بسم الله الرحمن الرحيم
انتهى اهل السنة اخيراً الى اختلاق مسألة (نسخ التلاوة) هروبا من مسألة التحريف في القران الكريم و المعلوم بطلانها وفق قواعد علم الاصول. ومن ثم إما قبولاً على علاتها والأخذ بها والافتاء وفق مضامينها 'كما فعله فريق منهم' نظراً لصحة الاسانيد فيما زعموا 'أو رفضاً لها رأساً بعد عدم امكان التأويل' وهذا ابن حزم الاندلسي - وهو الفقيه الناقد - يرى شريعة الرجم مستندة الى كتاب الله 'لما رواه بإسناده عن أُبي بن كعب' قال: كم تعدون سورة الاحزاب؟ قيل له: ثلاثاً أو اربعاً وسبعين آية قال: ان كانت لتقارن سورة البقرة أو لهي أطول منها, وان كان فيها لآية الرجم وهي: (اذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتّه نكالاً من الله والله عزيز حكيم). قال ابن حزم: هذا اسناد صحيح كالشمس لا مغمز فيه. ثم قال: ولكنها مما نسخ لفظاً وبقي حكماً(1). وقد انبرى جماعات كثيرة من محققي اهل السنة (كالإمام المحقق محمد بن احمد السرخسي في اصوله والشيخ المصري علي العريض في كتابه فتح المنان) لرفض مسألة نسخ التلاوة المزعومة 'دون الحكم لمنافاتها للحكمة' اذ ما هي الحكمة في نسخ آية بلفظها مع بقاء حكمها؟ وهلا كانت سنداً للحكم الباقي مع الأبد؟
عن عمر قال: ( لولا ان يقول الناس ان عمر زاد في كتاب الله لكتبت آية الرجم بيدي)(2). ونقول: أولاً: هذا يعني ان الخليفة عمر قائل بالنقص 'لأن آية الرجم ليست في القرآن وهو لم يقل بنسخ التلاوة لأنه يريد ان يكتبها ولكن يخاف من قول الناس' ولذا نقل السيوطي عن صاحب البرهان للزركشي انه قال: (ظاهره ان كتابتها جائزة وانما منعه قول الناس والجائز في نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه فاذا كانت جائزة لزم ان تكون ثابتة لأن هذا شأن المكتوب )(3). انكر جمع من العلماء السنة قضيّة نسخ التلاوة كما قال الشوكاني: منع قوم من نسخ اللفظ مع بقاء حكمه، وبه جزم شمس الدين السرخسي، لأنّ الحكم لا يثبت بدون دليله(4).
وحكى الزرقاني عن جماعة في منسوخ التلاوة دون الحكم: إنّه مستحيل عقلاً، وعن آخرين منع وقوعه شرعاً(5).
ولم يصحّح الرافعي القول بنسخ التلاوة وأبطل كل ما حمل على ذلك. وهكذا أنكر ذلك: رشيد رضا، صبحي الصالح ومصطفى زيد(6). واخيرا نقول للقائلين بنسخ التلاوة ان هذا النسخ هو قول بالتحريف ايضا فلماذا هذا اللف والدوران والوقوع في نفس المأزق. اما الشيعة الامامية فانهم يقولون, انه من باب الامكان العقلي وعدمه اي يمكن ان يقع النسخ عقلاً, اما وقوعا خارجيا فلا يقولون بذلك مطلقا. ففريقٍ السنة ينفي عن نفسه شبهة التحريف، ويقول بسلامة القرآن وانى له ذلك بسبب وجود الروايات الموثقة والصحيحة السند عندهم التي تقول بنسخ التلاوة. ولو تأمّلوا بروحٍ متحرّرةٍ عن أغلال عقائدهم وأفكارهم والتزاماتهم المصطنعة بما عندهم من الأحاديث; لعرفوا ـ كما شرحنا سابقا ـ أنّ كلّ تلك الأحاديث الآَحاد ـ عند الفريقين ـ لا تكون حجّةً في مقابل قطعيّة القرآن المعجز، ولأعرضوا عن جميع تلك الأحاديث ورموا بها، قبل أن يُحاولوا توجيهها، وقد عرفنا سخافتها وهزالها أمامَ عظمة النصّ القرآنيّ وقوّته. فرأيُ الشيعة في هذه الكلمات المضافة لا ترتبط بالوحي، وليست منزلة من الله تعالى، وإنّما هي كلماتٌ بشريّة، سواء كانتْ موصولةً بالنبيّ والأئمّة: أو من الصحابة والتابعين أو المفسّرين و العلماء المتأخّرين؟.
وهذا رأيُ جمهور الشيعة، وهو صيانةُ القرآن من أيّ تأثّر بتلك الأخبار، وما فيها من كلمات وعبارات التحريف. ورأيُ أهل السنّة أنّ الأخبار يُلتزم بظاهرها من كون الكلمات المضافة التي جاءت بها هي من الوحي المنزل وكلام البارئ جلّ وعلا، إلا أنّ الكلمات المضافة ليستْ قرآنا الآَنَ وإن كانت قرآناً سابقاً، لأنّ تلاوتها وقرآنيّتها قد نُسِخ ورفع، فلا تؤثّر في تماميّة النصّ الموجود الذي هو قرآنٌ متلو بلا ريبٍ, وهذا هو رأيُ جمهور العامّة المنسوبين إلى السنّة. فهذان حلاّن: حل للشيعة وهو التأويل، وحل لأهل السنّة وهو نسخُ التلاوة. فنسخ التلاوة عند السنة يلزم منه المجهولية على الله سبحانه وتعالى, في حين انه سبحانه وتعالى منزه عن كل صور الجهل والقصور. اما قولنا نحن الشيعة في النسخ, فلا نقول بنسخ التلاوة كما قالواهم به, انما نقول ان النسخ الذي ورد في القران الكريم هو النسخ في الحكم, كما هو في قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(7).
ان تفسير الآية الكريمة كما بينه صاحب الميزان في تفسيره: (قوله تعالى: ما ننسخ، النسخ هو الإزالة، يقال: نسخت الشمس الظل إذا أزالته و ذهبت به، قال تعالى: « ما أرسلنا من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان»(8), ومنه أيضا قولهم: نسخت الكتاب إذا نقل من نسخة إلى أخرى فكأن الكتاب أذهب به و أبدل مكانه و لذلك بدل لفظ النسخ من التبديل في قوله تعالى: «و إذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون»(9), و كيف كان فالنسخ لا يوجب زوال نفس الآية من الوجود و بطلان تحققها بل الحكم حيث علق بالوصف و هو الآية و العلامة مع ما يلحق بها من التعليل في الآية بقوله تعالى: ألم تعلم ان الله على كل شيء قدير، إلخ أفاد ذلك أن المراد بالنسخ هو إذهاب أثر الآية من حيث إنها آية، أعني إذهاب كون الشيء آية و علامة مع حفظ أصله فبالنسخ يزول أثره من تكليف أو غيره مع بقاء أصله و هذا هو المستفاد من اقتران قوله: ننسها بقوله: ما ننسخ، والإنساء إفعال من النسيان وهو الإذهاب عن العلم كما أن النسخ هو الإذهاب عن العين فيكون المعنى ما نذهب بآية عن العين أو عن العلم نأت بخير منها أو مثلها. ثم إن كون الشيء آية يختلف باختلاف الأشياء و الحيثيات و الجهات، فالبعض من القرآن آية لله سبحانه باعتبار عجز البشر عن إتيان مثله، و الأحكام و التكاليف الإلهية آيات له تعالى باعتبار حصول التقوى والقرب بها منه تعالى، و الموجودات العينية آيات له تعالى باعتبار كشفها بوجودها عن وجود صانعها و بخصوصيات وجودها عن خصوصيات صفاته و أسمائه سبحانه، و أنبياء الله وأولياؤه تعالى آيات له تعالى باعتبار دعوتهم إليه بالقول و الفعل و هكذا، و لذلك كانت الآية تقبل الشدة و الضعف قال الله تعالى: «لقد رأى من آيات ربه الكبرى»(10). ومن جهة أخرى الآية ربما كانت في أنها آية ذات جهة واحدة وربما كانت ذات جهات كثيرة، و نسخها وإزالتها كما يتصور بجهته الواحدة كإهلاكها كذلك يتصور ببعض جهاتها دون بعض إذا كانت ذات جهات كثيرة، كالآية من القرآن تنسخ من حيث حكمها الشرعي و تبقى من حيث بلاغتها وإعجازها و نحو ذلك. فالنسخ في اللغة والذي يدور على ألسنتنا حقيقته هي: وضع قانون لمصلحة ما والعمل به ثم ظهور الخطأ في ذلك والغاؤه ووضع قانون جديد مكانه, و لكن لا يمكن نسبة مثل هذا النسخ الدال على الجهل، والخطأ إلى الله تعالى المنزه عن كل جهل وخطأ، ولا يوجد هكذا نسخ في الآيات الكريمة. اما النسخ اصطلاحا كما ذكر في القرآن الكريم كما في الاية رقم (106) سورة البقرة, معناه: انتهاء زمن اعتبار الحكم المنسوخ.
ونعني بهذا أن للحكم الأول كانت له مصلحة زمنية محدودة وأثر مؤقت خاص تعلن الآية الناسخة انتهاء ذلك الزمن المحدود وزوال الأثر. ونظرا إلى أن الآيات نزلت في مناسبات طي ثلاث وعشرين سنة من السهولة بمكان تصور اشتمالها على هكذا أحكام.
___________
(1) المحلى, لابن حزم: 11/23.
(2) البخاري: ج4 ص152و135 باب الشهادة عند الحاكم في ولاية القضاء...
(3) الاتقان: الجزء 2 الصفحة 26.
(4) إرشاد الفحول: 189، أصول السرخسى: 2 / 78.
(5) مناهل العرفان: 2 / 112.
(6) راجع: المنار: 1 / 413، إعجاز القرآن: 44، النسخ في القرآن الكريم: 1 / 283، مجلة تراثنا: ج 13 ص 139، سلامة القرآن من التحريف: 213.
(7) سورة البقرة: اية 106.
(8) سورة الحج: اية 51.
(9) سورة النحل: اية 101.
(10) سورة النجم: آية 18.
|