إقامة مجالس العزاء : موسّع
بسم الله الرحمن الرحيم
من البيان السابق اتّضَحَت فلسفةُ وحكمةُ إقامة مجالس العزاء، والمآتم لأئمةِ الدّين، لأنّ إقامةَ مثل هذه المجالس من أجل ذكر مصائبهم وبيان ما جرى عليهم من المحَن في سبيل الدين، هو نوعٌ من أَنواع إظهار المودَّة والمحبَّة لهم. فإذا ما بكى يعقوبُ لِفِراق وَلَدِهِ العزيز «يوسف» سنيناً عديدة، وذرف دموعاً كثيرة«1», فإنّ ذلك نابعٌ مِن محبته وعلاقتِهِ القَلبيّة بابنِهِ. وإذا ما بكى محبُّو أهلِ البيت في مُصابهم بسبب علاقتهم القلبيّة بهم، وحبّهم العميق لهم، فإنّهم يتّبعون في هذا العمل النبيّ يعقوبَ (عليه السلام).
إنّ إقامة مجلس في مصاب الأحبّة والبكاء لفقدانهم هي في الأساس عملٌ أسَّسَهُ رسولُ الله (صلى الله عليه و آله و سلم)، وذلك عندما سمع نساء الانصار يبكين قتلاهن في معركة «أحُد»، فقال وهو يَذكر عمّه «حمزة» سيد الشهداء: «وَلكِنَّ حمزة لا بواكي له»«2». وعندما عرف أصحابُ رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله و سلم) برغبته في إقامة مجلس العزاء لعمّه «حمزة» أمروا أزواجهم بأن يبكين على قتلاهم الشهداء وعلى «حمزة» ويقمن مجلس العزاء له، فأُقيم مجلسٌ لذلك الغرض فلمّا بلغ رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) ما فعلَهُ الأنصارُ وأزواجهم شكَرَهُم على ذلك، ودعا في حقّهم قائلًا: «رَحم اللهُ الأنصار»، ثم طلب من أصحابه من الأنصار بأن يأمُروا أزواجهنّ بأن يَعدن إلى منازِلِهنّ. وثمة روايات عديدة تكاد تبلغ حدّ التواتر تعرب عن أنّ رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) بكى على الحسين سبطه الأصغر لما يلمَّ به وبأهله وأنصاره على أيدي الفئة الباغية، في وقعة كربلاء، كما يلاحظ ذلك من يراجع كتاب «الصواعق المحرقة» لابن حجر و «نور الأبصار» للشبلنجي الشافعي، و «المستدرك على الصحيحين» للحاكم النيسابوري 3: 176.
كما رثاه وبكاه طائفة من علماء الإسلام من سنة وشيعة وانشأوا في مصابه القصائد المطوّلة.
فهذا الإمام الشافعي يقول:
تأوّب قلبي فالفؤاد كئيب وأرّق نومي فالسهاد غريب
إلى أن يقول:
فمن مُبلغٌ عَنّي الحسينَ رسالةً وإن كَرِهَتْها أنفسٌ وقلوبُ
ذَبيحٌ بلَا جُرمٍ كأنَّ قميصَه صَبِيغ بماءِ الأُرجوان خضيبُ
هذا مضافاً إلى أنّ لإقامة المآتم ومجالس العزاء للشهداء في سبيل الحق فلسفة هامّة أُخرى وهي أنّ إحياء ذكراهم يوجب الحفاظ على عقيدتهم التي قُتلوا من أجلها... تلك العقيدة التي يتكوّن جوهرُها من التفاني في سبيل الدين وعدم الخضوع للذُلّ، والهوان وهم يردّدون شعار «الموت في عزٍ خيرٌ من الحَياة في الذلّ» ويجدّدون في كلّ يوم عاشوراء هذا المنطق العظيم ويتعلم الشعوب والأُمم دروساً حيويّة من نهضتهم وثورتهم الكبرى.
________
((1)) سيرة ابن هشام: 1/ 99
((2)) المصدر السابق؛ وإمتاع الاسماع: 11/ 16