بسم الله الرحمن الرحيم
جاء في كتاب (كيف ردَّ الشيعة غزو المغول) للشيخ علي الكوراني العاملي ما يبين حال الشيعة العرب زمن الدولة العثمانية ويحكي عن امور بعضها نقلها احد اجداده يقول: بعد حملته غير الموفقة على إيران، هاجم السلطان سليم سوريا ومصر ونجح في احتلالهما، وطبَّق فيهما وفي غيرهما سياسةً ضد الشيعة شبيهةً بسياسته ضدهم في تركيا وإيران! فكانت حملات الإضطهاد المذهبي بأنواع الإهانة، والظلم، ومصادرة الأموال، والقتل، والتهجير، والتشريد، في كل البلاد التي يحكمها (الخليفة) العثماني، خاصة في تركيا والعراق وسوريا ومصر ولبنان وفلسطين، وقد استمرت هذه السياسة أكثر من أربعة قرون!
ولو أراد أهل كل بلد أو مدينة أن يكتبوا ما وقع عليهم من مظالم بني عثمان لبلغت مجلدات من الصفحات السوداء والجرائم التي يبرأ منها رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي كان الخليفة وولاته وقضاته يحكمون باسمه الشريف واسم شريعته!
ويكفينا في لبنان أن نؤرخ لأحمد باشا الجزار وحملاته على شيعة بلاد الشام ولبنان خاصة، وقد كان والي عكا سنة 1195، ثم طمع في فلسطين ومصر، وقد أفرط في قتل المسلمين عامة والشيعة خاصة حتى عرف باسم (الجزار) وصار إسما رسمياً له! قال الجبرتي: (سموه بهذا الإسم لكثرة قتله الأنفس ولا يفرق بين الأخيار والأشرار، وقد جمع الطموش الكثيرة من العسكر والغز والعرب وأسافل العشيرة)(1).
وفي مستدركات أعيان الشيعة: (كانت نكبة جبل عامل بأحمد باشا الجزار من النكبات القاصمة...أطلق جنوده يعملون التخريب والتقتيل والسلب! وكان من أفجع ما لقيه جبل عامل في تلك المحنة نهب مكتباته نهباً عاماً وحمل كتبها إلى عكا.. إلى أصحاب الأفران يوقدون بها أفرانهم)(2).
في تلك المدة هاجر العديد من علماء جبل عامل وبلاد الشام الى إيران والهند، هرباً من سيف بني أمية العثماني، وكان أشهر المهاجرين المحقق الكركي قدس سره وهو معاصر للسلطان سليم وتوفي سنة940، وكان المرجع الديني العام لإيران في زمن الشاه إسماعيل والشاه طهماسب، وله مؤلفات وأجوبة استفتاءات تعطينا أضواء مهمة عن حالة الشيعة في عصره في إيران، وتحت حكم الدولة العثمانية.
ومنهم العبقري الشيخ محمد بن حسين بن عبد الصمد العاملي الحارثي الهمداني، المعروف باسم الشيخ البهائي قدس سره المعاصر للشاه طهماسب والشاه عباس، توفى 1031، كان نابغةً في عدد من العلوم، وله مؤلفات مهمة، وآثارٌ معمارية هندسية متميزة.
ومما يتصل بموضوعنا أن البهائي اشتغل في إيران بالسياسة ودخل في صراع الخطوط السياسية الداخلية فجاءت موجة ضده، فخرج من إيران الى البلاد التي تحكمها الخلافة العثمانية لكنه لم يستطع إظهار نفسه! فكان يتنقل في بلاد الشام والقدس ومصر بصورة درويش مدة ثلاثين سنة، حتى كتب له الشاه عباس مصرّاً على رجوعه فعاد الى إيران، وكان مرجعها الديني العام.
ومنهم الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي قدس سره (1033-1104) وهو معاصر للعلامة المجلسي صاحب البحار قدس سره، كان مرجعاً في إيران واشتغل بالتأليف، وأشهر كتبه الموسوعة الفقهية: (وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشريعة).
نشأتُ في قرية (ياثر) من وسط جبل عامل ويلفظونها (ياطر) وسمعتُ من كبار السن الكثير عن الحكم العثماني، أو الحكم (العُصْمَلِّي) كما يسميه الناس!
وأكثر ما يحكونه عنه قصص غارة (الجَنْدِرْمَا) على القرى وتعاملهم المغولي مع أهلها، وفرضهم الضرائب والبقشيش عليهم بسبب ودون سبب!
ويبقى ذلك أهون من إجبار الناس على الجندية في الجيش العثماني، عندما يُرسل الضابط الإنكشاري في صور الى مخاتير القرى ويُحْضرهم ويبلغهم أن يكتب كل مختار أسماء أهل قريته من سن 18 الى سن 40، ويحدد لهم يوماً لحضور المجندين في القشلة، وعند المدة المضروبة يرسل لكل قرية عدداً من الجندرمه ليدخلوها غفلةً ويقبضوا على كل من وجدوه بين سن 18-40، ويجروه الى قشلة الدولة العَلِيَّهْ العثمانية، ثم يرسلوه الى جبهة الحرب مع روسيا! هذه الحرب التي حرق فيها الخليفة ألوفاً مؤلفة من المسلمين، وقد عرفنا أخيراً أنها كانت لسواد عيون فرنسا! وأسوأ منها حرب الخلافة العثمانية ضد أهل اليمن التي استمرت سنين طويلة وكلفت المسلمين من اليمانيين وغيرهم، عشرات الألوف!
كانت حروب الدولة العثمانية: الذاهب اليها مفقود والعائد منها مولود!
ومن هؤلاء المولودين جدي لأمي المرحوم الحاج نصر الله كريِّم الذي كان يحدثنا عن حربهم مع روسيا التي اعتمدت على المدفعية والبنادق والمواجهة القريبة، لأن مدى المدفعية كان قصيراً، فكان يتقدم مئات المقاتلين أو ألوفهم في أرض سهلة أو صعبة، ويجرُّون مدافعهم بواسطة الحيوانات أو الجنود ويحرصون على وضعها في أماكن تفاجئ العدو وتقتل من جنوده أكبر عدد ممكن، وكثيراً ما تفاجؤهم مدافع العدو فتحصد منهم المئات دفعة واحدة، ثم يهجم عليهم المشاة ببنادقهم. قال رحمه الله: وكانت جثث القتلى تترك مُجَدَّلةً على وجه الأرض بلا صلاة ولا دفن، لتأكلها الوحوش والطيور! أما في اليمن فقالوا إن الدولة العثمانية أمرت بعد مدة بجمع عظام قتلاها، فكانوا يجمعونها أكواماً كبيرة في الوديان، ويطمرونها بالتراب!
وسمعت في النجف قصصاً أبلغ عن العثمانيين، خاصة عن فتوى المراجع بوجوب جهاد الإنكليز، وكيف استنفر العلماء ورؤساء العشائر ورجالهم، وأقاموا معسكرات في البصرة والشعيبة وغيرها، وحارب الشيعة جنباً الى جنب مع ظالميهم ومضطهديهم الأتراك، وكيف اختلط الدم الشيعي بالدم التركي في العراق للدفاع عن الوطن الإسلامي، بينما اختلط دم النواصب بالدم الإنكليزي في مكان آخر! وكيف كان جنرالات الجيش التركي يأتون الى معسكرات المجاهدين مؤدبين يُقَبِّلون أيدي كبار العلماء ويشكرونهم، وكيف انهزم الجيش التركي قبل المجاهدين، وضمَّتْ سجون الإنكليز ضباط الأتراك وعلماء الشيعة معاً..
الى آخر قصص الثورة والهزيمة، وفيها عبرٌ عن حالة جيش بني عثمان وعوامل انهيار دولتهم، وعبرٌ عن أصالة عشائر الشيعة، وطيبتهم في اندفاعهم للجهاد، مع أنهم لا يملكون مقوماته، ولا ظروفه.
__________
(1) الجبرتي: ج2ص292.
(2) مستدرك اعيان الشيعة: ج2ص122.
|