشياء والنظائر بمثلها.
فأعطوا الأمور المشتركة في العلة المستنبطة أو في المصلحة حكما واحداً، ونتيجة ذلك أن الشارع قد ساوى في الأحكام بين المتماثلات، وخالف بينهم في غير مورد التماثل والتشابه، مع العلم بأنه قد فرق بين المتماثلات أحيانا في الحكم، وساوى بين المختلفات في بعض الأحيان ولذا فان جماعة من فقهاء الصدر الأول كانوا ينهون عن القياس، لأنه يؤدي أحيانا إلى تحريم الحلال، وتحليل الحرام.
وكان الشعبي يقول للعاملين بالقياس: إنما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس.
وكذلك الحال بالنسبة إلى الإجماع الذي نسبه الخضري وغيره إلى الصحابة، فإن الإجماع بهذا المعنى لا يمنع من الخلاف في المسألة الواحدة، ولا من الإجماع المعارض له، لأنه كما يدعون يحصل من اتفاق جماعة من الصحابة على رأي واحد، ولا يشترط فيه اتفاق الصحابة كلهم على ذلك الرأي كما قدمناه.
ولو أن الحكام بعد الرسول تركوا أمر التشريع إلى علي (عليه السلام) واكتفوا بالخلافة، وانصرفوا إلى إدارة شؤون الأمة، لأغناهم ذلك عما وقع المسلمون فيه من اختلاف في الحديث والأحكام، ولما احتاجوا إلى القياس الذي يؤدي أحيانا إلى تحريم الحلال وتحليل الحرام، كما نص على ذلك ابن مسعود والشعبي وغيرهما، ولا إلى الإجماع الذي يحصل من اتفاق جماعة مهما قل عددهم، ولكن على ما يبدو أنهم كانوا يحاولون أن لا يبرز علي (عليه السلام) والصفوة من أتباعه على غيرهم من المسلمين في تشريع بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)، كما برز هو وشيعته في تدعيم دعوة الرسول وتثبيت أركانها، ولكن عليّا (عليه السلام) رأى من واجبه بعد أن انصرف عن الشؤون السياسية وقام أبو بكر وغيره بأمر الخلافة، أن يتجه إلى نشر رسالة الإسلام وتعليم الأحكام والإفتاء بين الناس، فالتف حوله المسلمون يأخذون عنه دينهم وتعليم كتابهم، حتّى أن الخليفة نفسه لم ير بدا من الإشادة بعلمه وقضائه، فقال فيه كلماته المأثورة:
(لا يفتين أحدكم في المسجد وعلي حاضر)، (لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن))، (لولا علي لهلك عمر).
ولم ينسَ احد من المسلمين قول النبي فيه: (أقضاكم علي) ولا دعاءه له حينما بعثه على قضاء اليمن: اللهم اهد قلبه وثبت لسانه.
وحينما نزلت الآية الكريمة: (وتعيها أذن واعية) بأن تكون أذن علي (عليه السلام).
اجل أنهم جميعا يعلمون ذلك ويؤمنون بأن هذه الدعوات المباركات خير ضامن لعلي (عليه السلام) بما يند عن شفتيه من آراء وأحكام وقضاء بين الناس، حتى أن عليّا نفسه قد زودته الدعوات ثقة في حكمه وقضائه فقال بعدها: (ما شككت في قضاء بين اثنين).
وإذا تجاهل بعض المسلمين أحاديث الوصية والخلافة لمصالح سياسية فليس بوسعهم أن يتجاهلوا قول الرسول فيه: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها، ولا بوسعهم أن ينكروا مكانته من الرسول وعلمه الغزير الواسع وصدقه في كل ما يحدث به عن نفسه، وهو القائل علمني رسول اللّه ألف باب من العلم ينفتح لي في كل باب ألف باب.
ليس في وسعهم أن يترددوا في شيء من ذلك بعد أن عرفوا صلته بالرسول وإيثاره له على جميع المسلمين، وإحاطته بجميع أحكام الإسلام وأسرار الكتاب، لذلك كان مما لا بد وان يرجعوا إليه وينظروا إلى آرائه بعين الاعتبار، ولا بد له من أن يستغل الظروف المناسبة لتفقيه الناس وتعليم الأحكام ونشر رسالة الإسلام، وتدوين الحديث والفقه فأول ما قام به أن جمع القرآن الكريم وفسر غوامضه وبين مجملاته وأوضح المتشابه منه. وكان في أيام الرسول يكتب في الألواح والرقاع، بواسطة كتاب الوحي، ولم يكن على عهده قد جمع في كتاب واحد.
قال ابن شهر اشوب : (أول من صنف في الإسلام أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، جمع كتاب اللّه جل جلاله).
وقال ابن النديم: (ترتيب سور القرآن في مصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ونقل عن ابن المنادي أنه قال: حدثني الحسن بن العباس عن عبد الرحمن بن أبي حماد عن الحكم بن ظهير السدوسي عن عبد خير عن علي (عليه السلام) أنه رأى من الناس طيرة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) فأقسم أن لا يضع على ظهره رداءه، حتّى يجمع القرآن، فجلس في بيته ثلاثة أيام، حتّى جمع القرآن، فهو أول مصحف جمع فيه القرآن من قلبه وكان عند أهل جعفر).
وفي المجلد الأول من أعيان الشيعة عن السيوطي في الإتقان، قال ابن حجر: (وقد ورد عن علي (عليه السلام) أنه جمع القرآن على ترتيب النزول عقيب موت النبي (صلى الله عليه وآله)، أخرجه أبو داود. وقال محمّد بن سيرين: لو أصبت ذلك الكتاب كان فيه العلم. . . وفي مناقب شهراشوب قال: وفي أخبار أهل البيت (عليهم السلام) أنه آلى أن لا يضع رداءه على عاتقه إلاّ للصلاة. وفي أعيان الشيعة عن الشيرازي إمام أهل السنة في الحديث والتفسير، وأبو يوسف يعقوب في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى : (لا تحرّك به لسانك لتعجل به إنّ علينا جمعه وقرآنه).
قال: ضمّن اللّه محمدا أن يجمع القرآن بعد رسول اللّه علي بن أبي طالب، فجمع اللّه القرآن في قلب علي، وجمعه علي بعد موت الرسول بستة أشهر... ثمّ قال: وفي أخبار أبي رافع أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال في مرضه الذي توفي فيه لعلي (عليه السلام) : يا علي، هذا كتاب اللّه، خذه إليك. فجمعه علي في ثوب إلى منزله فلما قبض النبي (صلى الله عليه وآله) جلس علي (عليه السلام) فألفه كما أنزل اللّه، وكان به عالما...
وقال العلامة شرف الدين: أن عليّا جمع القرآن مرتبا على حسب النزول، وأشار على عامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، ومحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، وعزائمه ورخصه، وسننه وآدابه، ونبّه على أسباب النزول في آياته البيّنات. أملى ستين نوعا من أنواع علوم القرآن، وذكر لكل نوع مثالا يخصه. وفي أعيان الشيعة أن عليّا نوع القرآن إلى ستين نوعا. ثمّ ذكر تلك الأنواع وأمثلتها من كتاب اللّه كما وردت عن علي (عليه السلام).
ثمّ قال: وحينما سئل (عليه السلام) عن الناسخ والمنسوخ قال: إن اللّه سبحانه بعث رسوله بالرأفة والرحمة، فكان من رأفته ورحمته أنه لم ينقل قومه في أول نبوته عن عاداتهم، حتّى استحكم الإسلام في قلوبهم وحلت الشريعة في صدورهم، وكانت شريعتهم في الجاهلية أن المرأة إذا زنت حبست في بيت وأقيم بأودها حتّى يأتيها الموت. . . وإذا زنى الرجل نفوه عن مجالسهم وشتموه وآذوه وعيّروه، ولم يكونوا يعرفون غير هذا.
قال اللّه سبحانه: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم، فاشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فامسكوهن في البيوت حتّى يتوفاهن الموت أو يجعل اللّه لهن سبيلا، واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن اللّه كان توابا رحيما).
فلما كثر المسلمون وقوي الإسلام واستوحشوا أمور الجاهلية انزل اللّه تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة). فكانت هذه الآية ناسخة لأية الحبس والأذى. وقد أشتمل الحديث على موارد النسخ في القرآن الكريم، كما أشتمل على كل واحد من الأنواع الستين.
وفي أحاديث أهل البيت الكثيرة ما يؤكد أن أول من جمع القرآن مرتبا حسب نزوله علي (عليه السلام). وفي بعضها أنه قد فسر آياته وأوضح مشكلاته.
وقد روى جماعة من محدثي أهل السنة أنه أول من جمع القرآن بعد وفاة الرسول، كما ذكر جماعة من محدثي أهل السنة أن الذي تولى جمعه بعد وفاة الرسول زيد بن ثابت. قال الشيخ محمّد الخضري: أن عمر بن الخطاب أشار على أبي بكر بجمع القرآن مخافة ضياعه، لان حفاظ القرآن من المهاجرين والأنصار قتل منهم جماعة في حرب إسامة ويوشك أن تأتي الحروب على البقية الباقية.
فأشار أبو بكر على زيد بن ثابت بجمع القرآن، فشق عليه ذلك، وأخيرا جمعه في صحف وربط بعضها إلى بعض، وبقيت هذه الصحف عند حفصة بنت عمر. ولما انتشر الحفاظ والقراء في الأمصار، يقرئون الناس القرآن، وبينهم شيء من الاختلاف في بعض أحرف القرآن، تبعا لاختلاف لغاتهم، قدم حذيفة اليمان على الخليفة عثمان، وكان مع الجيش الذي تولى غزو أرمينية وأذربيجان، وقد أفزعه اختلافهم في القراءة، فقال لعثمان: أدرك الأمة، قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف، ثمّ نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد اللّه بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم انتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتّى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق. وكان ذلك سنة خمس وعشرين للهجرة.
ومن هذه الرواية يظهر أن العمل الذي قام به زيد بأمر أبي بكر وعمر، على تقدير وقوعه، هو جمع الألواح التي كتب عليها القرآن في تاريخ التشريع الإسلامي للخضري، من رواية البخاري عن أنس بن مالك, أوقات نزوله على الرسول، لأنهما تخوفا ضياعها وذهاب حفاظ القرآن، بسبب الغزوات والحروب، أما كتابته في مصحف واحد، فرواية البخاري تنص على أنها لم تكن قبل خمس وعشرين من الهجرة بإشارة حذيفة، بعد أن رأى أن اختلاف القراء في القراءة ربما يؤدي إلى اختلاف المسلمين في كتابهم، كما اختلف اليهود والنصارى في كتبهم، فكان من نتيجة ما أشار به حذيفة أن انتخب عثمان أربعة؛ فكتبوه حسب اجتهادهم وبلغة قريش، واحرق جميع الصحف التي كتبت عليها آيات القرآن في عهد الرسول وبعده. وهذا يدل على مخالفة ما كتبه هؤلاء الأربعة للصحف التي كانت بين أيدي المسلمين. ولولا ذلك لم يكن لإحراقها أي فائدة.
ولا بد لنا من الوقوف، ولو قليلا مع هذا الحديث، للتنبيه على أن الخليفة لم يكن موفقا في هذا التدبير، مع العلم بأن الحديث موثوق بصحته عند المحدثين من أهل السنة. لقد أوكل عثمان بن عفان تدوين القرآن ونقله من الصحف التي جمعها زيد بن ثابت، بأمر من أبي بكر إلى أربعة من المسلمين، منهم زيد بن ثابت، والثلاثة الباقون من فتيان المسلمين، الذين لم يكونوا في عصر نزوله وبعده من ذوي المؤهلات، التي تؤهلهم لتحمل هذه المسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقهم. وفي المسلمين من أعيان الصحابة الذين رافقوا نزوله منذ اليوم الأول، وفيهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) وعمار بن ياسر، وأبو ذر، وغيرهم من القراء وحفظة القرآن، العارفين بأسراره وأسباب نزوله.
ومع أنه كلفهم بنقله من الصحف التي جمعها زيد بن ثابت ووضعها الشيخان عند السيدة حفصة، فقد أمرهم أن يكتبوه بلغة قريش، إذا اختلف الثلاثة مع زيد بن ثابت، في اللغة التي نزل بها.
مع أن زيدا المذكور قد اعتمده الشيخان لجمع الصحف التي كتبت عليها آيات القرآن عندما كان الوحي ينزل به على الرسول بين حين وآخر. والذي في الرواية، أن الخليفة لم يكلفهم بأكثر من نقله من الصحف التي كانت عند السيدة حفصة، كما جاء في رواية البخاري، إلى المصاحف، فالمفروض في مثل ذلك أن ينقلوه إلى الصحف، باللغة التي كتبت فيها تلك الصحف أيام الرسول (صلى الله عليه وآله). وطبيعي أن تكون قد قرئت عليه أي على الرسول كما كتبت، فليس لعثمان ولغيره حق الاختيار لأي لغة من اللغات في مثل هذه الحالة.
على أن اختياره للغة قريش دون سواها، رجوع إلى الروح القبلية التي حاربها الإسلام والقرآن منذ فجرها الأول، حتّى الأيام الأخيرة من حياة الرسول. وليس في القرآن ما يشير إلى أنه نزل بلدة قبيلة دون أخرى وإنما الشيء الثابت أنه نزل بلغة العرب كما تنص على ذلك الآية الكريمة: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا). وجاء عن الرسول من طريق أهل السنة أنه نزل على سبعة أحرف. وقد فسرت الأحرف السبعة بلغات العرب، ولازم ذلك أنه نزل بلغة جميع العرب. وقد ذهب إلى ذلك كثير من المحققين، ومنهم الشيخ الطبرسي في مقدمة تفسيره الكبير.
وقيل في تفسير الحديث أن المراد فيها سبعة أوجه من القراءات. أما عند الأمامية فأنه نزل بحرف واحد. وفي (آلاء الرحمان في تفسير القرآن) نقل بعض الروايات عن الباقر والصادق تؤيد ما ذهب إليه الشيعة، منها ما رواه في الكافي عن الفضيل بن يسار، قال: قلت لأبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) أن الناس يقولون أن القرآن نزل على سبعة أحرف فقال: كذبوا! انه نزل على حرف واحد من عند الواحد.
ومهما كان الحال فقد اجمع الشيعة على جواز القراءة بكل ما هو متداول بين القراء، وان القرآن المتداول بين المسلمين هو المنزل من عند اللّه، بلا زيادة أو نقصان، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كما تنص على ذلك كتبهم وكلمات علمائهم وأحاديث أئمتهم الصحيحة.
على أن أمر الخليفة بإحراق ما كان بين أيدي المسلمين من المصاحف، كما جاء في رواية البخاري، لا يتفق مع ما هو المجمع عليه بين المسلمين. ودلت عليه حتّى نصوص القرآن وأحاديث الرسول، من وجوب تعظيمه وتقديسه، وحفظه من كل ما هو مشين بنظر الناس، ولا شك أن إحراقه يتنافى مع تعظيمه على أن تلك المصاحف التي أمر بإحراقها، كانت على عهد الرسول والشيخين أبي بكر وعمر مدة حياتهما، وهما أحوط للدين وللإسلام من هذا الشيخ الذي انحرف عن سيرتهما في كثير من تصرفاته.
ولو فرض وجود اختلاف بين ما كتبه الأربعة الذين اختارهم الخليفة لجمع القرآن وكتابته، وبين ما كان بين أيدي المسلمين قبل أن يقوم الخليفة بهذا العمل، كما يمكن أن يكون ذلك من احد الأسباب عند الخليفة وعند المؤيدين لهذا التصرف، لكان على المسلمين أن ينكروا عليه هذا التصرف، كما أنكروا عليه الكثير من تصرفاته، لان الصحف الأولى التي أحرقت بأمره، قد جمعها زيد بن ثابت، كما كتبت أيام الرسول، وتداولها المسلمون في عهده فترة طويلة من حياته وأقرهم عليها، ولولا أنها هي المنزلة من عند اللّه، لا يمكن أن يسكت عنها النبي (صلى الله عليه وآله) لحظة واحدة. مع العلم بأن القرآن الذي كتبه الأربعة المختارون، لو كان مخالفا للصحف الأولى لأرتفعت الأصوات في وجه عثمان، ولكانت كتب الحديث والتفسير، قد ذكرت موارد الاختلاف بينهما، ولم تنقل الآثار شيئا من ذلك، فلا بد وان يكون هذا التصرف منه لينتشر قرآنه بين الناس ويضطرهم إلى القراءة به. وفي نفس الوقت لا يبقى مجال لانتشار غيره مما جمعه المسلمون، لا سيما الذي كتبه علي (عليه السلام) بخط يده كما انزل، وشرح فيه بعض الآيات كما جاء تفسيرها عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وأسباب نزولها.
ومهما كان الحال، فالحديث من الصحاح، بنظر المحدثين من أهل السنة، ومروي في كتبهم المعتبرة. والتاريخ يؤكد قيام الخليفة بهذا العمل. وقد نصت الأحاديث المروية من طريق أهل السنة أن القرآن لم يدون في مصحف واحد قبل سنة خمس وعشرين من هجرة النبي (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة.
والثابت من طريق أهل البيت وشيعتهم، وبعض المحدثين من أهل السنة، أن عليّا (عليه السلام) قد جمع القرآن في كتاب واحد بخط يده، قبل هذا التاريخ بما يزيد عن خمسة عشر عاما، وذلك بعد فراغه من دفن الرسول، وانصرافه عن شؤون الخلافة.
ولا بد أن يكون (عليه السلام) قد جمعه ورتب آياته وسوره، كما انزله اللّه على رسوله، لأنه نزل في بيته وعلى أستاذه الأعظم ومربيه، ومن لقنه أنواع العلوم وفنونها. لقد ذكرنا سابقا نقلا عن المصادر الموثوق بها عند المحدثين من أهل السنة، أن الصحابة بعد موت الرسول كان كل همهم، كما يزعمون، جمع الصحف والألواح التي كتبت عليها آيات القرآن في عهد الرسول. وأخذ ما لم يجدوه في الألواح من صدور الحفاظ. ولقد قال زيد بن ثابت المكلف بهذه المهمة من قبل أبي بكر: لقد تتبعت القرآن اجمعه من العسب واللحاف وصدور الرجال، حتّى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع احد غيره. ومن المعلوم أن الكتاب والسنة هما المصدران الوحيدان للأحكام ولجميع المبادئ التي بني عليها الإسلام. وكل ما صدر منهم أنهم اهتموا بجمع القرآن خوفا من ضياعه. أما بالنسبة إلى السنة، فمع أنها ليست بأقل أثر في التشريع من القرآن الكريم ولولاها لم يتم التشريع ولم تظهر معالمه، فلم يقوموا بأي عمل ايجابي يحفظها من التلاعب والدس والكذب، كما حدث من بعض المأجورين في عهد الصحابة والتابعين، وكان الأحرى بهم، وقد ظهروا بمظهر الحريص على القرآن من الضياع والتلاعب، وجمعوا الألواح والصحف، والتي كتبت عليها آياته أن يقوموا بمثل هذا العمل بالنسبة إلى السنة الكريمة، فيجمعوا آثار الرسول وحديثه، لسدّ الباب في وجه المرجفين والمأجورين، لاسيما وهم يعلمون أن القرآن لم يف بجميع مراحل التشريع، وأنه وضع المبادئ العامة وترك تفصيلها وأجزاءها وشرائطها إلى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله). ويعلمون أيضاً أن لقوله من القداسة ما للقرآن، لأنه لا ينطق عن الهوى، وان ضياع حديثه أو التلاعب فيه يحدث أثرا سيئا في تشريع الأحكام وفهم نصوص القرآن.
يعرفون كل ذلك ولا يجهلون منه شيئا، وبدلا من أن يقوموا بدافع من الدين، الذي ظهروا بمظهر الحرص عليه، بعمل بنّأٍ يبقي على السنة النبوية جلالها وقداستها وجمال أسلوبها وأضوائها اللامعة، وما تقدمه إلى البشرية، من توجيه صحيح وأفكار علمية تكفي لمعالجة كل مشكلة من مشاكل الحياة، بدلا من أن يقوموا بعمل من هذا النوع، منع الخليفة، وهو القائم على أمور المسلمين والأمين على دينهم ودنياهم من تدوينها، بعد أن أشار عليه عامة المسلمين بكتابة السنن والأحاديث التي تلقوها عن الرسول، فيما يتعلق بالتشريع وغيره. وبقي شهرا كاملا مترددا في رجحان هذا الأمر وعدمه، وأخيرا تبين له أن الخير في تركه فنهى المسلمين عنه، لان أناسا من أهل الكتاب قد كتبوا مع كتاب اللّه كتبا، فانكبوا عليها وتركوا كتاب اللّه سبحانه. وخشي أن يكون مصيرهم كمصير من تقدمهم من اليهود والنصارى.
وجاء في تذكرة الحفاظ: عن القاسم بن محمّد أن عائشة قالت: جمع أبي الحديث عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، وكان خمسمائة حديث، فبات ليلة يتقلب كثيراً، فلما أصبح قال أي بنية، هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها فدعا بنار فحرقها.
وفي جامع بيان العلم وفضله: أن عمر بن الخطاب أنكر إنكاراً شديداً على من نسخ كتب دانيال وضربه، ثمّ أمره بمحوها، ونهاه أن يقرأها أو يخبر أحداً بها، وقال له: فلئن بلغني عنك انك قرأته أو أقرأته أحداً لأنهكنّك عقوبة.
وخطب في الناس، فقال: أيها الناس، انه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب فأحبها إلى اللّه أعدلها وأقومها، فلا يبقين احد عنده كتاباً إلاّ أتاني به، فأرى فيه رأي، قال الراوي فظنوا انه يريد أن ينظر فيها ويقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار ثمّ قال أمنية كأمنية أهل الكتاب، ثمّ أنه كتب إلى الأمصار من كان عنده منها شيء فليمحه.
على أن الدكتور محمّد يوسف يضيف إلى هذا السبب سببين آخرين، لم يذكرهما الخليفة عمر بن الخطاب أساسا لرأيه حينما منع من تدوين الحديث والفقه، كما جاء في الرواية التي نقلها المحدثون عنه, احدهم: ما روي عن الرسول أنه قال: (لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن، فمن كتب عني شيئا سواه فليمحه).
ثانيهما: أن الخليفة ومن معه من المسلمين قد خافوا خطأ الرواة فيما ينقلونه عن الرسول، أو كذب بعضهم عليه. فكل ما سيدوّن يبقى مأثورا عنه، ما دام قد سجل في كتاب خاص. لهذه الأسباب الثلاثة حسبما يدّعي المؤلف منع الخليفة منعا باتا من تدوين أحاديث الرسول.
ومع أن الدكتور محمّد يوسف وغيره من المؤلفين في تاريخ التشريع لا يعارضون فيما نسب إلى الخليفة من منعه لتدوين الأحاديث يدّعون أن الباحث في تاريخ الفترة الأولى من حياة الإسلام والمسلمين، يعثر هنا وهناك على ما يدل على أن شيئا من التدوين كان في هذا العهد المبكر، بل على ما يدل على أن شيئا من التدوين كان في عهد الرسول نفسه، لأنه أمر عليه الصلاة والسلام بكتابة خطبه يوم فتح مكة، رجلا من اليمن، حين سأله ذلك، على رواية البخاري في صحيحه، باب كتابة العلم. . .
كما يروون أن عبد اللّه بن عمرو بن العاص كان عنده صحيفة يسميها الصادقة، يدّعي بأنه لم يكتب فيها إلاّ ما سمعته إذناه من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله). ثمّ نقلوا عن صحيح البخاري أن الرسول (صلى الله عليه وآله) بعد هجرته إلى المدينة أمر بكتابة أحكام الزكاة وما يجب فيها ومقادير ذلك، فكتبت في صفحتين وبقيتا محفوظتين في بيت أبي بكر وأبي بكر بن عمر بن حزم.
وقد أيد الدكتور محمّد يوسف رأيه بما كتبه السيد سلمان النووي، الذي وصفه بكبير علماء الهند، في بحثه عن كتابة الحديث في عهد الرسول وما كان من ذلك بعد العهد النبوي. حيث جعل المؤلف المذكور لتدوين الحديث أطوارا ثلاثة: الطور الأول، هو الذي جمع فيه الرجال ما عندهم من العلم. والطور الثاني، هو الذي قام فيه أهل كل مصر من الأمصار الإسلامي بجمع ما عند علماء ذلك المصر من العلم في كتب خاصة بأهل مصرهم والطور الثالث، هو الذي جمعت فيه علوم الدين الإسلامي كلها من جميع الأمصار ودوّنت في الدواوين الكبرى والمصنفات الجليلة، وهي التي صارت إلينا ولا تزال بين أيدينا.
وقد استمر الطور الأول إلى سنة 100، وامتد الطور الثاني إلى سنة 150 وبدأ الطور الثالث من سنة (150) إلى القرن الثالث الهجري. وقد انتهى المؤلف من هذا البحث إلى النتيجة التالية، وهي أن ما جمع في الطور الأول دوّن في الثاني، وما دوّن في الثاني جمع ووزع على الأبواب والعناوين في الدور الثالث.
ولا شك أن الطور الأول، حسب تعبير المؤلف، يبتدئ بعد وفاة الرسول وينتهي بانتهاء عصر الصحابة. ولم يقم المسلمون في هذا العصر بتدوين شيء من الأحكام أو الحديث، حسبما يزعمه المؤلف النووي ويقره الأستاذ محمّد يوسف موسى، وإنما كان التدوين في خلال المدة من سنة 100 إلى سنة 150 ويتفق في ذلك مع ما ذكره الخضري.
قال: أما السنة فمع كثرة روايتها في هذا الدور (ويعني به دور التابعين) وانقطاع فريق من علماء التابعين لروايتها، لم يكن لها حظ من التدوين، إلاّ أنه لم يكن من المعقول أن يستمر هذا الأمر طويلا مع اعتبار الجمهور للسنة أنها مكملة للتشريع ببيانها للكتاب، ولم يكن ظهر بين الجمهور من يخالف هذا الرأي. وأول من تنبه لهذا النقص الامام عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الثانية للهجرة، فقد كتب إلى عامله بالمدينة أبي بكر بن محمّد بن عمر بن حزم أن انظر ما كان من حديث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فاكتبه، فأني خفت دروس العلم وذهاب العلماء. ثمّ قال: وامتاز من رجال هذا الدور محمّد بن مسلم بن شهاب الزهري بكتابة السنة.
وقد ذكرنا في ما مضى أن الدكتور محمّد يوسف لا يؤيد النظرية القائلة بأن عصر الصحابة كان خلوا من التدوين، لأنه اقّر نبأ الصحيفة الصادقة المزعومة، التي ادعاها ابن العاص. وأضاف إلى ذلك: أن الخليفة الرابع، الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كان لديه صحيفة فيها بعض الأحكام. ويروي ذلك عن البخاري، بسنده إلى أبي جحفة أنه قال لعلي (عليه السلام) : هل عندك كتاب؟ قال : لا، إلاّ كتاب اللّه، أو فهم أعطيه، أو ما في هذه الصحيفة! وذكر أن ابن عباس كان عنده كتاب فيه قضاء علي (عليه السلام). وسنعود إلى هذا الموضوع بصورة أوسع، عند الكلام على ما أحدثه المنع من تدوين الحديث من الآثار السيئة على التشريع الإسلامي.
ومهما كان الحال، فالشيء الثابت أن الخليفة منع من تدوين الحديث، بعد أن بقي شهرا يستعرض ما سينجم عن تدوينه من آثار سيئة وحسنة، كما ذكر ذلك المحدثون من أهل السنة وغيرهم. وان المسلمين قد انصرفوا عن تدوينه، بعد أن أصدر الخليفة أمره بذلك، واكتفوا بروايته وحفظه، واستمر ذلك إلى ما بعد المائة الأولى من تاريخ هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله). وكانوا يفتون الناس بما سمعوه عن الرسول وبما اجمعوا عليه، بالإجماع المصطلح عليه في ذلك العصر. ولأجل ذلك عمت الفوضى وكثرت الأحاديث المكذوبة، بدافع الكيد للإسلام وإرضاء بعض الحكام الذين كانوا يحاولون تدعيم عروشهم عن طريق الأحاديث المكذوبة.
ومن المؤكد أن الخليفة مع أنه كان حريصا على منع التدوين، وكان يتتبع من يبلغه عنه أنه يجمع الكتب أو يدون شيئا بالتقريع والتهديد، كما تؤكد ذلك أكثر المصادر، ومع ذلك فإن مساعيه لم تنجح نجاحا كليا، ولم يوفق لسد هذا الباب كما يريد، فلقد ظهرت بعض المدونات في زمانه وبعده، قال ابن النديم في كتابه الفهرست: أنه كان بمدينة الحديثة رجل يقال له محمّد بن الحسين جّماعة للكتب، له خزانة لم أرى لأحد مثلها كثرة، تحتوي على قطعة من الكتب العربية في النحو واللغة والأدب، والكتب القديمة، فلقيت هذا الرجل دفعات فأنس بي، وكان نفورا ضنينا بما عنده، خائفا من بني حمدان، فاخرج لي قمطرا كبيرا فيه نحو من ثلاثمائة رطل من جلود وحكاك وقراطيس، وورق صيني وورق تهامي، وجلود أدم فيها تعليقات عن العرب وقصائد مفردات من أشعارهم، وشيء من النحو والحكايات والأخبار والأسماء والأنساب، وغير ذلك من علوم العرب وغيرهم، فرأيتها وقلبتها فرأيت عجبا، إلاّ أن الزمان قد اخلقها وأحرفها، وكان على كل جزء أو ورقة أو مدرّج توقيع بخطوط العلماء واحدا اثر واحد، ورأيت في جملتها مصحفا بخط خالد بن أبي الهياج صاحب علي (عليه السلام)، ورأيت فيها بخط الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام)، ورأيت عنده أمانات وعهودا بخط أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وبخط غيره من كتّاب النبي (صلى الله عليه وآله)، ورأيت ما يدل على أن النحو عن أبي الأسود ما هذه حكايته. وهي أربعة أوراق احسبها من ورق الصين: ترجمتها هذه فيها كلام الفاعل والمفعول من أبي الأسود رحمه الله.
ثمّ لما مات الرجل فقدنا القمطر وما كان فيه فما سمعنا له خبرا، ولا رأيت منه غير المصحف على كثرة بحثي عنه.
ويؤكد محمّد عجاج الخطيب في كتابه السنة قبل التدوين بأن الصحابة أنفسهم لم يمتنعوا عن التدوين وأورد أمثلة على ذلك من المرويات عن جماعة من أعيان الصحابة منهم علي والحسن (عليهما السلام) وعبد اللّه بن مسعود وعائشة وعبد اللّه بن عباس وغيرهم، وكلها تنص على رجحان الكتابة وتحث عليها، وأورد عن عائشة أنها قالت لابن أختها عروة بن الزبير: يا بني بلغني أنك تكتب عن الحديث ثمّ تعود فتكتبه ولم تنهه عن ذلك، وان ابن عباس كان يقول:
((قيدوا العلم بالكتابة)) إلى غير ذلك من المرويات.
ومهما كان الحال فالثابت عن طريق أهل البيت وشيعتهم وبعض المحدثين من أهل السنة أن عليّا (عليه السلام) وبعض الصحابة من أعيان الشيعة قد دوّنوا الكثير من أبواب الفقه. وقد أوردت الروايات، الكثير في كتب المحدثين من الشيعة عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) أن عليّا قد كتب الفقه بخط يده وإملاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله).
وفي أعيان الشيعة, والمراجعات نقلا عن مصادر شيعية موثوق بها، أن من مؤلفات علي (عليه السلام) كتابا طوله سبعون ذراعا أملاه عليه رسول اللّه (صلى الهي عليه واله)، كتبه على الجلد المسمى بالرق، وكان يستعمل للكتابة في الغالب. ولا بد أن يكون قد جمع هذا الكتاب جميع أبواب الفقه، وسمي في أخبار أهل البيت، بالجامعة تارة، وبكتاب علي أخرى، وبالكتاب الذي أملاه رسول اللّه على علي ثالثة.
وقد رآه عند الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) بعض الثقات من أصحابهما، كسويد بن أيوب وأبي بصير وغيرهما، كما ذكر ذلك محمّد بن الحسن الصفار في كتابه بصائر الدرجات.
فلقد روي عن علي بن إسماعيل عن علي بن القطان عن سويد بن أيوب قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فدعا بالجامعة؛ فنظر فيها أبو جعفر (عليه السلام).
وفي البصائر عن احمد بن محمّد عن علي بن الحكم عن علي بن أبي حمزة عن أبي نصر قال: اخرج إلينا أبو جعفر (عليه السلام) صحيفة فيها الحلال والحرام والفرائض، قلت ما هذا؟ قال: هذه بإملاء رسول اللّه وخط علي بيده. ثمّ قال: هي الجامعة. وفي البصائر، عن علي بن الحسين، عن الحسن بن الحسين السخال، عن محمّد بن إبراهيم عن أبي مريم قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) : عندنا الجامعة وهي سبعون ذراعا، فيها كل شيء، حتّى ارش الخدش. إملاء رسول اللّه (صلى اله عليه وآله) وخط علي (عليه السلام).
وروي في البصائر أيضا، عن محمّد بن الحسن عن أبن محبوب، عن ابن رئاب عن أبي عبيدة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، أنه سئل عن الجامعة، فقال: تلك صحيفة، سبعون ذراعا في عرض الأديم، مثل فخذ الفالج، فيها كل ما يحتاج إليه الناس، وليس من قضية إلاّ وهي فيها، حتّى ارش الخدش.
وفي الكتاب المذكور عن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) قال: يا أبا محمّد أن عندنا الجامعة، وما يدريهم ما الجامعة، قلت: جعلت فداك وما الجامعة؟ قال: صحيفة طولها سبعون ذراعا بذراع رسول اللّه، بإملائه وخط علي (عليه السلام) بيمينه، فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج الناس إليه، حتّى الأرش في الخدش.
وعن مجالس المفيد، كان الصادق (عليه السلام) يقول: عندنا الجامعة، كتاب طوله سبعون ذراعا، أملاه رسول اللّه وخطّه علي بيده، فيه واللّه، جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة. إن فيه أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة. وفي جملة من الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت، ورد التعبير بكتاب علي بدلا عن الجامعة.
فمنها ما رواه الشيخ أبو جعفر الطوسي، عن أبي أيوب، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، قال: في كتاب علي أن العمة بمنزلة الأب.
وفي حديث الكليني عن عبد الرحمن بن الحجاج، أن عبد الرحمن سأل الامام الصادق عن بعض الأحكام، وبعد أن أجابه قال: كذلك هو في كتاب علي (عليه السلام).
وفي حديث الصدوق عن خالد بن جرير، أنه سأل الامام أبا عبد اللّه الصادق (عليه السلام) عن ميراث الأخوة من الأم مع الجد، قال الصادق(عليه السلام) : أن في كتاب علي أن الأخوة من الأم مع الجد يرثون الثلث.
وفي بعض الروايات أن الامام الباقر دعا بكتاب علي، فجاء به جعفر مثل فخذ الرجل مطويا، ثمّ قال أبو جعفر الباقر: هذا، واللّه خط علي بيده، وإملاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله).
وفي حديث آخر عن أبي جعفر الباقر أنه قال: عندنا صحيفة من كتب علي (عليه السلام) طولها سبعون ذراعا، فنحن نتتبع ما فيها لا نعدوها. إن عليّا (عليه السلام) كتب العلم كله، القضاء والفرائض والحديث.
فقوله أن عندنا صحيفة من كتب علي (عليه السلام)، وأنه كتب العلم كله: القضاء والفرائض والحديث، كما ورد على لسان الامام الباقر (عليه السلام). ولا يبعد أن تكون الجامعة هي أوسع كتبه. وسميت بذلك لأنها جمعت الفقه كله حتّى ارش الخدش، كما جاء في بعض الأحاديث السابقة، أما كتاب علي الذي ورد ذكره على لسان الإمامين الباقر والصادق، فلا يبعد أن يكون في الإرث خاصة، بدليل أنهما ذكراه في مقام الجواب عن بعض فروض الإرث.
ورواية البخاري السابقة تؤيد انه (عليه السلام) قد كتب القضاء في كتاب خاص، وان هذا الكتاب كان عند عبد اللّه بن عباس...
وفي أعيان الشيعة أن من مؤلفات أمير المؤمنين كتاب الجفر. وذكره ابن خلدون في مقدمته، وورد ذكره في كشف الظنون ومفتاح السعادة لأحمد بن مصطفى المعروف بسطا. وقال فيه المعري:
لقد عجبوا لأهل البيت لما ***اروهم علمهم في مسك جفر
ومرآة المنجم وهي صغرى***أرته كل عامرة وقفر
وأضاف إلى ذلك من أعيان الشيعة مما اتفق عليه السنة والشيعة، وفي مجمع البحرين: أملى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) على أمير المؤمنين الجفر والجامعة وفسرا في الحديث باهاب ماعز واهاب كبش، فيهما جميع العلوم حتّى ارش الخدش والجلدة ونصف الجلدة. ثمّ نقل عن المحقق الشريف في شرح المواقف أن الجفر والجامعة كتابان لعلي(عليه السلام).
وفي القاموس: الجفر من أولاد الماعز ما عظم واستكرش، وكذا في
الصحاح. . . وفي بعض الأحاديث المروية عن طريق أهل البيت، أن الجفر وعاء من الجلد المدبوغ كالجراب، جمعت فيه كتب علي (عليه السلام) ومواريث النبوة، وقد روى ذلك محمّد بن الحسن الصفار، عن علي بن سعيد، قال: كنت عند أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) فقال محمّد بن عبد اللّه بن علي: العجب لعبد اللّه بن الحسن أنه يهزأ ويقول: هذا في جفركم الذي تدعون. فغضب أبو عبد اللّه (عليه السلام) وقال: إنه جلد مدبوغ كالجراب، فيه كتب وعلم ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة، من حلال وحرام، إملاء رسول وخط علي (عليه السلام) بيده.
وقد جاء في بعض الأحاديث المروية عن أئمة الشيعة أنه جلد ثور، وفي بعضها الأخر أنه جلد ماعز، إلى غير ذلك من الأحاديث التي تعرضت لنوعه، ومهما كان نوعه، فقد تحدث عنه أئمة أهل البيت وشاهده البعض من ثقات أصحابهم. وروي الثقات من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) عن الصحيفة التي ألفها علي في الفرائض وان الباقر وولده الصادق كانا يفتيان بما فيها.
روى محمّد بن يعقوب الكليني عن زرارة بن أعين أنه قال: أمر أبو جعفر أبا عبد اللّه فاقرأني صحيفة الفرائض، فرأيت جل ما فيها على أربعة أسهم.
وروي عن محمّد بن مسلم أنه قال: اقرأني أبو جعفر صحيفة كتاب الفرائض التي هي إملاء رسول اللّه وخط علي بيده، فإذا فيها أن السهام لا تعول. . .
وبهذا المضمون روايات كثيرة، رواها الصدوق والكليني والطوسي وغيرهم. وقد ذكر المحدثون من الشيعة أن لعلي كتبا غير ما ذكرنا.
قال في المراجعات: أنه ألف كتابا في الديات وسماه الصحيفة وقد أورده ابن سعد في الطبقات في آخر كتابه، مسندا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، ورأيت البخاري ومسلم يذكران هذه الصحيفة ويرويان عنها في عدة مواضع من صحيحهما. ومما روياه عنهما، ما أخرجاه عن الأعمش، عن إبراهيم التميمي، عن أبيه، أن عليّا قال: ما عندنا كتاب نقرأه، إلاّ كتاب اللّه، غير هذه الصحيفة. فأخرجها فإذا فيها أشياء من الجراحات وأسنان الإبل. وقد أكثر الامام احمد بن حنبل من الرواية عن هذه الصحيفة في مسنده عن طارق ابن شهاب.
ولا نريد أن نستوعب جميع ما ذكره المحدثون وعلماء الرجال حول ما كتبه علي في الحديث والفقه، وإنما ذكرنا هذه النبذة اليسيرة، لبيان أن التشيع منذ فجر الإسلام الأول كان السابق إلى تدعيم أصول الإسلام وفروعه وان عليّا وشيعته كانوا أبرز المسلمين في ميدان التشريع، فدوّنوا الحديث والأحكام ونشروا تعاليم الإسلام بعد أن قام بالخلافة وشؤونها السياسية غيره من المسلمين. هذا بالرغم من أن القائمين على إدارة شؤون الأمة، قد منعوا من تدوين الأحكام والحديث.
ولكن عليّا الحريص على مصلحة الإسلام وتعاليمه والذي جاهد من اجلها، منذ بعث اللّه نبيه وعرض نفسه في سبيلها لأشق الحالات وأشدها خطرا، لا يمكن أن يقف مكتوف اليدين، لمجرد أن الخليفة لا يرى ذلك منسجما مع المصلحة، وهو يعلم ما ينتج عن رأي الخليفة من آثار سيئة على الفقه والحديث، لا تزال الأجيال من بعده تتجرع مرارتها حتّى اليوم.
لقد دون علي (عليه السلام) الفقه كله، حتّى ارش الخدش، ودوّن الحديث كما سمعه من الرسول الذي كان يأثره على كل أصحابه وأعوانه. ولم يستجب هو وأصحابه لرأي الخليفة، بل نظر إلى هذا الأمر من الزاوية التي اعتاد أن ينظر منها والتي ينسى نفسه في سبيلها، وهي الحرص على الدين والمبادئ التي نادى بها القرآن وجاءت بها السنة الكريمة. ونظر غيره من زاوية أخرى، فاستجاب له أكثر المسلمين من الصحابة والتابعين جيلا كاملا، يفتون ويروون عن الرسول ما يشاؤون، من غير أن يدونوا، حتّى ما عندهم من أحاديث وأحكام. ونتج من هاتين النظريتين، اختلاف بين الصحابة في كتابة الفقه والحديث، فمنعها جماعة وأباحها آخرون. قال السيوطي في تدريب الراوي: كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم، فكرهها كثير منهم، وأباحها جماعة وفعلوها، منهم علي وابنه الحسن (عليهما السلام). والصواب رجحانها، وكفى دليلا عليه، فعل علي وابنه الحسن. وطبيعي أن يرى شيعة علي من الصحابة رأيه في ذلك، ولم يكونوا بأقل شأنا من غيرهم ممن شاءت السياسة أن ترفعهم على هام الناس. ولم ينقل الرواة عن الرسول في حق احد من المسلمين اصح مما نقلوه في سلمان وعمار وأبي ذر وحبر الأمة، عبد اللّه بن عباس، وغيرهم ممن كانوا يرون رأي علي ويترسمون خطاه، لا بد وان يكونوا قد قاموا بنصيبهم من التشريع وتدوين الحديث. وفي كتب الرجال والحديث ما يؤيد هذا الرأي.
قال النجاشي: كان أبو رافع ممن اسلم قديما بمكة وهاجر مع النبي إلى المدينة وشهد معه جميع مشاهده، ولازم عليّا أمير المؤمنين من بعده، وكان من خيار الشيعة. ثمّ قال: ولأبي رافع كتاب السنن والأحكام والقضايا، وقد أشتمل كتابه على الصلاة والصيام والحج والزكاة والقضايا.
وبعد أن انتهى إلى هذا الحد، قال: وعلي بن أبي رافع تابعي ومن خيار الشيعة، كانت له من أمير المؤمنين صحبة، وكان كاتبا له، وقد جمع كتابا في فنون من الفقه والوضوء والصلاة وسائر الأبواب.
ثمّ نقل عن موسى بن عبد اللّه بن الحسن (عليه السلام) أنه قال: سأل رجل أبي عن التشهد فقال: هات كتاب ابن أبي رافع، فأخرجه وأملاه علينا. وقال المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين أن عبيد اللّه بن أبي رافع، كاتب علي ووليه، سمع النبي وروى عنه قوله لجعفر بن أبي طالب: أشبهت خلقي وخُلقي. . . كما ذكر ذلك أحمد بن حنبل في مسنده.
وألف عبيد اللّه كتابا فيمن حضر صفين مع علي (عليه السلام) من الصحابة، ونقل عنه ابن حجر كثيرا في إصابته.
وذكر الشيخ أبو جعفر الطوسي والنجاشي وابن شهراشوب وغيرهم ممن كتب من الشيعة وألف في صدر الإسلام، وان سلمان الفارسي صنف كتاب حديث الجاثليق الرومي الذي بعثه ملك الروم.
وألف أبو ذر كتابا سماه الخطبة، يشرح فيها أمور النبي (صلى الله عليه وآله). وألف الاصبغ بن نباتة كتابين: مقتل الحسين وكتاب عجائب أحكام أمير المؤمنين. . . وروى عن علي (عليه السلام) عهده للاشتر على مصر، ووصيّته لولده محمّد بن الحنفّية.
وألف سليم بن قيس كتابا في الإمامة، يرويه عن علي (عليه السلام) وجماعة من كبار الصحابة. وليس بين الشيعة خلاف في أن هذا الكتاب من تأليف سليم بن قيس.
وألف ميثم التمار في الحديث، وروى عنه الطوسي في أماليه والكشي في رجاله والطبري في بشارة المصطفى.
ومحمّد بن قيس البجلي صاحب أمير المؤمنين، له كتاب رواه عن علي (عليه السلام). وفي الفهرست أن كتاب محمّد بن قيس البجلي لما عرض على أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال: هذا قول أمير المؤمنين (عليه السلام).
وغير هؤلاء كثير ممن ورد ذكرهم في كتب الرجال والحديث مع المؤلفين، في الفترة التي تلي وفاة الرسول إلى نهاية ملك معاوية ابن أبي سفيان. ولا نريد أن نستقصي جميع أسمائهم ومصنفاتهم.
ويكفينا هذا العدد اليسير لإثبات أن التشيع قد ساهم بنصيب وافر في التشريع الإسلامي وتدوين آثار الرسول وحديثه. ولو لم يسجل التاريخ لأحد شيئا من ذلك، لكان ما كتبه علي (عليه السلام) بخط يده وما قام به من جهود في تشريع الأحكام والقضاء والإفتاء كافيا لنسبة التشريع الإسلامي بعد الرسول إليه وحده.
فقد كتب الفقه وقواعده العامة، وكل ما شرعه القرآن وجاءت به السنة، وبقيت كتبه من أعظم المصادر بعد كتاب اللّه عند الأئمة من أبنائه، ولما انتهت إلى حفيديه الباقر والصادق (عليهما السلام)، كانت مصدرهما في نشر تعاليم الإسلام والفقه، واليها كانا يرجعان، كما ذكر ذلك الكثير من رواة حديثهم وأصحابهم، وجاء في بعض المرويات عن الامام الباقر انه قال: عندنا صحيفة من كتب علي (عليه السلام) طولها سبعون ذراعا فنحن نتتبع ما فيها لا نعدوها.
وليس من السهل انتشارها قبل الزمن الذي عاش فيه الإمامان الباقر والصادق، ففي عهد الخلفاء الثلاثة لم يكن بوسعه أن ينشرها بين المسلمين بعد أن منع عمر بن الخطاب من تدوين الفقه والحديث، ودان المسلمون برأيه، حتّى أصبح سنة من سنن الإسلام. وبعد عصرهم جاءت الدولة الأموية فسخرت كل إمكانياتها للقضاء على التشيع وأثاره، وأصبح الحديث عنه يجر من ورائه أقصى العقوبات، فكان ولا بد لتلك الآثار أن لا تظهر في تلك الظروف العصيبة من تاريخ الشيعة وقد بلغ الحال بمن كان يريد أن ينقل عن علي (عليه السلام) شيئاً من الآثار أن يقول: حدثني أبو زينب. ومع أن عليّاً وبنيه وشيعتهم لم يكن بوسعهم أن ينشروا تلك الآثار الكريمة، التي استمدها علي من الكتاب والرسول، كانوا يأتون أحياناً ويحدثون بما فيها من أحكام وأحاديث تختلف عما يفتي به الجمهور أو يحدث به عن الرسول.