هذه لمحة عن آيات التشريع الإسلامي، التي ورد ذكرها في القرآن الكريم. وليس بوسعنا أن نستقصي جميع ما شرّعه الإسلام. ولكننا أردنا بذلك أن نلّمح إلى بعض الآيات الكريمة، تمهيدا لما نحن بصدده من تاريخ التشريع الإسلامي ومدى مساهمة التشيع فيه.
والذي لا بد من الإشارة إليه هو أن التشريع قد انتهى بموت الرسول (صلى الله عليه واله) ولم يكن للمسلمين بعد وفاته أن يشرعوا من قبل أنفسهم. كما وانه لم يكن للاجتهاد مجال في عهد الرسول. ففي عاصمة الإسلام كان المسلمون يأخذون أحكامهم منه مباشرة، وأما في خارجها فقد كان (عليه السلام) يرسل الصفوة من أصحابه لتعليم الأحكام، والقضاء بين الناس فيما يختلفون فيه. ولقد وجه اهتمامه لتركيز دعوته وغرس مبادئ الإسلام في النفوس بالحكمة والموعظة الحسنة، معتمدا على إيمانه وإخلاصه لتلك الدعوة مهما كلفته من متاعب وآلام، لذلك فقد قاسى وتحمل من قومه ما لم يتحمله نبي من قبله، وبعد أن تهيأ له من الأنصار والأعوان ما يكفيه لان ينتقم بهم لنفسه وللمعذبين، لم يفكر في ذلك، لولا أن اللّه سبحانه أمره بقتالهم ورد عدوانهم.
وفي جميع المراحل التي مر بها قبل هجرته وبعدها، لم ينقطع عنه الوحي حتى في أيام حروبه مع المنافقين والمشركين، إلى أن أكمل اللّه دينه وبلغه الرسول (صلى الله عليه واله) للحاضر والغائب وكانت للّه بذلك الحجة البالغة على خلقه ((ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة)). ولم يرحل إلى جوار ربه إلاّ بعد ا ن عبّد لهم الطريق وسهّل لهم السبيل، فأقام عليّا (عليه السلام) من بعده إماما وهاديا بأمر من اللّه رب العالمين، حتّى لا تكون أمورهم فوضى تتقاذفهم الأهواء والميول وأرشدهم القرآن إليه بقوله:
(إنما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) حيث لم تكن هذه الصفات لغيره وهو وحده الذي تصدق في صلاته.
ومن إشارة النبي إليه بالخلافة، منذ أن بُعث نبيا، حتّى كانت حجة الوداع. وكان موقفه الذي لا يختلف فيه اثنان من المسلمين حينما خطب في ذلك الحشد الذي رافقه بعد أداء فريضة الحج، مصرّحا بخلافة علي، بالأسلوب المتبع يوم ذاك، الذي فهمه المسلمون ولم يترددوا في المقصود منه.
فمن جميع ذلك وتلميحاته وإشاراته (التي لا يخلو منها موقف من مواقفه الكريمةّ) آمن الكثير بحق علي في الخلافة. وإذا أضفنا إلى ذلك ما ورد على لسان الرسول في مدحه والثناء على شيعته، وما كان يحيطه به من عناية وإشادة ببطولاته وخدماته في سبيل هذا الدين، يتبين لنا أن فكرة التشيع التي برزت في عهد الرسول قد غذّاها الرسول نفسه بالقول والعمل في كثير من المناسبات، حتّى احتلت مركزها الأسمى في نفوس الكثير منهم. وأصبحوا يرون عليّا أبناءه الطاهرين دعامة للحق وترجمانا للكتاب، ومرجعا لهم في أمور الدين والدنيا. كما كان أكثرهم يراه صاحب الحق الشرعي في الخلافة، حتّى هو نفسه كان مطمئنا لحقه فيها.
ولما فوجئ بنبأ السقيفة استغرب أن يستغل جماعة من الصحابة انصرافه إلى تجهيز الرسول، بعد أن لحق بالرفيق الأعلى، وأن يتنكروا لما سمعوه منه ولمسوه من حرصه على استخلافه من بعده.
فولاء أهل البيت والتشيع لهم ولد بعد مولد الإسلام بقليل ونما بنمو الإسلام وتركز في النفوس، حتّى أصبح عقيدة يوم كانت بيعة الغدير حيث استجاب الرسول (صلى الله عليه واله) لنداء ربه: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته واللّه يعصمك من الناس).
وفي الآية إشارة إلى أن قوما من ذوي الأطماع، كانوا يعملون جهدهم لإقصاء علي عن حقه ويعارضون فكرة الخلافة، وكان الرسول يعرفهم بأسمائهم ويتخوف خلافهم عليه وكيدهم للإسلام، لو عقد له البيعة العامة في أيام الموسم لينتشر نبأها في أنحاء الجزيرة بين الملايين من المسلمين. ولما نزلت الآية لم يرَ بدا من موقفه الذي وقفه، ليؤدي إلى الملأ الذي احتشد حوله رسالة السماء.
وكما أشرنا فيما مضى أن أهل الأطماع تكتلوا لإقصائه عن حقه، حتّى كانت الفرصة المؤاتية، وكانت السقيفة، التي اجتمع فيها الأنصار حول زعيمهم سعد بن عبادة الأنصاري، للمطالبة بحقهم في الخلافة. وليس من البعيد أن تكون هذه الوثبة من الأنصار لإضعاف جانب المهاجرين بعد أن لمسوا منهم أنهم يعملون لإقصاء علي عن الخلافة.
ونتيجة لذلك كان الحزب الثالث الذي شكله الأنصار، فكانت الحجة للمهاجرين على الأنصار، ما جاء على لسان عمر بن الخطاب: من ذا ينازعنا سلطان محمّد (صلى الله عليه واله) وإمارته، ونحن أولياؤه وعشيرته، إلاّ مدل بباطل أو متجانف لأثم أو متورط في هلكة، فكان لهذه الكلمات أثر بالغ في نفوس البعض من المسلمين. و بها استعان المهاجرون على انتزاع الخلافة من أيدي الأنصار، ونادى بها من الأنصار بشير بن سعد، بدافع الحسد لأبن عمه سعد، مرشح الأنصار الأول. ولكي يضعّف جانبه انشق عن قومه ونادى: ألا أن محمّدا أيها الناس ـ من قريش، وان قومه أحق به وأولى، وأيم اللّه لا يراني اللّه أنازعهم هذا الأمر أبدا.
ولمّا أنكر عليه الحباب قوله متهما إياه بالحسد قال: لا واللّه ولكني كرهت أن أُنازع قوما حقا جعله اللّه فيهم، فكان لهذا الانقسام بين زعماء الأنصار أثره البالغ، في إضعاف جبهتهم وقوة الجبهة الثانية، التي تنادي بأحقية المهاجرين، لأن قوم محمّد أولى بميراثه. كما كانت هذه الحجة هي السلاح للمتحمسين من المهاجرين، لمصلحة علي (عليه السلام). وقالوا أن الخلافة لو كانت بالقرابة كما يدعون، لم يكن لهم فيها من نصيب، لان بني هاشم وعلى رأسهم علي (عليه السلام) أقرب الناس من الرسول وأولاهم بميراثه.
ولكن المهاجرين لم يجدوا سلاحا يقاومون به الأنصار، الذين جاهدوا في سبيل هذه الدعوة المباركة، إلاّ هذا النوع من التهويش الذي أثر على بعض السذّج والبسطاء من ضعاف النفوس.
أما العارفون وأصحاب البصائر النافذة النيرة من المهاجرين والأنصار، حتّى الذين تسلحوا بهذا المنطق أنفسهم، يعلمون انه لا يمت للواقع بأية صلة، لان الإسلام ألغى جميع الامتيازات وجعل الميزان الوحيد هو العمل الطيب وخدمة الإسلام، ولم تغب عن أذهانهم مواقف الرسول (صلى الله عليه واله) ونصوصه، منذ أن بدأ دعوته حتّى يومه الأخير، ومع انه سلاح مفلول الحد فقد خدمهم في حينه، واستطاعوا التهويش به وتضليل بعض الفئات من الناس.
أما شيعة علي (عليه السلام) فقد آثروا التريث بالأمر والاعتصام بالصبر ما دام صاحبهم الذي بايعوه بالأمس ـ منصرفا بكليته عن دنياهم ومشغولا حتّى عن نفسه، لمصابه الأليم بفقد الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله). ولما أُودع الرسول في مقره وقف يطالب بحقه في الخلافة ومعه عدد ليس بالقليل من أعيانهم وذوي السابقة فيهم. ولم ير بدا من الاحتجاج عليهم بالحجة التي تغلبوا فيها على الأنصار فقال: ((تركتم الثمرة وتعلقتم بالشجرة)).
ولما لجأوا إلى الإجماع الذي أعدوه ـ نقض عليهم بتخلف جماعة من المسلمين عن السقيفة لا يجوز أن تحل عقدة أو تبرم أخرى بدون أن يكون لهم رأي فيها.
فحجة القرابة كانت لمصلحته والاجتماع لم تستكمل عناصره ليكون في جانبهم، وأحاديث الرسول لا يزال صداها يرن في أعماق نفوسهم، ولكن حسد قريش لهاشم ولعبد المطلب، وريثه الأول في زعامته، ولمحمد (صلى الله عليه واله) الذي حملهم على الإسلام ولعلي (عليه السلام) الذي بان سموه بين الناس في علمه وشجاعته وخدماته في سبيل تثبيت دعائم الدين، كل ذلك كان له ابلغ الأثر في وقوفهم هذا الموقف من استخلافه، فاحتشدوا حول منافسة صفوفا متراصة، حتّى تم لهم الانتصار وانتزعوا الخلافة منه انتزاعا.
وكانت الجماعة المحيطة بعلي من صحابة الرسول، من خيرة صحبه وأقربهم إلى نفسه وأحبهم إلى قلبه الكبير ـ كانوا أشرف المسلمين قلوبا وأرواحا وأولهم سابقة لدين اللّه، كسلمان الفارسي وأبي ذر و البراء بن عازب وحذيفة اليماني وعبادة بن الصامت وأبي الهيثم، وأمثالهم كثيرون لم يحضروا بيعة السقيفة، ولو حضروها لما ألقوا قيادهم لشيخ تميم، ولم يمسحوا بأكفهم على يده، لأنهم كانوا يعلمون تمام العلم أي الناس أحق بهذا الأمر، وأولى بأن تمسح أكفهم على يده ويلقوا زمامهم إليه طائعين. فاجتمعوا ومعهم الكثرة من المهاجرين والأنصار في جوف الليل يدبرون ويتشاورون. وانطلقوا من مكمنهم بعد أن انتهى بهم التفكير إلى إعادة الأمر للمهاجرين والأنصار، ليختاروا من هو جدير بولاية أمر الأمة.
ولما تطاير نبأ هذا التذمر من هذا الحادث المفاجئ استجاب له الكثيرون ممن بايعوا لأبي بكر وأدركوا أن الإنصاف كان يحتّم عليه التريث في الأمر، حتّى تتم مواراة جثمان الرسول (صلى الله عليه واله).
وكان عليهم أن يلتزموا جانب التدبر والحكمة قبل الإقدام على ما أقدموا عليه، وأن يستجيبوا لما يحيط بالإسلام من أخطار على يد عصابة المرتدين وأنصار الكذبة من المتنبئين، لو وقع بينهم وبين الأنصار قتال على الخلافة. كل ذلك لم يفكروا فيه ولم يفكروا حتّى بالرسول وجثمانه لا يزال في بيته. وقد نسي عمر بن الخطاب نفسه قبل ساعة، وهو كالمدهوش، حينما سمع نبأ وفاة الرسول (صلى الله عليه واله) يقول: إن محمدا لم يمت وسيرجع ليقطع أيدي أناس وأرجلهم، وبقي ساعة يهدد بهذه الكلمات حتّى تلا عليه بعض المسلمين: (إنك ميت وإنهم ميتون). كل ذلك لم يفكروا فيه ولم ينظروا إلى الأحداث المنتظرة ممن دخلوا في الإسلام ولما يستحكم في نفوسهم، لا سيما إذا استحكم الخلاف بين صحابة الرسول على الخلافة.
ولكن عليّا (عليه السلام) الحريص على رسالة الإسلام ومقدساته، يرى أن مصلحة الإسلام قبل كل شيء. وإذا كان يطالب بحقه الشرعي فذاك لكي يعمل على بث الدين ونشر تعاليمه وتطبيق مبادئه وغرسها في النفوس، والخلافة لا تساوي في حسابه شيئا إذا لم تؤد إلى هذه الغاية.
ولقد قال لابن عمه عبد اللّه بن عباس، وهو يخصف نعله: إن إمرتكم لأهون من هذه النعل إلاّ أن أحق حقا وأبطل باطلا.
وبعد أن توالت الأحداث وانتشرت دعوة المرتدين والمتنبئين، والدين جديد لم يكن له تلك القداسة عند الكثير من الإعراب وسكان البادية، لاسيما وقد بلغهم ما حدث من نزاع على الخلافة في حاضرة الإسلام بين المهاجرين والأنصار والهاشميين، مما أدى إلى نشاط حركة الردة عند بعض القبائل العربية. لهذه الأخطار التي أحدقت بالإسلام، وهو لا يزال في فجره الأول، آثر علي (عليه السلام) أن يتغاضى عن حقه، ويعمل معهم صفا واحدا لدفع تلك الأخطار المخيفة، بعد أن صارح القوم بما في نفسه بلا مواربة ولا إخفاء، فقال مخاطبا لأبي بكر: لم يمنعنا عن بيعتك أنا ننافسك على خير ساقه اللّه إليك، ولكنا نرى أن هذا الأمر هو حقنا، وقد استبددتم به علينا، وقال في موقف آخر: (أما واللّه لقد تقمصها ابن أبي قحافة، وانه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى). ولقد صارح أبا بكر بذلك ليكشف له وللملأ من حوله أنه إن طالب بحقه فذاك لمصلحة الإسلام وإن تغاضى فلمصلحة الإسلام أيضا وعليهم أن يتحملوا مسؤولية ذلك عند اللّه سبحانه.
لقد مضى معهم حيطة منه على الإسلام وانصرف عن دنيا الخلافة يشرح لهم غوامض الإسلام ويحل مشكلاته ويرسي قواعده في نفوسهم. وقد غاب بانيه بالأمس، وأحكامه ومبادئه لم تزل بعيدة عن أذهان الكثير منهم. وبعد أن وجدوا فيه وهو سليل الهاشميين وتلميذ الرسول الأعظم مشعلا من ذلك النور وتراث الإسلام الروحي كاملا في شخصه الكريم، التفوا حوله يضيء لهم أنحاء حياتهم الروحية والمدنية ويحل لهم مشاكلهم كلما تشعبت أو أصابها تعقيد وألقى على التشريع الإسلامي وجميع مشاكل الحياة وأصول القضاء أضواء لامعة حتى قال فيه عمر بن الخطاب: ((لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن)). |