بسم الله الرحمن الرحيم
ودليل اللطف على ضرورة نصب امام على الله تعالى ـ وكما طرقه الشيخ جعفر السبحاني في الملل والنحل(1) - هو: اتّفقت الاُمّة الإسلامية على وجوب نصب الامام، سوى العجاردة من الخوارج، ومعهم حاتم الأصمّ أحد شيوخ المعتزلة (237) فذهب المسلمون إلى وجوب نصب الإمام، إمّا على الله سبحانه كما عليه الشيعة، وإمّا على الاُمّة كما عليه غيرهم، فوجوب نصب الامام لا خلاف فيه بين المسلمين، وإنّما الكلام في تعيين من يجب عليه ذلك. وليس المراد من وجوبه على الله سبحانه، هو إصدار الحكم من العباد على الله سبحانه، حتّى يقال (إنِ الحُكْمُ إلاّ لِلهِ)(2) بل المراد كما ذكرنا غير مرّة، أنّ العقل حسب التعرّف على صفاته سبحانه، من كونه حكيماً غير عابث، يكشف عن كون مقتضى الحكمة هو لزوم النصب أو عدمه، وإلاّ فالعباد أقصر من أن يكونوا حاكمين على الله سبحانه.
ثمّ إنّ اختلافهم في كون النصب فرضاً على الله أو على الاُمّة، ينجم عن اختلافهم في حقيقة الخلافة والامامة عن رسول الله. فمن ينظر إلى الامام كرئيس دولة ليس له وظيفة إلاّ تأمين الطرق والسبل، وتوفير الأرزاق، واجراء الحدود، والجهاد في سبيل الله، إلى غيرذلك ممّا يقوم به رؤساء الدول باشكالها المختلفة، فقد قال بوجوب نصبه على الاُمّة، إذ لا يشترط فيه من المواصفات إلاّ الكفاءة والمقدرة على تدبير الاُمور وهذا ما يمكن أن تقوم به الاُمّة الإسلامية، وأمّا على القول بأنّ الإمامة استمرار لوظائف الرسالة (لا لنفس الرسالة فانّ الرسالة والنبوّة مختومتان بالتحاق النبي الأكرم بالرفيق الأعلى) فمن المعلوم إنّ تقلّد هذا المقام يتوقّف على توفّر صلاحيات عالية لا ينالها الفرد إلاّ إذا حظي بعناية إلهية خاصة فيخلف النبي في علمه بالاُصول والفروع، وفي سد جميع الفراغات الحاصلة بموته، ومن المعلوم أنّه لا تتعرّف عليه الاُمّة إلاّ عن طريق الرسول، ولا يتوفّر وجوده إلاّ بتربية غيبيّة.
فقد ظهر من ذلك انّ كون القيادة الإسلامية بعد النبي بيد الله أو بيد الاُمّة، أو انّ التعيين هل هو واجب عليه سبحانه أو عليهم، ينجم عن الاختلاف في ماهية الخلافة .
فمن جعلها سياسة زمنية وقتية يشغلها فرد من الاُمّة بأحد الطرق، قال في حقه: «لا ينخلع الامام بفسقه وظلمه بغصب الاُموال وضرب الابشار، وتناول النفوس المحرمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه وتخويفه، وترك طاعته في شيء ممّا يدعوا إليه من معاصي الله »(3), فمن قال: بأنّ الإمام بعد الرسول أشبه برئيس الدولة والوزراء، تنتخبه الاُمّة الإسلامية قال في حقه: «ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة اُمورنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة اللّه فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة. والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين، برّهم وفاجرهم، إلى قيام الساعة، ولا يبطلهما شيء ولا ينقضهما»(4).
وقد درج على هذه الفكرة متكلّمو السنّة ومحدّثوهم، حتّى قال التفتازاني: «ولا ينعزل الامام بالفسق، أو بالخروج عن طاعة الله تعالى، والجور (الظلم على عباد الله) لأنّه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمّة والاُمراء بعد الخلفاء الراشدين، والسلف كانوا ينقادون لهم، ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم، ولا يرون الخروج عليهم، ونقل عن كتب الشافعية: انّ القاضي ينعزل بالفسق بخلاف الامام، والفرق انّ في انعزاله ووجوب نصب غيره اثارة الفتنة، لما له من الشوكة، بخلاف القاضي»(5).
ومن فسّر الامامة بأنّها عبارة عن إمرة إلهية واستمرار لوظائف النبوّة كلّها سوى تحمّل الوحي الإلهي، فلا مناص له عن القول: بوجوب نصبه على الله سبحانه.
وقد استدلّت الامامية على وجوب نصب الامام على الله سبحانه: بأنّ وجود الامام الّذي اختاره الله سبحانه، مقرّب من الطاعات، ومبعد عن المعاصي وقد أوضحوه في كتبهم الكلامية. والمراد من اللطف المقرب هنا ما عرفت من أنّ رحلة النبي الأكرم تترك فراغات هائلة بين الاُمّة في مجالي العقيدة والشريعة، كما تترك جدالا ونزاعاً عنيفاً بين الاُمّة في تعيين الامام. فالواجب على الله سبحانه من باب اللطف هو سدّ هذه الفراغات بنصب من هو صنو النبي الأكرم في علمه بالعقيدة والشريعة، وفي العدالة والعصمة، والتدبير والحنكة، وحسم مادة النزاع المشتعل برحلة الرسول، ولمّ شعث الاُمّة، وجمعهم على خط واحد.
والعجب انّ المعتزلة ممّن تقول: بوجوب اللطف والأصلح على الله سبحانه، ولكنّهم لم يلتزموا بها في المقام، مع العلم بأنّ المورد من جزئياته، والّذي منعهم عن الالتزام بالقاعدة في المقام بأنّهم لو قالوا بها في هذه المسألة لزمهم أن يقولوا بعدم صحة خلافة الخلفاء المتقدمين على عليّ، لأنّ قاعدة اللطف تقتضي أن يكون الخليفة منصوصاً عليه من الله سبحانه.
ثمّ إنّك تعرّفت على أنّ الرسول الأكرم بوحي من الله سبحانه، قام بتطبيق القاعدة، ونصب إماماً للاُمّة، ليقود أمرهم ويسد جميع الفراغات الحاصلة بلحوقه بالرفيق الأعلى، وبذلك حسم مادة النزاع، وقطع الطريق على المشاغبين، ولكنّه ـ وللأسف ـ تناست الاُمّة وصية الرسول وأمره، فانقسموا إلى طوائف وأحزاب، وقامت بينهم المعارك والحروب الّتي اُريقت فيها الدماء واستبيحت الأعراض، وتبدّلت المفاهيم، واختلفت القيم، ومازال ولم تزل معاناة الاُمّة من هذا الانشقاق، وأصبح التقريب فضلاً عن الوحدة أمراً متعسّراً على المفكرين، نسأل الله سبحانه أن يسد تلك الفجوة العميقة بايقاظ شعور علماء الاُمّة ومصلحيهم في المستقبل.
______________
(1) الملل والنحل, للشيخ جعفر السبحاني: ج6 ، ص 276 ـ 288.
(2) يوسف / 40.
(3) التمهيد للقاضي أبي بكر الباقلاني: (ت 403): 181 .
(4) العقيدة الطحاوية: 379 ـ 387 .
(5) شرح العقائد النسفية: وهي لأبي حفص عمرو بن محمّد النسفي (ت 573) والشرح لسعد الدين التفتازاني (ت 791): 185 ـ 186، ولاحظ في هذا المجال مقالات الاسلاميين للأشعري: 323، واُصول الدين لمحمّد بن عبد الكريم البزدوي إمام الماتريدية: 190.
|