بسم الله الرحمن الرحيم
من الامور التي اختلف فيها الوهابية (السلفية) مع غيرهم - سواء شيعة او سنة او غيرهم - مسألة التوسل؛ فقد ذهب الوهابية الى عدم جواز التوسل بالذوات سواء كانت ذوات انبياء او صالحين او غيرهم فان الذات ليس لها من الامر شيء؛ ولا تختلف ذات عن ذات حتى يتوسل باحدهما الله دون الاخرى فالنبي (صلى الله عليه واله وسلم) كما يقول بن تيمية لا تختلف ذاته عن ذات الملحد - والعياذ بالله - وانما الاختلاف بالايمان والتقوى؛ وعليه فلا يجوز التوسل والتقرب بنفس الذات الى الله سبحانه وتعالى ما دامت بهذه الحالة. فعلى ذلك لا يجوز التوسل بذات النبي (صلى الله عليه واله وسلم) والتقرب بها الى الله تعالى؛ سواء كان النبي حيا او ميتا وسواء كان حاضرا ام غائبا فضلا عن التوسل بذوات الاولياء والصالحين الاحياء والاموات الحاضرين والغائبين.
هذا من جهة. ومن جانب اخر فان التوسل انما يصح بدعاء الانبياء والاولياء والصالحين لا بذاتهم فكل من اراد ان يتوسل بشخص غيره يتوسل بدعائه بطلب الدعاء منه سواء كان ذلك المتوسل به نبيا او وليا او صالحا وقاموا بتأويل كل الايات والروايات التي تنص على توسل بعض الصحابة بالنبي (صلى الله عليه واله وسلم) وببعض الصالحين في حياته وفي مماته على ما ينسجم والبيان المتقدم لهم في التوسل. وخلاصة كلامهم ان التوسل بالذوات غير جائز مطلقا والتوسل بالدعاء هو الجائز فقط وينحصر التوسل بالعمل وبدعاء الغير. وعلى ضوء ما تقدم اخذ السلفية بتقسيم التوسل الى عدة اقسام والاطناب فيه وخلصوا الى النتيجة الانفة وعطفوا عليها تبديع وتكفير غيرهم من عامة المسلمين ممن يتوسلون بالنبي الاكرم (صلى الله عليه واله وسلم) حيا وميتا بذواتهم المكرمة عند الله سبحانه وتعالى. وارجع فيما تقدم الى كتاب التوسل لابن تيمية الحراني فانه اطنب في بيان مذهبه وخلص الى ما تقدم ذكره. والنظر فيما ذكره ابن تيمية واتباعه يحكم علينا ان نرفض طرحه المتقدم جملة وتفصيلا لان ما ذكره مخالف للنصوص الشرعية ومخالف لسيرة الصحابة والسلف الصالح من الامة الاسلامية المتبعة لنبيها (صلى الله عليه واله وسلم) وان كان السلفية يكفرون جميع امة محمد من صوفية وقدرية وشيعة ويمدحون الخوارج الذين سماهم النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بكلاب النار لان الطيور على اشكالها تقع وارجع الى كتاب كشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب لترى ذلك بام عينك.
واما النصوص الشرعية فهي:
1- ما اخرجه الطبراني(1): عن عثمان بن حنيف ان رجلا كان يختلف الى عثمان بن عفان فكان عثمان لا يلتفت اليه ولا ينظر اليه في حاجته فلقى عثمان بن حنيف فشكى اليه ذلك وقال: ائت الميضأة فتوضى ثم صلى ركعتين ثم قال اللهم اني اسألك واتوجه اليك بنبيك محمد نبي الرحمة. يا محمد اني اتوجه بك الى ربي في حاجتي لتقضي لي ثم رح حتى اروح معك فانطلق الرجل ففعل ما قال ثم اتى باب عثمان فجاء البواب فاخذ بيده فادخله على عثمان بن عفان فاجلسه على طنفسته فقال ما حاجتك؟
فذكر له حاجته فقضى له حاجته وقال ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة.
ثم خرج من عنده فلقى عثمان بن حنيف فقال جزاك الله خيرا ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت الي حتى كلمته فيَ.
فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وقد اتاه ضرير فشكى اليه ذهاب بصره فقال: ان شئت صبرت وان شئت دعوت لك؟ قال: يا رسول انه قد شق ذهاب بصري وانه ليس لي قائد.
فقال: ائت الميضأة فتوضأ وصلي ركعتين ثم قل اللهم اني اسألك....الخ فقال عثمان بن حنيف: ففعل الرجل ما قال فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا المجلس حتى دخل علينا الرجل وقد ابصر كأنه لم يكن به ضر قط. وقال الطبري عقيبه (والحديث صحيح).
2- قال الحافظ تقي الدين السبكي(2): ان التوسل بالنبي (صلى الله عليه واله وسلم) جائز في كل حال قبل خلقه وبعد خلقه في مدة حياته في الدنيا وبعد موته في مدة البرزخ وبعد البعث في عرصات القيامة والجنة وهو على ثلاثة انواع:
النوع الاول ان يتوسل به بمعنى ان طالب الحاجة يسأل الله تعالى به او بجاهه او ببركته فيجوز ذلك في الاحوال الثلاثة وقد ورد في كل منها خبر صحيح.
اما الحالة الاولى قبل خلقه فيدل على ذلك اثار الانبياء الماضين (صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين) اقتصرنا منها ما تبين لنا صحته؛ وهو ما رواه الحاكم ابو عبد الله بن البيع في المستدرك على الصحيحين او احدهما قال ابو سعيد عمرو بن محمد بن منصور المعدل حدثنا ابو الحسن محمد بن اسحاق ابن ابراهيم الحنظلي حدثنا ابو الحارث عبد الله بن مسلم الفهري حدثنا اسماعيل بن مسلمة حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن اسلم عن ابيه عن جده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال, قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): لما اعترف ادم (عليه السلام) بالخطيئة قال يارب اسلك بحق محمد لما غفرت لي فقال الله يا ادم وكيف عرفت محمدا ولم اخلقه؟ قال يا رب لانك لما خلقتني بيدك ونفخت فيَ من روحك رفعت راسي فرايت على قوائم العرش مكتوبا: لا اله الا الله محمد رسول الله فعرفت انك لم تضف الى اسمك الا احب الخلق اليك فقال الله صدقت يا ادم انه لاحب الخلق اليَ اذ سالتني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد وهو اول حديث ذكرته لعبد الرحمن ابن زيد بن اسلم في هذا الكتاب. ورواه البيهقي ايضا في دلائل النبوة وقال تفرد به عبد الرحمن وذكره الطبراني وزاد فيه {وهو اخر الانبياء من ذريتك}.
وذكر الحاكم مع هذا الحديث ايضا عن علي بن حمشاذ العدل؛ حدثنا هارون بن العباس الهاشمي؛ حدثنا جندل بن والق؛ حدثنا عمر ابن اوس الانصاري؛ حدثنا سعيد بن ابي عروبة؛ عن قتادة؛ عن سعيد بن المسيب؛ عن ابن عباس قال: اوصى الله الى عيسى عليه السلام يا عيسى امن بمحمد وامر من ادركته من امتك ان يؤمنوا به فلولا محمد ما خلقت ادم ولولاه ما خلقت الجنة والنار ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه لا اله الا الله فسكن.
قال الحاكم: هذا الحديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه انتهى ما قاله الحاكم.
والحديث المذكور لم يقف عليه ابن تيمية بهذا الاسناد ولا بلغه ان الحاكم صححه فانه قال - اعني ابن تيمية - اما ما ذكروه في قصة ادم من توسله فليس له اصل ولا نقله احد عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) باسناد يصلح للاعتماد عليه ولا للاعتبار ولا للاستشهاد ثم ادعى ابن تيمية انه كذاب واطال الكلام في ذلك جدا بما لا حاصل تحته بالوهم والتخرص ولو بلغه ان الحاكم صححه لما قال ذلك او لتعرض للجواب عنه وكأني به ان بلغه بعد ذلك يطعن في عبد الرحمن بن زيد بن اسلم وهو راوي الحديث. ونحن نقول قد اعتمدنا على تصحيحه على الحاكم؛ وايضا عبد الرحمن بن زيد بن اسلم لا يبلغ في الضعف الى الحد الذي ادعاه وكيف يحل لمسلم ان يتجاسر على منع هذا الامر العظيم الذي لا يرده عقل ولا شرع وقد ورد فيه هذا الحديث.
ثم يقول السبكي: واما ما ورد من توسل نوح وابراهيم وغيرهما من الانبياء فذكره المفسرون واكتفينا عنه بهذا الحديث بجودته وتصحيح الحاكم له لا فرق في هذا المعنى بين ان يعبر عنه بلفظ التوسل او الاستغاثة او التشفع او التجوه.
والداعي بالدعاء المذكور وما في معناه متوسل بالنبي (صلى الله عليه واله وسلم) لانه جعله وسيلة لاجابة الدعاء دعاءه ومستغيث به ومستشف عبه ومتجوه به فان التجوه والتوجه راجعان لمعنى واحد.
ذكر طائفة من العلماء الذين صرحوا بجواز التوسل:
1- الامام احمد بن حنبل قال: في الاستسقاء يتوسل بالنبي (صلى الله عليه واله وسلم)(3).
2-الامام مالك بن انس: فقد ذكر في المناظرة التي دارت بينه وبين ابي جعفر المنصور: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة ابيك ادم (عليه السلام) الى الله تعالى الى يوم القيامة.(4)
3- الامام الشافعي: فقد ذكروا عنه انه قال: اني لاتبرك بابي حنيفة واجيئ الى قبره في كل يوم - يعني زائرا - فاذا عرضت في حاجة صليت ركعتين وجئت الى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده فما تبعد عني حتى تقضى.(5)
4- ابن مفلح الحنبلي فقد قال: فيجوز التوسل بصالح؛ وقيل يستحب.(6)
5- البهوتي الحنبلي فقد قال: وقال السامري وصاحب التلخيص لا باس بالتوسل في الاستسقاء بالشيوخ والعلماء والمتقين وقال في المذهب يجوز ان يستشفع الى الله برجل صالح وقيل يستحب.(7)
6- الشيخ علاء الدين المرادي الحنبلي قال: ومنها يجوز التوسل بالرجل الصالح على الصحيح من المذهب وقيل يستحب.
قال الامام احمد للمروزي: يتوسل بالنبي (صلى الله عليه واله وسلم) في دعائه وجزم به في المستوعب وغيره.(8)
7- ابراهيم الحربي قال: قبر معروف الترياق المجرب.(9)
8- ابن حبان البستي قال في ترجمة علي بن موسى الرضا (عليه السلام): وقبره في سناباذ خارج النوقان مشهور يزار بجنب قبر الرشيد قد زرته مرارا كثيرة وما حلت بيَ شدة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا (صلوات الله على جده وعليه) ودعوت الله ازالتها عني الا استجيب لي وزالت عني تلك الشدة. وهذا شيء جربته مرارا فوجدته كذلك.(10)
9- ابو علي الخلال قال: ما همني امر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسلت به الا سهل الله تعالى لي ما احب.(11)
10- الفقيه ابو الحسين عبد الله بن محمد قال: ما وقعت في لا ورطة قط ولا عرض لي امر مهم فقصدت قبر ابي الوليد وتوسلت به الى الله عز وجل الا استجاب لي. (12)
11- السمعاني صاحب الانساب: قال في ترجمة اسحاق بن ابراهيم الاسفراييني: والناس يتبركون به ويزورونه ويستجاب عنده الدعوه زرت قبره باسفرايين.(13)
الى غير ذلك من الكلمات الكثيرة المصرحة بالقول والفعل بجواز التوسل بالنبي (صلى الله عليه واله وسلم) وزيارة قبره والدعاء عنده وانه باب الله الذي منه يؤتى وبالتوجه به يتقبل الله الاعمال والدعوات فرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) واهل بيته والصالحين يجوز التوسل بهم والتقرب الى الله تعالى بحبهم.
___________
(1) الطبراني في معجمه الكبير: ج 9ص 31.
(2) شفاء السقام: ص61.
(3) دفع شبه التشبيه: ج1ص115.
(4) الشفا للقاضي عياض: ج2 ص41.
(5) تاريخ بغداد: ح1ص135؛ حاشية رد المختار: ج1 ص59 واضاف: [ان الشافعي صلى الصبح عند قبره فلم يقنت فقيل له لمَ؟ قال تادبا مع صاحب هذا القبر].
(6) الفروع: ج1ص595.
(7) كشف القناع: ج2ص67.
(8) الانصاف: ج2ص456.
(9) تاريخ بغداد: ج1ص134وعلق عليه الذهبي في السير: ج 9 ص 343 [يريد اجابة دعاء المضطر عنده لان البقاع المباركة يستحب عندها الدعاء].
(10) الثقات: ج8 ص457.
(11) تاريخ بغداد: ج1ص132.
(12) الانساب للسمعاني: ج4ص471.
(13) الانساب: ج1ص144.
|