بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كان رسولُ اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرّف بخليفته ووصيه تارةً بصورةٍ كليّةٍ، وأُخرى بصورةٍ معيّنةٍ، أي بذكر اسم الخليفة والوصيّ بحيث يمثّلُ كلُ واحدٍ من تلك الأحاديث حجةً كاملةً وتامّةً لمن يطلبُ الحقيقة وهو شهيدٌ واعٍ. ولكن مع ذلك ولكي يُوصِلَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نداءَه إلى كلّ قاصٍ ودانٍ من المسلمين في ذلك اليوم، ويرفعَ كلّ إبهام وغموضٍ، ويدفع كلّ شكٍ أو تشكيكٍ في هذا المجال، توقّفَ عند قُفوله ومراجَعَته من حَجّة الوَداع في أرض تسمى بغدير خم، وأخبر من مَعَه من الحجيج بأنّه كُلِّف مِن جانب اللَّه تعالى بأن يُبلِّغ رسالة إليهم، وهي رسالة تحكي عن القيام بأمرٍ جدّ عظيم، بحيث إذا لم يُبلِّغها يكون كأنّه لم يُبَلّغ شيئاً من رسالته كما قال تعالى: «يَا أَيُّها الرَّسُولُ بَلّغْ ما أُنزِلَ إليكَ مِن رَّبِكَ وإن لَم تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يعصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» «1». «2»
ثم رقى النبيُّ منبراً من أقتاب الإبل وحُدُوجها، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) مخاطباً الناس: «يوشك أنْ ادعى فأجيب فماذا أنتم قائلون؟»
قالوا: نَشهدُ أنّك قد بَلّغتَ ونَصحتَ وجَهَدتَ فجزاك اللَّهُ خيراً.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «ألَسْتم تَشهَدون أن لا إله إلّااللَّه وأنّ محمّداً عَبدُه ورسولهُ وان الساعة آتيةٌ لا ريبَ فيها؟»
قالوا: بَلى نَشْهدُ بذلك.
قالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): «فإنّي فَرَطٌ (أي أسبقكُم) على الحوض (أي الكوثر)، فَانظُرُوا كيفَ تَخلِفوُني في الثَقَلَين؟»
فنادى مناد: وما الثَقَلان يا رَسولَ اللَّه؟
قالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): «الثَقَلُ الأكبر كتابُ اللَّه طَرَفٌ بيدِ اللَّهِ عزَّ وجَلَّ وطَرَفٌ بأيدِيكُمْ فتمَسَّكُوا به لا تَضِلُّوا، والآخَرالأصغَر عترتي، وإنّ اللطيفَ الخبيرَ نبّأني أَنَّهما لنْ يفترقا حتى يَردا عليَّ الحَوضَ، فلا تقدمُوهُما فتَهلكوا، ولا تقصِّروا عنْهما فَتَهْلَكُوا». ثم أخذ بيد «عليّ» فَرفَعها حتى رؤي بياضُ آباطهما فعرفَه القومُ أجمعون فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «أيُّها الناسُ من أولى النّاس بالمؤْمِنين من أنفسِهِم؟»
قالوا: اللَّهُ ورسولهُ أعلمُ.
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ اللَّه مولايَ، وأنا مَولى المؤمِنِين، وأنا أولى بِهِمْ مِن أنفسهِمْ، فَمَن كنتُ مَولاه فَعَلِيٌ مولاهُ».
ثم قال ( صلى الله عليه وآله وسلم): «اللّهُمَّ والِ مِن والاهُ، وعادِ من عاداهُ، وأحِبَّ من أحَبَّهُ، وابْغَضْ مَن أبْغَضَهُ، وانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، واخْذُلْ من خَذَلهَ، وأدِرِ الحقَّ معه حيث دارَ، ألا فَلْيُبَلّغِ الشّاهِدُ الغائبَ».
حديث الغدير من الأحاديث المتواترة
إنّ حديثَ الغَدِير منَ الأَحاديثِ المتَواتِرة، وقد رَواهُ من الصَّحابة والتابعين وعُلماءِ الحديث في كلّ قرنٍ بصورَةٍ متواترةٍ.
فقد نقل حديثَ الغدير ورواه (110) من الصحابة، و(89) من التابعين، و(3500) من العلماء والمحدّثين، وفي ضوء هذا التواتر لا يبقى أيُّ مجالٍ للشَكِ في أصالةِ، وصحّة هذا الحديث.
كما أَنّ فريقاً من العُلَماء ألَّفوا كُتباً مستَقِلّةً حولَ حديث «الغدير» أشْمَلُها وأكثرُها اسْتِيعاباً لِطُرق وأسنادِ هذا الحديث كتابُ «الغدير» للعلّامة الشيخ عبد الحسين الأميني (1320- 1390 هـ).
والآن يجب أن نَرى ما هو المقصود من لفظة «الموَلى» وماذا تَعني «مولويّة» عليّ (عليه السلام)؟
إنّ القرائن والشواهدَ الكثيرةَ والعديدةَ تشهد بأنَّ المقصودَ من هذه اللَفظة، والكلمة هو: الزعامة والقيادة، وها نحن نشيرُ إلى بعض هذه الشَواهدِ والقرائن:
ألف: في واقعة الغدير، أمَرَ رسولُ اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنْ يحطَّ الحُجّاج الّذين كانوا يرجعون معه من الحج، في أرض قاحِلةٍ لا ماء فيها، ولا كلأ، وفي وقتِ الزوال، وتحت أشعّة الشَّمس الحارقة.
ولقد كانت حرارةُ الهَجير من الشِدّة في ذلك الوَقت بحيث أنّ الشخص من الحاضرين في ذلك المشهد كان يضع بعض عباءته تحت رجليه وبعضها فوق رأسه تَوقِّياً من شدّة الرَمضاء، وحرارة الشّمس.
من الطبيعي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يريد في هذه الحالة الخاصّة، أن يقول ماله دورٌ مصيريٌّ هامٌ في هداية الأُمّة. ترى أي شيء يمكنه أن يكون له دور مصيريٌّ وهامٌّ في حياة المسلمين أكثر من تعيين القيادة التي توجب وحدةَ كَلِمةِ المسلمين، وتكونُ حافظة لدينهم.
ب: لقد تحدّث رسولُ اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل ذكر مسألة ولاية الإمام علي (عليه السلام) عَن أُصول الدين الثلاثة: التوحيد، والنبوّة، والمعاد، وأخَذَ من الناس الإقرارَ بها، ثم طرَحَ مسألة ولاية الإمام علي (عليه السلام) بعد ذلك.
إنّ التقارن بين إبلاغ هذه الرسالة وأخذ الاعتراف والإقرار بالأُصول المذكورة يمكن أن يقودنا إلى معرفة أهميّة الرسالة التي أمَرَ النبيُّ بإبلاغِها إلى النّاس في «غدير خم»، ويمكن معرفة أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كانَ يقصُد مِن ذلك الإجتماع العظيم في تلك الظروفِ الإستثنائيّةِ والملابَسات الخاصّة التوصية فقط بمحبّة وموادّة شخصٍ معيّنٍ.
ج: قبل إبلاغِ الرِسّالة الإلهيّة في شأنِ عليٍّ (عليه السلام) تحدَّثَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ولايَته ومولويَّتهِ وقال: اللَّهُ مولايَ وأنا مولى المْؤُمِنِين، وأنا أولى بِهِمْ مِن أنْفسِهِمْ.
إنّ ذكر هذه المطالب دليلٌ على أنّ «مولويّةَ الإمام علي عليه السلام» كانت من نمط وسنخ مولوية النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّ النبي أثبت بأمر اللَّه تعالى مَولويّته وأولويّته بالأمر لعليّ أيضاً.
د: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال بعد إبلاغ هذه الرِسّالة الإلهيّة: فَلْيبلّغِ الشاهدُ الغائبَ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المائدة67
(2) اشار المحدثون والمفسرون الى نزول هذه الاية في حجة الوداع في غدير خم انظر الدر المنثورللسيوطي ج2 ص298؛فتح القدير للشوكاني ج2 ص57؛وكشف الغمة للاربلي ص94؛ ينابيع المودة للقندوزي ص120؛ المنار ج6 ص463 وغيرها. |