الاستدلال بحديث الدار على امامة امير المؤمنين عليه السلام
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
نصّ حديث الدار
لمّا نزل قوله تعالى «وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ اْلأَقْرَبينَ»«1»
دعا رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) رجال عشيرته، ودعاهم إلى الإسلام، وهذا الخبر وارد في كتب التاريخ، وفي كتب السيرة، وفي كتب التفسير، وفي كتب الحديث أيضاً.
قبل كلّ شيء، أقرأ لكم نصّ الحديث عن [تفسير البغوي] المتوفى سنة 510، يقول الحافظ البغوي:
روى محمّد بن إسحاق، عن عبد الغفار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب، عن عبد اللَّه بن عباس، عن علي بن أبي طالب قال: لمّا نزلت هذه الآية على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله «وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ اْلأَقْرَبينَ» دعاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله فقال: يا علي، إنّ اللَّه يأمرني أن أُنذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أنّي متى أُباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمتُّ عليها، حتّى جاءني جبرئيل فقال لي: يا محمد إلّا تفعل ما تؤمر يعذّبك ربّك، فاصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل عليه رِجل شاة، واملأ لنا عسّاً من لبن، ثمّ اجمع لي بني عبد المطّلب حتّى أُبلّغهم ما أُمرت به.
ففعلت ما أمرني به، ثمّ دعوتهم له، وهم يومئذ أربعون رجلًا، يزيدون رجلًا أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب. فلمّا اجتمعوا إليه، دعاني بالطعام الذي صنعته، فجئتهم به، فلمّا وضعته، تناول رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) جذبة من اللحم، فشقّها بأسنانه، ثمّ ألقاها في نواحي الصفحة، ثمّ قال: خذوا باسم اللَّه، فأكل القوم حتّى ما لهم بشيء حاجة، وأيم اللَّه أنْ كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم.
ثمّ قال: إسقِ القوم، فجئتهم بذلك العس فشربوا حتّى رووا جميعاً، وأيم اللَّه أنْ كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله.
فلمّا أراد رسول اللَّه أن يكلّمهم بدره أبو لهب فقال: سحركم صاحبكم، فتفرّق القوم ولم يكلّمهم رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله).
فقال في الغد: يا علي، إنّ هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول، فتفرّق القوم قبل أنْ أُكلّمهم، فأعد لنا من الطعام مثل ما صنعت ثمّ اجمعهم، ففعلت ثمّ جمعت، فدعاني بالطعام فقرّبته، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا وشربوا، ثمّ تكلّم رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) فقال:
يا بني عبد المطّلب، إنّي قد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللَّه تعالى أنْ أدعوكم إليه، فأيّكم يوآزرني على أمري هذا ويكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟
فأحجم القوم عنها جميعاً.
فقلت وأنا أحدثهم سنّاً: يا نبيّ اللَّه، أكون وزيرك عليه.
قال: فأخذ برقبتي وقال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.
فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أنْ تسمع لعلي وتطيع«2».
رواة حديث الدار
هذا الخبر يرويه محمّد بن إسحاق مسنداً عن ابن عباس، وهو موجود في كتاب [كنز العمال] مع فرق سأذكره فيما بعد.
يرويه صاحب كنز العمال عن:
1- ابن إسحاق.
2- ابن جرير الطبري، صاحب التفسير والتاريخ.
3- ابن أبي حاتم الرازي، صاحب التفسير المعروف.
4- ابن مردويه.
5- أبي نعيم الإصفهاني الحافظ.
6- البيهقي«3».
فرواة هذا الحديث أئمّةٌ أعلام من أهل السنّة، منهم: محمّد بن إسحاق صاحب السيرة، المتوفى سنة 152«4».
محمّد بن إسحاق يروي هذا الخبر عن عبد الغفار بن القاسم، وهو أبو مريم الأنصاري، وهو شيخ من شيوخ شعبة بن الحجاج الذي يلقّبونه بأمير المؤمنين في الحديث ويقولون بترجمته إنّه لا يروي إلّا عن ثقة«5»، وشعبة بن الحجاج كان يثني على عبد الغفار بن القاسم الذي هو شيخه، لكن المتأخرين من الرجاليين يقدحون في عبد الغفار، لأنّه كان يذكر بلايا عثمان، أي كان يتكلّم في عثمان، أو يروي بعض مطاعنه، ولذا نرى في [ميزان الإعتدال] عندما يذكره الذهبي يقول: رافضي«6». فإذا عرفنا وجه تضعيف هذا الرجل وهو التشيع، أو نقل بعض قضايا عثمان، إذا عرفنا هذا السبب للجرح، فقد نصّ ابن حجر العسقلاني في [مقدمة فتح الباري] في شرح البخاري على أنّ التشيع بل الرفض لا يضر بالوثاقة، هذا نص عبارة الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدمة شرح البخاري«7».
فإذن، هذا الرجل لا مطعن فيه ولا سبب للجرح، إلّا أنّه يروي بعض مطاعن عثمان، لكن شعبة تلميذه يروي عنه ويثني عليه، وشعبة - كما ذكرنا - أمير المؤمنين عندهم في الحديث. فهذا عبد الغفار بن القاسم.
والمنهال بن عمرو، من رجال صحيح البخاري، والصحاح الأربعة الأُخرى فهو من رجال الصحاح ما عدا صحيح مسلم«8».
وأمّا عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلّب، فهذا من رجال الصحاح الستّة كلّها«9»
عن عبد اللَّه بن العباس.عن أمير المؤمنين علي (عليه السّلام).
فالسند في نظرنا معتبر، وعلى ضوء كلمات علمائهم في الجرح والتعديل، إلّا عبد الغفار بن القاسم، الذي ذكرنا وجه الطعن فيه والسبب في جرحه، وهذا السبب ليس بمضر بوثاقته، استناداً إلى تصريح الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدمة فتح الباري«10».
فهذا نص الخبر، وفيه أنّ النبي يقول: «فأيّكم يوآزرني على أمري هذا ويكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فقال أمير المؤمنين: يا نبي اللَّه أكون وزيرك عليه، فأخذ رسول اللَّه برقبة علي وقال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب:قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيع».
وليست الإمامة والخلافة إلّا: وجوب الإطاعة، ووجوب الإقتداء، ووجوب الأخذ، ووجوب التمسّك بالشخص، وأيّ نصّ أصرح من هذا في إمامة علي أو غير علي؟
يعني لو كان هذا اللفظ وارداً في حقّ غير علي بسندٍ معتبر متفق عليه لوافقنا نحن على إمامة ذلك الشخص.
فهذا هو الخبر، وهو خبر متفق عليه بين الطرفين، إذ ورد هذا الخبر بأسانيد علمائنا وأصحابنا في كتبنا المعتبرة المشهورة.
فمن رواة هذا الخبر:
1- ابن إسحاق، صاحب السيرة«11».
2- أحمد بن حنبل، يروي هذا الخبر في مسنده«12».
3- النسائي، صاحب الصحيح«13».
4- الحافظ أبو بكر البزار، صاحب المسند.
5- الحافظ سعيد بن منصور، في مسنده.
6- الحافظ أبو القاسم الطبراني، في المعجم الأوسط«14».
7- الحافظ أبو عبد اللَّه الحاكم النيسابوري، في مستدركه على الصحيحين.
8- أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري.
9- الحافظ أبو جعفر الطحاوي، صاحب كتاب مشكل الآثار.
10- عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي، صاحب التفسير.
11- أبو بكر بن مردويه.
12- الحافظ أبو نعيم الإصفهاني، صاحب دلائل النبوة وكتاب حلية الأولياء.
13- الحافظ البغوي، صاحب التفسير.
14- الضياء المقدسي، في كتابه المختارة، هذا الكتاب الذي التزم فيه الضياء المقدسي بالصحة، فلا يروي في كتابه هذا الّا الروايات الصحيحة المعتبرة، ولذا قدّمه بعض علمائهم في الاعتبار على مثل المستدرك للحاكم، ومن جملة من ينصّ على ذلك ابن تيميّة صاحب منهاج السنّة، حيث يرى أنّ كتاب المختارة أفضل وأتقن من المستدرك للحاكم«15».
15- الحافظ ابن عساكر الدمشقي، صاحب تاريخ دمشق.
16- أبو بكر البيهقي، صاحب دلائل النبوة.
17- الحافظ ابن الأثير، صاحب الكامل في التاريخ.
18- الحافظ أبو بكر الهيثمي، في كتابه مجمع الزوائد يروي هذا الحديث«16».
19- الحافظ الذهبي، في تلخيص المستدرك ينصّ على صحّة هذا الحديث.
20- الحافظ جلال الدين السيوطي، في كتابه الدر المنثور.
21- الشيخ علي المتقي الهندي، صاحب كنز العمال، يرويه فيه عن: أحمد، والطحاوي، وابن إسحاق، ومحمّد بن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي نعيم الإصفهاني، والضياء المقدسي«17».
هذا بالنسبة إلى متن الحديث، وعدّة من كبار علماء القوم الرواة لهذا الحديث في كتبهم.
وأمّا بالنسبة إلى سنده، فسنده في كتاب محمّد بن إسحاق«18» قد قرأته لكم وصحّحت السند.
ويقول الحافظ الهيثمي في كتابه [مجمع الزوائد] بعد أن يرويه عن أحمد بن حنبل: رواه أحمد ورجاله ثقات«19».
ويقول - بعد أن يرويه بسندٍ آخر عن غير واحد من كبار أئمة الحديث كأحمد بن حنبل -: «رجال أحمد وأحد إسنادي البزّار رجال الصحيح غير شريك وهو ثقة»«20».
إذن، حصلنا على أسانيد عديدة ينصّون على صحّتها.
مضافاً: إلى سند الحافظ المقدسي في كتابه [المختارة] الملتزم في هذا الكتاب بالصحّة.
كما ذكر المتقي الهندي صاحب كنز العمال: أنّ الطبري محمّد بن جرير قد صحّح هذا الحديث«21».
وأيضاً، صحّحه الحاكم في [المستدرك] عن ابن عباس في حديث طويل، ووافقه على التصحيح الحافظ الذهبي في [تلخيص المستدرك].
وأيضاً نصّ على صحّة هذا الحديث الشهاب الخفاجي في [نسيم الرياض] وهو شرحه على كتاب الشفاء للقاضي عياض، حيث يذكر هناك معاجز رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله)، ومن جملة معاجزه هذه القضية، حيث أنّ الطعام كان صاعاً واحداً وعليه رِجل شاة فقط، فأكلوا كلّهم وشبعوا، وهذا من جملة معاجز رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله)، ويقول الشهاب الخفاجي: إنّ سند هذا الخبر صحيح«22».
ونراجع نصوص الحديث في الكتب المختلفة، نجد في بعضها هذا اللّفظ:
«فأيّكم يوآزرني على أمري هذا ويكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟ قال علي: أنا يا نبيّ اللَّه، أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي فقال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لعلي».
وهذا لفظ، وقد قرأناه عن عدّة من المصادر.
لفظ آخر: «من يضمن عنّي ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنّة ويكون خليفتي في أهلي؟ فقيل له: أنت كنت بحراً، من يقوم بهذا، فعرض ذلك على أهل بيته واحداً واحداً، فقال علي: أنا، فبايعه رسول اللَّه على هذا»«23».
ومن ألفاظ هذا الحديث ما يلي: «قال رسول اللَّه: من يبايعني على أن يكون أخي ووصيّي ووليّكم من بعدي؟ قال علي: فمددت يدي فقلت: أنا أُبايعك. فبايعني رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله)»«24».
فهذه ألفاظ الحديث، وتلك أسانيده، وتلك كلمات كبار علمائهم في صحّة هذا الحديث وتنصيصهم على ثقة رواته.
دلالة حديث الدار على إمامة أمير المؤمنين (عليه السّلام)
وهذا الحديث الصحيح المتفق عليه، هو من جملة أدلّتنا على إمامة أمير المؤمنين وولايته بالنص.
وإنّما اخترت من بين الأحاديث التي هي نصّ على إمامة أمير المؤمنين هذا الحديث وقدّمته في البحث والدراسة، لخصوصيات موجودةٍ فيه قد لا تكون في غيره، مضافاً إلى صحّته وكونه مقبولًا بين الطرفين، بل يمكن دعوى تواتر هذا الحديث:
الخصوصية الأولى: صدور هذا الحديث في أوائل الدعوة النبويّة، وفي بدء البعثة المحمّديّة، فكأنّ رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) مأمورٌ بأنْ يبلّغ ثلاثة أُمور في آن واحد وفي عرضٍ واحد:
مسألة التوحيد والدعوة إلى اللَّه سبحانه وتعالى.
ومسألة رسالته والإيمان بنبوّته (عليه وآله السّلام).
ومسألة خلافة علي (عليه السّلام) من بعده.
وقد أسفر ذلك المجلس وتلك الدعوة عن الأُمور الثلاثة جميعاً.
الخصوصية الثانية: إنّ القوم من أبي لهب وغيره قالوا - وهم يضحكون - لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لابنك علي.
هذا ممّا يؤيّد استنتاجنا من هذا الحديث واستظهارنا من لفظه الثابت، إنّه حتّى أُولئك المشركون أيضاً فهموا من هذه الدعوة، ومن الكلام الذي سمعوه من رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) : إنّه يريد أن ينصب عليّاً إماماً مطاعاً من بعده لعموم الناس.
الخصوصية الثالثة: إستدلال أمير المؤمنين (عليه السّلام) بهذا الخبر في جواب سائل لا يشكّ في كونه هو الوارث لرسول اللَّه وإنما يسأل عن السبب، كما يروي هذا النسائي في [صحيحه]«25» يقول: إنّ رجلًا قال لعلي: يا أمير المؤمنين: بم ورثت ابن عمّك دون عمّك؟ أي: بأيّ دليل أصبحت أنت وارثاً لرسول اللَّه ولم يكن العباس وارثاً لرسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله)؟ فذكر الإمام (عليه السّلام) حديث الإنذار يوم الدار، وجاء لفظه في هذه الرواية: عن رسول اللَّه أنه قال: أنت أخي ووارثي ووزيري.
فذكر أمير المؤمنين في جواب هذا السائل حديث الدار ثمّ قال: فبذلك ورثت ابن عمّي دون عمّي.
إذن، يصبح علي (عليه السّلام) بحكم هذا الحديث القطعي المتفق عليه، خليفة لرسول اللَّه ووزيراً له ووارثاً ووصيّاً وقائماً مقامه ووليّه من بعده، والناس كلّهم مأمورون بأنْ يطيعوه ويسمعوه.
أو ليست الخلافة والإمامة هذا؟
وأيّ شيء يريدون منّا عند إقامتنا الأدلّة على إمامة أمير المؤمنين أوضح وأصرح من مثل هذه الأحاديث الواردة في كتبهم وبأسانيد معتبرة ينصّون هم على صحّتها؟
وهل ورد مثل هذا في حقّ أحدٍ غير علي مع هذه الخصوصيات، من حيث السند والدلالة والقرائن الموجودة في لفظه؟
مع علماء أهل السنة في حديث الدار
وحينئذ يأتي دور مواقف العلماء من أهل السنّة، الذين يريدون - في الحقيقة - أن يبرّروا ما وقع، والذين يحاولون أن يوجّهوا ما كان!!
فقد اختلفت مواقفهم أمام هذا الحديث الصحيح سنداً، والصريح دلالةً على إمامة أمير المؤمنين (عليه السّلام).
مع الفضل ابن روزبهان:
يقول الفضل ابن روزبهان: إنّ كلمة «خليفتي» التي هي مورد الإستدلال غير موجودة في مسند أحمد، وهي من إلحاقات الرافضة«26».
إنه لو لم يكن مسند أحمد موجوداً بين أيدينا، ولو لم يحتمل أنْ ينظر أحد في كتاب مسند أحمد، لأمكن للفضل أن يتفوّه بمثل هذه الكلمة ويتركه على عواهنه، ويفتري على الإماميّة، ولكن ينبغي أن يكون الإنسان - عندما يتكلّم - يتصوّر الآخرين يسمعون كلامه، ويلتفت إلى أنّهم سيراجعون المصادر التي يحيل إليها، إمّا إثباتاً وإمّا نفياً، وإلّا فمن العيب للإنسان العاقل إذا أراد أن يتكلّم يتصوّر الناس كأنّهم لا يسمعون، أو لا يفهمون، أو أنهم لا يعرفون المصادر أوسوف لا يراجعون الكتب التي يذكرها.
إنّ هذا الحديث موجود في غير موضع من مسند أحمد بن حنبل، والكلمة أيضاً موجودة في رواية مسند أحمد، وقد راجعناه نحن، ومسند أحمد بن حنبل موجود الآن بين أيدينا«27».
فالتكلّم بهذا الأُسلوب، إمّا أن يكون من التعصّب وقلّة الحياء، وإمّا أن يكون من الجهل وعدم الفهم، وإلّا، فكيف يكذّب الإنسان مثل العلّامة الحلّي الذي هو في مقام الإستدلال على العامّة بكتبهم، ينقل عنهم ليستدلّ بما يروونه، فيلحق كلمة أو كلمات في حديث؟! هذا شيء لا يكون من العلّامة الحلّي وأمثاله.
هذا بالنسبة إلى الفضل ابن روزبهان، وقد أراد أن يريح نفسه بهذا الأُسلوب.
مع ابن تيمية: وأمّا ابن تيميّة، فقد أراح نفسه بأحسن من هذا، وأراد أنْ يريح الآخرين أيضاً، قال: هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث، فما من عالم يعرف الحديث إلّا وهو يعلم أنّه كذب موضوع، ولهذا لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات، لأنّ أدنى من له معرفة بالحديث يعلم أنّ هذا كذب«28».
إنّ هذا الأُسلوب من الكلام يدلّ بشكل آخر على صحّة هذا الحديث، وتماميّة الإستدلال به، أي لولا صحّة هذا الحديث وتماميّة دلالته على مدّعى الإمامية، لما التجأ ابن تيميّة إلى أن يقول هذا الكلام، وبهذه الصّورة، وأن يتهجّم على العلماء من الشيعة - والسنّة أيضاً - لرواياتهم هذا الحديث، لأنّه يقول: إنّ أدنى من له معرفة بالحديث يعلم أنّ هذا كذب.
إذن، فأحمد بن حنبل مع علمه بكون هذا الحديث كذباً يرويه أكثر من مرّة في مسنده! ومحمّد بن جرير الطبري في تاريخه يروي هذا الخبر مع علمه بأنّه كذب! والنسائي أيضاً! وأبو بكر البزّار كذلك! وو ...، وهؤلاء كبار أئمّة أهل السنّة وأعلام محدّثيهم، يروون مثل هذا الحديث وهم يعلمون أنّه كذب!!
ولو أمكن للإنسان أن يرتاح بمثل هذه الأساليب، فلكلّ منكر أن ينكر في أيّ بحثٍ من البحوث، في أيّ مسألةٍ من المسائل، سواء في أُصول الدين أو في فروع الدين، أو في قضايا أُخرى وعلوم أُخرى، يكتفي بالإنكار، وبالنفي، والتكذيب.
لكن هذا الأُسلوب ليس له قيمة في سوق الإعتبار، يسمع ولا يعتنى به، ولا جدوى له ولا فائدة، لذلك لابدّ من أساليب أُخرى.
تحريف الحديث: من جملة الأساليب تحريف الحديث، فالطبري يروي هذا الحديث في تاريخه وفي تفسيره أيضاً، فإنْ رجعتم إلى التاريخ، لرأيتم الحديث كما ذكرناه، ورووه عنه في كتبهم كصاحب [كنز العمال]«29» وغيره، وأيضاً السيوطي في [الدر المنثور]«30» يروي هذا الحديث عن الطبري، وينصّ صاحب كنز العمال على أنّ الطبري قد صحّح هذا الحديث، فالحديث في تاريخه كما رأيتم وقراتم.
أمّا في تفسيره، إذا لاحظتم [تفسير الطبري] في ذيل هذه الآية المباركة: «وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ اْلأَقْرَبينَ» تأتي العبارة بهذا الشكل: «إنّ هذا أخي وكذا وكذا» «31»، وأصل العبارة: «إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم»، جاء بدل هذه العبارة: «إنّ هذا أخي وكذا وكذا».
لكنّنا لا نعلم، هل هذا من صنع الطبري نفسه، أو من النسّاخ لتفسيره، أو من الطابعين؟ هذا لا نعلمه، ولا يمكننا أنْ نرمي الطبري نفسه، لأنّه يكون من باب الرجم بالغيب، واللَّه العالم.
هذا هو أُسلوب التحريف.
وأيضاً، إذا راجعتم [الدر المنثور] للسيوطي، ففي هذا الكتاب، ينقل الحديث عن نفس الأشخاص من ابن إسحاق، وابن جرير الطبري، وأبي نعيم، والبيهقي، وابن مردويه، وغيرهم، لكن لمّا يصل إلى هذه الجملة التي هي محلّ الإستدلال، يذكر بهذا الشكل: «فأيّكم يوآزرني على أمري هذا، فقلت وأنا أحدثهم سنّاً: أنا، فقام القوم يضحكون»«32»، ولا يوجد أكثر من هذا، يعني: إنه قد حذف من اللفظ جملة: «ويكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم».
وأيضاً حذفوا منه: قام القوم يضحكون وقالوا لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لعليّ.
وهل هذا من السيوطي نفسه أو من النسّاخ أو من الناشرين للكتاب؟ لا نعلم.
مع الندوي: ومن علماء العامّة المؤلِّفين المعروفين في هذا الزمان: أبو الحسن الندوي.
وهذا الرجل - الذي هو من كبار علماء السنّة، يسكن في الهند، وعنده دار الندوة مدرسة كبيرة يعلّم هناك الطلبة ويدرّبهم، وله ارتباطات ببعض الحكومات الاخرى - له كتب، ومن جملة مؤلفاته كتاب سمّاه [المرتضى سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي اللَّه عنه) و (كّرم اللَّه وجهه)]، وهو كتاب صغير في حجمه جدّاً، وكثير من مطالب هذا الكتاب لا علاقة لها بأمير المؤمنين أصلًا، لعلّ مائة صفحة أو مائة وخمسين صفحة من هذا الكتاب - الذي هو في مائتين وخمسين صفحة تقريباً - يتعلّق بالإمام (عليه السلام)، وأصبح كتاب سيرة علي بن أبي طالب (عليه السّلام) و (كرّم اللَّه وجهه)!! في مائة وخمسين صفحة تقريباً!! فهناك عندما يصل إلى هذه القضية يقول:
وتكلّم ابن كثير في بعض رواة القصة، وفيها ما يشكك في صحّتها وضبطها.
انتهى.
وهذا غاية ما حقّقه هذا الرجل العالم في نظرهم الذي له أتباع وأنصار في مختلف البلاد.
مع هيكل: وأمّا محمّد حسين هيكل، فقد قامت القيامة عليه عندما نشر كتابه في السيرة النبويّة باسم [حياة محمّد]، وذكر القصة بالنصوص المذكورة عن سائر كتب قومه، قامت القيامة ضدّه وهرّجوا عليه، حتّى ألجأوه إلى حذف القصة في الطبعة الثانية من كتابه.
مع البوطي: ويأتي محمّد سعيد رمضان البوطي، فيؤلّف كتاباً في السيرة النبويّة يسمّيها [فقه السيرة النبويّة]، يكتب السيرة النبويّة كما يشاء هواه، وهناك إذا راجعتم كتابه تجدونه لا يشير إلى هذه القصة لا من قريب ولا من بعيد، وهذا أيضاً له أنصار وأتباع وأعوان، ويذكر كعالم من علمائهم في هذا الزمان.
خاتمة المطاف
فتلخّص ممّا ذكرنا: إنّ حديث الدار يوم الإنذار، حديث متفق عليه بين الطرفين، مقطوع الصدور، وقد يمكن دعوى أنّ هذا الخبر قد بلغ إلى حدّ الدراية، ولا يحتاج إلى رواية، ورواه كبار علماء القوم في كتبهم ونصّوا على صحّته، كما ذكرت لكم بعض الكلمات.
كما أنّي حصلت على سند محمّد بن إسحاق، وقد قرأته لكم ووثّقت رجاله، إلّا عبد الغفار بن القاسم الذي تكلّموا فيه، لأنّه كان يذكر بعض معايب عثمان ورموه بالتشيّع والرفض، وقد قلنا: إنّ التشيّع والرفض لا يضرّان بالوثاقة كما نصّ الحافظ ابن حجر العسقلاني في [مقدمة شرح البخاري]«33»، مضافاً إلى أنّ هذا الرجل يثني عليه شعبة ويروي عنه، وشعبة عندهم أمير المؤمنين في الحديث«34».
فإذاً، قد تمّ سنده، وكانت دلالته صريحة، ثمّ رأينا أنّهم لا يملكون كلاماً معقولًا في الجواب عن هذا الإستدلال.
مثلًا: إذا تراجعون [منهاج السنّة] يقول في الإشكال على هذا الخبر: بأنّ رجال قريش في ذلك العهد لم يكونوا يبلغون الأربعين، وهذا من علائم كذب هذا الخبر«35».
هذا وجه يقوله ابن تيميّة، لا أدري من الّذي يرتضي هذا الكلام من مثل هذا الشخص الذي هو شيخ إسلامهم!؟
وأيضاً: إنّه يشكل على هذا الخبر: بأنّ العرب لم يكونوا أكّالين بهذا المقدار، بحيث أنّ هؤلاء أكلوا وشبعوا والطعام كفاهم كلّهم، فهذا من قرائن كذب هذا الخبر«36».
ليس عندهم كلام معقول يذكر في مقام ردّ الإستدلال بهذا الحديث، لذا تراهم يلتجئون إلى التحريف، يلتجئون إلى التصرّف في الحديث.
وإنّني على يقين بأنّ الباحث الحرّ المنصف، إذا وقف على هذا المقدار من البحث، أيّ باحث يكون، سواء كان مسلماً أو خارجاً عن الدين الإسلامي ويريد أن يحقّق في مثل هذه القضايا، لو أُعطي هذا الحديث مع مصادره، وعرف رواة هذا الحديث، وأنّهم كبار علماء السنّة في العصور المختلفة، ثمّ لاحظ متن الحديث ولفظه بدقّة، ثمّ راجع كلمات المناقشين في هذا الحديث والمعارضين لهذا الإستدلال، من مثل ابن تيميّة والفضل ابن روزبهان وأمثالهما، ولاحظ تصرّفات هؤلاء في متن هذا الحديث.
لو أنّ هذا الباحث الحرّ المنصف يحقّق هذه الأُمور، أنا على يقين بأنه سيكفيه هذا الحديث وحده للإعتقاد بإمامة علي بعد رسول اللَّه، كما أنّي أعتقد أنّ الذين يأخذون معارف دينهم ومعالمه من مثل الفضل ابن روزبهان أو من مثل ابن تيميّة أو الندوي أو البوطي، لو دقّقوا النظر وراجعوا القضايا على واقعيّاتها، واستمعوا القول لاتّباع الأحسن، لرفعوا اليد عن اتّباع مثل هؤلاء الأشخاص، وعن أن يقلّدوهم في أُصولهم وفروعهم.
ولكنّ الهداية بيد اللَّه سبحانه وتعالى، إذا أراد أن يهدي أحداً يهديه، وما تشاءون إلّا أنْ يشاء اللَّه.
وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين، وصلّى اللَّه على محمّد وآله الطاهرين.
من كتاب محاضرات في الاعتقادات للسيد علي الميلاني من صفحة94-
( 1) سورة الشعراء( 26): 214.
( 2) معالم التنزيل 4/ 278- 279.
( 3) كنز العمّال 13/ 131 رقم 36419، وأنظر: تفسير الطبري 19/ 149، سنن البيهقي: 759، تفسير ابن أبي حاتم 9/ 2826 رقم 16015 باختلاف.
( 4) من رجال البخاري- في المتابعات- ومسلم والأربعة. تقريب التهذيب 2/ 144.
( 5) تاريخ أسماء الثقات: 9، تاريخ بغداد 9/ 255.
( 6) ميزان الإعتدال 2/ 640، رقم ( 5147).
( 7) هدى الساري: 382 و 398.
( 8) من رجال البخاري والأربعة، تقريب التهذيب 2/ 278.
( 9) تقريب التهذيب 1/ 408.
( 10) هدى الساري: 382، 398.
( 11) سيرة ابن اسحاق ( السيرة النبوية): 187.
( 12) مسند أحمد 1/ 109.
( 13) سنن النسائي 6/ 248.
( 14) المعجم الأوسط 2/ 276.
( 15) الفتاوى الكبرى 3/ 48.
( 16) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 9/ 113، وفيه: وإسناده جيّد.
( 17) كنز العمّال 13/ 131، رقم 36419.
( 18) سيرة ابن اسحاق: 187.
( 19) مجمع الزوائد 8/ 302- باب معجزاته (صلّى اللَّه عليه وسلّم) في الطعام.
( 20) المصدر 8/ 303.
( 21) كنز العمّال 13/ 133.
( 22) نسيم الرياض في شرح الشفاء للقاضي عياض 3/ 35.
( 23) تفسير ابن كثير 3/ 363، كنز العمّال 13/ 128 رقم 36408.
( 24) كنز العمّال 13/ 149 رقم 36465.
( 25) السنن الكبرى: كتاب الخصائص، ذكر خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي اللَّه عنه) 5/ 126 رقم 8451، وهو من صحيحه كما ثبت في محلّه.
( 26) أنظر: دلائل الصدق 2/ 359.
( 27) مسند أحمد 1/ 159.
( 28) منهاج السنّة 7/ 302.
( 29) مجمع الزوائد 9/ 113، كنز العمّال 13/ 131.
( 30) الدرّ المنثور 6/ 324- 329.
( 31) تفسير الطبري 19/ 149.
( 32) الدرّ المنثور 6/ 324- 329.
( 33) هدى الساري: 383 و 398.
( 34) تاريخ أسماء الثقات: 9، تاريخ بغداد 9/ 255.
( 35) منهاج السنّة 7/ 304.
( 36) المصدر 7/ 306.