الصحابة في القرآن الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
تعرّض القرآن الكريم لاَحوال الصحابة وصفاتهم منذ بداية بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحتى وفاته... في كثيرٍ من سوره وآياته... لقد قسّم القرآن الكريم الملتّفين حول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ في مقابل الكافرين والذين أُوتوا الكتاب ـ إلى ثلاثة طوائف هم:
1 ـ الذين آمنوا.
2 ـ الذين في قلوبهم مرض.
3 ـ المنافقون. والجدير بالدراسة والبحث وجود عنوان «الذين في قلوبهم مرض» إلى جنب «الذين آمنوا» في بعض السور المكية. ففي سورة المدثر، المكية بالاجماع، وهي من أوليات السور، جاء قوله تعالى: (وَما جَعلنا أصحَابَ النَّارِ إلاّ مَلائكةً * وما جَعلنَا عِدّتهُم إلاّ فِتنَةً للَّذينَ كَفرُوا ليستيقِنَ الَّذينَ أُوتُوا الكِتابَ ويَزدادَ الَّذينَ آمَنُوا إيماناً ولايَرتَابَ الَّذينَ أُوتُوا الكِتابَ والمؤمنُونَ وليقُولَ الَّذينَ في قُلوبِهمِ مَرضٌ والكافِرونَ ماذا أرادَ الله ُ بِهذا مَثَلاً...)(1). دلّت الآية المباركة على وجود أُناس «في قلوبهم مرض» حول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ الاَيام الاُولى من الدعوة الاِسلامية، و «المرض» بأي معنىً فسّر، فهؤلاء غير المنافقين الذين ظهروا بالمدينة المنورة، قال الله تعالى: (وممّن حولكم من الاَعراب ومن أهل المدينة...) (2). فالذين في قلوبهم مرض لازموا النبي منذ العهد المكي، حيث كان الاِسلام ضعيفاً والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مطارداً. أما المنافقون فقد ظهروا بعد أن ظهرت شوكة الاِسلام، فتظاهروا بالاِسلام حفظاً لاَنفسهم وأموالهم وشؤونهم. وبناءً على هذا، فكلّ آيةٍ من القرآن الكريم ورد في ظاهرها شيء من الثناء على عموم الصحابة، فهي ـ لو تمّ الاستدلال بها ـ محفوفة بما يخرجها عن الاطلاق والعموم وتكون مخصّصةً بـ «الذين آمنوا» حقيقةً، فلا يتوهّم شمولها للذين في قلوبهم مرض، والمنافقين، الذين وقع التصريح بذمّهم كذلك في كثيرٍ من الآيات (3).ومن الايات التي نزلت في الصحابة : قوله تعالى: (كُنتُمْ خيرَ أُمَّةٍ أُخرجَتْ للنّاسِ تأمُرُونَ بالمعروفِ وتَنهَونَ عَنِ المنكرِ وتؤمنونَ بالله ِ...) (4). قالوا: نزلت هذه الآية في المهاجرين من مكّة إلى المدينة كما ورد عن عبدالله بن عباس أنّه قال: (هم الذين هاجروا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكّة إلى المدينة) (5). وعن عكرمة ومقاتل: (نزلت في ابن مسعود واُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة، وذلك أنّ مالك بن الصيف ووهب بن يهوذا اليهوديين قالا لهم: إنَّ ديننا خير مما تدعوننا إليه ونحن خير وأفضل منكم فأنزل الله تعالى هذه الآية...) (6). لكن قول ابن عباس لو ثبت مقيّد بما أشرنا إليه، فلا يكون المراد عموم المهاجرين الشامل للذين في قلوبهم مرض قطعاً. كما أنّ قول عكرمة وأمثاله ليس بحجة. والآية حتى لو كانت نازلة في مورد خاص إلاّ أنّ المفسرين وسّعوا المفهوم ليشمل جميع الاُمّة الاِسلامية كما يقول ابن كثير: (والصحيح أنَّ هذه الآية عامة في جميع الاُمّة كل قرن بحسبه) (7). واختلف العلماء في تشخيص من تشمله الآية، هل هو الاُمّة بأفرادها فرداً فرداً ؟ أي أنّ كلّ فرد من الاُمّة الاِسلامية هو موصوف بالخيرية، أو هو الاُمة إجمالاً، أي بمجموعها دون النظر إلى الاَفراد فرداً فرداً. فذهب جماعة إلى الرأي الاَول ومنهم: الخطيب البغدادي، وابن حجر العسقلاني، وابن عبدالبر القرطبي، وابن الصلاح، وابن النجّار الحنبلي (8). فالآية في نظرهم شاملة لجميع أفراد الاُمّة وهم الصحابة آنذاك، فكل صحابي يتصف بالخيرية والعدالة مادام يشهد الشهادتين. وذهب آخرون إلى الرأي الثاني، وهو اتصاف مجموع الاُمّة بالخيرية دون النظر إلى الاَفراد فرداً فرداً، وقيّدوا هذه الصفة بشرط الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يتصف بالخيرية من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر، سواء كان فرداً أو أُمّة. قال الفخر الرازي: (... المعنى أنّكم كنتم في اللوح المحفوظ خير الاُمم وأفضلهم، فاللائق بهذا أن لا تبطلوا على أنفسكم هذه الفضيلة... وأن تكونوا منقادين مطيعين في كلِّ ما يتوجه عليكم من التكاليف... والاَلف واللام في لفظ (المعروف)، ولفظ (المنكر) يفيدان الاستغراق، وهذا يقتضي كونهم آمرين بكلِّ معروف وناهين عن كلِّ منكر... (تأمرون) المقصود به بيان علة تلك الخيرية) (9). وقال الفضل الطبرسي: (كان بمعنى صار، ومعناه: صرتم خير أُمّة خلقت لاَمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر وإيمانكم بالله ، فتصير هذه الخصال... شرطاً في كونهم خيراً) (10). وقال القرطبي: (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر: مدح لهذه الاُمّة ما أقاموا ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا التغيير وتواطئوا على المنكر، زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سبباً لهلاكهم) (11). فالخيرية تزول إن زالت علّتها، وذهب إلى ذلك ـ أيضاً ـ نظام الدين النيسابوري (12)، والشوكاني (13)، وآخرون. وذكر ابن كثير قولين ـ في ذكر الشروط ـ أحدهما لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والآخر لعمر بن الخطّاب:قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «خيرُ الناس أقرأهم، وأتقاهم، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم» (14). فالآية الكريمة ناظرة إلى مجموع الاُمّة، أمّا الاَفراد فقد وضع (صلى الله عليه وآله وسلم) مقياساً لاتصافهم بالخيرية كما جاء في قوله. وفي حجة حجّها عمر بن الخطاب رأى من الناس دعة، فقرأ هذه الآية، ثم قال: (من سرّه أن يكون من هذه الاُمّة فليؤدِ شرط الله فيها) (15). وذهب أحمد مصطفى المراغي إلى أنّ الخيرية مختصة بمن نزلت فيهم الآية في حينها، ثم وسّع المفهوم مشروطاً بالاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: (... أنتم خير أُمّة في الوجود الآن، لاَنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون إيماناً صادقاً يظهر أثره في نفوسكم... وهذا الوصف يصدق على الذين خوطبوا به أولاً، وهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه الذين كانوا معه وقت التنزيل... وما فتئت هذه الاُمّة خير الاُمم حتى تركت الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (16). وأضاف محمد رشيد رضا: الاعتصام بحبل الله ، وعدم التفرّق، إلى شرط الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: (شهادة من الله تعالى للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن اتّبعه من المؤمنين الصادقين إلى زمن نزولها بأنّها خير أُمّة أُخرجت للناس بتلك المزايا الثلاث، ومن اتّبعهم فيها كان له حكمهم لامحالة، ولكن هذه الخيرية لا يستحقها من ليس لهم من الاِسلام واتّباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ الدعوى وجعل الدين جنسية لهم، بل لا يستحقها من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحجّ البيت الحرام والتزم الحلال واجتنب الحرام مع الاخلاص الذي هو روح الاِسلام، إلاّ بعد القيام بالاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالاعتصام بحبل الله مع اتّقاء التفرّق والخلاف في الدين...إنّ هذه الصفات العالية والمزايا الكاملة لذلك الاِيمان الكامل، لم تكن لكلِّ من يطلق عليه المحدثون اسم الصحابي) (17). ومن خلال طرح هذه الآراء نجد أنّ الرأي الثاني هو الاَقرب للمعنى المراد، فإنَّ الآية ناظرة إلى مجمل الاُمّة وليس إلى الاَفراد فرداً فرداً. وأكدّ الدكتور عبدالكريم النملة هذا المعنى فقال: (... لا يجوز استعمال اللفظ في معنيين مختلفين، فالمراد مجموع الاُمّة من حيث المجموع، فلا يراد كل واحد منهم ـ أي من الصحابة ـ) (18).
(1) سورة المدثر 74: 31.
(2) سورة التوبة 9: 101.
(3) اُنظر تفسير الميزان 20: 90.
(4) سورة آل عمران 3: 110.
(5) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير 1: 399. والدر المنثور، للسيوطي 2: 293. وبنحوه في الجامع لاحكام القرآن، للقرطبي 4: 170.
(6) أسباب نزول القرآن، للواحدي: 121.
(7) تفسير القرآن العظيم 1: 399.
(8) الكفاية في علم الرواية: 46. الاصابة 1: 6. والاستيعاب 1: 2. ومقدمة ابن الصلاح: 427. وشرح الكوكب المنير 2: 274.
(9) التفسير الكبير 8: 189 ـ 191.
(10) مجمع البيان في تفسير القرآن، للطبرسي 1: 486.
(11) الجامع لاَحكام القرآن، للقرطبي 4: 173.
(12) تفسيرغرائب القرآن، للنيسابوري 2: 232.
(13) فتح القديرللشوكاني: 371.
(14) تفسيرالقرآن العظيم: لابن كثير 1: 399.
(15) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير 1: 404.
(16) تفسير المراغي، لاحمد مصطفى المراغي 4: 29.
(17) تفسير المنار 4: 58 ـ 59.
(18) مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف: 82.