من المسلم لدى جميع علماء المسلمين: أن الرسول هو الذي بذر التشيع لعلي (عليه السلام) وكان حريصاً على نمو تلك البذرة. ففي كثير من مواقفه ولمناسبات كثيرة كان يلمح تارة ويصرح أخرى بما لعلي (عليه السلام) من المكانة الرفيعة والمواقف التي ساعدت في بناء هذا الدين وتركيز دعائمه. ولم يزل على ذلك حتى لفظ نفسه الأخير. وقد سمى أولياءه بالشيعة ووعدهم بحسن المصير يوم القيامة، كما جاء في كثير من الأحاديث.
ففي ربيع الأبرار عن النبي (صلى الله عليه اله) أنه قال: (يا علي إذا كان يوم القيامة أخذت بحجزة اللّه وأخذت أنت بحجزتي وأخذ ولدك بحجزتك, وأخذ شيعة ولدك بحجزتهم، فترى أين يؤمر؟)
وقال ابن حجر: (اخرج الطبراني عن علي (عليه السلام) إن خليلي رسول اللّه قال: يا علي إنك ستقدم على اللّه وشيعتك راضين مرضيين ويقدم عليه اعداؤك غضاباً مقمحين) وجاء في تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية), إن النبي قال لعلي (عليه السلام) : هم أنت وشيعتك.
وبمضمون ذلك روايات كثيرة تتضمن مدح الشيعة والثناء عليهم نقلها أهل الحديث عن الرسول منذ قام يدعو الناس إلى الإسلام. ومن مجموع ذلك تبين أن تسمية الموالين لعلي (عليه السلام) وبنيه بالشيعة كان في أيام الرسول وورد على لسانه، ولا شك بأن لأحاديث الرسول فيه وفي شيعته أثره البالغ في تعلق فئة كبيرة من المسلمين بعلي (عليه السلام) وإيمانها بحقه في الخلافة الإسلامية.
ففي خطط الشام قال: عرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة علي في عصر رسول اللّه (صلى الله عليه واله)، مثل سلمان الفارسي القائل: بايعنا رسول اللّه على النصح للمسلمين والإئتمام بعلي بن أبي طالب والموالاة له، ومثل أبي سعيد الخدري الذي قال: أمر الناس بخمس فعملوا بأربع وتركوا واحدة. ولما سئل عن الأربع قال: الصلاة والزكاة وصوم رمضان والحج. قيل له فما الواحدة؟ قال:
ولاية علي بن أبي طالب. قيل له وأنها المفروضة معهن؟ قال: نعم هي مفروضة معهن؟ ومثل أبي ذر وعمار بن ياسر وحذيفة اليماني وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت وأبي أيوب الأنصاري.
وقد أدرك هذه الحقيقة جماعة من الكتاب العرب وغيرهم من المستشرقين، وأنكروا على من قال بأن التشيع نشأ من تأثير مذاهب الفرس في الإسلام، وانه لم يكن قبل الفتح الإسلامي.
قال المستشرق (فلهوزن) في بحثه عن التشيع: إن حركة التشيع نشأت على تربة عربية خالصة ولم تنتشر بين غير الساميين إلاّ بعد ظهور المختار.
وقال: (جولد تشهير) فيما كتبه عن الشيعة، في جملة فصوله من كتابه المترجم إلى العربية: إن من الحقائق الأولية أن مسألة الخلافة قسّمت المسلمين إلى فرقتين: أهل السنة والشيعة. وكان لأهل البيت فريق يعترف سراً بحقوقهم حتّى في عهد الخلفاء الثلاثة الأولين، ولكن هذا الفريق لم يكن يجاهر بالخصام، وبعد عصر هؤلاء الخلفاء صار يعارض كل من حكم من غير أبناء علي.
ولقد انتهى الكاتب في بحثه عن تاريخ التشيع إلى حقيقة لا بد للباحث المجرد أن ينتهي إليها، ولولا الخلافة الإسلامية لم يكن هذا الصراع بين المسلمين منذ اليوم الأول لوفاة الرسول حتّى اليوم. وإن كنا لا نوافقه في رأيه بأن المؤمنين بحق علي لم يجاهروا بذلك. إن هؤلاء وقفوا إلى جانب علي، ولم يبايعوا أحداً إلاّ بعد أن بايع علي (عليه السلام)، حرصاً منه على مصحلة الإسلام العليا. وكانوا يجاهرون برأيهم في كل مناسبة تدعو لذلك. ووقفوا من الخلفاء موقف الناقد لتصرفاتهم كلما لمسوا منهم ضعفاً أو استئثاراً بحقوق الآخرين. وقد وقف أبو ذر وعمار بن ياسر وغيرهما من زعماء الشيعة البارزين موقف المعارض لسياسة عثمان بن عفان وسيرته بعد أن نهج على غير الخطة التي رسمها الرسول لنفسه وللولاة من بعده، ووقف إلى جانبهم بعض الوجوه من صحابة الرسول، واتسعت حركة المعارضة حتّى شملت العواصم الإسلامية الكبرى وأخيراً لقي مصيره الذي رسمه له الموجهون لسياسته على يد الثائرين من مختلف البلاد.
فالتشيع في جميع أدواره لم يختلف فيما تعنيه هذه الكلمة، وإنما الشيء الذي برز فيه هو الموقف السلبي الذي وقفه الشيعة من الدولتين الأموية والعباسية، لخروجهما عن النهج الذي رسمه الإسلام للحاكم واستبدادهما بالأمة ومقدّراتها، وحملهم الناس على الخضوع والاعتراف لهم بالملكية المطلقة. ولو كانت سيرة أبي بكر وعمر كسيرة غيرهما من الأمويين والعباسيين، لوقف الشيعة منهما عين الموقف الذي وقفوه مع الأمويين غير مهادنين ولا مسالمين، مهما كانت النتيجة، لأن الحكم عندهم وسيلة لإحقاق الحق وتطبيق العدالة والمساواة بين أفراد الأمة وإن اختلفت العناصر وتباينت الألوان.
فما ذكره بعض الكتاب من أن المعنى المصطلح عليه في التشيع، وهو الفرقة المتميزة بعقائدها وعاداتها الخاصة، المعروفة عند الفقهاء والمتكلمين ومؤرخي الفرق وغير ذلك مما يقصدون من كلمة التشيع، هذا المعنى للتشيع لم يكن له في عهد الامام عين ولا أثر، وإنما كان للإمام في عهده أنصار وأتباع وكانت كثرة المسلمين كلها أنصاراً له وإتباعاً.
وينتهي الكاتب في بحثه عن التشيع في العصور المتأخرة عن عصر الامام علي (عليه السلام) إلى: أن فرقة التشيع بالمعنى المعروف نشأت وتكونت وأصبحت حزباً سياسياً منظماً لعلي وبنيه بعد أن وقع الصلح بين الحسن (عليه السلام) ومعاوية على شروط، لم يف له بشيء منها.
ولكن الباحث الخبير والمتتبع لسير الحوادث، التي رافقت النزاع على الخلافة وموقف رجال الشيعة من السقيفة ونتائجها، لا بد وأن ينتهي إلى ما ذكرناه، من أن التشيع منذ يومه الأول لم يختلف عن بقية الأيام التي أعقبت مولده، وهو في جميع أدواره بمعنى واحد. وإنما الذي حدث إن الشيعة، بدءوا في عهد معاوية، حينما سلك في سيرته وسياسته غير ما ألفوه في عهد من تقدم عليه، ينظمون صفوفهم ويهاجمون الحكام لأنهم أمعنوا في الجور والظلم والعدوان، باسم الخلافة الإسلامية وتحت شعارات الدين. لذا فقد أعلن أئمة الشيعة وشيعتهم موقفهم تجاه معاوية ومن جاء من بعده من ملوك الأسرة الأموية، تمشياً مع المبدأ الذي رسمه الإسلام والقرآن، ليسير على نهجه كل من يتولى أمر الأمة: وهذا لا يعني أن التشيع من عهد الرسول إلى زمن معاوية يختلف عن معناه في عصر الأمويين وغيره من العصور.
نعم الشيء الذي برز في خلافة علي (عليه السلام) وبعدها هو انتشار التشيع واتساعه بشكل لم يعهد قبل ذلك لأسباب، يمكن أن يكون أهمها جور معاوية واستئثاره بمقدّرات الأمة بعد عدل علي (عليه السلام) وإيثاره لأضعف الناس على نفسه. لاسيما وان البقية الصالحة من صحابة الرسول كانت إلى جانب علي (عليه السلام) في أيام خلافته، وكانت تعرف له حقه في الخلافة وتعمل من أجل إشاعة ذلك وانتشاره بين المسلمين، حتّى إن عليّاً نفسه كان حريصاً على إشاعة أحاديث استخلاف الرسول له بين صفوف المسلمين. وفي جملة من خطبه التي كان يلقيها في المسجد الأعظم أو غيره على الجماهير المحتشدة حوله، كان يصرح بحقه في الخلافة منذ وفاة الرسول الأعظم (صلى الله عليه اله). وقد استنطق في بعض مواقفه جماعة من الصحابة الذين حضروا بيعة الغدير ليقولوا ما سمعوه من الرسول بشأن استخلافه، فقام جماعة، منهم البدري وغيره، وألقوا على مسامع ذلك الحشد حديث الخلافة، كما سمعوه من الرسول في غدير خم وغيره من المواقف.
وقد حصل نتيجة لذلك ولجور الأمويين وطغيانهم أن اتسعت الجبهة التي تعارض الأمويين وكان لها صبغة التشيع في الغالب، لأن زعماءها كانوا من الشيعة المؤمنين بحق أهل البيت، والتف حولهم الناقمون على سياسة الأمويين. بعد التجربة المريرة التي مروا بها أيام معاوية وولده المستهتر بمقدسات الإسلام وكرامة الملايين من المسلمين. فمن الطبيعي إذن أن يرى المسلمون في ولاية أهل البيت امتداداً لولاية علي (عليه السلام) بعد أن ذاقوا الأمرّين من معاوية وولاته.
ولولا أنّ الحسن (عليه السلام) قد التزم جانب الحكمة والتريث ورفض جميع المحاولات التي قام بها الشيعة لإقناعه بإعلان العصيان والثورة على معاوية، لوقعت سلسلة من المجازر في جميع البلاد الإسلامية، بين الشيعة ومن التف حولهم من الناقمين، لجور الأمويين من جهة، وبين أنصار معاوية من جهة أخرى، وكانت المؤتمرات تعقد في الكوفة وغيرها من مدن العراق للدعاية لأهل البيت، والوفود بين آونة وأخرى تفد على الحسن والحسين لإعلامهما بتكتل مختلف الطبقات من الشعب، والنقمة العارمة على معاوية وولاته. ونتيجة لتلك المؤتمرات التي كانت تعقد لهذه الغاية توسل أهل الكوفة بزعيمين من زعماء الشيعة وهما قيس بن سعد الأنصاري وسليمان بن صرد الخزاعي لإقناع الحسن (عليه السلام) بالرجوع عن مهادنة معاوية بعد أن تبين للعالم الإسلامي أنّ معاوية لم يف له بشيء مما عاهد اللّه عليه. ومع أن هذين من خلص أعيان الشيعة وذوي المكانة بين المسلمين لم يستجب الحسن (عليه السلام) لرأيهما، وأمرهما بالصبر والتريث حقنا للدماء وحرصا على مصلحة الإسلام العليا.
وكما وأنه من الثابت أنّ البعض من الانتهازيين، الذين كانوا يعلنون العصيان في الكوفة وغيرها من مدن العراق، كانوا يستغلون صبغة التشيع لحركتهم الثورية، لاستجلاب عطف الجماهير الشعبية والحصول على تأييدها لمقاومة الحكام الأمويين، لأنهم كانوا أكثر الفرق في العراق، وكانوا ينضمون إلى كل ثائر في وجه الظلم والطغيان، ولو لم يكن بواقعه يتشيع لعلي وبنيه. وليس أدل على ذلك من وقوفهم بجانب عبد الرحمن بن محمّد الأشعث، بعد أن سمى نفسه بناصر المؤمنين وتأييدهم له في ثورته على الأمويين.
كما وان ثورة الخراساني، أبي مسلم، قامت على سواعدهم، لأنه ظهر فيها بمظهر الدعوة لأهل البيت والتظلم لما لحقهم من الأذى والقتل والتشريد، متخذاً هذا الشعار ستاراً لنجاح دعوته.
ومهما يكن الحال فالتاريخ مليء بالشواهد على أن التشيع لا يختلف فيما تعنيه هذه الكلمة، في جميع الأدوار والمراحل التي مر بها. فما ذكره بعض الكتّاب من أن التشيع بمعناه المعروف عن أهل الفرق والذي أصبح مذهبا وعقيدة بالمعنى المعروف عند الفقهاء والمتكلمين، هذا المعنى للتشيع قد حدث بعد عصر الامام علي (عليه السلام)، هذه الدعوى لا تؤيدها الوقائع التاريخية، لأن المعروفين بالتشيع لعلي (عليه السلام) من أعيان الصحابة في عهد الرسول وبعد وفاته لا يختلفون عن غيرهم ممن تأخر عنهم في مفهوم التشيع بما له من المعنى المعروف عند الفقهاء والمتكلمين في العصور المتأخرة عن عصر الرسول والصحابة. |