لقد ظهر من الآيات التي شرعت الزواج ونظمت علاقة كل من الزوجين بالأخر، وأشادت بما لتلك العلاقة من فعالية في بناء المجتمع وسعادة الإنسان، أن الإسلام يرى أن الزواج هو مادة الوجود، والسبيل الوحيد لعمران الكون لأنه ليس من مختصات الإنسان. قال سبحانه: (ومن كل شيء جعلنا زوجين لعلكم تذكرون).
لذا فقد أوصى في بنائه على أساس الرضا من الطرفين والاختيار الكامل، فلكل منهما أن يبحث عن شريكه، فإذا وجد الدين والخلق الجميل فقد وجد الخير كله، وكانا على بصيرة من أمرهما واطمئنان لمستقبلهما، حتّى إذا ما تم الزواج دعاهما الإسلام إلى حفظ هذا البناء الجديد وصيانته، وأرشدهما إلى ما يقويه ويدعم أركانه ويشد أواصره، وجعل لكل منهما من الحقوق والواجبات ما يقوي أواصر تلك العلقة فقال للرجال: (خيركم عند اللّه خيركم لأهله)، وللنساء: (إن رضا الزوج من رضا اللّه) ودعاهم إلى الرفق واللطف والبشاشة وإلى كل ما يثبت محبة كل منهما في قلب الآخر، وفي الحديث: (ان الرجل إذا وضع اللقمة في فم زوجته كان له اجر ذلك عند اللّه). والإسلام مع حرصه الأكيد على تدعيم هذا البناء وتذليل الصعوبات التي قد تعترض سعادة الزوجين وهناءهما لا يخفي ما فيه تبعات وأعباء جسام، لا بد وأن يتحملها الزوج في سبيل الغرض الأسمى من الزواج، فيقول الرسول في معرض التأكيد والحث على إكرامها والتغاضي عن هفواتها: (المرأة خلقت من ضلع أعوج فان ذهبت تقيمه كسرته) ويقول اللّه سبحانه: (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل اللّه فيه خيرا كثيرا).
ومع كل هذه العناية والحيطة التي اتخذها الإسلام لاستقرار الحياة الزوجية وازدهارها، فقد جاء الإسلام بعلاج تأديبي للمرأة أن بدا منها نشوزا أو تمرد عليه مع قيامه برعايتها والإحسان إليها وأباح له أن يقف منها موقف المربي الحكيم كي ترجع إلى صوابها، فإن لم يغنه التوجيه والإرشاد رخص له الإسلام في ضربها بقدر الحاجة، فإن أطاعت واستقامت سيرتها معه، عاد إلى حسن صنيعه بها.
قال سبحانه: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا). .
لقد تعرضت هذا الآية للعلاج الذي ينبغي استعماله مع الزوجة إذا بدا منها تقصير بواجبها وتمرد على زوجها مع قيامه بالمفروض عليه من حقها. وليست المراتب الثلاثة التي نصت عليها الآية، إلا لإرجاعها إلى الطريق القويم الذي كانت عليه أولا، فإن رجعت بالموعظة ليس له أن يعالج نشوزها بالهجر أو الضرب، حتّى إذا لم تغنه عظتها سلك الطريق الثاني. هكذا حين تعود حياتهما إلى سابق عهدها من الهدوء والاستقرار. وكما أرشد القرآن الكريم إلى العلاج الذي ينبغي للزوج أن يستعمله مع زوجته أرشدنا أيضا إلى ما يجب على الزوجة أن تقوم به إذا بدا من الزوج نشوزا أو ظهر لها فتور في مودته، فعليها في مثل هذه الحالة أن تحاول إصلاحه وإرجاعه إلى سابق عهده معها، بما أوتيت من لطف وكياسة وتتغاضى عن شيء من حقوقها، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وان تحسنوا وتتقوا فإن اللّه كان بما تعملون خبيرا).
كما جاء في تفسيرها عن جماعة من الصحابة والتابعين، أما إذا لم تجد هذه المحاولات مع كل من الزوجين وبقيا على خلافهما ونفورهما، فليس لأحدهما أن يتعدى، ما رسمه القرآن، باستعمال الأساليب التي قد تؤدي إلى اليأس من عودة الحياة الزوجية إلى سابق عهدها الزاهر، بل يعود الأمر في هذا الحال إلى أولياء الزوجين ليعالجا ما حصل بينهما من خلاف وشقاق، وعلى ذلك تنص الآية الكريمة: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها أن يريدا إصلاحا يوفق اللّه بينهم إن اللّه كان عليما خبيرا).
ولا بد في الحكمين أن يكونا صالحين بعيدين عن الهوى والغرض ليعملا بإخلاص وتجرد، في العودة بالحياة الزوجية إلى ما كانت عليه، وقد جاء في تفسيرها عن ابن عباس رحمه اللّه أن اللّه أمر أن يبعثوا رجلا صالحا من أهله ورجلا صالحا من أهلها فينظران أيهما المسيء. فان كان الرجل المسيء حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة، وإن كانت المرأة قصروها على زوجها ومنعوها النفقة. وليس للحكمين صلاحية الطلاق إلاّ أن يكونا وكيلين في إيقاعه لو فشلا في التوفيق بينهما. لقد أوصت الآيات الكريمة بعلاج مشاكل الزوجين بهذا النحو الذي ذكرناه، حتّى لا تكون جحيما يسوقهما إلى الطلاق لأقل سبب يحدث بينهما، أما إذا فشلت جميع المحاولات وأخفقت جميع المساعي التي بذلها الزوجان والحكمان وكانت حياتهما لا محالة جحيما، تجر من ورائها أنواعا من الجرائم والمفاسد على البيت والأسرة، كان ولا بد في مثل ذلك أن يضع الإسلام علاجا آخر لإنقاذها من ذلك البيت المظلم، ولا شيء أجدى من تلك المرحلة الأخيرة التي هي من أبغض أنواع الحلال إلى اللّه سبحانه: (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)، (وان يتفرقا يغن اللّه كلا من سعته وكان اللّه واسعا حكيما) في هذه المرحلة الحاسمة من حياة الزوجين شرع الإسلام الطلاق، حيث لا علاج غيره، تخلصا مما يحيط بهما من أخطار قد تؤدي بحياة الأسرة بكاملها، لو بقي الزوجان في بيت قد انحرف صاحباه عن إنسانيتهما السامية التي حددتها الآية الكريمة من سورة الروم:
(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة).
ومع أن هذا التشريع من ضرورات المجتمع، إذا كانت حياة الزوجين على هذا النحو، فقد فسح الإسلام لهما المجال للتراجع عنه، لأنه لم يقره على كل حال في جميع الحالات بل أباحه بشروط قد يتعسر اجتماعها أحيانا، فلا يقع في حالة الحيض وفي الطهر الذي واقعها فيه، وبعد وجود هذين الشرطين لا يقع إلاّ بمحضر اثنين من عدول المسلمين. وقد لا يتيسر للزوج في كثير من الأحيان اجتماع الشروط الثلاثة ليصح منه الطلاق فلا بد من تأخيره وقد يترتب على ذلك رجوع الزوج عن عزمه وعودة الصفاء بين الزوجين إلى ما كان عليه.
أما إذا وقع الطلاق وشهد على وقوعه العدلان، فليس للزوجة أن تتزوج من غير الزوج الأول إلاّ بعد ثلاثة أشهر من تاريخ الطلاق، وعليها أن تبقى في البيت الذي كانت فيه قبل الطلاق وعلى المطلق أن يقوم بكل ما تحتاج إليه الزوجة في ضمن هذه المدة، وله أن يرجع عن طلاقها قبل مضي الأشهر الثلاثة، إما بعد مضيها فليس له أن يرجع إليها إلاّ بعقد جديد. وقد أشارت الآية الكريمة إلى جملة من أحكام هذا النوع من الطلاق. قال سبحانه: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا اللّه ربكم، لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن إلاّ أن يأتين بفاحشة مبينة. وتلك حدود اللّه، ومن يتعد حدود اللّه فقد ظلم نفسه. لا تدري لعل اللّه يحدث بعد ذلك أمرا. فإذا بلغن اجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم).
وقد بين القرآن الكريم أحكام المطلّقة في جملة من آياته. قال سبحانه: (والمطلّقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهن إن كن يؤمَّن باللّه واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن), فقد حددت الآية مقدار الزمان الذي تعتد فيه المرأة إذا كانت ممن تأتيها عادة النساء، ولا يحل بها الزواج بغيره إلاّ بعد مضي ثلاثة قروء من تاريخ الطلاق. والقرء من الألفاظ التي يستعمل في الحيض وفي الطهر، وأيهما أُريد منه فالمطلقة تبقى بحكم الزوجة ما دامت في عدتها، وعليها أن تبقى في البيت الذي كانت فيه قبل الطلاق وليس لها الاختيار إذا أراد مراجعتها، وعليه أن يقوم بالإنفاق عليها في ضمن هذه المدة. وفي الآية دلالة على أنه لا يسوغ لهن أن يكتمن ما في أرحامهن من الحمل أو الحيض لتمنعه عن الرجوع بالطلاق، لأنها ما دامت في الحمل فهي في عدته، وله الرجوع في طلاقها قبل الحيضة الثالثة.
وأما إذا كانت المرأة حاملا حين طلاقها فعدتها لا تنتهي إلاّ بوضع الحمل وإلى ذلك تشير الآية: (وأولات الأحمال اجلهن أن يضعن حملهن) وعليه أن ينفق عليها حتّى تضع حملها، وإذا كانت مرضعة فليس عليها أن ترضع ولدها بدون عوض، لان نفقة الولد لا تجب عليها مع وجود وليه.
قال سبحانه: (وإن كن اولات حمل فانفقوا عليهن حتّى يضعن حملهن فان ارضعن لكم فآتوهن أجورهن وائتمروا بينكم بمعروف وان تعاسرتم فسترضع له أخرى), وقد فرض الإسلام على الزوج أن يرفق بزوجته المطلقة ويعاملها بالإحسان والمعروف، قال سبحانه: (اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن). أما إذا كان الفراق قبل الاتصال فيها فتحل لغيره من حين الطلاق. وإلى ذلك تشير الآية: (إذا نكحتم المؤمنات ثمّ طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها).
وإذا طلق الرجل امرأته فعليه أن يدفع لها المهر بالغا ما بلغ ولا يحل له أن يأخذ منه شيئا، إلاّ أن تكون كارهة له، فلها أن تفتدي نفسها منه حين لا يكون عقد الزواج وسيلة لاقتناص مال الرجل والاستمتاع بخيراته وهباته. أما إذا كان ظالما لها وطلبت الطلاق للتخلص من ظلمه بعد أن نفذ صبرها ولم تجدها محاولات استجلابه، فليس له أن يأخذ من مهرها شيئا، قال سبحانه: (وان أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وأثما مبينا. وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا) وفي آية أخرى: (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئا إلاّ أن يخافا ألا يقيما حدود اللّه فلا جناح عليهما فيما افتدت به).
وقد جاء في تفسير هذه الآية أن المرأة إذا بدا منها النشوز وسوء الخلق بغضا بالزوج، وخاف من عدم إجابتها للطلاق أن تعصي اللّه سبحانه بارتكاب محرم أو إخلال بواجب، فإذا فدت نفسها في مثل هذه الحالة جاز له أن يخلعها، ويحل له ما بذلته له من الفدية إذا لم يكن هو الذي حملها على طلب الطلاق لسوء معاملته لها.
التراجع في الطلاق:
ومهما تكن أسباب الطلاق ودوافعه فقد فسح الإسلام المجال أمام الزوجين كي يتراجعا بعد إيقاع الطلاق مرتين فإذا كان الطلاق ثلاثا فلا تحل له حتّى تنكح زوجا غيره كما جاء في الآية: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)، (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتّى تنكح زوجا غيره....).
والمقصود من ذلك أن الطلاق الذي للزوج حق الرجوع فيه هو مرتان، فإذا رجع في الثاني وطلقها الثالثة، فلا يحل له أن يراجعها في العدة، حتى تتزوج من غيره بعد انتهاء عدتها منه، فإذا طلقها الثاني بعد الدخول بها وخرجت من عدتها منه كان للزوج الأول أن يتزوج بها ثانيا، قال سبحانه: (فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود اللّه).
أي رجيا أن يرجعا إلى ما كانا عليه من حسن الصحبة والمعاشرة، ولعل هذه التجربة المريرة عليهما تردهما إلى الصواب والاعتدال والمحافظة على الواجبات ورعاية الحقوق المتبادلة بينهما، وتخفف من كبرياء الرجل إذا رأى امرأته وقد صارت خليلة لرجل آخر، يملك من أمرها ما أضاعه هو بحمقه وجهله، فلا يعود بعد ذلك في معاملتها إلى شطط وإسراف.
وتشير الآية إلى أن الطلاق الذي لا يجوز الرجوع فيه هو الطلاق الثالث وان الذي يملك الرجوع فيه هو مرتان، ولا تصدق المرتان إلاّ إذا وقع مرة بعد أخرى، أما إذا وقعت الثلاث بلفظ واحد، كما إذا قال الزوج لزوجته أنت طالق ثلاثا فلم يتكرر الطلاق، لأنه لا يكون طلاقا إلاّ بعد فرض الزوجية ولا زوجية إلاّ بالرجوع.
الطلاق الثلاث بلفظ واحد:
والمسلمون في ذلك على أقوال ثلاثة، بين من يقول ببطلانه لمخالفته نص القرآن الكريم وهو قول جماعة من فقهاء الأمامية، وبين من يقول بوقوعه واحدة وهم أكثر الفقهاء من الأمامية وبعض المتأخرين من فقهاء أهل السنة، لأن صيغة الطلاق بعد أن وقعت من الزوج لا تكون الضميمة موجبة لبطلانها، بل تكون مؤكدة لها أو لغوا من القول. وقد وردت الروايات عن أهل البيت بذلك، ففي صحيحة جميل بن دراج عن احدهما أنه سئل عن الذي طلق في حال الطهر في مجلس ثلاثا قال (عليه السلام) هي واحدة، وفي صحيح الحلبي وعمر بن حنظلة عن الصادق (عليه السلام) قال: الطلاق ثلاثا في غير عدة، فان كانت على طهر فليس بشيء.
وقال أهل السنة، عدا نفر من أعلامهم المتأخرين انه يقع ثلاثا وتحصل به البينونة إلزام للزوج بما الزم به نفسه، وهذا القول لا يتفق مع النص القرآني، الصريح في أن الطلاق الذي يملك الزوج فيه الرجوع مرتان، وإلزام الزوج بما ألزم به نفسه على حد زعمهم اجتهاد في مقابل النص، وقوله سبحانه في آخر الآية: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتّى تنكح زوجا غيره). كالصريح في أن الطلاق الذي يمنع عن الرجوع هو الثالث الواقع بعد المرتين اللتين كان الزوج فيهما مخيرا بين الإمساك والتسريح بإحسان، أي تركها وشأنها مع الإحسان إليها حتّى في هذه المرحلة الأخيرة من مراحل حياتهما الزوجية.
وقد ذكر القرآن أمورا كانت قبل الإسلام تبين بها الزوجة. ولما جاء الإسلام أقر شيئا منها كما أقر بعض ما كانوا عليه في معاملاتهم وعقودهم، فكانت المرأة تبين من زوجها عندما يحلف على ترك وطئها, وفي التشريع الإسلامي إذا حلف أن لا يطأها أبدا أو أكثر من أربعة أشهر باللّه سبحانه صح منه هذا اليمين، فإذا صبرت المرأة على ترك الوطء كان ذلك من حقها، وان لم تصبر رفعت أمرها إلى الحاكم، وهو بدوره ينذره بعد أربعة أشهر من تاريخ الايلاء أما بالرجوع عن ايلائه وأما بطلاقها، فإذا طلقها بائنا وعقد عليها زال حكم الايلاء، أما إذا كان رجعيا ورجع في العدة كان حكم الايلاء باقيا، فلها المطالبة بحقها من الوطء بعد أربعة أشهر من تاريخ الايلاء والرجوع إلى الحاكم، كما كان لها أوّلا قبل الطلاق. وأما الحالف فله أن يرجع قبل الأربعة أشهر وبعدها و لا يترتب على مخالفة اليمين عقوبة غير الكفارة ـ بخلاف سائر إيمانه فان في مخالفتها معصية للّه سبحانه - فتكون فائدة الايلاء انعقاد اليمين من حيث تترتب الكفارة عليه لا غير، أما في غير هذا اليمين فلا بد فيه، بالإضافة إلى أن مخالفته معصية للّه من رجحان مورده.
وقد ورد حكم هذا اليمين في الآية من قوله سبحانه: (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن اللّه غفور رحيم وان عزموا الطلاق فإن اللّه سميع عليم).
ومما يوجب تحريم المرأة على الزوج تحريما مؤبدا قبل الإسلام، ما لو قال لها أنت عليّ كظهر أمي مثلا. وقد أقر الإسلام تحريمها في مثل ذلك مبدئيا ولكنه راعى في ذلك الشروط التي اعتبرها في الطلاق، وأباح للمظاهر الرجوع إليها إذا كفّر بالعتق أو الصيام أو الإطعام، ولا يحل له وطأها إلاّ بعد التكفير. فان لم يكفّر كان الخيار للزوجة بين أن تصبر وبين أن ترفع أمرها إلى الحاكم، وهو بدوره يترك للزوج الخيار بين التكفير والرجوع وبين الطلاق، فإن بقي مصرا أنذره الحاكم ثلاثة أشهر، فإذا لم يختر أحد الأمرين حبسه وضيق عليه ولا يجبره على احدهما بخصوصه، وان اختار الطلاق وأوقعه بائنا، كان لها أن تتزوج من غيره ويبطل اثر الظهار. وان أوقعه رجعيا ورجع إليها فليس له وطؤها في العدة إلاّ أن يكفر عن ظهاره. وقد أشار إلى بعض أحكام الظهار في الآية من قوله سبحانه: (الذين يظاهرون منكم من نسائكم ما هن أمهاتهن إن أمهاتهن إلاّ اللائي ولدنهم وأنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وان اللّه لغفور رحيم. والذين يظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به واللّه بما تعملون خبير. فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك ليؤمنوا باللّه ورسوله وتلك حدود اللّه وللكافرين عذاب اليم).
وقد فرض الإسلام على الزوجة فيما لو مات زوجها أن تعتد لموته بأربعة أشهر وعشرة أيام وقد نصت على ذلك الآية الكريمة: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا).
وكان عليها قبل نزول هذه الآية أن تقيم في بيتها عاما كاملا حدادا عليه وعلى الزوج أن يوصي لها من ماله ما يكفيها في تلك السنة، قال سبحانه: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فان خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن), والظاهر من هذه الآية أن الإنفاق عليها من ماله بقدر ما يكفيها إلى تمام الحول هو كل ما تستحقه في مال الزوج، ولكن هذا الحكم منسوخ بآية المواريث التي فرضت لها الربع أو الثمن، ومع ذلك فلا منافاة بين الاثنين لان تلك فيما يجب عليها من العدة والثانية فيما يجب لها من حق في مال الزوج.
ولا فرق في وجوب الاعتداد على المتوفي عنها زوجها بأربعة أشهر وعشرة أيام بين الحامل وغيرها ولا بين الحرة والمملوكة عند الأمامية، وعند غيرهم، أن عدة الأمة شهران وخمسة أيام وعدة الحامل تنتهي بوضع الحمل، للآية الكريمة: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغت اجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف), وظاهرها يؤيد ما عليه الشيعة الأمامية.
وقد تعرض الكتاب الحكيم لحكم الأولاد ومقدار حقهم في الرضاع وحق مرضعتهم في مدة الرضاع وما يجب لهم في تلك المدة من النفقة لهم ولمرضعتهم قال سبحانه: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلاّ وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فان أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وان أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف).
فقد تضمنت هذه الآية حق الولد في الرضاع وحق المرضعة على أبيه من الإنفاق حسب طاقته ومقدرته، كما تدل على أن الحولين الكاملين غير مفروضين عليها وإنما هما مقدار حقه الكامل في الرضاع.
وتدل الآية على أن الأم لا تضار بولدها، وليس للأب أن ينتزعه منها إذا بذلت نفسها لإرضاعه أو رضيت بما يرضى به غيرها، كما تعرضت لحال الإباء إذا أرادوا مراضع لأبنائهم غير أمهاتهم إذا لم يكن ذلك بقصد الإضرار بالأمهات، بأن كان ذلك لأمتناع أمهاتهم عن إرضاعهم.
لقد وضع القرآن الكريم المبادئ العامة للشريعة الإسلامية، وقلما نجد في الشريعة شيئا لم يتعرض له القرآن، ومن ذلك الوصية فقد أمر بها وأكدتها السنة الكريمة. وقد جاء فيها عن الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) : من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية، وقال سبحانه: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت أن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين حقا على المتقين), والمقصود بالخير هو ما تركه الميت من المال. أما مقدار المال الذي يجب فيه الايصاء فلم تتعرض له الآية، لذلك اختلفت به أقوال المفسرين، فعن جماعة هو ما يصدق عليه هذا اللفظ قل أو كثر، وعن آخرين أن أقله خمسمائة درهم. وعن علي (عليه السلام) أنه دخل على مولى له في مرضه وله ستمائة أو تسعمائة درهم فقال: إلاّ أوصي؟ فقال علي (عليه السلام) : لا! إن اللّه سبحانه قال: إن ترك خيرا وليس لك كثير مال. والآية الكريمة صريحة في صحتها للوالدين والأقربين، فلا مجال للقول بأنها لا تصح لوارث عملا بالحديث المروي (لا وصية لوارث) ولازم هذا القول أن الآية قد نسخت بالحديث ولا يصلح الدليل الظني لنسخ الآية التي هي نص في المورد، ومهما يكن الحال فقد شرع القرآن الوصية وأكدت رجحانها السنة وليس في الآية ولا في السنة الصحيحة ما يدل على اختصاصها لفريق دون فريق.
|