بسم الله الرحمن الرحيم
نسخ التلاوة عند الشيعة الإمامية:
في الوقت الذي تعرضت كل أو جل كتب أصول الفقه السنية إلى مسئلة نسخ التلاوة، فإننا نلاحظ أن هذه المسئلة تكاد تكون مهملة في كتب أصول الفقه الشيعية، إلا ما ندر..
والسبب في ذلك يعود إلى ان المسئلة تكاد تكون مسلمة الوقوع عند أهل السنة، بخلاف الحال عند الشيعة...
وكل من تعرض إلى هذه المسئلة من الشيعة نفى وقوعها، وإن نص بعضهم على إمكانها، لكن الإمكان شيئ والوقوع شيء آخر...
فقد قال الشيخ المفيد رحمه الله والنسخ عندي في القرآن إنما هو نسخ متضمنه من الأحكام وليس هو رفع أعيان المنزل منه كما ذهب إليه كثير من أهل الخلاف....
إلى أن قال:
وهذا مذهب الشيعة و جماعة من أصحاب الحديث وأكثر المحكمة والزيدية، ويخالف فيه المعتزلة و جماعة من المجبرة، ويزعمون أن النسخ قد وقع في أعيان الآي كما وقع في الأحكام .
انتهى المقصود من كلام الشيخ المفيد، (1)
وقال المحقق الحلي رحمه الله: نسخ الحكم دون التلاوة جائز، وواقع، كنسخ الإعتداد بالحول، وكنسخ الإمساك في البيوت. كذلك نسخ التلاوة مع بقاء الحكم جائز، وقيل: واقع، كما يقال انه كان في القرآن زيادة نسخت، وهذا و (إن لم يكن) معلوما، فإنه يجوز. لا يقال: لو نسخ الحكم (لما) بقى في التلاوة فائدة، فانه من الجائز أن يشتمل على مصلحة تقتضي ابقائها، وأما بطلان دلالتها فلا نسلم، فان الدلالة باقية على الحكم، نعم لا يجب العمل به. (2)
وقال الشيخ المظفر رحمه الله: ان نسخ التلاوة في الحقيقة يرجع إلى القول بالتحريف لعدم ثبوت نسخ التلاوة بالدليل القطعي، سواء كان نسخا لأصل التلاوة أو نسخا لها ولما تضمنته من حكم معا، وإن كان في القرآن الكريم ما يشعر بوقوع نسخ التلاوة كقوله تعالى (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا انما انت مفتر) وقوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) ولكن ليستا صريحتين بوقوع ذلك، ولا ظاهرتين، وإنما أكثر ما تدل الآيتان على إمكان وقوعه. (3)
وقال الشيخ الطوسي رحمه الله:
فصل: في ذكر جواز نسخ الحكم دون التلاوة، ونسخ التلاوة دون الحكم:
قال: جميع ما ذكرناه جائز دخول النسخ فيه، لان التلاوة إذا كانت عبادة، والحكم عبادة اخرى جاز وقوع النسخ في إحداهما مع بقاء الآخر كما يصح ذلك في كل عبادتين، وإذا ثبت ذلك جاز نسخ التلاوة دون الحكم، والحكم دون التلاوة.
إلى أن قال:
وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، فلا شبهة فيه لما قلناه من جواز تعلق المصلحة بالحكم دون التلاوة.
وليس لهم أن يقولوا: ان الحكم قد ثبت بها، فلا يجوز مع زوال التلاوة بقاؤه.
وذلك أن التلاوة دلالة على الحكم، وليس في عدم الدلالة عدم المدلول عليه، الا ترى أن انشقاق القمر ومجئ الشجرة دال على نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يوجب عدمهما خروجه صلى الله عليه وآله وسلم من كونه نبيا وكذلك القول في التلاوة والحكم، ويفارق ذلك الحكم العلم الذي يوجب عدمه خروج العالم من كونه عالما، لان العلم موجب لا أنه دال.
واما جواز النسخ فيهما، فلا شبهة أيضا فيه لجواز تغير المصلحة فيهما.
وقد ورد النسخ بجميع ما قلناه، لان الله تعالى نسخ اعتداد الحول بتربص اربعة اشهر وعشرا، ونسخ التصدق قبل المناجات، ونسخ ثبات الواحد للعشرة وإن كانت التلاوة باقية في جميع ذلك.
وقد نسخ أيضا التلاوة وبقي الحكم على ما روي من آية الرجم من قول: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله) وإن كان ذلك مما أنزله الله والحكم باق بلا خلاف، وكذلك روي تتابع صيام كفارة اليمين في قراءة عبد الله بن مسعود لانه قد نسخ التلاوة والحكم باق عند من يقول بذلك. واما نسخهما معا، فمثل ما روي عن عائشة أنها قالت: (كانت فيما انزله تعالى عشرة رضعات يحرمن، ثم نسخت بخمس) فجرت بنسخة تلاوة وحكما.
وانما ذكرنا هذه المواضع على جهة المثال ولو لم يقع شئ منها لما أخل بجواز ما ذكرناه وصحته، لان الذي اجاز ذلك ما قدمناه من الدليل، وذلك كاف في هذا الباب.
وقفة مع كلام الشيخ الطوسي رضي الله عنه:
يذكر بعض السلفية ان الشيخ الطوسي يرى وقوع نسخ التلاوة كما هو الحال عندهم، وهذا يعود لعدم قرائتهم لكلام الشيخ بعناية، أو لعدم إكمالهم لقراءة كلامه، فهو يتحدث عن جواز النسخ، وليس عن وقوعه، وقد صرح بذلك في ذيل كلامه المنقول أعلاه، ولو كان الشيخ الطوسي يرى جواز الروايات، فلماذا لا يفتي بموجبها، بل لماذا يفتي بما يخالفها، فعلى سبيل المثال قال الشيخ الطوسي:
باب: ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه:
قال الشيخ رحمه الله: (والذى يحرم النكاح من الرضاع عشر رضعات متواليات لا يفصل بينهن برضاع امرأة اخرى).
ثم ذكر بأسانيده المتصلة بالمعصومين عليهم السلام جملة من الروايات، ثم قال:
فان قيل: ليس في شئ من هذه الأخبار ذكر العشر رضعات وأنتم قد ذكرتم الفتيا بعشرة رضعات انها تحرم ؟
قيل له: قد فسروا في أخبار أخر أن الذي ينبت اللحم ويشد العظم عشر رضعات فأغنى ذلك عن ذكرها هاهنا، روى ذلك: محمد بن يعقوب عن عدة من اصحابنا عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن معاوية بن وهب عن عبيد بن زرارة قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام انا اهل بيت كثير فربما كان الفرح والحزن يجتمع فيه الرجال والنساء فربما استحيت المرأة ان تكشف رأسها عند الرجل الذى بينها وبينه الرضاع وربما استحيا الرجل ان ينظر إلى ذلك فما الذي يحرم من الرضاع ؟ فقال: ما انبت اللحم والدم، فقلت: فما الذى ينبت اللحم والدم ؟ فقال: كان يقال عشر رضعات. قلت: فهل يحرم بعشر رضعات ؟ فقال: دع ذا وقال: ما يحرم من النسب فهو يحرم من الرضاع.
والذي اعتمده في هذا الباب وينبغي ان يكون العمل عليه الخبر الذي رواه: محمد بن أحمد بن يحيى عن احمد بن محمد عن الحسن ابن محبوب عن هشام بن سالم عن عمار بن موسى الساباطي عن جميل بن صالح عن زياد ابن سوقة قال: قلت لابي جعفر عليه السلام هل للرضاع حد يؤخذ به ؟ فقال: لا يحرم الرضاع اقل من رضاع يوم وليلة أو خمس عشرة رضعات متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد لم يفصل بينها رضعة امرأة غيرها، ولو ان امرأة ارضعت غلاما أو جارية عشر رضعات من لبن فحل واحد وارضعتها امراة اخرى من لبن فحل آخر عشر رضعات لم يحرم نكاحهما. (4)
فلو كان الشيخ قدس سره يرى صحة رواية عائشة لأفتى بأن خمس رضعات تنشر الحرمة، بل إن الشيخ لم يذكر رواية عائشة في هذا الباب أصلاً حتى من باب نقد الرواية !!!
إذا فيكون كلام الشيخ صريح في انه يتحدث عن مسئلة نسخ التلاوة من حيث الإمكان لا من حيث الوقوع، فيكون كلامه ككلام المحقق الحلي قدس سره الذي تقدم...
(1)أوائل المقالات ص 122
(2)معارج الأصول ص 170
(3)معارج الأصول ص 170
(4)تهذيب الأحكام ج 7 ص 312 |