العصمة
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
بحثنا في العصمة، وهذا البحث من أهم المباحث الكلامية والتفسيرية والحديثية، وقد اهتم علماؤنا بهذا البحث منذ قديم الأيام، كما أن علماء الأشاعرة والمعتزلة أيضاً يهتمّون بهذا الموضوع في كتبهم.
وعنوان العصمة إنما اتخذ من الروايات الواردة في هذا الموضوع.
تعريف العصمة
الأصل في معنى هذه الكلمة هو المعنى اللغوي، فإنك إذا راجعت [لسان العرب] و [تاج العروس] و [الصحاح] للجوهري «1»، وجدتهم يفسّرون كلمة العصمة بالمنع أو كلمة عَصَم بمَنَعَ.
وهذه المادة استعملت في القرآن الكريم أيضاً في قوله تعالى عن لسان ابن نوح: «قَالَ سآوِي إلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَاعَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أمْرِ اللَّه ِ» «2»
، وأيضاً في قوله تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّه ِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا» «3»
، وفي غير هذه الموارد.
وإذا راجعتم كتب التفسير في ذيل هذه الآيات المباركات، لوجدتم المفسّرين يفسّرون كلمة العصمة أو مادة العصمة في مثل هذه الآيات بالتمسّك.
ويقول الراغب: العصم هو الإمساك، الاعتصام الاستمساك «4».
والذي يظهر لي أن بين المسك والتمسك والاستمساك، وبين المنع، فرقاً دقيقاً ربما لا يلتفت إليه، وهكذا توجد الفروق الدقيقة بين ألفاظ اللغة العربية، فإن بين «الحفظ» و «المنع» و «الحجر» و «العصم» وأمثال هذه الألفاظ المتقاربة في المعنى، توجد فوارق، تلك الفوارق لها تأثير في فهم المطلب في كلّ مورد تستعمل فيه لفظة من هذه الألفاظ.
فاللَّه سبحانه وتعالى قد جعل في المعصوم قوةً، تمنعه كما يقول أولئك، وتمسكه كما يقول الراغب.
«قَالَ لَاعَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أمْرِ اللَّهِ» أي لا مانع من أمر اللَّه، أو لا ماسك من أمر اللَّه، والفرق بينهما دقيق.
تلاحظون، لو أن أحداً أراد أن يسقط من مكان عال ومنعه أحد من الوقوع يقولون: منعه من الوقوع، لكنْ إذا مدّ يده ومسكه كان هذا المنع أخص من ذلك المنع الذي ليس فيه مسك.
لا نطيل عليكم، فلتكنْ العصمة بمعنى المنع.
العصمة شرط في النبي بلا خلاف بين المسلمين في الجملة، وإنما قلت: في الجملة، لأن غير الإمامية يخالفون في بعض الخصوصيات التي اشترطها واعتبرها الإمامية في العصمة، كما أن غير الإمامية أيضاً قد اختلفوا فيما بينهم في بعض الخصوصيّات، إلّاأن الإجماع قائم بين جميع الفرق من الإمامية والمعتزلة والأشاعرة على اعتبار العصمة في النبي بنحو الإجمال.
يشير العلامة الحلي رحمة اللَّه عليه إلى رأي الإمامية بالإجمال وإلى بعض الأقوال الأخرى فيقول:
ذهبت الإمامية كافّة: إلى أن الأنبياء معصومون عن الصغائر والكبائر، منزّهون عن المعاصي، قبل النبوّة وبعدها، على سبيل العمد والنسيان، وعن كلّ رذيلة ومنقصة وما يدل على الخسة والضعة، وخالفت أهل السنة كافّةً في ذلك، وجوّزوا عليهم المعاصي، وبعضهم جوّزوا الكفر عليهم قبل النبوّة وبعدها، وجوّزوا عليهم السّهو والغلط، ونسبوا رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) إلى السّهو في القرآن بما يوجب الكفر ... ونسبوا إلى النبي كثيراً من النقص «5».
ثم ذكر موارد من ذلك نقلها عن الصحاح وغيرها.
وإذا شئتم الوقوف على تفاصيل هذه الأقوال فعليكم بمراجعة كتاب [دلائل الصدق] «6» للشيخ المظفر حيث ذكر تلك الأقوال في شرح عبارة العلّامة الحلّي المتقدمة ناقلًا عن المواقف وشرحها وعن المنخول للغزالي وعن الفصل لابن حزم الأندلسي، وغير هذه الكتب، ونحن الآن لا نريد الدخول في هذه التفاصيل.
عرفنا إلى الآن معنى العصمة لغة، وأن العصمة بنحو الإجمال مورد قبول واتفاق بين المسلمين بالنسبة إلى النبي (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) أو مطلق الأنبياء.
العصمة في الاصطلاح:
وأما العصمة في الاصطلاح:
قال الشيخ المفيد رحمه اللَّه في [النكت الإعتقادية]: العصمة لطف يفعله اللَّه بالمكلف بحيث يمتنع منه وقوع المعصية وترك الطاعة مع قدرته عليهما «7».
ويقول المحقق الشيخ نصير الدين الطوسي في كتاب [التجريد]: ولا تنافي العصمة القدرة «8».
فأوضح العلّامة الحلّي في [شرح التجريد] معنى هذه الجملة، وذكر أقوال الآخرين «9».
ثم ذكر العلامة الحلّي رحمه اللَّه في كتاب [الباب الحادي عشر] ما نصه:
العصمة لطف بالمكلف بحيث لا يكون له داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك «10».
ويضيف بعض علمائنا كالشيخ المظفر في كتاب [العقائد]: بل يجب أن يكون منزّهاً عمّا ينافي المروّة، كالتبذّل بين الناس من أكل في الطريق أو ضحك عال، وكلّ عمل يستهجن فعله عند العرف العام «11».
فهذا تعريف العصمة عند أصحابنا.
إنهم يجعلون العصمة من باب اللّطف، ويقولون: بأن العصمة حالة معنوية موجودة عند المعصوم بلطفٍ من اللَّه سبحانه وتعالى، هذا اللّطف الذي عبّر عنه سبحانه وتعالى بقوله: «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أنْ يُضِلّوكَ» «12».
هذا اللّطف والفضل والرحمة من اللَّه سبحانه وتعالى يُمسك المعصوم عن الإقدام على المعصية، وعلى كلّ ما لا يجوز شرعاً أو عقلًا، مع قدرته على ذلك، وكذا عن الإقدام على كلّ ما يتنافى مع النبوة والرسالة، ويكون منفراً عنه عقلًا كما أضاف الشيخ المظفر.
وإذا كان هذا تعريف العصمة، وأنها من اللّطف والفضل والرحمة الإلهية بحقّ النبي، فنفس هذه العصمة يقول بها الإمامية للأئمة الاثني عشر ولفاطمة الزهراء (سلام اللَّه عليها)، فيكون المعصومون عندنا أربعة عشر، وقد رأيت في بعض الكتب أن سلمان الفارسي رضي اللَّه تعالى عنه أيضاً معصوم، ولا يهمّنا البحث الآن عن ذلك القول.
وإذا كانت العصمة حالة معنوية باطنة، وهي فضل من اللَّه سبحانه وتعالى، فلابدّ وأن يكون الكاشف عن هذه الحالة من قبله سبحانه وتعالى، والكاشف إمّا آية في القرآن، والقرآن مقطوع الصّدور، وإما أن يكون رواية ونصّاً متواتراً أو مقطوع الصدور ومفيداً لليقين عن النبي (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم).
ومع وجود هذه الحالة عند الشخص، وإمكان وجوده بين الناس، يقبح عقلًا تقدّم من ليست فيه هذه الحالة يقيناً على الواجد لها.
إذن، لابدّ من كاشف عن وجود هذه الحالة أينما كانت موجودة، على أساس بعض الآيات المباركات والأحاديث المتواترات، وجود العصمة في رسول اللَّه وفي فاطمة الزهراء (سلام اللَّه عليها)، وفي أمير المؤمنين وفي الحسنين (عليهم السّلام)، فآية التطهير دلّت على عصمة هؤلاء، وآية المباهلة دلّت على عصمة أمير المؤمنين، وحديث المنزلة دلّ على عصمته أيضاً، حديث الثقلين دلّ على عصمة الأئمة.
فظهر أن العصمة:
أولًا: حالة معنوية توجد في الإنسان بفضل اللَّه سبحانه وتعالى، فلا تكون كسبيّة ولا تحصل بالاكتساب.
ثانياً: لما كانت هذه الحالة بفضل اللَّه سبحانه وتعالى وبرحمة منه، وبفضل ولطف، وبفعل منه كما عبّر علماؤنا، فلابدّ من مجيء دليل من قِبَله يكشف عن وجودها في المعصوم، ولذا لا تقبل دعوى العصمة من أي أحد إلّاوأن يكون يدعمها نصّ أو معجزة يجريها اللَّه سبحانه وتعالى على يد هذا المدّعي للعصمة، كما أن أصل النبوة والإمامة أيضاً كذلك، فلا تسمع دعوى النبوة ولا تسمع دعوى الإمامة من أحدٍ إلّاإذا كان معه دليل قطعي يثبت إمامته أو نبوّته ورسالته.
وعمدة البحث في العصمة أمران:
الأمر الأول: كيف تجتمع العصمة أو هذه الحالة المعنوية الخاصّة مع القدرة على إتيان المنافي.
الأمر الثاني: ما الدليل على العصمة المطلقة التي يدّعيها الإمامية، أي إنهم يدّعون العصمة حتى عن السّهو والخطأ والنسيان.
هذان الأمران عمدة البحث في العصمة.
العصمة ومسألة الجبر
أوضح علماؤنا أن هذه الحالة تجتمع تماماً مع ما ذهبت إليه الطائفة من أنْ لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين، وذلك: بأن العصمة تمسك المعصوم وتمنعه عن أي منافٍ، ولكن لا تلجؤه إلى الطاعة، ولا تلجؤه إلى ترك المعصية أو المنافي.
وهذا المعنى قد أشار إليه العلّامة رحمه اللَّه في تعريفه من جهتين:
الأولى: قوله «بالمكلف» حيث قال: العصمة لطف يفعله اللَّه بالمكلف. فإنه يريد أن يفهمنا بأن المعصوم مكلَّف، أي إنه مأمور بالطاعة وترك المعصية، وأنه إذا أطاع يثاب، وإذا عصى يعاقب، ولذا جاء في القرآن الكريم: «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» «13»
، يعني: إن المرسلين كسائر أفراد أممهم مكلَّفون بالتكاليف، فلا يكون من هذه الناحية فرق بين الرسول وبين أفراد أمته، وعلى الرسول أنْ يعمل بالتكاليف، كما أن على كلّ فرد من أفراد الامّة أن يكون مطيعاً وممتثلًا للتكاليف، فلو كان المعصوم مسلوب القدرة عن المعصية وترك الطاعة، فلا معنى حينئذ للثواب والعقاب، ولا معنى للسؤال.
وقد بيّنا بالإجمال هذا المطلب في بحثنا عن آية التطهير.
والجهة الثانية الموجودة في كلام العلامة رحمه اللَّه قوله: بحيث لا يكون له داع إلى ترك الطاعة وفعل المعصية.
ففي هذه العبارة إشارة إلى أن ترك الطاعة وفعل المعصية إنما يكون بداع نفساني يحمل الإنسان على الإطاعة، أو يحمل الإنسان على الإتيان بالمعصية وارتكابها، وهذا الإنسان قد أودع اللَّه فيه سبحانه وتعالى مختلف القوى التي يستخدمها لأغراضه الصحيحة وغير الصحيحة، إلا أن العصمة تمسك المعصوم، بحيث لا يبقى له داع إلى ارتكاب المعصية أو ترك الطاعة والتكليف الشرعي.
ثم إن السيد الطباطبائي صاحب [الميزان] رحمه اللَّه، عبّر عن هذا اللطف الإلهي بالموهبة، فالعصمة عبّر عنها بالموهبة الإلهيّة، وأرجع العصمة إلى العلم، وذكر أنها- أي العصمة- نوع من العلم والشعور يغاير سائر أنواع العلم، في أنه غير مغلوب لشيء من القوى الشعورية البتة، بل هي الغالبة القاهرة عليها المستخدمة إيّاها، ولذلك كانت تصون صاحبها من الضلال والخطيئة مطلقاً.
وإذا كانت العصمة راجعة إلى العلم، فيكون الأمر أوضح، لأن الإنسان إذا علم بقبح شيء فلا يريده، وإذا علم بالآثار المترتبة على الفعل الذي يريد أنْ يقدم عليه، وكانت تلك الآثار حسنةً فإنه يقدم، وإنْ كانت سيئة فإنه يحجم، فتكون العصمة حينئذ منبعثة عن العلم.
ويكون الفارق بين المعصوم وغير المعصوم: أن غير المعصوم لم يحصل له ذلك العلم الذي حصل عليه المعصوم، ولذا لا يبلغ كلّ أحدٍ مرتبة العصمة، لعدم وجود العلم اللازم فيه، وعدم حصول ذلك العلم الخاص له، وكثير من الأشياء يعجز الإنسان عن درك حقائقها من محاسن ومساوي، أما إذا كان الإنسان عالماً وبتلك المرحلة من العلم، وكان عنده تلك الموهبة الإلهية- كما عبّر السيد الطباطبائي رحمه اللَّه - فإنه يعلم بحقائق الأشياء ويمتنع صدور ما لا يجوز عنه.
ولابد من التحقيق الأكثر في نظرية السيد الطباطبائي رحمه اللَّه، وأنه هل يريد أن العصمة منبعثة من العلم، وأنه هو المنشأ لهذه الحالة المعنوية الموجودة عند المعصوم، كما قرأنا في هذه العبارة، أو أنه يريد أنّ العصمة نفس العلم.
وعلى كلّ حال، فإن الإنسان إذا كان عالماً بحقائق الأشياء وما يترتب على كلّ فعل يريد أن يفعله، أو حتّى على كلّ نية ينويها فقط، عندما يكون عالماً ومطّلعاً على ما يترتب على ذلك، فسيكون عنده رادع على أثر علمه عن أنْ يقدم على ذلك العمل إذا كانت آثاره سيّئة، أو أنه سيقدم على العمل إذا كانت آثاره مطلوبة وحسنة.
العصمة عن السهو والخطأ والنسيان
إننا نشترط في العصمة أنْ يكون المعصوم منزّهاً عن السهو والخطأ والنسيان أيضاً، لا منزهاً عن المعاصي والذنوب فقط.
كانت آية التطهير تدلّنا على عصمة الأئمة أو على عصمة أهل البيت عليهم السّلام من الرجس، وكلمة الرجس نستبعد أنْ تطلق وتستعمل ويراد منها الخطأ والنسيان والسهو، إذن، لابدّ من دليل آخر، فما ذلك الدليل على أن الإمام والنبي معصومان ومنزّهان حتى عن السهو والخطأ والنسيان وما شابه ذلك؟
الدليل على ذلك: كلّ ما دلّ من الكتاب والسنّة والعقل والإجماع على وجوب الإنقياد للإمام أو النبي، وعلى وجوب إطاعته إطاعةً مطلقة غير مقيّدة.
تارةً نقول لأحدٍ: عليك بإطاعة زيد في الفعل الكذائي، عليك بإطاعة زيد في الوقت الكذائي، عليك بإطاعة زيد إنْ قال لك كذا. أما إذا قيل للشخص: يجب عليك إطاعة زيد إطاعةً مطلقة غير مقيدة بقيد، غير مقيدة بحالة، غير مقيدة بوقت، فالأمر يختلف.
وبعبارةٍ أخرى: الإمام حجةٌ للَّه سبحانه وتعالى على خلقه، والخلق أيضاً إنْ انقادوا لهذا الإمام، وامتثلوا أوامره، وطبّقوا أحكامه وأخذوا بهديه وسيرته، سوف يحتجّون على اللَّه سبحانه وتعالى بهذا الإمام.
إذن، الإمام يكون حجة اللَّه على الخلائق، وحجة للخلائق إذا كانوا مطيعين له عند اللَّه سبحانه وتعالى، ولذا يكون قول المعصوم حجة، وفعله حجة، وتقريره حجة.
عندما يعرّفون السُنّة يقولون: السنّة قول المعصوم أو فعله أو تقريره، والسنّة حجة.
ولماذا؟ لأنّ جميع حركات المعصوم وأفعاله وتروكه وحالاته يجب أن تكون بحيث لو أنّ أحداً اقتدى به في تلك الحالات والأقوال و الأفعال، يمكنه أنْ يحتجّ عند اللَّه سبحانه وتعالى عندما يُسأل لماذا فعلت؟ ولماذا تركت؟ وعندما يسأل لماذا كنت كذا؟ ولماذا لم تكن كذا؟ فالملاك نفس الملاك بالنسبة إلى المعصية.
ولو أنك راجعت كتب الكلام من السنّة والشيعة، عندما ينزّهون النبي عن المعصية وعن ارتكاب الخطأ يقولون: بأن ذلك منفّر، ويجب أنْ يكون النبي منزّهاً عن المنفّر، لأن اللَّه سبحانه وتعالى قد نصب هذا الشخص لأن تكون جميع أعماله حجة، ولأن يكون أُسوة وقدوة في جميع أعماله وحالاته وسيرته وهديه، فإذا جاء الأمر بالانقياد مطلقاً، جاء الأمر بالطاعة المطلقة، فلابدّ وأنْ يكون المطاع والمنقاد له معصوماً حتى من الخطأ والنسيان.
لو أنك طلبت من أستاذ أنْ يدرّس ولدك درساً معيّناً، فجاء في يوم من الأيام وقال: بأني نسيت درس اليوم، أو درّس هذا التلميذ درساً غير ما كان يجب عليه أنْ يدرّس، أو أخطأ في التدريس، لربما في اليوم الأول تسامحه ويكون معذوراً عندك، ولو جاء في اليوم الثاني، وأيضاً أخطأ في التدريس أو نسي الدرس، ثم جاء في اليوم الثالث وكرّر تلك القضية أيضاً، لا شك أنك ستعترض عليه، وتستبدله بأستاذ آخر.
وهكذا، لو أن إماماً نُصب في مسجد لأنْ يأتمّ به الناس في الصلاة، فسهى في صلاةٍ، وفي اليوم الثاني أيضاً سهى، وهكذا تكرّر منه السهو أياماً، لا ريب أن القوم سيجتمعون عليه، وسيطلبون منه مغادرة هذا المسجد، وسيتوجهون إلى شخص آخر وينصبونه إماماً لهم، وهذا شيء طبيعي.
ولو أنك راجعت طبيباً، وأخطأ في تشخيص مرضك، وراجعه مريض آخر وأخطأ أيضاً في تشخيص مرضه، وراجعه مريض ثالث وأخطأ أيضاً في تشخيص مرضه، لاجتمع الناس وأهل البلد كلّهم على هذا الطبيب، ولأغلقوا عليه بابه، ولغادر البلد بكلّ احترام!! وهذا شيء واضح.
اللَّه سبحانه وتعالى يريد أنْ ينصب أحداً بين المجتمع لأنْ تكون جميع أعمال هذا الشخص، وجميع أفعاله، وجميع حالاته حجة، يحتج بها على العباد، يكون قدوة فيها ويكون أُسوة، يتبعونه ويسلكون مسلكه ثم يعتذرون إلى اللَّه ويحتجون عليه بهذا الشخص.
لاحظوا كلام بعض علماء السنّة، أقرأ لكم عبارةً واحدةً فقط تشتمل على بعض الآراء:
يقول الزرقاني المالكي في [شرح المواهب اللدنيّة] عن النبي (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم): إنه معصوم من الذنوب، بعد النبوة وقبلها، كبيرها وصغيرها، وعمدها وسهوها على الأصح في ظاهره وباطنه، سرّه وجهره، جِدّه ومزحه، رضاه وغضبه، كيف؟ وقد أجمع الصحب على اتّباعه والتأسي به في كلّ ما يفعله، وكذلك الأنبياء .
قال السبكي: أجمعت الأمة على عصمة الأنبياء فيما يتعلّق بالتبليغ وغيره، من الكبائر والصغائر، الخسّة أو الخسيسة، والمداومة على الصغائر، وفي صغائر لا تحط من رتبتهم خلاف: ذهب المعتزلة وكثير من غيرهم إلى جوازها، والمختار المنع لأنا أمرنا بالإقتداء بهم في ما يصدر عنهم، فكيف يقع منهم ما لا ينبغي؟ ومن جوّزه لم يجوّز بنص ولا دليل «14».
أقول: إن قضية شهادة خزيمة بن ثابت الأنصاري، وأن النبي (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) لقّبه في تلك الواقعة بلقب ذي الشهادتين هي من أحسن الشواهد.
وقضية شهادة خزيمة هي أن رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) اشترى من أعرابي فرساً، ثم إن الأعرابي أنكر البيع، وليس هناك من شاهد، فأقبل خزيمة بن ثابت ففرّج الناس بيده حتى انتهى إلى النبي (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) فقال: أشهد يا رسول اللَّه لقد اشتريته، فقال الأعرابي: أتشهد ولم تحضرنا؟ [سؤال وجيه، لأن الشهادة تجب أن تكون عن علم] وقال النبي: «أشهدتنا؟» قال: لا يا رسول اللَّه ، عندما تبايعتم واشتريت الفرس من الأعرابي لم أكن حاضراً، ولكني علمت أنك قد اشتريت، فشهادتي عن علم، ثم قال خزيمة: أفنصدّقك بما جئت به من عند اللَّه ، ولا أصدّقك على هذا الأعرابي الخبيث؟ قال: فعجب رسول اللَّه وقال: «يا خزيمة شهادتك شهادة رجلين» «15».
من هذه القضية نفهم أن الصحابة عرفوا رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) بأنه لا يكذب، ولا يدّعي مال الغير بلا دليل، هذا صحيح، ولا خلاف فيه، لكنّ المدّعى أن النبي معصوم عن الخطأ والنسيان، وعن السهو، وعلى ذلك شهد خزيمة بالأمر، أما كان خزيمة يحتمل أن رسول اللَّه مشتبه؟ ألم يكن هذا الاحتمال ولو واحد بالمائة احتمالًا وارداً ليمنع خزيمة من القيام بهذه الشهادة؟ لا ريب أنه كان عالماً بأنّ رسول اللَّه لا يكذب، ولا يدّعي مال الناس، هذا واضح، لكنْ أليس كان من المناسب أن يتأمّل ويسأل رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم): يا رسول اللَّه لعلّك سهوت! لعلّك مشتبه! لعلّك نسيت! لعلّ هذا الأعرابي ليس ذلك الأعرابي الذي تعاملت معه، أو لعلّ هذا الفرس غير الفرس الذي اشتريته من الأعرابي. لكنّ كلّ هذه الاحتمالات منتفية عند خزيمة، ويأتي، ويفرّج الناس، ويشهد بأن الحق مع رسول اللَّه ، بلا تريّث ولا تأمل أبداً، وهكذا عرفوا رسول اللَّه ، ولابدّ وأنْ يكون كذلك.
أضف إلى ذلك، هل الخطأ والنسيان والسهو فوق النوم؟ والحال أن نوم النبي ويقظته واحد، نوم الإمام ويقظته واحد.
إتفق الفريقان على أن رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) كانت تنام عينه ولا ينام قلبه، وهذا الحديث موجود في [سنن الدارمي] وفي [صحيح الترمذي] على ما رأيت في معجم ألفاظ الحديث النبوي «16»، وهذا المعنى أيضاً وارد في حق أئمّتنا سلام اللَّه عليهم بلا فرق، ففي عدّة من الكتب للشيخ الصدوق في علامات الإمام (عليه السّلام)، قال (عليه السّلام): «تنام عينه ولا ينام قلبه» «17».
وهل السهو والخطأ فوق النوم؟ الذي في نومه يقظان، الذي في حال نومه قلبه غير نائم، كيف يحتمل في حقه أن يكون في يقظته ساهياً خاطئاً مشتبهاً أحياناً؟
أضف إلى ذلك، ألم نقرأ عن أمير المؤمنين (سلام اللَّه عليه) في الخطبة القاصعة:
إنّ النبي (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) كان معه ملك أوكله اللَّه سبحانه وتعالى في جميع أدوار حياة رسول اللَّه يسدّده (صلّى اللَّه عليه وآله)؟ ونفس هذا المعنى موجود في حق أمير المؤمنين (سلام اللَّه عليه)، قال رسول اللَّه - وقد ضرب بيده على صدر علي-: «اللَّه ماهدِ قلبه وسدّد لسانه». رواه صاحب [الاستيعاب] وغيره «18».
بل العجيب، أن أهل السنة أنفسهم يروون عن أبي هريرة أنه قال لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله: إني سمعت منك حديثاً كثيراً فأنساه، فقال رسول اللَّه : «ابسط رداءك» فبسطته، فغرف بيديه فيه، ثم قال: «اضممه» فضممته، فما نسيت حديثاً بعده.
فكلّ ما يروى عن رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) بواسطة أبي هريرة يكون حقاً عن رسول اللَّه !! وهذا ما يرويه محمد بن سعد في [الطبقات] «19» ويرويه أيضاً الذهبي في [سير أعلام النبلاء] «20» ويرويه الحافظ ابن حجر العسقلاني في [فتح الباري] «21» ويوجد في غير هذه الكتب، فهل من عاقل مسلم يشك في ثبوت هذه الحالة لرسول اللَّه ولعلي وللأئمة الأطهار؟!.
ثم إن عليّاً (عليه السّلام) يقول: «وإني لمن قوم لا تأخذهم في اللَّه لومة لائم، سيماهم سيما الصدّيقين، وكلامهم كلام الأبرار، عمّار الليل ومنار النهار، مستمسكون بحبل اللَّه ، يحيون سنن اللَّه وسنن رسوله، لا يستكبرون ولا يغلون ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل» «22».
وإني لمن قوم قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل، ومن كان قلبه في الجنة وهو في هذا العالم، أتراه يشك، أتراه يسهو، أتراه يلهو، أتراه ينسى.
هذا بالنسبة إلى أمير المؤمنين (سلام اللَّه عليه).
عصمة الأئمة
وبالنسبة إلى جميع الأئمة، لاحظوا هذه الرواية في [الكافي] يقول (عليه السّلام): «إن اللَّه خلقنا فأحسن خلقنا، وصوّرنا فأحسن صورنا، وجعلنا عينه في عباده، ولسانه الناطق في خلقه، ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة، ووجهه الذي يؤتى منه، وبابه الذي يدل عليه، وخزّانه في سمائه وأرضه، بنا أثمرت الأشجار وأينعت الثمار وجرت الأنهار، وبنا ينزل غيث السماء ونبت عشب الأرض، وبعبادتنا عُبد اللَّه ، ولولا نحن ما عبد اللَّه » «23».
فمن يكون عين اللَّه في عباده ولسانه الناطق في خلقه ويده المبسوطة على عباده، يشتبه ويسهو وينسى؟
وقال أمير المؤمنين (عليه السّلام) في [نهج البلاغة]: «ولولا ما نهى اللَّه عنه من تزكية المرء نفسه، لذكر ذاكر فضائل جمّة تعرفها قلوب المؤمنين، ولا تمجّها آذان السامعين، فدع عنك من مالت به الرمية، فإنّا صنايع ربّنا والناس بعد صنايع لنا» «24».
وعليكم بمراجعة ما قاله ابن أبي الحديد في شرح هذه الكلمة، وما أجلّها وأعلاها من كلمة، إنه فهم مغزى هذا الكلام «25».
تأويل ما ينافي العصمة في الكتاب والسنة:
وحينئذ، لابد من تأويل كلّ ما يخالف هذه القاعدة العقلية المستندة إلى الكتاب والسنّة والإجماع، كلّما يخالف هذه القاعدة في القرآن الكريم بالنسبة إلى أنبياء اللَّه سبحانه وتعالى، وكذلك الأمر في كلّ آية في القرآن هناك أدلّة قطعيّة على خلاف ظاهرها من العقل أو النقل، لابدّ من تأويل ظاهر تلك الكلمة، وإلّا فالآيات الدالّة بظاهرها على التجسيم- مثلًا- موجودة في القرآن الكريم.
إذن، لابدّ من حمل كلّ ما يخالف بظاهره عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، لاحظوا عبارة السيد المرتضى رحمه اللَّه في كتاب [الذخيرة] يقول: ولا يجوز أن يبعث من يوجب علينا اتّباعه وتصديقه وهو على صفة تنفّر عنهم، وقد جنّب الأنبياء عليهم السّلام الفظاظة والغلظة الشنيعة وكثيراً من الأمراض، لأجل التنفير «وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ».
لماذا يمدح اللَّه سبحانه وتعالى نبيّه بأنه ليس فظّاً غليظ القلب؟ لأن هذه الحالة تنفّر الناس «لانفضّوا من حولك». فإذا كان ساهياً، أو كان ناسياً، أو كان لاهياً وغير ذلك، لانفضّوا من حوله أيضاً.
يقول رحمه اللَّه : وقد تكلّمنا على الآيات التي يتعلّق بها المبطلون في جواز المعاصي من الأنبياء، وبيّنا الصحيح في تأويلها في كتابنا المفرد [تنزيه الأنبياء والأئمة] «26».
نعم، لابدّ من تأويل كلّ ما جاء مخالفاً بظاهره لما قرّره العقل والعلم وأجمع عليه العلماء.
مع الشيخ الصدوق في مسألة سهو النبي
ذهب الشيخ الصدوق «27» رحمه اللَّه تبعاً لشيخه في مسألة سهو النبي إلى مذهبٍ لم يوافقه عليه من أكابر الطائفة أحد، لا من قبله ولا من بعده، إنه استند إلى رواية ذي الشمالين، أما سائر علمائنا فقد أخذوا بالرواية القائلة بأن رسول اللَّه لم يسجد سجدتي السهو قط، وكيف يسجد سجدتي السهو من كان قلبه في الجنان وجسده في العمل، كما عبّر الإمام أمير المؤمنين؟
بل يقول الشيخ الطوسي رحمه اللَّه في كتاب [التهذيب]: إن ما اشتمل عليه حديث ذي الشمالين من سهو النبي تمتنع العقول منه «28».
وفي [الاستبصار] يقول: ذلك مما تمنع من الأدلة القاطعة في أنه لا يجوز عليه السّهو والغلط «29».
وإنّا نستميح الشيخ الصّدوق عذراً فيما إذا أردنا أنْ نقول له: أنت الذي سهوت، وإن نسبة السهو إلى الشيخ الصدوق في هذا القول أولى من نسبة السّهو إلى رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم)، نظير ما قاله الفخر الرازي في [تفسيره] فيما روي في الصحيحين وغيرهما من أن إبراهيم (عليه السّلام) كذب ثلاث كذبات، قال الفخر الرازي: نسبة الكذب إلى الراوي أولى من نسبة الكذب إلى إبراهيم «30».
وأيضاً، نرى أهل السنّة يضطربون أمام حديث الغرانيق وتتضارب كلماتهم بشدّة، ويتحيّرون ماذا يقولون، لأن حديث الغرانيق يدلّ على جواز السّهو على الأنبياء بصراحة، وهذا ما نصّ عليه بعض المفسرين كأبي السعود العمادي في تفسير سورة الحج «31»، وتحيّروا ماذا يفعلون، لأن طرق هذا الحديث بعضها صحيح، ودافع عن صحته ابن حجر العسقلاني وغيره «32»، لكن الحافظ القاضي عياض صاحب كتاب [الشفاء في حقوق المصطفى] «33» وأيضاً القاضي ابن العربي المالكي «34» وأيضاً الفخر الرازي «35»، هؤلاء يكذّبون هذا الحديث على صحته سنداً عندهم، لأنه يصادم الأدلة القطعية من العقل والنقل.
لاحظوا عبارة القاضي عياض في كتاب الشفاء يقول: لا شك في إدخال بعض شياطين الإنس والجن هذا الحديث على بعض مغفلّي المحدّثين ليلبّس به على ضعفاء المسلمين.
وهذا الكلام يفتح لنا باباً واسعاً يفيدنا في مباحث كثيرة، ولذلك يأبى مثل العسقلاني أن يقبل هذا التصريح من القاضي عياض ولا يوافق عليه.
العودة إلى بحث عصمة الأئمة:
والآن نعود إلى بحثنا عن عصمة الأئمة من أهل البيت (سلام اللَّه عليهم)، وقد رأينا أن جميع ما يدلّ على عصمة رسول اللَّه يدلّ على عصمة الأئمة الأطهار، وكلّ دليل يدلّ على وجوب الإنقياد والطاعة له يدلّ على وجوب الإطاعة للأئمة،وأمثال هذه الأدلة تدلّ على عصمة أئمتنا حتى من السهو والنسيان والخطأ والغلط، وكما بيّنا: إن كلّ الأدلّة الدالّة على إمامة أئمتنا، وأنهم القائمون مقام نبيّنا، وأنهم الذين يملؤون الفراغ الحاصل من رحيله عن هذه الدنيا، كلّ تلك الأدلّة تدلّ على أنهم معصومون حتى من الخطأ والنسيان.
وأما الأحاديث الواردة في هذا الباب فكثيرة، ألا ترون أن رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) يقول: «من أطاعني فقد أطاع اللَّه ومَن عصاني فقد عصى اللَّه ، ومَن أطاع عليّاً فقد أطاعني ومن عصى عليّاً فقد عصاني»، هذا الحديث أورده الحاكم في [المستدرك] وصحّحه ووافقه الذهبي في [تلخيص المستدرك] «36».
وإذا كانت طاعة اللَّه وطاعة الرسول وطاعة علي واحدة، فهل من معصية أو سهو أو خطأ يتصوَّر في رسول اللَّه وعلي والأئمة الأطهار؟
كما أنكم لو راجعتم التفاسير لوجدتم تصريحهم بدلالة قوله تعالى: «أطِيعُوا اللَّهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وأولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ» «37»
على العصمة، لكنهم لا يريدون أن يعترفوا بأن أولي الأمر هم الأئمة من أهل البيت، فإذا ثبت أن المراد من أولي الأمر في الآية هم أئمة أهل البيت بالأدلّة المتقنة القطعية المقبولة عند الطرفين، فلابدّ وأنْ تدلّ الآية على عصمة أئمتنا.
لكن الفخر الرازي لا يريد أنْ يعترف بهذه الحقيقة؛ إنّه يقول بدلالة الآية على العصمة لكن يقول بأن المراد من أولي الأمر هم الأمة «38»، أي الأمة تطيع الأمة! أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول ، أطيعوا اللَّه أيّها الأمة، أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول وأطيعوا أنفسكم، الأمة تكون مطيعة للأمة، وهل لهذا معنى؟ إنه مما تضحك منه الثكلى.
ومن الطبيعي أنْ يتّبع مثل ابن تيمية الفخر الرازي في هذه الآية المباركة، هذا واضح، وهذا ديدنهم مع كلّ دليل يريدون أن يصرفوه عن الدلالة على إمامة أئمتنا وعصمتهم.
يقول ابن تيمية: لا نسلّم أن الحاجة داعية إلى نصب إمام معصوم، لأن عصمة الأمة مغنية عن عصمته «39».
وكأنّ ابن تيمية لا يدري بأن أكثر صحابة رسول اللَّه سيذادون عن الحوض، وما أكثر الفتن، وما أكثر الفساد، وما أكثر الويلات والظلم الواقع في هذه الأمة، وأين عصمة الأمة؟ وإني لأكتفي الآن بذكر حديث أو حديثين، لأن الوقت لا يسع أكثر من ذلك.
دلالة حديث السفينة على عصمة الأئمة
ومما يدلّ على إمامة أئمتنا وعصمتهم بالمعنى الذي يقول به علماؤنا وعليه مذهبنا: حديث السفينة: «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك».
أما حديث السفينة، فمن رواته:
1- محمد بن ادريس، إمام الشافعية.
2- أحمد بن حنبل، إمام الحنابلة «40».
3- مسلم بن الحجّاج «41».
4- أبو بكر البزّار.
5- أبو يعلى الموصلي.
6- أبو جعفر الطبري.
7- أبو القاسم الطبراني.
8- الحاكم النيسابوري.
9- ابن عبدالبر.
10- الخطيب البغدادي.
11- أبو الحسن الواحدي.
12- الفخر الرازي.
13- ابن الأثير.
14- نظام الدين النيسابوري.
15- ابن حجر العسقلاني.
16- الخطيب التبريزي.
17- نور الدين الهيثمي.
18- السيوطي، في غير واحد من كتبه.
19- ابن حجر المكي، في الصواعق.
20- المتقي الهندي، في كنز العمال.
21- القاري، في المرقاة.
22- الزيبدي، في تاج العروس.
23- الآلوسي، في تفسيره.
وكثيرون غيرهم يروون حديث السفينة وينصّون على صحة بعض أسانيده «42».
وأما في كتبنا، فرواياته كثيرة كذلك.
ولو أردنا أن نفهم مغزى هذا الحديث، فإن هذا الحديث تشبيه لأهل البيت بسفينة نوح «من ركبها» [واضح أن «من ركبها» يعني الكون مع أهل البيت، من كان مع أهل البيت، من اقتدى بأهل البيت، من تبع أهل البيت] «نجا، ومن تخلّف عنها» [كائناً من كان، سواء كان منكراً لإمامة جميع الأئمة، أو منكراً حتى لواحد منهم] «هلك»، ولا فرق حتّى لو كان المتخلِّف ابن رسول اللَّه كابن نوح، ولو أن رسول اللَّه نادى: «يا ربّ أصحابي أصحابي» يجاب: «إنك لا تدري ما احدثوا بعدك»، كما يقول نوح: يا رب ابني، فيأتي الجواب: «إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ»».
فتدور قضية النجاة من الهلكات مدار الكون مع أهل البيت، وأهل البيت وسيلة النجاة، وكلّ فعل من أفعالهم وكلّ حال من أحوالهم حجّة، وهم القدوة والأسوة في جميع الأحوال.
ولو أردنا أنْ نذكر عباراتٍ من بعض شرّاح هذا الحديث الصريحة في هذا المعنى، لطال بنا المجلس أيضاً.
دلالة حديث الثقلين على عصمة الأئمة
ومن الأدلة القاطعة الدالّة على عصمة أئمتنا بالمعنى الذي نذهب إليه، وليس فيه أيّ مجال للبحث والنقاش: حديث الثقلين، فإن رسول اللَّه قرن العترة بالقرآن- وجعلهما معاً الوسيلة للهداية، وأنهما لن يفترقا- ب «لن» التأبيدية- حتى يردا عليه الحوض، قال: «فانظروا بما تخلفوني فيهما»، فكما أن القرآن الكريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كما نص القرآن نفسه، كذلك أهل البيت لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، هؤلاء كلّهم- أي الأئمة (سلام اللَّه عليهم)- عين اللَّه ويده ولسانه ... كما في تلك الرواية التي قرأتها.
ولا بأس بأن أقرأ لكم عناوين ما جاء في كتاب الكافي:
باب: في فرض طاعة الأئمة.
باب: في أن الأئمة شهداء اللَّه على خلقه.
باب: في أن الأئمة هم الهداة.
باب: في أن الأئمة ولاة أمر اللَّه وخزنة علمه.
باب: في أن الأئمة خلفاء اللَّه عزوجل في أرضه وأبوابه التي منها يؤتى.
باب: في أن الأئمة نور اللَّه عزوجل.
باب: في أن الأئمة هم أركان الأرض.
باب: في أن الأئمة هم الراسخون في العلم.
باب: في أن الأئمة معدن العلم وشجرة النبوة ومختلف الملائكة.
باب: في أن الأئمة محدّثون مفهّمون.
باب: في أن الأئمة لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلون إلّابعهد عن اللَّه وأمر منه لا يتجاوزون.
العصمة لا تستلزم الغلوّ:
ولا يتوهمنَّ أحدٌ أنّ في هذه الأبواب غلوّاً بحق الأئمة (سلام اللَّه عليهم)، وإني لأرى ضرورة التأكيد على هذه النقطة، قولنا بأن الأئمة معصومون حتى من السهو والخطأ والنسيان، هذا ليس غلوّاً في حقهم، إنّهم سلام اللَّه عليهم يبغضون الغالي ويكرهون الغلو، إنه قد ورد عنهم (سلام اللَّه عليهم): «احذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدوهم، فإن الغلاة شرّ خلق اللَّه ، يصغّرون عظمة اللَّه ، ويدّعون الربوبية لعباد اللَّه ، وإن الغلاة لشرّ من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا» «43».
ومعنى الغلوّ في الروايات وكلمات العلماء معروف، ولا بأس أن أقرأ لكم هذه الكلمة ولو طال المجلس، لأنّي أرى ضرورة قراءة هذا النص.
يقول الشيخ المجلسي رحمه اللَّه : إعلم أن الغلو في النبي والأئمة (عليهم السّلام) إنما يكون بالقول بأُلوهيّتهم، أو بكونهم شركاء للَّه تعالى في العبودية والخلق والرزق، وأن اللَّه تعالى حلّ فيهم أو اتحد بهم، أو أنّهم يعلمون الغيب بغير وحي وإلهام من اللَّه تعالى، أو بالقول في الأئمة أنهم كانوا أنبياء، والقول بتناسخ أرواح بعضهم إلى بعض، أو القول بأن معرفتهم تغني عن جميع التكاليف، والقول بكلّ هذا إلحاد وكفر وخروج عن الدين، كما دلّت عليه الأدلّة العقلية والآيات والأخبار السالفة وغيرها، وقد عرفت أن الأئمة تبرّؤوا منهم وحكموا بكفرهم- أي الغلاة- وأمروا بقتلهم.
قال رحمه اللَّه : ولكن أفرط بعض المتكلّمين والمحدّثين في الغلو، لقصورهم عن معرفة الأئمة وعجزهم عن إدراك غرائب أحوالهم وعجائب شؤونهم، فقدحوا في كثير من الرواة الثقات لنقلهم بعض غرائب المعجزات حتى قال بعضهم: من الغلو نفي السهو عنهم، أو القول بأنهم يعلمون ما كان وما يكون وغير ذلك.
قال رحمه اللَّه : فلابدّ للمؤمن المتديّن أنْ لا يبادر بردّ ما ورد عنهم من فضائلهم ومعجزاتهم ومعالي أمورهم، إلّاإذا ثبت خلافه بضرورة الدين أو بقواطع البراهين أو بالآيات المحكمة أو بالأخبار المتواترة «44».
إذن، لابدّ من التأمّل دائماً في العقائد، إنهم كما يكرهون التقصير في حقهم يكرهون أيضاً الغلو في حقهم، إلّاأنّه لابدّ من التريّث عند كلّ عقيدة، فلا يرمى القائل بشيء من فضائل أهل البيت بالغلو، وتلك منازل شاء اللَّه سبحانه وتعالى أن تكون لهم.
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــ
( 1) لسان العرب 12/ 403« عصم»، تاج العروس 8/ 398، الصحاح 5/ 1986« عصم».
( 2) سورة هود( 11): 43.
( 3) سورة آل عمران( 3): 103.
( 4) مفردات ألفاظ القرآن: 569.
( 5) نهج الحق وكشف الصدق: 142.
( 6) دلائل الصدق 1/ 604.
( 7) النكت الإعتقادية: 37( ضمن مصنفات المفيد ج 10).
( 8) تجريد الاعتقاد: 222.
( 9) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 365.
( 10) الباب الحادي عشر: 37.
( 11) عقائد الامامية: 287- 288.
( 12) سورة النساء( 4): 113.
( 13) سورة الاعراف( 7): 6.
( 14) شرح المواهب اللدنّيّة 5/ 314.
( 15) الكافي 7/ 400 رقم 1 باب النوادر.
( 16) وهو في سنن الترمذي 2/ 302 رقم 439.
( 17) رواه الشيخ الصدوق القمي في الخصال: 527 رقم 1 و 428 رقم 5، ومعاني الأخبار: 102 رقم 4، وعيون أخبار الرضا( عليه السّلام) 1/ 212 رقم 1.
( 18) الإستيعاب 3/ 1100.
( 19) طبقات ابن سعد 2/ 362.
( 20) سير أعلام النبلاء 2/ 595.
( 21) فتح الباري 1/ 174.
( 22) نهج البلاغة 2/ 184 شرح محمد عبده.
( 23) الكافي 1/ 144 رقم 5 و 193 رقم 6.
( 24) نهج البلاغة 3/ 35- 36.
( 25) شرح نهج البلاغة 15/ 181.
( 26) الذخيرة في علم الكلام: 338.
( 27) من لا يحضره الفقيه 1/ 234.
( 28) التهذيب 2/ 181.
( 29) الاستبصار 1/ 371/ ذيل ح 6.
( 30) تفسير الرازي 22/ 185، وفيه: فلأن يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام).
( 31) تفسير أبي السعود( إرشاد العقل السليم) 6/ 114.
( 32) فتح الباري 8/ 355.
( 33) الشفاء بتعريف حقوق المصطفى 2/ 118، فتح الباري 8/ 355.
( 34) فتح الباري 8/ 355.
(35) تفسير الرازي 23/ 50.
( 36) المستدرك على الصحيحين 3/ 121.
( 37) سورة النساء( 4): 59.
( 38) تفسير الرازي 10/ 144.
( 39) منهاج السنّة 3/ 173، 270.
( 40) رواه غير واحدٍ منهم عنه، منهم صاحب مشكاة المصابيح قال: رواه أحمد.
قال الألباني في هامشه: كذا في الأصول، والمراد به عند الاطلاق مسنده، وليس الحديث فيه.
( 41) طبعاً هذا الحديث غير موجود في صحيح مسلم إلّاأننا ننقله من كتاب[ البراهين القاطعة في ترجمة الصواعق المحرقة]، وهو كتاب فارسي ترجم فيه مؤلّفه الصواعق المحرقة قبل قرون، وهناك تصريح بأن الحديث في صحيح مسلم، والعهدة عليه، إلّاأنه غير موجود الآن في صحيح مسلم.
( 42) المستدرك على الصحيحين 2/ 343 و 3/ 151، تاريخ بغداد 12/ 91 رقم 6507، المطالب العالية 4/ 75، مجمع الزوائد 9/ 168، الصواعق المحرقة: 352، مشكاة المصابيح 3/ 1742، المعارف: 86، عيون الأخبار لابن قتيبة 1/ 211، المعجم الكبير 3/ 37، برقم 2636 و 2637 و 2638، 12/ 34 برقم 12388، المعجم الصغير 1/ 139، 2/ 22، السيرة النبوية للملّا علي القاري 2/ 234، ذخائر العقبى: 20، لسان العرب، مادة: زخ، تفسير النيسابوري 25/ 28، الدرّ المنثور 3/ 334، كنز العمّال 12/ 34151، 34170.
( 43) سورة هود( 11): 46.
( 44) الأمالي للشيخ الطوسي: 650 رقم 12.
( 45) بحار الأنوار 25/ 346- 347