الفرق بين الفكر المادي والإِلهي
لا فرق - في نظر المادي - بين طريق الحق وغيره، ولا توجد حسابات خاصة، وأُسس معينة، لِكُلِّ ما يحفل به العالم من عدل وظلم، وحسن وقبح، وعلى ضوء النظام الكُليّ الحمليّ للعالم.
إذْ، ليس للعالم عين ولا أُذُن ولا عقل ولا إدراك، حتى يتعرّف على مثل هذه الأُمور وحتى يتعاون مع أُولئك الذِين يسعون من أجل الحقّ والعدالة والأخلاق، والقيم الإِنسانية، والإخلاص، والأعمال الخيرية، بينما لا يتعاون مع أُولئك الذين لا يسعون في هذا السبيل.
وأمّا الإِلهي، فهو يرى فرقاً وتفاوتاً بين هذه الأمور والحالات، في حسابات النظام الكلي للعالم، فيعترف بوجود الحقّ والحقيقة، ويحاول بكُلّ ما يملك من قوةٍ. الدّفاع عن رجالِ الحق وحمايتهم.
يرى المادي: بأنّ العوامل المؤثّرة بالأجل والسلامة والسعادة، منحصرة بالعوامل المادية؛ فالعوامل المادية، هي التي تقرّب الأجل أو تؤخّره، وهي التي تمنح السلامة للبدن، أو تسلبها منه، أو تحافظ على السعادة أو تقضي عليها.
وأمّا الإِلهي: فإنّه يرى بأنّ العالم يمتلك الشعور والحياة، وأنّ لأفعالِ البشر ردود فعل، ويعتقد بوجود التفاوت بين القبح والحسن في حسابات العالم، وأنّ لإِعمال الخير والشرّ ردود فعل تُواجه الإِنسان في حياته.
وكذلك يرى المادي: بأنّ ليس للسُّنن التشريعية - وهي المقرّرات التي يلزم على الإنسان العمل بها - أيّ حسابٍ على ضوء السنن التكوينية، وليس هناك أيّ تأثير للعالم في مسيرة الإنسان في الحياة؛ فالحق والباطل، والصحيح والخطأ، والعدل والظلم لا تفاوت فيما بينهما، بنظر العالم، وموقف العالم ومعاملته مع العاملين بهذه الأمور المختلفة، معاملة واحدة.
وأمّا الإِلهي فأنّه يعتقد: بأنّ معاملة العالم ليست واحدة، فهي بجانب أنصار الحق والعدالة، والرّسالات الحقة المقدّسة.
إن المادي مهما كان مؤمناُ بمدئه وأهدافه، ومهما كانت رسالته مقدّسة شاملة، بعيدة عن المنفعة الشخصية وحبّ النفس، ومهما بذل من الجهود والتضحيات، في سبيل الأهداف التي يسعى لتحقيقها؛ فإنه بالتالي سيعتقد بأنّ النتيجة التي سيتوصّل إليها، تكون بحجم الجهود التي بذلها في سبيلها.
وأمّا المسلم والمؤمن، فإنّه يعتقد بأنّ العالم قد خُلق بصورةٍ، أنْ لو ضُحِّي في طريق الحق، فإنّ العالِم سوف يهبُّ للدفاع عنه وحمايته، وإنّ حجم القوة الكامنة في الكون، التي تهبّ للدفاع عنه أضعاف القوة، التي يبذلها في طريق أهدافه المقدّسة بكثير، فإنّ المدرسة المادية ترى بأنّ ثقة أنصار الحقّ والعدالة بالوصول لإِهدافهم نتيجة نشاطاتهم وجهودهم، بمقدار الثقة لدى أنصار الظلم والباطل، في الوصول لأهدافهم الجهنميّة نتيجة فعّالياتهم، فإنّهم يعتقدون بعدم الفرق بين هاتين الفئتين في حسابات العالم، ولكن المدرسة الإِلهية، ترى وجود فرق كبير، وتفاوتٍ شاسع بينهما.
الإِلهام والإِشراق :
من أنواع الإِمدادات الغيبيّة، تلك الإِلهامات والإِشراقات، التي تُشرق فجأةً في أذهان بعض المفكرين.
فإنّ العلم والمعرفة، عادةً ما يصل إليها الإِنسان من خلال طريقين:
أحدهما: التجربة والمشاهدة العينية.
والثاني: القياس والاستدلال.
فالإِنسان يتعرَّف على أسرار الطبيعة وحقائقها من خلال المشاهدة العينيّة، أو أنّه يستنتج الحقائق والنتائج بقوة القياس والإِستدلال، ومثل هذه التوفيقات نتيجة حتمية للمقدّسات التي طواها الإِنسان.
ولكن النظر الفلسفي العميق يُلاحظ تَوافر الإِلهامات، حتى في تلك الطرق والوسائل المتعارفة للمعرفة، وهذه المسألة خارجة عن بحثنا؛ يقول السبزاوي:
والملهِمُ المبدِع العليمُ ... ... حيٌّ قديمٌ مَنّه عميم
ولكن، هل أنّ معلومات البشر خلال تاريخه الطويل، لم تنبثق وتكتسب إلاّ من خلال هذين الطريقين، أم هناك طريق آخر للعلم؟
ويعتقد الكثير من المفكّرين، بوجود طريق ثالث، فإنّ الكشوفات والمخترعات كانت تبرق فجأةً وتُشرق في أذهان العلماء ثم تغيب وتختفي.
ويعتقد ابن سينا بأنّ هذه القوة الملهمة، الموجودة في الكثير من الأفراد، ولكن بِنِسبٍ مختلفة، وقد فُسّر بها الآية الشريفة: { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ}(النور/35).
ويدّعي الغزالي في كتابه (المنقذ من الظلال) : بأنّ الكثير من المعلومات البشرية، المتعلّقة بالحاجات الحياتية، قد انكشفت في بدايتها للإِنسان، بوسيلة الإِلهام.
ويقول الغزالي حول الوحي والنبوّة: إنّ الشاك فيهما، إمّا أن يكون شاكّاً بالإِمكان، أو بالوقوع، أو أنّه يشك في فردٍ بالخصوص، إنّه قد التقى به الوحي أم لا؟
ثم يقول: إنّ أفضل دليلٍ على إمكان ذلك هو وقوعه، فإنّ الكثير من المعارف البشرية في مجال الأدوية والعلاجات، والنجوم التي لا يمكن أنْ نتصوّر بأنهم قد تعرّفوا عليها بواسطة التجربة، قد اهتدى إليها البشر، من طريق الإِلهام واللطف الإِلهي.
ونصير الدين الطوسي أيضاً، يتبنى هذا الرأي؛ عندما يبحث حول الوحي والنبوّة، فيعتقد بأنّ الكثير من الصناعات قد توصّل إليها البشر بواسطة الإِلهام.
والمولوي أيضاً في بعض أشعاره يُشير إلى هذه الفكرة:
(إن علم النجوم والطب من وحي الأنبياء، ولولا الوحي لكان طريق الحسّ والعقل مسدوداً، لا هدف له. يقيناً، إنّ جميع الحرف مستمدّة من الوحي، ولكنّ العقل عمل في تكثيرها وتطويرها).
قد يدّعي البعض، بأنَّ هذا الرأي، قد مضى وقته، وأصبح مهجوراً، وليس له أتباع وأنصار في عصرنا الحديث، فلا يقول أحدٌ بأنّ الإِلهام منبع لبعض المعارف، فالعالم اليوم يعتقد بأنّ المنبع الوحيد للمعرفة، هو الحواس الظاهرية، فحسب؛ فلا يؤمن إلا بالمشاهدة العينية، وتكرار المشاهدة والتجربة، ولا يعتقد بغير الوسيلة للمعرفة.
ولكن، ليس الأمر كذلك، فهناك الكثير من المفكِّرين في العصر الحديث، يؤمنون بما ذكرناه، وإنّ لكثير من الآراء والفرضيّات وليدة الإِلهام؛ والقسيس كارل، أحد أنصار هذه الفكرة، (الإِشراق والإِلهام) يقول في كتابه (الإِنسان ذلك المجهول):
(لابُدّ أن نجزم بأنّ الاكتشافات العلمية، ليست حصيلة الفكر البشري فحسب؛ فإنّ النوابغ بالإضافة إلى امتلاكهم لقدرة المطالعة الواعية، وإدراك المسائل والتحقيق فيها؛ فإنهم يمتلكون قوةً أُخرى، هي قوة الإشراق والتصور الخلاّق؛ فإنهم تعرّفوا بواسطة الإشراق، على الكثير من الأشياء التي كانت غامضة خفية على الآخرين، واطّلعوا على العلاقات بين الأشياء، التي لا علاقة فيما بينها ظاهراً، وعلى الكثير من الكنوز المخبوءة المجهولة، وبدون تحليلٍ واستدلال).
ويقول أيضاً: (يُمكن تقسيم العلماء إلى قسمين: المنطقيين والإِشراقيين، والتطوّر العلمي مدين لهاتين الفئتين من العلماء، فالعلوم الرياضية التي تعتمد في أساسها تماماً على المنطق. كان للإِشراق نصيب فيها أيضاً، والإِشراق عامل مهمّ لمعرفة القضايا في الحياة العاديّة أيضاً، كما هو الأمر في المسائل العلميّة؛ ولكن ربّما يعسر تمييزه عن الوهم، ولا يمتلك كل أحد القدرة على التمييز، إلا الرجال العظام، وأصحاب القلوب الطاهرة النقيّة؛ وهذه الموهبة مدهشة حقاً، فكيف يُدرك الإنسان الحقائق بدون دليل).
ويذكر القسيس كارل مجموعة من العلماء الرياضيّين، يدعي بأنّهم من فئة المنطقيين، وقد توصلوا إلى آرائهم وثقافتهم الرياضية، عن طريق الدراسة والبحث والاستنتاج المنطقي، ثم يذكر مجموعة أُخرى من الرياضيّين، ويدعي بأنهم من فئة الإِشراقيين المُلهمين.
وهناك غير القسيس كارل من العلماء، قد اعترف بهذه الحقيقة أيضاً؛ فإن أحد الرياضيّين الفرنسيّين، وأسمه (جاك هادامارا)، له مقالة بعنوان: (تأثير الشعور الباطن في البحوث العلمية)؛ يقول فيها:
(حين نتأمّل في الكشوفات والإِختراعات، فلا يمكن لنا أن نهمل تأثير الإِدراكات الباطنية المفاجئة، فإنّ كل عالم محقّق، قد أحسّ بهذه الحقيقة؛ وهي أنّ الحياة، والمسائل العلمية، مؤلّفه من مجموعة من الفعاليات والنشاطات، التي كان للشعور والإِرادة دخل في بعضها، والبعض الآخر منها ناشئ من بعض الإِلهامات الباطنية).
ولا أذكر الآن في أيّ كتاب قرأت: بأن انشتاين يعترف بذلك أيضاً، وأن الفرضيّات الكبيرة وليدة نوع من الإِلهام والإِشراق.
ويتّضح من كل ما تقدم: بأنّ بعض الأفراد قد توفرت لهم في حياتهم بعض الأنواع من الإِمدادات الغيبيّة، وهذا المدد إمّا أنْ يتحقّق في قوة القلب والإِرادة، أو توفير الأسباب المادية للعمل، أو إفاضة الهداية والبصيرة، أو إلهام الأفكار العلمية الكبيرة وغيرها.
إذن، فالإِنسان لا يترك لوحده دائماً، فهناك يد غيبية، تطلّ عليه أحياناً، ووفق شروطٍ خاصةٍ، لتنقذه من الضلال والعجز، واليأس، والضعف والضياع.
الإِمدادات الغيبيّة الإجتماعية:
كان حديثنا حول توفّر المدد الغيبي، بالنسبة للفرد الواحد، ولكن، هل يتمّ ذلك للبشر جميعهم، فتتدخّل اليد الغيبية أحياناً لتنقذهم، وتأخذ بأيديهم إلى شاطئ النجاة؟
والملاحظ أنّ الأنبياء الكبار، أمثال إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنّما ظهروا في الظروف الصعبة، التي كانت البشريّة فيها بأشدّ الحاجة لوجودهم، فكانوا اليد الغيبية التي أنقذتهم، وكانوا كالمَطر الذي يهطل في الصحراء الضامئة العطشى؛ إنّهم مصداق الآية الشريفة: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}(القصص/5).
والإِمام علي (عليه السّلام) يحدّد المناخ والأرضيّة، التي بعث فيها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم)، حيث يقول: (أرسله على حين فترةٍ من الرسل، وطول هجعة من الأمم، وانتفاض من المبرم، وانتشار من الأمور، وتلظٍ من الحروب، والدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، على حين اصفرارٍ من ورقها، وأياسٍ من ثمرها).
لقد ظهر الأنبياء في فترة كانت فيها البشرية، أو محيطهم الإجتماعي على الأقلّ تعيش حالةً خطيرةٍ، وكانوا هم السبب في نجاة المجتمع وإصلاحه؛ والقرآن الكريم يخاطب المجتمع الذي بُعث فيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) : {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}(آل عمران/103).
وهناك أمثال سائرة، يتداولها الناسَ؛ أمثال: عند انتهاء الشدة يكون الفرج، أو الفرج بعد الشدة؛ وهناك أمثال أيضاً في اللغة العربية بهذا المعنى؛ وهذه كلها تعبّر عن التجارب البشرية في هذا المجال، وإنّ حركة العالم ومسيرته، ليست كما يتخيّلها المادي، حركة عبثيّة وعشوائية.