بسم الله الرحمن الرحيم
ذهب (المجبِّرة) إلى القول بأنّ الله تعالى هو الفاعل لأفعال المخلوقين، فيكون قد أجبر الناس على فعل المعاصي، وهو مع ذلك يعذِّبهم عليها، وأجبرهم على فعل الطاعات ومع ذلك يثيبهم عليها، لأنهم يقولون : إنّ أفعالهم في الحقيقة أفعاله، وإنّما تنسب إليهم على سبيل التجوُّز، لأنّهم محلها، ومرجع ذلك إلى إنكار السببية الطبيعية بين الأشياء، وأنه تعالى هو السبب الحقيقي لا سبب سواه.
وقد أنكروا السببية الطبيعية بين الأشياء، إذ ظنّوا أنّ ذلك هو مقتضى كونه تعالى هو الخالق الذي لا شريك له.
ومن يقول بهذه المقالة فقد نسب الظلم إليه، تعالى عن ذلك.
وذهب (المفوِّضة) إلى القول بأنّه تعالى فوَّض الأفعال إلى المخلوقين، ورفع قدرته وقضاءه وتقديره عنها، باعتبار أنّ نسبة الأفعال إليه تعالى تستلزم نسبة النقص إليه، وأنّ للموجودات أسبابها الخاصة، وإن انتهت كلُّها إلى مسبِّب الأسباب والسبب الأول، وهو الله تعالى.
ومن يقول بهذه المقالة فقد أخرج الله تعالى من سلطانه، وأشرك غيره معه في الخلق.
أما الشيعة الاثنا عشرية فإنها تقول تبعاً لما جاء عن أئمتنا الأطهار (عليهم السلام) من الأمر بين الأمرين، والطريق الوسط بين القولين، الذي كان يعجز عن فهمه أمثال أولئك المجادلين من أهل الكلام، ففرّط منهم قوم وأفرط آخرون، ولم يكتشفه العلم والفلسفة إلاّ بعد عدة قرون.
وليس من الغريب ممّن لم يطّلع على حكمة الأئمة (عليهم السلام) وأقوالهم أن يحسب أن هذا القول (وهو الأمر بين أمرين) من مكتشفات بعض فلاسفة الغرب المتأخرين، وقد سبقه إليه أئمّتنا قبل عشرة قرون.
فقد قال إمامنا الصادق (عليه السلام) لبيان الطريق الوسط كلمته المشهورة : «لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين»(1).
ما أجلَّ هذا المغزى وما أدقّ معناه، وخلاصته: إنّ أفعالنا من جهة هي أفعالنا حقيقة ونحن أسبابها الطبيعية وهي تحت قدرتنا واختيارنا، ومن جهة أخرى هي مقدورة لله تعالى وداخلة في سلطانه لأنّه هو مفيض الوجود ومعطيه، فلم يجبرنا على أفعالنا حتى يكون قد ظلمنا في عقابنا على المعاصي لأنّ لنا القدرة والاختيار فيما نفعل، ولم يفوِّض إلينا خلق أفعالنا حتى يكون قد أخرجها عن سلطانه، بل له الخلق والحكم والأمر، وهو قادر على كل شيء ومحيط بالعباد.
وعلى كل حال، فعقيدتنا : أنّ القضاء والقدر سر من أسرار الله تعالى، فمن استطاع أن يفهمه على الوجه اللائق بلا إفراط ولا تفريط فذلك هو، وإلاّ فلا يجب عليه أن يتكلَّف فهمه والتدقيق فيه، لئلّا يضل وتفسد عليه عقيدته، لأنه من دقائق الأمور، بل من أدق مباحث الفلسفة التي لا يدركها إلاّ الأوحدي من الناس، ولذا زلَّت به أقدام كثير من المتكلّمين.
فالتكليف به تكليف بما هو فوق مستوى مقدور الرجل العادي، ويكفي أن يعتقد به الإنسان على الإجمال إتّباعاً لقول الأئمة الأطهار (عليهم السلام) من أنّه أمر بين أمرين، ليس فيه جبر ولا تفويض.
وليس هو من الأصول الأعتقادية حتى يجب تحصيل الاعتقاد به على كل حال على نحو التفصيل والتدقيق.
_______
(1) الكافي 1/160، الاحتجاج 2/490، التوحيد: 326.
|