اشكالات حول حديث لا تجتمع أمّتي على ضلال سندا ودلالة
هذا بحث يتناول حديث "لا تجتمع أمتي على ضلالة". دراسة ً من حيث سنده ودلالته.
استند الكلاميّون في مبحث الإمامة، والأصوليّون في فصل حجيّة الإجماع، إلى حديث «لا تجتمع أمّتي على ضلالة» فلا بدّ من التحقيق حوله ـ سنداً ودلالة ـ فنقول:
أوّلاً ـ أسانيد الحديث:
روي هذا الحديث في السنن والمسانيد، ومصادر أصول الفقه عند العامّة والخاصّة:
أمّا مصادره عند العامّة:
1 ـ ففي سنن ابن ماجة: رواه الحافظ أبو عبد الله محمّد بن يزيد القزويني (207 ـ 275هـ )، قال: حدّثنا العبّاس بن عثمان الدمشقي، حدّثنا الوليد بن مسلم، حدّثنا معان بن رفاعة السلاميّ، حدّثني أبو خلف الأعمى، قال: سمعت أنس بن مالك، يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول: «إنّ أمّتي لا تجتمع على الضلالة، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم».
وعلّق محقّق الكتاب نقلاً عن كتاب «مجمع الزوائد»، للهيثمي: في إسناده أبو خلف الأعمى، واسمه حازم بن عطا، وهو ضعيف، وقد جاء الحديث بطرق، في كلّها نظر. قاله شيخنا العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي(1).
أقول: أبو خلف الأعمى، قال عنه الذهبي: يروي عن أنس بن مالك، كذّبه يحيى بن معين، وقال أبو حاتم: منكر الحديث(2).
وإنّما أمر بالتمسّك بهم باعتبار أنّ اتّفاقهم أقرب إلى الإجماع.
وقال السيوطي: السواد الأعظم: أي جماعة الناس ومعظمهم. انتهى.
وقد استعمله الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبه، وقال: «الزموا السواد الأعظم، فإنّ يد الله مع الجماعة، وإيّاكم والفرقة، فإنّ الشاذّ من النّاس للشيطان، كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب، ألا مَن دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه»(3).
2 ـ وفي سنن الترمذي: روى الترمذي (209 ـ 297ه)، قال: حدّثنا أبو بكر بن نافع البصري، حدّثني المعتمر بن سليمان، حدّثنا سليمان المدني، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: «إنّ الله لا يجمع أمّتي»، أو قال: «أمّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) على ضلالة، ويد الله مع الجماعة ومن شذَّ شذَّ إلى النار».
قال أبو عيسى (الترمذي): هذا حديث غريب من هذا الوجه، وسليمان المدني هو عندي سليمان بن سفيان، وقد روى عنه أبو داود الطيالسي، وأبو عامر العقدي، وغير واحد من أهل العلم.
ثمّ أضاف: وتفسير الجماعة عند أهل العلم، هم أهل الفقه والعلم والحديث.
قال: وسمعت الجارود بن معاذ، يقول: سمعت علي بن الحسن، يقول: سألت عبد الله بن المبارك: مَن الجماعة؟ قال: أبو بكر وعمر، قيل له: قد مات أبو بكر وعمر؟ قال: فلان وفلان، قيل له: قد مات فلان وفلان؟ فقال عبد الله بن المبارك: أبو حمزة السكّري جماعة.
ثمّ أضاف: أبو حمزة، هو محمّد بن ميمون، وكان شيخاً صالحاً، وإنّما قال هذا في حياته عندنا(4).
أقول: فيما ذكره من تفسير «الأمّة» بخصوص أهل الفقه والعلم والحديث! نظر واضح، إذ أنّ اسم الأمّة يشمل جميع من آمن برسالة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
وأغرب منه تفسيرها بالخليفتين، ثمّ تفسيرها بفلان وفلان، هكذا مهملاً؟
وأمّا تطبيقها على أبي حمزة السكري، فليس إلّا المغالاة في الرجال؟ ومن هنا نطمئنّ بأنّ الحديث أصبح ذريعة لمن يريد تبرير ملتزماته الفكريّة والاجتماعية.
3 ـ وفي سنن أبي داود: روى أبو داود (202 ـ 275هـ ) قال: حدّثنا محمّد بن عوف الطائي، حدّثنا محمّد بن إسماعيل، حدّثني أبي، قال ابن عوف: وقرأت في أصل إسماعيل، قال حدّثني ضمضم، عن شريح، عن أبي مالك ـ يعني الأشعري ـ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إنّ الله أجاركم من ثلاث خلال: أن لا يدعو عليكم نبيّكم فتهلكوا جميعاً، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحقّ، وأن لا تجتمعوا على ضلالة»(5).
وفي السند محمّد بن عوف الطائي، ذكره الذهبي، قال: محمّد بن عوف، عن سليمان بن عثمان، مجهول الحال(6).
وأيضاً فيه ضمضم، ذكره الذهبي، وقال: ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد. وثقّه يحيى بن معين، وضعّفه أبو حاتم، روى عنه جماعة(7).
وقد اتّفقت السنن الثلاثة ـ في حديث الباب ـ على لفظ «ضلالة» ولم نجد في شيء منها لفظ «... على خطأ».
4 ـ وفي مسند أحمد بن حنبل: روى أحمد بن حنبل (164 ـ 241هـ ) في مسنده، قال: حدّثنا أبو اليمان، حدّثنا ابن عياش، عن البختري بن عبيد بن سليمان، عن أبيه، عن أبي ذر، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه قال: «اثنان خير من واحد، وثلاثة خير من اثنين، وأربعة خير من ثلاثة، فعليكم بالجماعة، فإنّ الله عزّ وجلّ لن يجمع أمتي إلّا على هدى»(8).
وفي السند ابن عياش الحميري، قال عنه الذهبي: مجهول(9).
وفي السند أيضاً البختري، وهو البختري بن عبيد، ذكره الذهبي، وقال: ضعّفه أبو حاتم، وغيره تركه، فأمّا أبو حاتم فأنصف فيه، وأمّا أبو نعيم الحافظ، فقال: روى عن أبيه موضوعات.
وقال ابن عدي: روى عن أبيه قدر عشرين حديثاً عامّتها مناكير، منها اشربوا أعينكم الماء، ومنها: الأذنان من الرأس، ثمّ قال: وله عند ابن ماجة حديث عن أبيه عن أبي هريرة: صلوا على أولادكم(10).
5 ـ وفي المستدرك الحاكم على الصحيحين: روى الحاكم النيسابوري (321 ـ 405هـ )، في المستدرك على الصحيحين بأسانيد سبعة تجتمع في المعتمر بن سليمان، قال: فيما احتجّ به العلماء على أنّ الإجماع حجّة، حديث مختلفٌ فيه على المعتمر بن سليمان قال: حدّثنا أبو الحسين محمّد بن أحمد بن تميم الأصمّ ببغداد، حدّثنا جعفر بن محمّد بن شاكر، حدّثنا خالد بن يزيد القرني، حدّثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «لا يجمع الله هذه الأمّة على الضلالة أبداً، وقال: يد الله على الجماعة، فاتّبعوا السواد الأعظم، فإنّه من شذّ شذّ في النّار»(11).
قال الحاكم ـ بعد نقله للحديث بأسانيد سبعة ـ: فقد استقر الخلاف في إسناد هذا الحديث على المعتمر بن سليمان، وهو أحد أركان الحديث من سبعة أوجه، لا يسعنا أن نحكم أنّ كلّها محمولة على الخطأ بحكم الصواب، لقول من قال عن المعتمر عن سليمان بن سفيان المدني، عن عبد الله بن دينار.
ونحن إذا قلنا هذا القول، نسبنا الراوي إلى الجهالة فوهن به الحديث.
ولكنّا نقول: إنّ المعتمر بن سليمان، أحد أئمّة الحديث، وقد روي عنه هذا الحديث بأسانيد يصحّ بمثلها الحديث، فلابدّ من أن يكون له أصل بأحد هذه الأسانيد.
ثمّ وجدنا للحديث شواهد من غير حديث المعتمر لا ادّعي صحتها ولا أحكم بتوهينها، بل يلزمني ذكرها لإجماع أهل السنّة على هذه القاعدة من قواعد الإسلام.
فمن روي عنه هذا الحديث من الصحابة: عبد الله بن عبّاس [ثمّ ذكر الحاكم حديث ابن عبّاس].
وأمّا معتمر ـ الذي وقع في سند الحديث ـ ذكره الذهبي، وقال: معتمر بن سليمان التيمي البصري أحد الثقات الأعلام. قال ابن خراش: صدوق يخطئ من حفظه، وإذا حدّث من كتابه فهو ثقة.
قلت: هو ثقة مطلقاً. ونقل ابن دحية، عن ابن معين: ليس بحجّة(12).
هذا ما عند العامّة، مسنداً، وأمّا روايته مرسلاً فقد تضافرت في كتبهم، بل أرسلوه إرسال المسلمات، وإليك بعض مصادره:
فذكر الغزالي (450 ـ 505هـ ): في «المنخول» قال: وممّا تمسّك به الأصوليّون، قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «لا تجتمع أمّتي على ضلالة» وروي «على خطأ»، ولا طريق إلى ردّه بكونه من أخبار الآحاد، فإنّ القواعد القطعيّة يجوز إثباتها بها، وإن كانت مظنونة. فإن قيل: فما المختار عندكم في إثبات الإجماع؟
قلنا: لا مطمع في مسلك عقلي إذ ليس فيه ما يدلّ عليه، ولم يشهد له من جهة السمع خبر متواتر، ولا نصُّ كتاب، وإثبات الإجماع بالإجماع تهافت، والقياس المظنون لا مجال له في القطعيّات(13).
والتناقض في كلامه ظاهر حيث قال: «إنّ القواعد القطعيّة يجوز إثباتها بأخبار الآحاد وإن كانت مظنونة» وهذا ينافي ما قاله أخيراً: «القياس المظنون لا مجال له في القطعيّات».
وجه التناقض: أنّ الخبر الواحد والقياس من حيث إفادة الظنّ سيّان، فكيف تثبت القواعد القطعيّة بالظنّ مستنداً إلى خبر الواحد، ولا يثبت بالقياس؟!
وأعجب منه إثباته القواعد القطعيّة بالظنّ، مع أنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين.
نعم، قال الغزالي في «المستصفى»: تظافرت الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع اتّفاق المعنى في عصمة هذه الأمّة من الخطأ(14).
وأمّا تاج الدين السبكي عبد الوهاب بن علي (ت/771هـ )، في كتابه «رفع الحاجب على ابن الحاجب»، فإنّه بعد ذكر طرق الحديث ورواته قال: أمّا الحديث فلا أشكّ أنّه اليوم غير متواتر، بل لا يصحّ، أعني لم يصحّ منه طريق على السبيل الذي يرتضيه جهابذة الحفاظ، ولكنّي اعتقد صحّة القدر المشترك من كلّ طرقه، والأغلب على الظنّ أنّه «عدم اجتماعها على الخطأ». وأقول: مع ذلك جاز أن يكون متواتراً في سالف الزمان ثمّ انقلب آحاداً(15).
وأمّا مصادر الحديث في كتب الشيعة: فلم ينقله مسنَداً، إلّا الصدوق في الخصال، ومنه أخذ صاحب الاحتجاج ونقله فيه.
وورد أيضاً في رسالة الإمام الهادي (عليه السلام) التي كتبها في الردّ على أهل الجبر والتفويض، نقلها ابن شعبة الحرّاني في «تحف العقول»، مرسلاً لا مسنداً.
ونقله أيضاً الأصوليّون منهم عند البحث في الإجماع، وإليك ما وقفنا عليه من نصوص هذا الحديث، عندهم:
ففي الخصال للصدوق: روى الصدوق (306 ـ 381هـ )، قال: حدّثنا أحمد بن الحسن القطّان قال: حدّثنا عبد الرحمان بن محمّد الحسيني، قال: حدّثنا أبو جعفر محمّد بن حفص الخثعمي، قال: حدّثنا الحسن بن عبد الواحد، قال حدّثني أحمد بن التغلبي(16)، قال: حدّثني أحمد بن عبد الحميد، قال: حدّثني حفص بن منصور العطّار، قال: حدّثنا أبو سعيد الورّاق، عن أبيه، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه، قال: «لمّا كان من أمر أبي بكر وبيعة النّاس له، وفعلهم بعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لم يزل أبو بكر يظهر له الانبساط، ويرى منه انقباضاً، فكبُر ذلك على أبي بكر، فأحبّ لقاءَه واستخراج ما عنده والمعذرة إليه لما اجتمع النّاس عليه وتقليدهم إيّاه أمر الأمّة، وقلّة رغبته وزهده فيه.
أتاه في وقت غفلة، وطلب منه الخلوة [ثمّ نقل بعض ما دار بينهما من الكلام إلى أن قال: ]
فقال له علي (عليه السلام): «فما حملك عليه إذا لم ترغب فيه، ولا حرصت عليه، ولا وثقت بنفسك في القيام به، وبما يحتاج منك فيه؟».
فقال أبو بكر: حديث سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ الله لا يجمع أمّتي على ضلال» ولما رأيت اجتماعهم اتّبعت حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأحلت أن يكون اجتماعهم على خلاف الهدى وأعطيتهم قود الإجابة، ولو علمت أنّ أحداً يتخلّف لامتنعت.
فقال علي (عليه السلام): «أمّا ما ذكرت من حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ الله لا يجمع أمّتي على ضلال»، أفَكنتُ من الأمّة أو لم أكن؟ قال: بلى، قال: «وكذلك العصابة الممتنعة عليك من سلمان وعمار وأبي ذر والمقداد وابن عبادة ومن معه من الأنصار؟».
قال: كلّ من الأمّة.
فقال علي (عليه السلام): «فكيف تحتجّ بحديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمثال هؤلاء قد تخلّفوا عنك، وليس للأمّة فيهم طعن، ولا في صحبة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ونصيحته منهم تقصير؟!»(17).
والملاحظ: أنّ السند مشتمل على رجال مجهولين، أو مهملين، فلا يمكن الاحتجاج به، على صحّة ما فيه.
أضف إلى ذلك: أنّه من المحتمل أن يكون قبول الإمام للحديث من باب الجدل والردّ على الخليفة إلزاماً له بما سلكه.
وفي تحف العقول لابن شعبة: فإن الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة ـ وهو من أعلام الشيعة في القرن الرابع الهجري، يروي عن أبي علي محمّد بن همام، المتوفّى سنة (336هـ )، المعاصر للصدوق (ت/381هـ )، أستاذ الشيخ المفيد (336 ـ 413هـ ) ـ قد روى في كتابه القيّم «تحف العقول» رسالة الإمام الهادي إلى الأهوازيّين في الردّ على أهل الجبر والتفويض، وجاء فيه ما نصّه:
وقد اجتمعت الأمّة قاطبة لا اختلاف بينهم على أنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق، وفي حال اجتماعهم، مقرّون بتصديق الكتاب وتحقيقه، مُصيبون، مُهتدون، وذلك بقول رسول الله: «لا تجتمع أمّتي على ضلالة». فأخبر أنّ جميع ما اجتمع عليه الأمّة كلّها حقّ، هذا إذا لم يخالف بعضها بعضاً(18).
والرسالة مرسلة لم نجد لها سنداً، ونقلها الشيخ الطبرسي في «الاحتجاج»(19) بلا إسناد أيضاً، كما رواها المجلسي في «البحار» مرسلاً(20).
هذا مجموع ما ورد في كتب الحديث للشيعة، وأمّا غير الكتب الحديثية فقد جاء في غير واحد من المصادر الأصولية كما يلي:
فالشيخ الطوسي (385 ـ 460هـ )، نقل الحديث عند البحث عن حجّية الإجماع في نظر أهل السنّة، فقال: واستدلّوا أيضاً على صحّة الإجماع بما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لا تجتمع أمّتي على خطأ»، وبلفظ آخر: «لم يكن الله ليجمع أمّتي على الخطأ»، وبقوله: «كونوا مع الجماعة»، وبقوله: «يد الله على الجماعة»، وما أشبه ذلك من الألفاظ.
ثمّ أجاب عن الاستدلال بهذه الأحاديث فقال: وهذه الأخبار لا يصحّ التعلّق بها لأنّها كلّها أخبار آحاد لا توجب علماً، وهذه مسألة طريقها العلم.
وليس لهم أن يقولوا: إنّ الأمّة قد تلقّتها بالقبول وعملت بها، لأنّا أوّلاً: لا نسلّم أنّ الأمّة كلّها تلقّتها بالقبول.
ولو سلّمنا ذلك لم يكن أيضاً فيها حجّة، لأنّ كلامنا في صحة الإجماع الذي لا يثبت إلّا بعد ثبوت الخبر، والخبر لا يصحّ حتّى يثبت أنّهم لا يجمعون على خطأ.
إلى أن قال: ولو سلّم جميع ذلك، لجاز أن يحمل على طائفة من الأمّة، وهم الأئمّة من آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ لفظ الأمّة لا يفيد الاستغراق على ما مضى القول فيه. وذلك أولى من حيث دلّت الدلالة على عصمتهم من القبائح.
وإن قالوا: يجبب حمله على جميع الأمّة لفقد الدلالة على أنّ المراد بعض الأمّة.
كان لغيرهم أن يقول: أنا أحمل الخبر على جميع الأمّة من لدن النبي إلى أن تقوم الساعة، حيث إنّ لفظ الأمّة يشملهم ويتناولهم، فمن أين أنّ إجماع كلّ عصر حجّة؟
وأمّا ما في الخبر الثاني من قوله: «لم يكن الله ليجمع أمّتي على خطأ»، فصحيح ولا يجيء من ذلك أنّهم لا يجتمعون على خطأ.
وليس لهم أن يقولوا: إن هذا لا اختصاص فيه لأمّتنا بذلك دون سائر الأمم، لأنّ الله تعالى لا يجمع سائر الأمم على الخطأ.
وذلك أنّه ـ وإن كان الأمر على ما قالوه ـ فلا يمتنع أن يخصّ هؤلاء بالذكر، ومن عداهم يُعلم أنّ حالهم كحالهم بدليل آخر، ولذلك نظائر كثيرة في القرآن والأخبار.
على أنّ هذا هو القول بدليل الخطاب الذي لا يعتمده أكثر من خالفنا(21).
وقد عدّ العلّامة في فصل خصائص النبي من كتاب النكاح، أنّ من خصائصه أنّ أمّته لا تجتمع على الضلالة(22).
وقد نقل المحقّق التستري أنّ العلّامة نقل الحديث في كتابيه «الألفين» و«المنتهى».
أقول: أمّا كتاب الألفين فقد ذكر أنّ من فوائد الإمام عصمة الأمّة، قال ما نصّه: امتناع الخطأ والإمامة(23) مع تمكّن الإمام من المكلّف. . . إلى آخر ما ذكره(24).
فهو يعدّ الأمّة معصومة لأجل وجود الإمام من دون إشارة إلى الحديث.
وأمّا «المنتهى» فلم نعثر فيه على الحديث.
وقال المحقّق التستري: وأقوى ما ينبغي أن يُعتمد عليه من نقل الحديث: «لا تجتمع أمّتي على الخطأ»، وما في معناه لاشتهاره وقوّة دلالته، وتعويل معظمهم ولاسيّما أوائلهم عليه، وتلقيهم له بالقبول لفظاً ومعنى، وادّعاء جماعة منهم تواتره معنى...
إلى أن قال: حكى بعض المحدّثين عن التحف مرسلاً عنه (عليه السلام) أنّه قال أيضاً: «إنّ الله قد احتجّ على العباد بأمور ثلاثة: الكتاب، والسنة، وما أجمع عليه المسلمون».
وقد روي في هذا الباب أخبار أخر من طرقنا تقتضي حجّية الإجماع الواقع على الحكم بنفسه، ووجوب العمل بخبر أجمع على العمل به، أو على روايته مع قبوله، كما تقتضي إمكان وقوع الإجماع والعلم به. وهي أخبار شتّى.
إلى أن قال: مؤيدة بما ورد في المنع من فراق الجماعة وغيره، ولتطلب جميعاً من كتاب المناهج، وفّق الله سبحانه لإتمامه(25).
هذا ما وقفنا عليه في كتب أصحابنا الإماميّة إلى أواخر القرن الثالث عشر من مصادر هذا الحديث مسنداً ومرسلاً.
وقد ذكر هذا الحديث في كتب علم الأصول الاستدلالية عند المتأخرين، ولا داعي للإطالة بالنقل عنها(26).
ثانياً: دلالة الحديث وخلاصة البحث:
ويمكن بيان مدلول الحديث، بالتأكّد ممّا يلي:
1 ـ أنّ الرواية من أخبار الآحاد، لم تنقل بسند صحيح في كتب الفريقين، وقد عرفت وجه الضعف في كلّ سند عند نقله من كتب الصحاح والمسانيد.
2 ـ أنّ المنقول مسنداً هو بلفظ «ضلالة» لا لفظ «على غير هدى» كما في مسند أحمد، ولا لفظ «خطأ»، الذي جاء في المصادر الأخرى، غير الحديثيّة.
3 ـ أنّ الحديث على فرض ثبوته يرجع إلى المسائل العقائديّة التي عليها مدار الهداية والضلالة، أو ما يرجع إلى صلاح الأمّة من وحدة الكلمة والاجتناب عن التشتّت فيما يمسّ وحدة المسلمين.
وأمّا المسائل الفقهية فلا يوصف المصيب والمخطئ فيها بالهداية والضلالة، كما لا يكون مصير الشاذّ فيها مصير النار أو نصيب الشيطان.
ويتأكّد ذلك بعدم ورود كلمة «خطأ» في النصوص المسندة، إطلاقاً، بل جاء ذلك في بعض المراسيل.
وعلى ذلك: فالاستدلال به على حجّية الإجماع في المسائل الفقهية غير تام.
4 ـ لو سلّمنا دلالة الحديث ـ كما فرضوها ـ فالمصون من الضلالة إنّما هي الأمّة بما هي، لا خصوص الفقهاء فقط، ولا أهل العلم، ولا أهل الحديث فقط! وعلى ذلك ينحصر مفاد الحديث بما اتّفق عليه جميع الأمّة.
5 ـ أنّ مصونيّة الأمّة كما يمكن أن يكون لعصمتها كما قيل، فإنّه يمكن أن يكون لوجود معصوم فيهم لما ثبت في محلّه: أنّ الزمان لا يخلو عن إمام معصوم، والرواية ساكتة عن سبب العصمة من الضلالة، فلا يمكن أن يستدلّ بالرواية على أنّ الأمّة مع قطع النظر عن المعصوم مصونة عن الخطأ، لاحتمال أن تكون عصمة الأمّة بعصمة الإمام، لا مطلقاً.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «اللّهمّ بلى، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة إمّا ظاهراً مشهوراً، وإمّا خائفاً مغموراً، لئلا تبطل حجج الله وبيناته»(27).
وروى العياشي بإسناده إلى إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله (عليه السلام) : قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحمل هذا الدين في كلّ قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين، وتحريف الغالين، وانتحال الجاهلين، كما ينفي الكير(28) خبث الحديد(29).
والحمد لله رب العالمين.
---------------------
(1) ابن ماجة، السنن: 2/1303، الحديث 3950.
(2) الذهبي: ميزان الاعتدال: 4/521، برقم 10156.
(3) نهج البلاغة، طبعة محمّد عبده، الخطبة برقم 123، وفي طبعة صبحي الصالح، برقم 127.
(4) الترمذي، السنن: 4/466، برقم 2167، كتاب الفتن.
(5) سنن أبي داود: 4/98، برقم 4253.
(6) ميزان الاعتدال: 3/676، برقم 8030.
(7) ميزان الاعتدال: 2/331، برقم 3960.
(8) مسند أحمد بن حنبل: 5/145.
(9) ميزان الاعتدال: 4/594، برقم 10821.
(10) ميزان الاعتدال: 1/299، برقم 1133.
(11) المستدرك: 1/115.
(12) ميزان الاعتدال: 3/143، برقم 8648.
(13) المنخول، ص305 ـ 306، طبع دار الفكر.
(14) المستصفى: 1/111.
(15) السبكي: رفع الحاجب عن ابن الحاجب، ورقة 176، ب من المخطوط في الأزهر.
(16) هو أحمد بن عبد الله بن ميمون التغلبي، قال ابن حجر: ثقة زاهد.
(17) الصدوق، الخصال: 2/548 ـ 549، أبواب الأربعين، الحديث 30.
(18) ابن شعبة، تحف العقول: 458، باب ما روي عن الإمام الهادي (عليه السلام).
(19) الاحتجاج: 2/478، برقم 328.
(20) البحار: 4/15.
(21) الطوسي: 2/625 ـ 626، نقلناه بتلخيص.
(22) التذكرة: 2/568 هـ /17.
(23) كذا في النسخة المطبوعة في مؤسّسة دار الهجرة، ولعلّ الصحيح: (على الأمّة).
(24) الألفين: 211.
(25) التستري، كشف القناع: 6 ـ 7، طبع عام 1316هـ.
(26) ونذكّر بأنّ الحاكم النيسابوري (المتوفّى 405هـ ) جمع أحاديث باب «لا يجمع الله أمّتي على الضلالة» ذكر ذلك في معرفة علوم الحديث ص251 قال: «الأبواب التي جمعتها وذاكرت جماعة من أئمّة الحديث ببعضها». التحرير
(27) نهج البلاغة: قسم الحكم، برقم 147.
(28) الكير: جلد غليظ ذو حافات ينفخ فيه الحداد.
(29) الكشي، الرجال: 10، برقم5، فصل فضل الزيارة والحديث.