حمل الالفاظ على الظاهر وبطلان التاويل هل هو مذهب السلف؟
بسم الله الرحمن الرحيم
كلام الشهرستانى فى بيان عقيدة أهل السنة
قال الشهرستاني: «إعلم أن جماعةً كثيرة من السلف كانوا يثبتون لله تعالى صفات أزليّة: من العلم، والقدرة، والحياة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والجلال، والإكرام، والجود، والإنعام، والعزّة، والعظمة، ولا يفرّقون بين صفات الذات وصفات الفعل، بل يسوقون الكلام سوقاً واحداً. وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل: اليدين، والوجه، ولا يؤوّلون ذلك، إلّا أنّهم يقولون: هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسمّيها صفات خبرية.ولما كانت المعتزلة ينفون الصفات والسلف يثبتون، سميّ السلف: صفاتيّة، والمعتزلة: معطّلة. فبالغ بعض السلف في إثبات الصفات إلى حدّ التشبيه بصفات المحدثات،واقتصر بعضهم على صفاتٍ دلّت الأفعال عليها، وما ورد به الخبر، فافترقوا فيه فرقتين، فمنهم: من أوّله على وجهٍ يحتمل اللفظ ذلك، ومنهم: من توقّف في التأويل وقال: عرفنا بمقتضى العقل أن الله تعالى ليس كمثله شيء، فلا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها، وقطعنا بذلك، إلّا أنّا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه، مثل قوله تعالى: «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى» ومثل قوله: «خَلَقْتُ بِيَدَيَّ» ومثل قوله: «وَجَاء رَبُّكَ» إلى غير ذلك، ولسنا مكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها، بل التكليف قد ورد بالإعتقاد بأنّه لا شريك له، وليس كمثله شيء، وذلك قد أثبتناه يقيناً. ثم إنّ جماعةً من المتأخّرين زادوا على ما قاله السلف فقالوا: لابدّ من إجرائها على ظاهرها، والقول بتفسيرها كما وردت، من غير تعرض للتأويل ولا توقف في الظاهر، فوقعوا في التشبيه الصرف، وذلك على خلاف ما اعتقده السلف. ((اذن يقرر الشهرستاني ان من يحمل الالفاظ على ظاهرها من غير تأويل اعتقادهم مخالف للسلف.)) ثم يقول:ولقد كان التشبيه صرفاً خالصاً في اليهود، لا في كلّهم، بل في القرائين منهم، إذ وجدوا في التوراة ألفاظاً كثيرة تدل على ذلك ... حتى انتهى الزمان إلى: عبد الله بن سعيد الكلابي، وأبي العباس القلانسي، والحارث بن أسد المحاسبي، وهؤلاء كانوا من جملة السلف، إلّا أنهم باشروا علم الكلام، وأيّدوا عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين اصولية، وصنّف بعضهم، ودرّس بعض، حتى جرى بين أبي الحسن الأشعري وبين استاذه مناظرة في مسألةٍ من مسائل الصّلاح والأصلح فتخاصما، وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة، فأيّد مقالتهم بمناهج كلامية، وصار ذلك مذهباً لأهل السنّة والجماعة، وانتقلت سمة الصفاتيّة إلى الأشعريّة. ولمّا كانت «المشبّهة» و «الكرامية» من مثبتي الصفات، عددناهم فرقتين من جملة الصفاتية» «1».
أما مشبّهة الحشوية: فحكى الأشعري عن محمّد بن عيسى أنه حكى عن مضر، وكهمس، وأحمد الهجيمي: أنهم أجازوا على ربّهم: الملامسة والمصافحة، وأن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة، إذا بلغوا في الرياضة والإجتهاد إلى حدّ الإخلاص والإتحاد المحض. وحكى الكعبي عن بعضهم؛ إنه كان يجوّز الرؤية في دار الدنيا، وأن يزوروه ويزورهم. وحكى عن داود الجواربي أنه قال: اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك. وقال: إن معبوده جسم ولحم ودم، وله جوارح وأعضاء، من: يد ورجل ورأس ولسان وعينين واذنين ... وحكى عنه أنه قال: هو أجوف من أعلاه إلى صدره، مصمت ما سوى ذلك، وأن له وفرة سوداء، وله شعر قطط. وأمّا ما ورد في التنزيل من: الإستواء، والوجه، واليدين، والجنب، والمجىء، والإتيان، والفوقية .. وغير ذلك، فأجروها على ظاهرها، أعني ما يفهم عند الإطلاق على الأجسام، وكذلك ما ورد في الأخبار من الصورة وغيرها ..أجروها على ما يتعارف في صفات الأجسام. وزادوا في الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبي (عليه السّلام)، وأكثرها مقتبسة من اليهود، فإن التشبيه فيهم طباع، حتى قالوا: إشتكت عيناه فعادته الملائكة، وبكى على طوفان نوحٍ حتى رمدت عيناه، وأنّ العرش ليئط من تحته كأطيط الرحل الجديد، وأنه ليفضل من كلّ جانب أربع أصابع ...» «2». اذن من يحمل هذه الالفاظ على معانيها الجسمانية فهو مشبه من الحشوية. وقال تحت عنوان الكرّامية: «أصحاب أبي عبدالله محمّد بن كرّام ... نصَّ أبو عبدالله على أن معبوده على العرش استقراراً، وعلى أنه بجهة فوق ذاتاً، وأطلق عليه اسم الجوهر، فقال في كتابه المسمى عذاب القبر: إنّه أحدي الذات، أحدي الجوهر، وأنّه مماس للعرش من الصفحة العليا. وجوّز: الإنتقال والتحوّل والنزول. ومنهم من قال: إنه على بعض أجزاء العرش. وقال بعضهم: إمتلأ العرش به. وصار المتأخّرون منهم: إلى أنه تعالى بجهة فوق، وأنه محاذ للعرش ... وأطلق أكثرهم لفظ الجسم عليه ... ومن مذهبهم جميعاً: جواز قيام كثير من الحوادث بذات الباري تعالى: وزعموا أن في ذاته سبحانه حوادث كثيرة ... وقد اجتهد ابن الهيصم في إرمام مقالة أبي عبدالله في كل مسألةٍ، حتى ردّها من المحال الفاحش ...» «3». والان هل قال ابن تيمية بما قاله المشبهه:قال الشيخ محمّد أبو زهرة: «... وعلى ذلك يقرّر ابن تيمية أن مذهب السلف هو إثبات كلّ ما جاء في القرآن من فوقية وتحتية واستواء على العرش، ووجهٍ ويد ومحبة وبغض، وما جاء في السنّة من ذلك أيضاً من غير تأويل وبالظاهر الحرفي. فهل هذا هو مذهب السلف حقاً؟؛ ونقول في الإجابة عن ذلك: لقد سبقه بهذا الحنابلة في القرن الرابع الهجري كما بينا، وادّعوا أن ذلك مذهب السلف. وناقشهم العلماء في ذلك الوقت، وأثبتوا أنه يؤدي إلى التشبيه والجسمية لا محالة. وكيف لا يؤدّي إليهما والإشارة الحسيّة إليه جائزة. ولذا تصدّى لهم الإمام الفقيه الحنبلي الخطيب ابن الجوزي، ونفى أن يكون ذلك مذهب السلف، ونفى أيضاً أن يكون ذلك رأي الإمام أحمد.وقال ابن الجوزي في ذلك: رأيت من أصحابنا من تكلّم في الأصول بما لا يصلح .. فصنّفوا كتباً شانوا بها المذهب.ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحس، فسمعوا أن الله خلق آدم على صورته، فأثبتوا له صورة ووجهاً زائداً على الذات، وفماً ولهوات وأضراساً وأضواء لوجهه ويدين وأصبعين وكفّاً وخنصراً وإبهاماً وصدراً وفخذاً وساقين ورجلين. وقالوا ما سمعنا بذكر الرأس. وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات فسمّوها بالصفات تسمية مبتدعة. ولا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى، ولا إلى إلغاء ما توجبه الظواهر من صفات الحدث، ولم يقنعوا أن يقولوا صفة فعل حتى قالوا صفة ذات. ثم لمّا أثبتوا أنها صفات قالوا: لا نحملها على توجيه اللغة مثل يد على نعمة وقدرة، ولا مجىء وإتيان على معانى برّ ولطف، ولا ساق على شدّة. بل قالوا: نحملها على ظواهرها المتعارفة، والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين، والشىء إنما يحمل على حقيقته إن أمكن، فإن صرف صارفٌ حُمِلَ على المجاز. ثم يتحرّجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم، ويقولون: نحن أهل السنّة، وكلامهم صريح في التشبيه، وقد تبعهم خلق من العوام، وقد نصحت التابع والمتبوع وقلت يا أصحابنا، أنتم أصحاب نقل واتّباع، وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل رحمه اللَّه يقول- وهو تحت السياط-: كيف أقول ما لم يُقَل، فإيّاكم أن تبتدعوا من مذهبه ما ليس منه. ثم قلتم في الأحاديث تحمل على ظاهرها، فظاهر القدم الجارحة، ومن قال استوى بذاته المقدسة فقد أجراه سبحانه مجرى الحسيات. وينبغي ألّا يهمل ما يثبت به الأصل وهو العقل. فإنا به عرفنا اللَّه تعالى وحكمنا له بالقِدَم. فلو أنكم قلتم نقرأ الأحاديث ونسكت ما أنكر أحد عليكم، وإنّما حملكم إيّاه على الظاهر قبيح. فلا تدخلوا في مذهب هذا الرجل السلفي ما ليس فيه. وقد استفاض ابن الجوزي في بيان بطلان ما اعتمدوا عليه من أقوال. ولقد قال ذلك القول الذي ينقده ابن الجوزي القاضي أبو يعلى الفقيه الحنبلي المشهور المتوفى سنة 457، وكان مثار نقد شديد وجّه إليه، حتى لقد قال فيه بعض فقهاء الحنابلة: لقد شان أبو يعلى الحنابلة شيناً لا يغسله ماء البحار. وقال مثل ذلك القول من الحنابلة ابن الزاغوني المتوفى سنة 527. وقال فيه بعض الحنابلة أيضاً: إن في قوله من غرائب التشبيه ما يحار فيه النبيه. وهكذا استنكر الحنابلة ذلك الإتجاه، عندما شاع في القرن الرابع والقرن الخامس، ولذلك استتر هذا المذهب حتى أعلنه ابن تيمية في جرأة وقوة ...» «4». كلمات ابن تيمية: نعم، لقد جاء ابن تيمية ليعلن من جديدٍ- وبكلّ جرأة- ذاك الإعتقاد الفاسد، ويعارض الذين استدلّوا بقوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ ... وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّهُ ...» وينفي أن يكون في ظاهر اللفظ محذور، بل المراد من ألفاظ الكتاب ظواهرها، وليس فيها ما لا يفهمه أحد، فيقول: «وأما التأويل المذموم والباطل فهو تأويل أهل التحريف والبدع الذي يتأولونه على غير تأويله، ويدّعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك، ويدّعون أن في ظاهره من المحذور ما هو نظير المحذور اللازم فيما أثبتوه بالعقل، ويصرفونه إلى معان هي نظير المعاني التي نفوها عنه، فيكون ما نفوه من جنس ما أثبتوه. فإن كان الثابت حقاً ممكناً كان المنفي مثله، وإن كان المنفي باطلًا ممتنعاً كان الثابت مثله» ... ثم يقول ... «وهؤلاء الذين ينفون التأويل مطلقاً ويحتجّون بقوله تعالى: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ» قد يظنّون أنّا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه أحد أو بما لا معنى له، أو بما لا يفهم منه شيء، وهذا مع أنه باطل فهو متناقض» «5». وينسب إلى السّلف إجراء الألفاظ على ظواهرها، فيقول: «إن مذهب السلف إجراؤها على ظاهرها، مع نفي الكيفية والتشبيه عنها» «6». لكن أيّ معنى لإجراء اللفظ على ظاهره مع نفي الكيفيّة والتشبيه؟ ويقول: «فالذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها: أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله (صلّى اللَّه عليه وسلّم)، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل» «7». ثم يورد مثالًا يوضّح رأيه فيقول: «وقال أبو عثمان النيسابوري الملقّب بشيخ الإسلام في رسالته المشهورة في السنّة قال: ويثبت أهل الحديث نزول الرب سبحانه في كلّ ليلة إلى السماء الدنيا، من غير تشبيه له بنزول المخلوقين ولا تمثيل ولا تكييف، بل يثبتون له ما أثبته له رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وسلّم) وينتهون فيه إليه، ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله. وكذلك يثبتون ما أنزل الله في كتابه من ذكر المجىء والإتيان في ظلل من الغمام والملائكة وقوله عزّوجلّ: «وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً» «8». فابن تيمية يخالف غيره- ممن سبق ذكرهم- في تصوير مذهب السلف، حيث قال بظاهر النصوص، ثم تناقض مع نفسه فقال: «إجراؤها على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها». أمّا غيره فقال: إن الظاهر الموهم للتشبيه غير مراد، ثم فوّض المعنى بعد ذلك إلى الله تعالى. وسيأتي التصريح بذلك منه في بعض الكلمات الآتية أيضاً. لكنَّ كبار العلماء من السّابقين واللّاحقين يبطلون ذلك الإعتقاد، وينفون أنْ يكون مذهب السّلف، وأن يكون رأي أحمد بن حنبل ... كما تقدّم في كلام الشيخ محمّد أبو زهرة. وقال الشيخ الزرقاني: «إرشاد وتحذير: لقد أسرف بعض الناس في هذا العصر فخاضوا في متشابه الصفات بغير حق، وأتوا في حديثهم عنها وتعليقهم عليها بما لم يأذن به الله، ولهم فيها كلمات غامضة تحتمل التشبيه والتنزيه وتحتمل الكفر والإيمان، حتى باتت هذه الكلمات نفسها من المتشابهات. ومن الموسف أنهم يواجهون العامة وأشباههم بهذا. ومن المحزن أنهم ينسبون ما يقولون إلى سلفنا الصالح ويخيّلون إلى الناس إلى أنهم سلفيّون. كلام الزرقانى من ذلك قولهم: إن اللَّه تعالى يشار إليه بالإشارة الحسيّة، وله من الجهات الست جهة الفوق. ويقولون: إنه استوى على عرشه بذاته إستواء حقيقيّاً، بمعنى أنه استقر فوقه استقراراً حقيقياً، غير أنهم يعودون فيقولون ليس كاستقرارنا وليس على ما نعرف. وهكذا يتناولون أمثال هذه الآية. وليس لهم مستند فيما نعلم إلّا التشبّث بالظواهر. ولقد تجلى لك مذهب السلف والخلف فلا نطيل بإعادته. ولقد علمت أن حمل المتشابهات في الصفات على ظواهرها مع القول بأنها باقية على حقيقتها ليس رأياً لأحد من المسلمين، وإنما هو رأي لبعض أصحاب الأديان الأخرى كاليهود والنصارى، وأهل النحل الضالة كالمشبّهة والمجسّمة. أمّا نحن- معاشر المسلمين- فالعمدة عندنا في أمور العقائد هي الأدلّة القطعيّة التي توافرت على أنه تعالى: ليس جسماً، ولا متحيزاً، ولا متجزئاً، ولا متركباً، ولا محتاجاً لأحدٍ، ولا إلى مكان، ولا إلى زمان، ولا نحو ذلك. ولقد جاء القرآن بهذا في محكماته إذ يقول «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ» ... ويقول «إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» ويقول «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» وغير هذا كثير في الكتاب والسنّة. فكلّ ما جاء مخالفاً بظاهره لتلك القطعيات والمحكمات، فهو من المتشابهات التي لا يجوز إتباعها، كما تبين لك فيما سلف. ثم إنّ هؤلاء المتمسحين في السلف متناقضون، لأنهم يثبتون تلك المتشابهات على حقائقها، ولا ريب أن حقائقها تستلزم الحدوث وأعراض الحدوث، كالجسمية والتجزء والحركة والإنتقال، لكنهم بعد أن يثبتوا تلك المتشابهات على حقائقها ينفون هذه اللوازم، مع أن القول بثبوت الملزومات ونفي لوازمها تناقض لا يرضاه لنفسه عاقل فضلًا عن طالب أو عالم. فقولهم في مسألة الإستواء الآنفة: إن الإستواء باق على حقيقته، يفيد أنه الجلوس المعروف المستلزم للجسمية والتحيّز. وقولهم بعد ذلك: ليس هذا الإستواء على ما نعرف، يفيد أنه ليس الجلوس المعروف المستلزم للجسميّة والتحيّز. فكأنّهم يقولون: إنه مستوٍ غير مستو، ومستقر فوق العرش غير مستقر، أو متحيز غير متحيز، وجسم غير جسم. أو أن الإستواء على العرش ليس هو الإستواء على العرش. والإستقرار فوقه ليس هو الإستقرار فوقه. إلى غير ذلك من الإسفاف والتهافت. فإن أرادوا بقولهم: الاستواء على حقيقته: أنه على حقيقته التي يعلمها الله ولا نعلمها نحن، فقد اتّفقنا، ولكن بقي أن تعبيرهم هذا موهم ... لا يجوز أن يصدر من مؤمن، خصوصاً في مقام التعليم والإرشاد وفي موقف النقاش والحجاج. لأن القول بأن اللفظ حقيقة أو مجاز لا ينظر فيه إلى علم الله وما هو عنده، ولكن ينظر فيه إلى المعنى الذي وضع له اللفظ في عرف اللّغة. والإستواء في اللغة العربية يدلّ على ما هو مستحيل على الله في ظاهره، فلابدّ إذن من صرفه عن هذا الظاهر. واللفظ إذا صرف عما وضع له واستعمل في غير ما وضع له، خرج عن الحقيقة إلى المجاز لا محالة، ما دامت هناك قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي ... كلام الكوثرى: ثمّ إن كلامهم بهذه الصورة فيه تلبيس على العامة وفتنة لهم فكيف يواجهونهم به ويحملونهم عليه، وفي ذلك ما فيه من الإضلال وتمزيق وحدة الأمة، الأمر الذي نهانا القرآن عنه والذي جعل عمر يفعل ما يفعل بصبغ أو بابن صبيغ، وجعل مالكاً يقول ما يقول ويفعل ما يفعل بالذي سأله عن الإستواء، وقد مرّ بك هذا وذاك. لو أنصف هؤلاء لسكتوا عن الآيات والأخبار المتشابهة، واكتفوا بتنزيه الله تعالى عمّا توهمه ظواهرها من الحدوث ولوازمه، ثم فوّضوا الأمر في تعيين معانيها إلى الله وحده، وبذلك يكونون سلفيين حقاً ...» «9». وقال محمّد بن زاهد بن الحسن الكوثري: «... والحاصل أن التفويض مع التنزيه مذهب جمهور السلف لانتفاء الضرورة في عهدهم. والتأويل مع التنزيه مذهب جمهور الخلف حيث عن لهم ضرورة التأويل لكثرة الساعين في الإضلال في زمنهم. وليس بين الفريقين خلاف حقيقي لأن كليهما منزه. ومن أهل العلم من توسّط بين هؤلاء وهؤلاء كما أشرت إليه. وأما المشبّهة فتراهم يقولون: نحن لا نؤول بل نحمل آيات الصفات وأخبارها على ظاهرها. وهم في قولهم هذا غير منتبهين إلى أن استعمال اللفظ في الله سبحانه بالمعنى المراد عند استعماله في الخلق تشبيه صريح، وحمله على معنى سواه تأويل. على أن الأخبار المحتج بها في الصفات إنما هي الصحاح المشاهير دون الوحدان والمفاريد والمناكير والمنقطعات والضعاف والموضوعات، مع أنهم يسوقون جميعها في مساق واحد، في كتب يسمونها التوحيد أو الصفات أو السنّة أو العلو أو نحوها. ومن الأدلة القاطعة على ردّ مزاعم الحشوية في دعوى التمسك بالظاهر في اعتقاد الجلوس على العرش خاصة قوله تعالى: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ» وقوله تعالى: «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» وقوله تعالى: «وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ» وقوله تعالى: «واللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيط» وقوله تعالى «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ» ... إلى غير ذلك مما لا يحصى في الكتاب والسنّة المشهورة، مما ينافي الجلوس على العرش. وأهل السنّة يرونها أدلّة على تنزيه الله سبحانه عن المكان كما هو الحق. فلا يبقى للحشوية أن يعملوا شيئاً إزاء أمثال تلك النصوص غير محاولة تأويلها مجازفة، أو العدول عن القول بالإستقرار المكاني. فأين التمسك بالظاهر في هاتين الحالتين؟ وهكذا سائر مزاعمهم. على أن من عرف أقسام النظم باعتبار الوضوح والخفاء، وأقرّ بكون آيات الصّفات وأخبارها من المتشابه، كيف يتصوّر في هذا المقام ظاهراً يحمل المتشابه عليه، وإنما حقّه أن يحمل المتشابه في الصفات على محكم قوله تعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» بالتأويل الإجمالي. ومن الحشوية من يزعم أن الآية المذكورة متشابهة ليتنكب الحل المذكور، بل منهم من بلغ الكفر إلى حدّ أن يقول: له ساق كساقي هذه، والمراد بالآية نفي المماثلة في الإلهية لا في كلّ أمر، كما تجد ذلك في كتب العبدري الظاهري في تاريخ ابن عساكر، وهذا كفر بواح. فتلاوة المشبه الآية المذكورة لا تفيد بمجردها التنزيه بالمعنى الذي يفهمه أهل الحق من الآية، فلا تغفل ولا تنخدع. فمن المضحك المبكي تمسّكهم مرّةً في نفي العلم بالتأويل بقوله تعالى: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّهُ» باعتبار الوقف على الاسم الكريم مع دعوى الحمل على الظاهر، وزعمهم اخرى أن التأويل بمعنى التفسير مع الوقف على «وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» مدّعين أنهم يعلمون تأويل المتشابه باعتبار أنهم من الراسخين في العلم، ومجترئين على النطق بكلمات في المتشابهات لا ينطق بمثلها من يخاف مقام ربّه. وأما أهل الحق، فلا يدّعون معرفة جميع التأويل، بل يفوّضون علمه إلى اللَّه ويردّون المتشابه إلى المحكم جملة وتفصيلًا، ولا يحملون لفظ التأويل في تلك الحالة على خلاف معناه المعلوم من السياق ... بل يحمل بعض المحققين منهم النفي في الآية- بالوقف على لفظة اللَّه كما هو المؤيد دراية ورواية- على سلب العموم دون عموم السلب، بالنظر إلى أن التأويل مصدر مضاف فيكون من ألفاظ العموم، فبانصباب النفي على العموم يكون المعنى: ما يعلم غيره تعالى بنفسه جميع التأويل. وهذا لا يمانع معرفة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم جميع التأويل بتعليم اللَّه سبحانه وحياً، ولا يمنع أهل العلم من الأمة من السعي في معرفة ما دون الجميع من التأويل. وبهذا تعرف قيمة ما أطال به ابن تيمية الكلام في تفسير سورة الإخلاص، متظاهراً بالمسايرة مع الخلف مخادعة منه في صدد توهين الوقف على لفظة «اللَّه» مع إخراج التأويل على معناه، ليتمكن من حمل المتشابهات على معتقد الحشوية. فإذا تدبرت كلامه الطويل هناك تحت نور هذا البيان تجده يضمحل ويذهب هباءً. ومن الطريف تأويل التأويل ممن ينكر التأويل ويدّعي الأخذ بالظاهر ...» «10». كلام الفخر الرازى: وقد سبقهم إلى ذلك جماعة من كبار العلماء: قال الفخر الرازي في أساس التقديس: «حاصل هذا المذهب أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأن مراد الله تعالى منها شيء غير ظواهرها، ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى، ولا يجوز الخوض في تفسيرها» «11». كلام الغزالى ويقول أبو حامد الغزالي في إلجام العوام عن علم الكلام: «إعلم أن الحق الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر هو مذهب السلف- أعني مذهب الصحابة والتابعين- وها أنا أورد بيانه وبيان برهانه فأقول: حقيقة مذهب السلف- وهو الحق عندنا- أن كلّ من بلغه حديث من هذه الأحاديث من عوام الخلق يجب عليه فيه سبعة أمور: التقديس ثم التصديق، ثم الإعتراف بالعجز، ثم السكوت، ثم الإمساك، ثم الكف، ثم التسليم لأهل المعرفة. أما التقديس، فأعني به تنزيه الربّ تعالى عن الجسمية وتوابعها. وأمّا التصديق، فهو الإيمان بما قاله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأن ما ذكره حق، وهو فيما قاله صادق، وأنه حق على الوجه الذي قاله وأراده. وأمّا الإعتراف بالعجز، فهو أن يقرّ بأن معرفة مراده ليس على قدر طاقته، وأن ذلك ليس من شأنه وحرفته. وأمّا السكوت، فأن لا يسأل عن معناه ولا يخوض فيه ويعلم أن سؤاله عنه بدعة وأنه في خوضه فيه مخاطر بدينه، وأنه يوشك أن يكفر لو خاض فيه من حيث لا يشعر. وأمّا الإمساك، فأن لا يتصرف في تلك الألفاظ بالتصريف والتبديل بلغة أخرى والزيادة فيه والنقصان منه والجمع والتفريق، بل لا ينطق إلّا بذلك اللفظ وعلى ذلك الوجه من الإيراد والإعراب والتصريف والصيغة. وأمّا الكف، فأن يكف باطنه عن البحث عنه والتفكر فيه. وأمّا التسليم لأهله، فأن لا يعتقد أن ذلك إن خفي عليه لعجزه فقد خفي على رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم) أوعلى الصدّيقين والأولياء. فهذه سبع وظائف، إعتقد كافة السلف وجوبها على كلّ العوام، لا ينبغي أن يظنّ بالسلف الخلاف في شيء منها» «12». كلام آخر للرزقانى وفي مناهل العرفان للزرقاني: «علماؤنا- أجزل اللَّه مثوبتهم- قد اتفقوا على ثلاثة أمور تتعلق بهذه المتشابهات ثم اختلفوا فيما وراءها. فأوّل ما اتفقوا عليه: صرفها عن ظواهرها المستحيلة، واعتقاد أن هذه الظواهر غير مرادة للشارع قطعاً، كيف وهذه الظواهر باطلة بالأدلة القاطعة، وبما هو معروف عن الشارع نفسه في محكماته؟ ثانيه: أنه إذا توقّف الدفاع عن الإسلام على التأويل لهذه المتشابهات وجب تأويلها بما يدفع شبهات المشتبهين ويرد طعن الطاعنين. ثالثه: أن المتشابه إن كان تأويل واحد يفهم منه فهماً قريباً وجب القول به إجماعاً، وذلك كقوله سبحانه «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ» «13» فإن الكينونة بالذات مع الخلق مستحيلة قطعاً، وليس لها بعد ذلك إلّا تأويل واحد هو الكينونة معهم بالإحاطة علماً وسمعاً وبصراً وقدرة وإرادة. وأما اختلاف العلماء فيما وراء ذلك، فقد وقع على ثلاثة مذاهب المذهب الأوّل: مذهب السلف، ويسمى مذهب المفوضة- بكسر الواو وتشديدها- وهو تفويض معاني هذه المتشابهات إلى اللَّه وحده بعد تنزيهه تعالى عن ظواهرها المستحيلة» «14». وقد بيّن بعد ذلك الدليل على مذهب السلف، كما بيّن المذهب الثاني وهو مذهب الخلف، أمّا المذهب الثالث فقال: «المذهب الثالث: مذهب المتوسطين، وقد نقل السيوطي هذا المذهب فقال: وتوسط ابن دقيق العيد فقال: إذا كان التأويل قريباً من لسان العرب لم ينكر أو بعيداً، توقفنا عنه وآمنّا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه، وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهراً مفهوماً من تخاطب العرب قلنا به من غير توقف، كما في قوله تعالى: «يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ» «15» فنحمله على حق اللَّه وما يجب له ... تطبيق وتمثيل: ولنطبق هذه المذاهب على قوله سبحانه «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى» ... فنقول: يتفق الجميع من سلف وخلف على أن ظاهر الإستواء على العرش- وهو الجلوس عليه مع التمكن والتحيّز- مستحيل، لأن الأدلة القاطعة تنزّه اللَّه عن أن يشبه خلقه أو يحتاج إلى شيء منه، سواء كان مكاناً يحلّ فيه أم غيره. وكذلك اتفق السلف والخلف على أن هذا الظاهر غير مراد للَّه قطعاً،لأنه تعالى نفى عن نفسه المماثلة لخلقه وأثبت لنفسه الغنى عنهم فقال: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» «16» وقال «لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» «17» فلو أراد هذا الظاهر لكان متناقضاً. ثم اختلف السلف والخلف بعدما تقدم، فرأى السلفيون أن يفوّضوا تعيين معنى الإستواء إلى الله، هو أعلم بما نسبه إلى نفسه وأعلم بما يليق به، ولا دليل عندهم على هذا التعيين». ثم ينقل مذهب الأشاعرة والمتأخّرين من الخلف ... ثم يقول: «وقل مثل ذلك في نحو «وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ» «وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي» «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» «وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ» «يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ» «وَجَاء رَبُّكَ» «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ» ... فالسلف: يفوّضون في معانيها تفويضاً مطلقاً بعد تنزيه اللَّه عن ظواهرها المستحيلة. والأشاعرة: يفسّرونها بصفات سمعية زائدة على الصفات التي تعلمها، ولكنهم يفوّضون الأمر في تعيين هذه الصفات إلى اللَّه. فهم مؤوّلون من وجه مفوّضون من وجه. والمتأخّرون: يفسّرون الوجه بالذات ولفظ «وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي» بتربية موسى ملحوظاً بعناية اللَّه وجميل رعايته، ولفظ اليد بالقدرة ولفظ اليمين بالقوة. والفوقية بالعلو المعنوي دون الحسي، والمجىء في قوله «وَجَاء رَبُّكَ» بمجىء أمره، والعندية في قوله «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ» بالإحاطة والتمكن أو بمثل ذلك ...» «18».
( 1) الملل والنحل 1/ 84- 85، الباب الثالث: الصفاتية.
( 2) الملل والنحل 1/ 95- 97.
( 3) الملل والنحل 1/ 99- 102.
( 4) تاريخ المذاهب الإسلامية- الجزء الأول في السياسة والعقائد، السلفية والأشاعرة 217- 219.
( 5) الرسالة التدمرية: 72.
( 6) الفتاوى الكبرى 5/ 129.
( 7) شرح العقيدة الإصفهانية: مذهب السلف في الأسماء والصفات: 32.
( 8) شرح العقيدة الإصفهانية: اقوال السلف في هذا الأصل: 63.
( 9) مناهل العرفان في علوم القرآن- المبحث الخامس عشر في محكم القرآن ومتشابهه- 2/ 544- 545.
( 10) الرد على نونيّة ابن القيمّ: 133.
( 11) أساس التقديس- القسم الثالث، الفصل الرابع في تقرير مذهب السلف: 137- 138.
( 12) الجام العوام- الباب الأوّل في شرح اعتقاد السلف: 4- 5.
( 13) سورة الحديد: 4.
( 14) مناهل العرفان في علوم القرآن- الرأي الرشيد في متشابه الصفات: 540- 541.
( 15) سورة الزمر: 56.
( 16) سورة الشورى: 11.
( 17) سورة الحديد: 24.
( 18) مناهل العرفان في علوم القرآن- الرأي الرشيد في متشابه الصفات، تطبيق وتمثيل: 542- 543.