بسم الله الرحمن الرحيم
هناكَ مجموعةً من الصّفات وَرَدَت في آياتِ القرآنِ وفي السُّنة ولم يكن لها من مُسْتَنَدٍ ومَصْدرٍ سوى النقلِ مثل:
1- يَدُ الله: «إنَّ الّذينَ يُبايعُونَكَ إنّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوقَ أيْدِيهِمْ» «1».
2- وَجْهُ اللَّه: «وَللَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ فَأَيْنما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ واسعٌ عَليمٌ» «2».
3- عَيْنُ اللَّهُ: «وَاصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا» «3».
4- الإسْتواء عَلى العَرش: «الرَّحْمنُ عَلى الْعَرْشِ استوى»4».
والعلّة في تسمية هذا النوع من الصفات، بالصفات الخبرية، هو ثبوتها الله بإخبار الكتابِ والسُنّة بِها فقط.
وللحصول على التفسير الواقعيّ لهذا النوع من الصفات يجب أيضاً ملاحظة كلّ الآيات المتعلّقة بهذا المجال.
كما أنّه يجب أن نعلم أنّ اللّغة العربية شأنها شأن غيرها من اللّغات الأُخرى زاخرة بالكنايات والإستعارات والمجازات، وبما أنّ القرآن نزل بلغة القوم لذلك استخدم هذه الأساليب أيضاً.
وإليك الآن بيان هذه الصفات وتفسيرها في ضوءِ ما مرَّ.
ألف: في الآية الأُولى قال تعالى: «إنّ الّذيْنَ يُبايِعُونَكَ إنّما يُبايِعُونَ الله» لأنّ مبايعة الرسول بمنزلةِ مبايعةِ المرسِلِ.
ثم يَقُول بعد ذلك: «يَدُ اللَّهِ فوقَ أيْدِيهِمْ» وهذا يعني أن قدرة اللَّه أعلى وأقوى من قدرتهم وَلا يعني أنّ للَّه يَداً جسمانية حِسيّة تكون فوق أياديهم. ويشهد بذلك أنّهُ قال في ختام الآية وعقيب ما مرّ: «فَمَنْ نَكثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوفى بما عاهَدَ عَلَيْه اللَّه فسيُؤتيِه أَجْراً عَظِيماً». فمن نكث بيعته فلا يضرّالله شيئاً لأنّ قدرة الله فوق قدرتهم.
إنّ هذا النمط من الكلام والخطاب الذي يتضمن تهديدَ الناكثين لعهدهم، والتنديد بهم، وامتداح الموفين بعهدهم وتبشيرهم، يدل على أنّ المقصود من «يَدِ اللَّه» هو القدرةُ والحاكمية الإِلهية.
على أنّ لفظة «اليَد» تُستخدَم أحياناً في جميع اللُغات للكناية عن القُدرةِ والقُوةِ، والسُلطةِ والحاكميةِ، ومن هذا الباب قولِهم: فَوْقَ كل يدٍ يدٌ، أي فوقَ كُلّ قوةٍ قوةٌ أعلى، وفوق كلّ قدرةٍ قدرةٌ أكبر.
ب: إنّ المقصودَ من الوَجه الذي نُسِبَ إلى الحقّ تعالى هنا هو ذاته سبحانه لا العضوُ الخاصُ الموجودُ في جسم الإنسان وما يشابِهُهُ. فالقرآنُ عندما يتحدّث عن هلاك ما سوى الله وفنائه يقول: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ» «5».
ثم يخبر عقيبَ ذلك مباشرةً عن بقاء الذات الإِلهيّة ودوامِها وأنّه لا سبيل للفناء إليها فيقول: «وَيَبْقى وجهُ ربّك ذو الجَلالِ والإِكرامِ» «6». أي تَبقى ذاته المقدسة، ولا تفنى أبداً. من هذا البيان يتّضح بجلاءٍ معنى الآية المبحوثة هنا ويتبين أنّ المقصودَ هو أنّ الله ليس في جهةٍ أو نقطةٍ معيّنةٍ، بل وجوده محيط بجميع الأشياء فأينما وَلَّيْنا وُجوهَنا، فقد وَلَّيْنا وجوهَنا شطرهُ. ثم إنّ القرآن أتى لإثبات هذه الحقيقة العظيمة بوصفين للَّه تعالى:
1- واسعٌ: أيْ إِنّ وجود الله لا نهاية له ولا حدود.
2- عَلِيْمٌ: أيْ إنّه عارفٌ بجميع الأشياء.
ج: في الآية الثالثة يذكر القرآنُ الكريم أنّ نوحاً (عليه السلام) كُلّف من جانب الله بصنع سفينة وإعدادها.
وحيث إنّ صنعَ تلك السفينة كان في مكان بعيدٍ عن البحر، لذلك استهزأ قومُه به، وسخر به الجهلة منهم، وآذَوه.
ولذا في مثل هذه الظروف قال له اللَّه تعالى: إصنع أنتَ السفينة ولا تُبالي، فأنتَ تفعل ذلك تحت إشرافنا، وهو أمرٌ قد أوحينا نحن به إليك. فالمقصود من قوله «واصنَعِ الفُلْكَ بأَعْيُننا» هو ان نوحاً قامَ بما قام من صُنْع السفينة حسب أمر الله له، ولهذا فانّ الله سيحفظه ويكَلأوه برعايته، ويحميه، ولن يَصل إليه من المستهزئين شيءٌ إذ هو في رعاية اللَّه، ويعمل تحت عنايته.
د: إنّ العَرشَ في اللغة العربية بمعنى السرير، ولفظ «الاستواء» إذا جاء مع لفظة «على» كان المعنى هو الاستقرار والاستيلاء. وحيث إنّ الملوك والأُمراء بعد أن جلسوا على منصة العرش يعمدون إلى تدبير الأُمور، وتسييرها في بلادهم، لهذا كان هذا النوعُ من التعبير (أعني: الإستواء على العرش) كناية عن الإستيلاء، والسيادة، والقدرة على تدبير الأُمور، خاصة إذا نُسِبَ ذلك إلى اللَّه سبحانه. هذا مضافاً إلى أنّ الأدِلّة العَقلية والنقلية أثبتت تنزّه الحق تعالى عن المكان. وممّا يشهد بأنّ الهدف من هذا النمط من التعابير، ليس هو الجلوسُ على السَرير الماديّ، بل هو كناية عن تدبير أُمور العالم أمران:
1- إنّ هذه العبارة جاءت في كثير من آيات الكتاب العزيز مسبوقةً بالحديث عن خلق السماوات والأرض، للإشارة إلى أنّ هذا الصرح العظيم قائم من غير أعمدة مرئيّة.
2- إن هذه العبارة جاءت في آيات كثيرة من الكتاب العزيز ملحوقةً بالكلام عن تدبير العالم.
إنّ مجيئ هذا التعبير في القرآن الكريم مسبوقاً تارةً بالحديث عن الخلق، وملحوقاً تارة أُخرى بالحديث عن التدبير يمكن أن يساعِدَنا على فهم المقصود من الاستواء على العرش، وأنّ القرآن يُريدُ بهذه العبارة أن يُفَهّمَ البشريةَ أنَّ خلق الوجود على سعته، وعظمتهِ، لم يوجب خروج هذا الكون العظيم عن نطاق تدبيره ومشيئته، بل اللَّه تعالى مضافاً إلى كونه خالقَ الكون، وموجده، فهو مدّبرُه، ومصرّفُ شؤونه.
وها نحن نختارُ من بين الآيات العديدة في هذا الصعيد آيةً جامعةً للحالتَين (المذكورتين سابقاً) تفيد ما ذكرناه:
«إنّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الّذي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في ستَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتوى عَلى العَرْش يُدَبّرُ الأَمرَ ما مِنْ شَفِيْعٍ إلّا مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ ..» «7». «8»
((1))الفتح10
((2))البقرة115
((3))هود37
((4))طه5
((5))الرحمن26
((6))الرحمن27
((7))يونس3
((8))راجع ايضا الرعد؛2السجدة4؛الاعراف54
|