بسم الله الرحمن الرحيم
الأقوال في المسألة
الأقوال في هذه المسألة متعدّدة، فأجمعت الشيعة الإماميّة الإثنا عشريّة على أنّ الحكم الشرعيّ في الوضوء هو المسح على الرجلين على التعيين، بحيث لو أنّ المكلّف غسل رجله، وحتّى لو جمع بين الغسل والمسح بعنوان أنّه الواجب والتكليف الشرعي، يكون وضوؤه باطلًا بالإجماع. هذا رأي الطائفة الإماميّة، ولهم على هذا الرأي أدلّتهم من الكتاب والسنّة المرويّة عن أئمّة أهل البيت (سلام اللَّه عليهم)، وقد ادّعي التواتر في الروايات الدالّة على وجوب المسح دون الغسل، بل ذكر أنّ المسح في الوضوء من ضروريّات هذا المذهب. إذن، لا خلاف بين الشيعة الإماميّة في وجوب المسح على التعيين، ولهم أدلّتهم.
وأمّا الآخرون، فقد اختلفوا: منهم من قال بوجوب الغسل على التعيين، وهذا قول الأئمة الأربعة، والقول المشهور بين أهل السنّة. ومنهم من قال: بوجوب الجمع بين المسح والغسل، وينسب هذا القول إلى بعض أئمّة الزيديّة وإلى بعض أئمّة أهل الظاهر. ومن أهل السنّة من يقول بالتخيير، فله أن يغسل وله أن يمسح. وسنذكر أصحاب هذه الأقوال في خلال البحث. إلّا أنّ المهمّ هو البحث عن المسح على وجه التعيين والغسل على وجه التعيين، فالقول بالغسل على وجه التعيين قول جمهور أهل السنّة، والقول بالمسح على التعيين قول الطائفة الشيعيّة الإماميّة الإثنى عشرية.فلننظر ماذا يقول هؤلاء، وماذا يقول أؤلئك، ولنحقق في أدلّة القولين على ضوء الكتاب والسنة، لنتوصّل إلى النتيجة التي نتوخّاها.
الاستدلال بالقرآن على المسح
أمّا في الكتاب، فقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلى الْكَعْبَيْنِ» «1». ومحل الشاهد والاستدلال في هذه الآية كلمة «وَأَرْجُلَكُمْ». في هذه الكلمة ثلاث قراءات، قراءتان مشهورتان: الفتح والجر «وَأَرْجُلَكُمْ» «وَأَرْجُلِكُمْ»، وقراءة شاذّة وهي القراءة بالرفع: «وَأَرْجُلُكُمْ». القراءة بالرفع وصفت بالشذوذ: يقال: إنّها قراءة الحسن البصري وقراءة الأعمش، ولا يهمّنا البحث عن هذه القراءة، لأنّها قراءة شاذّة، ولو أردتم الوقوف على هذه القراءة ومن قرأ بها، فارجعوا إلى [تفسير القرطبي] «2»، وإلى [أحكام القرآن] لابن العربي المالكي «3» وإلى غيرهما من الكتب، كتفسير الآلوسي، وتفسير أبي حيّان [البحر المحيط]، يمكنكم الوقوف على هذه القراءة. والوجه في الرفع «وَأَرْجُلُكُمْ» قالوا بأنّ الرفع هذا على الإبتداء «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلُكُمْ» هذا مبتدأ يحتاج إلى خبر، فقال بعضهم: الخبر: مغسولة، وأرجلكم مغسولة، فتكون هذه الآية بهذه القراءة دالّة على وجوب الغسل. لاحظوا كتاب [إملاء ما منّ به الرحمن في إعراب القرآن] لأبي البقاء، وهو كتاب معتبر، هُناك يدّعي بأنّ كلمة «وَأَرْجُلُكُمْ» بناء على قراءة الرفع مبتدأ والخبر مغسولة، فتكون الآية دالّة على وجوب الغسل «4». لكنّ الزمخشري «5» وغيره من كبار المفسّرين يقولون بأنّ تقدير مغسولة لا وجه له، لأنّ للطرف الآخر أن يقدّر ممسوحة. ومن هنا يقول الآلوسي «6»: وأمّا قراءة الرفع فلا تصلح للاستدلال للفريقين، إذ لكلّ أن يقدّر ما شاء، القائل بالمسح يقدّر ممسوحة، والقائل بالغسل يقدّر مغسولة. نرجع إلى القراءتين المشهورتين أو المتواترتين، بناء على تواتر القراءات السبع. أمّا قراءة الجر «وَأَرْجُلِكُمْ» فوجهها واضح، لأنّ الواو عاطفة، تعطف الأرجل على الرؤوس، الرؤوس ممسوحة فالأرجل أيضاً ممسوحة «وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ»، بناء على هذه القراءة حيث الواو عاطفة، والأرجل معطوفة على الرؤوس، تكون الآية دالّة على المسح بكلّ وضوح. أمّا بناء على القراءة بالنصب «وَأَرْجُلَكُمْ» الواو عاطفة، و (أرجلكم) معطوفة على محلّ الجار والمجرور، أي (برؤوسكم) وهو منصوب، والعطف على المحلّ مذهب مشهور في علم النحو وموجود، ولا خلاف في هذا على المشهور بين النحاة، وكما أنّ الرؤوس ممسوحة، فالأرجل أيضاً تكون ممسوحة. فبناء على القراءتين المشهورتين، تكون الآية دالّة على المسح دون الغسل. وهذا ما يدّعيه علماء الإماميّة في مقام الاستدلال بهذه الآية المباركة. ولننظر هل لأهل السنّة أيضاً رأي في هاتين القراءتين أم لا؟ وهل علماؤهم يوافقون على هذا الاستنتاج، بأنْ تكون القراءة بالنصب والقراءة بالجرّ- كلتا القراءتان- تدلّان على وجوب المسح دون الغسل أم لا؟ أمّا الإمامية فلهم أدلّتهم، وهذا وجه الاستدلال عندهم بالآية المباركة كما قرأنا. وأمّا أهل السنّة، فإنكم تجدون الاعتراف بدلالة الآية المباركة- على كلتا القراءتين- على وجوب المسح دون الغسل، تجدون هذا الاعتراف في الكتب الفقهيّة، وفي الكتب التفسيريّة، بكلّ صراحة ووضوح، وأيضاً في كتب الحديث من أهل السنّة، أعطيكم بعض المصادر: [المبسوط] في فقه الحنفيّة للسرخسي «7»، [شرح فتح القدير] في الفقه الحنفي «8»، [المغني] لابن قدامة في الفقه الحنبلي «9»، [تفسير الرازي]» ، [غنية المتملّي] «10»، [حاشية السندي] على سنن ابن ماجة «11»، [تفسير القاسمي] «12». هذه بعض المصادر التي تجدون فيها الاعتراف بدلالة الآية المباركة على كلتا القراءتين بوجوب المسح، وحتّى أنّ الفخر الرازي يوضّح هذا الاستدلال، ويفصّل الكلام فيه ويدلّل عليه ويدافع عنه، وكذا غير الفخر الرازي في تفاسيرهم. وفي هذه الكتب لو نراجعها نرى أموراً مهمّة جدّاً:
الأمر الأول: إنّ الكتاب ظاهر- على القراءتين- في المسح على وجه التعيين.
الأمر الثاني: يذكرون أسماء جماعة من كبار الصحابة والتابعين وغيرهم القائلين بالمسح دون الغسل، وسنذكر بعضهم.
الأمر الثالث: إنّهم يصرّحون بأنّ الكتاب وإنْ دلّ على المسح، فإنّا نقول بالغسل لدلالة السنّة على الغسل.
فإذن، يعترفون بدلالة الكتاب على المسح، إلّاأنّهم يستندون إلى السنّة في القول بوجوب الغسل. لكنّ الملفت للنظر أنّهم يعلمون بأنّ الاستدلال بالسنّة للغسل سوف لا يتمّ، لوجود مشكلات لابدّ من حلّها وبعضها غير قابلة للحلّ، فالاستدلال بالسنّة على وجوب الغسل لا يتم، والاعتراف بدلالة الآية على وجوب المسح ينتهي إلى ضرورة القول بوجوب المسح، لدلالة الكتاب ولعدم دلالة تامّة من السنّة، حينئذ يرجعون ويستشكلون ويناقشون في دلالة الكتاب على المسح.
مناقشات القوم في الاستدلال بالقرآن وردّها
المناقشة الأُولى:
إنّ قراءة النصب في (أرجلكم) ليس هذا النصب بالعطف على محلّ (رؤوسكم) كما ذكرنا، وإنّما هو لأجل العطف على الوجوه والأيدي، فكأنّه قال: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم. فإذن، يجب الغسل لا المسح، ويسقط الاستدلال بالآية المباركة- على قراءة النصب- لوجوب المسح. هذا الإشكال تجدونه في [أحكام القرآن] لابن العربي المالكي يقول: جاءت السنّة قاضيّة بأنّ النصب يوجب العطف على الوجه واليدين، النصب في (أرجلكم) بمقتضى دلالة السنّة لابدّ وأنْ يكون لأجل العطف على الوجه واليدين، لا لأجل العطف على محلّ (رؤوسكم)، وقد ذكر ابن العربي المالكي بأنّ هذا الذي قاله هو طريق النظر البديع «1».
ردّ المناقشة الأُولى:
لكنّ المحققين منهم يردّون هذا الوجه، ويجيبون عن هذا الإشكال، ويقولون: بأنّ الفصل بين المتعاطفين بجملة غير معترضة خطأ في اللغة العربية، والقرآن الكريم منزّه من كلّ خطأ وخلط، وكيف يحمل الكتاب على خطأ في اللغة العربية. لاحظوا، يقول أبو حيّان- وهو مفسر كبير ونحوي عظيم، وآراؤه في الكتب النحويّة مذكورة يُنظر إليها بنظر الاحترام، ويبحث عنها ويعتنى بها- يقول معترضاً على هذا القول: بأنّه يستلزم الفصل بين المتعاطفين بجملة ليست باعتراض بل هي منشئة حكماً. قال الأُستاذ أبو الحسن ابن عصفور وقد ذكر الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه قال: وأقبح ما يكون ذلك بالجمل، فدلّ قوله هذا على أنّه ينزّه كتاب اللَّه عن هذا التخريج «13». وتجدون هذا الاعتراض على هذه المقالة أيضاً في [عمدة القاري]، وفي [الغنية] للحلبي، وفي غير هذين الكتابين أيضاً. المناقشة الثانية: قال بعضهم بأنّ لفظ المسح مشترك بين المسح المعروف والغسل، أي في اللغة العربية أيضاً يسمى الغسل مسحاً، وإذا كان اللفظ مشتركاً حينئذ يسقط الاستدلال. قال القرطبي: قال النحّاس: هذا من أحسن ما قيل في المقام، أي لأنْ تكون الآية غير دالّة على المسح، نجعل كلمة المسح مشتركة بين الغسل والمسح المعروف. ثمّ قال القرطبي: وهو الصحيح.فوافق على رأي النحّاس «14». وراجعوا أيضاً: [البحر المحيط] «15»، و [تفسير الخازن] «16»، وابن كثير «17»، يذكرون هذا الرأي. ردّ المناقشة الثانية: لكنّ المحقّقين لا يوافقون على هذا الرأي، وهذه المناقشة عندهم مردودة، ولا يصدّقون أن يقول اللغويون بمجيء كلمة المسح بمعنى الغسل، وأن تكون هذه الكلمة لفظاً مشتركاً بين المعنيين. لاحظوا مثلًا: [عمدة القاري في شرح البخاري] يقول بعد نقل هذا الرأي: وفيه نظر «18». ويقول الصاوي في [حاشية البيضاوي]: وهو بعيد «19». وصاحب [المنار] يقول: وهو تكلّف ظاهر «20». فتكون هذه المناقشة أيضاً مردودة من قبلهم. المناقشة الثالثة: إنّ قراءة الجرّ ليست بالعطف على لفظ (برؤوسكم) ليدلّ قوله تعالى في هذه الآية المباركة على المسح، لا، وإنّما هو كسر على الجوار. عندنا في اللغة العربيّة كسر على الجوار، ويمثّلون له ببعض الكلمات أو العبارات العربيّة مثل: هذا جحر ضبٍّ خربٍ، يقال: هذا كسر على الجوار. فليكن كسر «وَأَرْجُلِكُمْ» أيضاً على الجوار، فحينئذ يسقط الاستدلال. أورد هذه المناقشة: العيني في [عمدة القاري] «21»، وأبو البقاء في [إملاء ما منّ به الرحمن] «22»، والآلوسي في [تفسيره]، وقد دافع الآلوسي عن هذا الرأي «23».
ردّ المناقشة الثالثة:
لكنّ أئمّة التفسير لا يوافقون على هذا.
لاحظوا، يقول أبو حيّان: هو تأويل ضعيف جدّاً «24».
ويقول الشوكاني: لا يجوز حمل الآية عليه «25».
ويقول الرازي وكذا النيسابوري: لا يمكن أن يقال هذا في الآية المباركة «26».
ويقول القرطبي قال النحّاس: هذا القول غلط عظيم «27».
وهكذا يقول غيرهم كالخازن والسندي والخفاجي في حاشيته على البيضاوي وغيرهم من العلماء الأعلام.
فهذه المناقشة أيضاً مردودة.
المناقشة الرابعة:
يقولون: إنّ الآية بكلتا القراءتين تدلّ على المسح، يعترفون بهذا، فقراءة النصب تدلّ على المسح، وقراءة الجرّ تدلّ على المسح، لكن ليس المراد من المسح أنْ يمرّ الإنسان يده على رجله، بل المراد من المسح المسح على الخفّين، حينئذ تكون الآية أجنبيّة عن البحث. إختار هذا الوجه جلال الدين السيوطي، واختاره أيضاً المراغي صاحب [التفسير] «28». ردّ المناقشة الرابعة: لكنّ هذه المناقشة تتوقّف: أوّلًا: على دلالة السنّة على الغَسل دون المسح، وهذا أوّل الكلام.
ثانياً: إنّ جواز المسح على الخفّين في حال الإختيار أيضاً أوّل الكلام، فكيف تحمل الآية المباركة على ذلك الحكم. وفي هذه المناقشة أيضاً إشكالات أخرى. وتلخّص إلى الآن: أنّهم اعترفوا بدلالة الآية المباركة- بكلتا القراءتين- على وجوب المسح دون الغسل، اعترفوا بهذا ثمّ قالوا بأنّنا نعتمد على السنّة ونستند إليها في الفتوى بوجوب الغسل، ونرفع اليد بالسنّة عن ظاهر الكتاب. وحينئذ، تصل النوبة إلى البحث عن السنّة، والمناقشات في الآية ظهر لنا اندفاعها بكلّ وضوح، فنحن إذن والسنّة.
الاستدلال بالسنّة على المسح
وفي السنّة النبويّة- بغضّ النظر عن روايات أهل البيت وما في كتاب [وسائل الشيعة] وغيره من روايات أهل البيت (عليهم السلام)ننظر إلى روايات أهل السنّة في هذه المسألة. وفي كتبهم المعروفة المشهورة، نجد أنّ الروايات بهذه المسألة على قسمين، وتنقسم إلى طائفتين، منها ما هو صريح في وجوب المسح دون الغسل، أقرأ لكم بعض النصوص عن جمعٍ من الصحابة الكبار، وننتقل إلى أدلّة القول الآخر.
الرواية الأُولى:
عن علي (عليه السلام): إنّه توضّأ فمسح على ظهر القدم وقال: لولا أنّي رأيت رسول اللَّه فعله لكان باطن القدم أحقّ من ظاهره. هذا نصّ في المسح عن علي (عليه السلام)، أخرجه أحمد والطحاوي «29».
الرواية الثانية: عن علي (عليه السلام) قال: كان النبي يتوضّأ ثلاثاً ثلاثاً إلّاالمسح مرّةً مرّة.
في [المصنّف] لابن أبي شيبة وعنه المتقي الهندي «30».
الرواية الثالثة: عن علي (عليه السلام) إنّه توضّأ ومسح رجليه، في حديث مفصّل وقال: أين السائل عن وضوء رسول اللَّه؟ كذا كان وضوء رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم). هذا في [مسند عبد بن حميد] وعنه المتقي الهندي «31». وهذا الخبر الأخير تجدونه بأسانيد أُخرى عند ابن أبي شيبة وأبي داود وغيرهما، وعنهم المتقي «32»، وبسند آخر تجدون هذا الحديث الأخير في [أحكام القرآن] «33».فأمير المؤمنين (عليه السلام) يروي المسح عن رسول اللَّه، وهم يروون خبره وأخباره في كتبهم المعتبرة بأسانيد عديدة.
الرواية الرابعة:
عن ابن عبّاس: أبى الناس إلّاالغسل ولا أجد في كتاب اللَّه إلّاالمسح. رواه عبدالرزّاق الصنعاني وابن أبي شيبة وابن ماجة، وعنهم الحافظ الجلال السيوطي «34».
الرواية الخامسة:
عن رفاعة بن رافع عن رسول اللَّه(صلّى اللَّه عليه وآله وسلم)
أنّه: يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين.وهذا نص صريح أخرجه أبو داود في [سننه] «35»، والنسائي في [سننه] «36»، وابن ماجة في [سننه] «37»، والطحاوي «38»، والحاكم «39»، والبيهقي»، والسيوطي في [الدر المنثور] «40».
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
قال الذهبي: صحيح.
وقال العيني: حسنّه أبو علي الطوسي وأبو عيسى الترمذي وأبو بكر البزّار، وصحّحه الحافظ ابن حبّان وابن حزم.
الرواية السادسة:
عن عبداللَّه بن عمر، كان إذا توضّأ عبداللَّه ونعلاه في قدميه، مسح ظهور قدميه برجليه ويقول: كان رسول اللَّه يصنع هكذا «41».
الرواية السابعة:
عن عبّاد بن تميم عن عمّه: إنّ النبي توضّأ ومسح على القدمين، وإنّ عروة بن الزبير كان يفعل ذلك. هذا الحديث رواه كثيرون من أعلام القوم، فلاحظوا [شرح معاني الآثار] «42»، وهو في [الاستيعاب] «43» وقد صحّحه. وقال ابن حجر: روى البخاري في تاريخه وأحمد وابن أبي شيبة وابن أبي عمرو والبغوي والباوردي وغيرهم كلّهم من طريق أبي الأسود عن عبّاد بن تميم المازني عن أبيه قال: رأيت رسول اللَّه يتوضّأ ويمسح الماء على رجليه.
قال ابن حجر: رجاله ثقات «44».
وروى هذا أيضاً ابن الأثير في [أُسد الغابة] عن ابن أبي عاصم وابن أبي شيبة «45».
الرواية الثامنة:
عن عبداللَّه بن زيد المازني: إنّ النبي توضّأ ومسح بالماء على رجليه. ابن أبي شيبة في [المصنَّف] وعنه في كنز العمّال «46»، وابن خزيمة في [صحيحه] وعنه العيني في [عمدة القاري] «47».
الرواية التاسعة:
عن حمران مولى عثمان بن عفّان قال: رأيت عثمان بن عفّان دعا بماء، فغسل كفّيه ثلاثاً، ومضمض واستنشق وغسّل وجهه ثلاثاً وذراعيه، ومسح برأسه وظهر قدميه. رواه أحمد والبزّار وأبو يعلى وصحّحه أبو يعلى «48».
الرواية العاشرة:
ابن جرير الطبري بسنده عن أنس بن مالك، وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما قال ابن كثير: إسناده صحيح «49».
الرواية الحادية عشرة:
عن عمر بن الخطّاب. أخرج ابن شاهين في كتاب [الناسخ والمنسوخ] عنه حديثاً في المسح، ولاحظ [عمدة القاري] «50».
الرواية الثانية عشرة:
عن جابر بن عبداللَّه الأنصاري كذلك. أخرجها الطبراني في [الأوسط] وعنه العيني «51». وهناك أحاديث وآثار أُخرى لا أُطيل عليكم بذكرها، وإلّا فهي موجودة عندي وجاهزة. ومن هنا نرى أنّهم يعترفون بذهاب كثير من الصحابة والتابعين إلى المسح. وقد اعترف بذلك ابن حجر العسقلاني في [فتح الباري]، وابن العربي في [أحكام القرآن]، وابن كثير في [تفسيره]، هؤلاء كلّهم اعترفوا بذهاب جماعة من الصحابة والتابعين والسلف إلى المسح، وفي [بداية المجتهد] لابن رشد: ذهب إليه قوم، أي المسح «52». وأمّا رأي محمّد بن جرير الطبري صاحب التاريخ والتفسير، فقد نقلوا عنه الردّ على القول بتعيّن الغسل، وهذا القول عنه منقول في تفاسير: الرازي والبغوي والقرطبي وابن كثير والشوكاني في ذيل آية الوضوء، وكذا في أحكام القرآن، وفي [شرح المهذّب] للنووي، والمغني لابن قدامة أيضاً، وفي غيرها من الكتب «53». وإلى الآن ظهردليل القول بالمسح من الكتاب والسنّة، على أساس كتب السنّة ورواياتهم، وظهر أنّ عدّة كثيرة من الصحابة والتابعين يقولون بتعيّن المسح، ويروون هذا الحديث عن رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم)، فإذا فشل القوم من إثبات مذهبهم- الغسل- عن الكتاب والسنّة ماذا يفعلون؟ القرآن لا يمكنهم تكذيبه، لكنَّ الروايات يكذّبونها: في [روح المعاني] للآلوسي: إنّ هذه الروايات كذب ...!! وسأقرأ لكم نصّ عبارة الآلوسي في ذلك. أمّا ابن حجر العسقلاني، ففي [فتح الباري] «54» يقول: نعم، الكتاب والسنّة يدلّان على المسح وإنّ كثيراً من الصحابة قالوا بالمسح، لكنّهم عدلوا عن هذا الرأي. ومن أين عدلوا؟ لا يوضّح هذا ولا يذكر شيئاً!! ومنهم: من يناقش في بعض أسانيد هذه الأحاديث كي يتمكّن من ردّها، وإلّا لخسر الكتاب والسنة كليهما، فهؤلاء مشوا على هذا الطريق، وسأذكر بعضهم. ومنهم: الذين حرّفوا هذه الأحاديث- الأحاديث الدالّة على المسح- وجعلوها دالّة على الغسل، وهذه طريقة أُخرى، سجّلت بعضهم وبعض ما فعلوا. فمثلًا في إحدى الروايات عن علي (عليه السلام)، الرواية التي قرأناها، كانت تلك الرواية دالّة على المسح، فجعلوها دالّة على الغسل، يقول الراوي: إنّ عليّاً مسح رجليه، فحُرّف إلى: غسل رجليه، فارجعوا إلى [كنز العمال] «55» وقارنوا بين هذا الخبر في هذه الصفحة وبين رواية أحمد «56»، وأيضاً الطحاوي في [معاني الآثار] «57». ومن ذلك أيضاً الحديث الذي قرأناه عن حمران مولى عثمان، فقد حرّفوه وجعلوه دالّاً على الغسل، فبدلوا قوله: إنّه مسح على قدميه، وجعلوا اللّفظ: غسل قدميه، وهذا الحديث في [مسند أحمد] «58».
النظر في أدلّة القائلين بالغسل
ننتقل الآن إلى دليل القائلين بالغسل من أهل السنّة.
أمّا من الكتاب، فليس عندهم دليل.
قالوا: نستدلّ بالسنّة، فما هو دليلهم؟
إنّ المتتبع لكتب القوم لا يجد دليلًا على القول بالغسل إلّادليلين:
الأوّل: ما اشتمل من ألفاظ الحديث عندهم على جملة: «ويل للأعقاب من النار»، وسأقرأ نصّ الحديث، فهم يستدلّون بهذا الحديث على وجوب الغسل دون المسح.
الثاني: ما يروونه في بيان كيفيّة وضوء النبي (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم)، وسأقرأ لكم بعض تلك الأحاديث.
إذن، لا يدلّ على وجوب الغسل إلّاما ذكرت من الأحاديث:
أوّلًا: ما اشتمل على «ويل للأعقاب من النار».
وثانياً: ما يحكي لنا كيفيّة وضوء رسول اللَّه.
لاحظوا كتبهم التي يستدلّون فيها بهذين القسمين من الأحاديث على وجوب الغسل، مثل [أحكام القرآن] لابن العربي، [فتح الباري]، تفسير [القرطبي]، [المبسوط] و [معالم التنزيل] للبغوي [الكواكب الدراري في شرح البخاري] وغير هذه الكتب، تجدونهم يستدلّون بهذين القسمين من الحديث فقط على وجوب الغسل دون المسح، وعلينا حينئذ أنْ نحقق في هذين الخبرين. الاستدلال بحديث «ويل للأعقاب من النار»: والعمدة هي رواية: «ويل للأعقاب من النار»، وهي من رواية عبداللَّه بن عمرو بن العاص، هذه الرواية موجودة في [البخاري]، وموجودة عند [مسلم]، فهي في الصحيحين، أقرأ لكم الحديث بالسند، ولاحظوا الفوارق في السند والمتن: قال البخاري: حدّثنا موسى، حدّثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن عبداللَّه بن عمرو قال: تخلّف النبي(صلّى اللَّه عليه وآله وسلم)
عنّا في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقنا العصر- أي صلاة العصر- فجعلنا نتوضّأ ونمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار». مرّتين أو ثلاثاً كرّر هذه العبارة.
هذا الحديث في البخاري بشرح ابن حجر العسقلاني «59». وأمّا مسلم، فأخرج ما نصّه: حدّثني زهير بن حرب، حدّثنا جرير وحدّثنا إسحاق أخبرنا جرير، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبداللَّه بن عمرو قال: رجعنا مع رسول اللَّه(صلّى اللَّه عليه وآله وسلم)
من مكّة إلى المدينة- هذه السفرة كانت من مكّة إلى المدينة- حتّى إذا كنّا بماء بالطريق تعجّل قوم عند العصر، فتوضّؤوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسّها الماء [وهذه القطعة من الحديث غير موجودة عند البخاري، وهي المهم ومحل الشاهد] فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسّها الماء، فقال رسول اللَّه: «ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء» «60».
مناقشة الاستدلال بحديث «ويل للأعقاب من النار»:
نقول: عندما نريد أن نحقّق في هذا الموضوع- ولنا الحقّ أنْ نحقق- فأوّلًا نبحث عن حال هذين السندين وفيهما من تُكلّم فيه، لكنّا نغضّ النظر عن البحث السندي، لأنّ أكثر القوم على صحّة الكتابين.
إذن، ننتقل إلى البحث عن فقه هذا الحديث:
لاحظوا في [صحيح البخاري]: فجعلنا نتوضّأ ونمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته «ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار» لكنْ لابدّ وأنْ يكون الكلام متعلّقاً بأمر متقدّم، رسول اللَّه يقول: «ويل للأعقاب من النار» وليس قبل هذه الجملة ذكر للأعقاب، هذا غير صحيح. أمّا في لفظ [مسلم]: فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسّها الماء فقال: «ويل للأعقاب من النار» وهذا هو اللفظ الصحيح. إذن، من هذا الحديث يظهر أنّ أصحاب النبي (صلّى اللَّه عليه وآله) لم يغسلوا أرجلهم في الوضوء، وإنّما مسحوا، لكنّهم لمّا مسحوا لم يمسحوا كلّ ظهر القدم وبقيت الأعقاب لم يمسّها الماء، اعترض عليهم رسول اللَّه، لماذا لم تمسحوا كلّ ظهر القدم؟ ولم يقل رسول اللَّه لماذا لم تغسلوا، قال: لماذا لم تمسحوا كلّ ظهر القدم. ولكنّكم قد تشكّون فيما أقول، ولا تصدّقون، ولا توافقوني في دلالة الحديث على المعنى الذي ذكرته، وتريدون أن آتي لكم بشواهد من القوم أنفسهم، فيكون هذا الحديث دالّاً على المسح دون الغسل!! مع إنّهم يستدلون بحديث عبداللَّه بن عمرو بن العاص على وجوب الغسل دون المسح!! يقول ابن حجر العسقلاني بعد أن يبحث عن هذا الحديث ويشرحه، ينتهي إلى هذه الجملة ويقول: فتمسّك بهذا الحديث من يقول بإجزاء المسح. ويقول ابن رشد- لاحظوا عبارته-: هذا الأثر وإنْ كانت العادة قد جرت بالإحتجاج به في منع المسح، فهو أدلّ على جوازه منه على منعه، وجواز المسح أيضاً مروي عن بعض الصحابة والتابعين «61». رسول اللَّه لم يقل لماذا لم تغسلوا أرجلكم، قال: لماذا لم تمسحوا على أعقابكم، يعني: بقيت أعقابكم غير ممسوحة، وقد كان عليكم أن تمسحوا على ظهور أرجلكم وحتّى الأعقاب أيضاً يجب أنْ تمسحوا عليها، ويل للأعقاب من النار. يقول صاحب [المنار]: هذا أصحّ الأحاديث في المسألة، وقد يتجاذب الاستدلال به الطرفان.أي القائلون بالمسح والقائلون بالغسل «62». وراجعوا سائر عباراتهم، فهم ينصّون على هذا. والحاصل: إنّ رسول اللَّه لم يعترض على القوم في نوع ما فعلوا، أي لم يقل لهم لماذا لم تغسلوا، وإنّما قال لهم: لماذا لم تمسحوا أعقابكم «ويل للأعقاب من النار» وهذا نصّ حديث مسلم، إلّاأنّ البخاري لم يأت بهذه القطعة، فأُريد الاستدلال بلفظه على الغسل. ولا أدري هل لم يأت بالقطعة من الحديث عمداً أو سهواً، وهل أنّه هو الساهي أو المتعمّد، أو الرواة هم الساهون أو المتعمّدون؟ ولمّا كان هذا الحديث الذي يريدون أن يستدلّوا به للغسل، كان دالّاً على المسح، اضطرّوا إلى أن يحرّفوه، لاحظوا التحريفات، تعمّدت أن أذكرها بدقّة: فالحديث بنفس السند الذي في صحيح مسلم الدالّ على المسح لا الغسل، بنفس السند، يرويه أبو داود في [سننه] ويحذف منه ما يدلّ على المسح «63». وهكذا صنع الترمذي في [صحيحه]، والنسائي في [صحيحه]، وابن ماجة في [صحيحه]، كلّهم يروون الحديث عن منصور عن هلال بن يسار عن يحيى عن عبداللَّه بن عمرو، نفس السند الذي في [صحيح مسلم]، لكنّه محرّف، قارنوا بين الألفاظ «64»، وهذا غريب جدّاً. أمّا النسفي، فلو تراجعون [تفسيره] في ذيل الآية المباركة يقول هكذا: قد صحّ أنّ النبي رأى قوماً يمسحون على أرجلهم فقال: «ويل للأعقاب من النار» «65» وكم فرق بين هذا اللفظ ولفظ مسلم. أمّا في [مسند أحمد] وتبعه الزمخشري في [الكشّاف]، فجعلوا كلمة الوضوء بدل المسح. ففي [صحيح مسلم] يقول: فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم تمسّها الماء.يقول أحمد في [المسند] وفي [الكشّاف] ينقل: وعن ابن عمرو بن العاص كنّا مع رسول اللَّه فتوضّأ قوم وأعقابهم بيض تلوح فقال: «ويل للأعقاب من النار» «66». قارنوا بين اللفظين لتروا كيف يحرّفون الكلم عن مواضعها متى ما كانت تضرّهم. الاستدلال بحديث كيفية وضوء رسول اللَّه ومناقشته: وأمّا الحديث الثاني، الحديث الذي يروونه في كيفية وضوء رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه وآله وسلم)، استدلّوا به على الغسل دون المسح، وهو الحديث الذي يرويه حمران عن عثمان بن عفّان. فظهر أنّ الحديث الذي يروونه عن حمران بن عثمان بن عفّان يروونه على شكلين: تارة يدلّ على المسح، وتارة يدلّ على الغسل، والسند نفس السند والراوي حمران نفسه. النصّ في البخاري: حدّثنا عبدالعزيز بن عبداللَّه الأويسي، حدّثني إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب- هذا الزهري- أنّ عطاء بن يزيد أخبره: أنّ حمران مولى عثمان أخبره: أنّه رأى عثمان بن عفّان دعا بإناء فأفرغ على كفّه ثلاث مرّات فغسلهما، ثمّ أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق، ثمّ غسل وجهه ثلاثاً ويديه إلى المرافق ثلاث مرّات، ثمّ مسح برأسه ثمّ غسل رجليه [والحال قرأنا: مسح رجليه] ثمّ غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين، ثمّ قال: قال رسول اللَّه: «من توضّأ نحو وضوئي هذا ثمّ صلّى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه، غفر اللَّه ما تقدّم من ذنبه». هذا الحديث في [البخاري بشرح ابن حجر] «67» وفي [مسلم] أيضاً بنفس السند عن الزهري، عن عطاء، عن حمران، عن عثمان بن عفّان. وإذا لاحظتم الإسناد، عبدالعزيز بن عبداللَّه الأويسي: مذكور في [المغني في الضعفاء] للذهبي «68»، وقال أبو داود: ضعيف، وذكره ابن حجر العسقلاني في [مقدّمة فتح الباري] فيمن تكلّم فيه «69». ثمّ إبراهيم بن سعد: ذكره ابن حجر فيمن تكلّم فيه «70»، وأورده ابن عدي في [الكامل في ضعفاء الرجال]» ، وعن أحمد كأنّه بحديثه غضب عليه عثمان فنفاه «71»، وأورده البخاري في [الضعفاء]. وكذا الكلام في سند حديث مسلم وهو ينتهي إلى حمران أيضاً. وبعد التنزّل عن المناقشة السنديّة في هذا الحديث المخرّج في الصحيحين، والتسليم بصحة هذا السند، تكون رواية حمران الدالّة على الغسل معارضة لرواية حمران الدالّة على المسح، ويكون الخبران متعارضين، حينئذ يعرضان على الكتاب، وقد رأينا الكتاب دالّاً على المسح دون الغسل، فالكتاب إذن يكذّب ما يدلّ على الغسل.
خاتمة البحث
إذن، أصبحوا صفر اليدين من الكتاب والسنّة. وحينئذٍ، تصل النوبة إلى السبّ والشتم، وإلى ما لا يتفوّه به عالم، لا يتفوّه به فاضل، فكيف وهو يدّعي أنّه من كبار العلماء! لاحظوا ابن العربي المالكي «72» يقول: إتفقت العلماء على وجوب غسلهما- أي الرجلين- وما علمت من ردّ ذلك، سوى الطبري من فقهاء المسلمين والرافضة من غيرهم. فما معنى هذا الكلام؟ ويقول شهاب الدين الخفاجي في [حاشيته على تفسير البيضاوي]: ومن أهل البدع من جوّز المسح على الرجل «73». ويقول الآلوسي- الكلام الذي وعدتكم بقراءته: لا يخفى أنّ بحث الغسل والمسح ممّا كثر فيه الخصام، وطالما زلّت فيه الأقدام، وما ذكره الإمام [الرازي] يدلّ على أنّه راجل في هذا الميدان [ذكرت لكم أنّ الرازي يوضّح كيفيّة دلالة الآية على المسح بالقراءتين] فلنبسط الكلام في تحقيق ذلك رغماً لأُنوف الشيعة السالكين من السبل كلّ سبيل حالك، ما يزعمه الإماميّة من نسبة المسح إلى ابن عبّاس وأنس بن مالك وغيرهما كذب مفترى عليهم، ونسبة جواز المسح إلى أبي العالية وعكرمة والشعبى زور وبهتان، وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح أو التخيير بينهما إلى الحسن البصري عليه الرحمة. ومثله نسبة التخيير إلى محمّد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير والتفسير الشهير. وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلفة ورواها بعض أهل السنّة ممّن لم يميّز الصحيح والسقيم من الأخبار، بلا تحقّق ولا سند، واتسع الخرق على الراقع، ولعلّ محمّد بن جرير القائل بالتخيير هو محمّد بن جرير رستم الشيعي صاحب المسترشد في الإمامة أبو جعفر، لا أبو جعفر محمّد بن جرير بن غالب الطبري الشافعي الذي هو من أعلام السنّة، والمذكور في تفسير هذا هو الغسل فقط، لا المسح ولا الجمع ولا التخيير الذي نسبه الشيعة إليه «74». يكفي هذا المقدار من السبّ؟ أو تريدون أكثر؟ يكفيكم هذا المقدار!لكن نرى بعضهم لا يتحمّل هذا السبّ على الشيعة وهو ليس من الشيعة. يقول صاحب [المنار] «75»: إنّ في كلامه عفا اللَّه عنه تحاملًا على الشيعة وتكذيباً لهم في نقل وُجد مثله في كتب أهل السنّة كما تقدّم، وظاهره أنّه لم يطلّع على تفسير ابن جرير الطبري. فالآلوسي إذن أصبح جاهلًا لم يطّلع على تفسير ابن جرير الطبري، وهو صاحب التفسير [روح المعاني] على كبره! هذا دفاع أو توجيه وتبرير لسبّ جناب الآلوسي، هذا الشخص الذي يدّعي أنّه من ذريّة رسول اللَّه. قد ظهر إلى الآن: أنّ الصحيح بالكتاب والسنّة هو المسح دون الغسل، وعليه الإماميّة كلّهم، وعليه من صحابة رسول اللَّه كثيرون، على رأسهم أمير المؤمنين (عليه السلام) وابن عبّاس وأنس بن مالك وجماعة آخرون. أمّا أهل السنّة، فالمشهور بينهم الغسل، وقد عرفنا أنّهم لا دليل لهم على هذه الفتوى، ولذا اضطرّ بعضهم إلى أن يقول بالجمع بين الغسل والمسح، وبعضهم خيّر بين الأمرين. لاحظوا، في [المرقاة في شرح المشكاة] للقاري يقول بأنّ أحمد والأوزاعي والثوري وابن جبير يقولون بالتخيير بين المسح والغسل «76». هذه مرحلة من الحقّ، التخيير مرحلة من الحقّ، الحقّ هو المسح على التعيين، لكن نفي تعيين الغسل والتخيير بينه وبين المسح مرحلة على كلّ حال، فهو يدلّ على أنّهم لا دليل لهم على تعيّن الغسل. نعم، لو كان الشتم دليلًا فهو من أعظم الأدلّة. وأمّا الحسن البصري، فقد اختلفوا في رأيه ماذا كان رأيه؟ وأيضاً الطبري صاحب التفسير والتاريخ، خلطوا لئلّا يتبيّن واقع أمره، لاحظوا عباراتهم في حقّ الطبري. فأبو حيّان أخرج الطبري من أهل السنّة وجعله من علماء الشيعة أصلًا، لاحظوا [لسان الميزان] لابن حجر العسقلاني «77». والسليماني- وهو من كبار علمائهم في الجرح والتعديل- لم ينكر كون الطبري من أهل السنّة وإنّما قال: كان يضع للروافض. أييكذب على رسول اللَّه لصالح الشيعة، وهذا تجدونه في [ميزان الاعتدال] «78». والذهبي هنا له نوع من الإنصاف، نزّه الطبري من كونه وضّاعاً للشيعة، وعن كونه من الروافض وقال: هذا من كبار علماء السنّة وما هذا الكلام في حقّه! نعم له رأي في مسألة المسح على الرجلين «79». الرازي وجماعة ينسبون إلى الطبري القول بالتخيير، آخرون ينسبون إليه القول بالجمع، لاحظوا كتاب [المنار] «80». وابن حجر العسقلاني إحتمل أن يكون هذا الطبري المذكور في الكتب هو الطبري الشيعي، واختلط الأمر عليهم والطبري الشيعي أيضاً قائل بالمسح فتصوّر الكتّاب والمؤلّفون والمطالعون أنّ هذا الطبري صاحب التفسير والتاريخ، وهل يُصدّق بهذا؟! إذن، لماذا رماه ذاك بالرفض، ولماذا رماه ذاك بالوضع، ولماذا قال الآخر قولًا آخر في حقّه، ولماذا كلّ هذا؟ عرفتم أنّ القول بالمسح رأي كثير من الصحابة والتابعين، وقول الحسن البصري أيضاً، وقول الطبري صاحب التفسير والتاريخ كذلك، وهناك علماء آخرون أيضاً يقولون بهذا القول. أذكر لكم قضيّة، فلاحظوا، ذكروا «81» بترجمة أبي بكر محمّد بن عمر بن الجعابي- هذا الإمام الحافظ الكبير، والمحدّث الشهير- ذكروا بترجمته أنّهم قد وضعوا علامة على رجله حينما كان نائماً، خطّوا على رجله بقلم أو بشيء آخر وهو نائم لا يشعر، وبعد ثلاثة أيّام رأوا الخطّ موجوداً على رجله، فقالوا بأنّ هذا الشخص لم يصلّ، لأنّه إنْ كان قد صلّى فقد توضّأ، وإن كان قد توضّأ فقد غسل رجله، وحينئذٍ تزول العلامة عن رجله، ولمّا كانت باقيةً فهو إذنْ لم يصلّ هذه المدّة. أقول: إن كان أبو بكر الجعابي تاركاً للصلاة حقيقةً، فهذا ليس غريباً، فكم له من نظير في كبار علمائهم، ولي مذكّرات من كبار علمائهم الأعلام ينصّون بتراجمهم أنّه كان يترك الصلاة، من جملتهم زاهر بن طاهر الشحّامي النيسابوري، يصرّحون بأنّ هذا المحدّث كان يترك الصلاة مع أنّهم يعتبرونه من كبار الحفّاظ، يعتمدون على روايته بل يجعلونه من جملة الشهود عند الحكّام، والشاهد يجب أن يكون عادلًا، وكأنّ ترك الصلاة لا يضرّ بالعدالة. فإن كان الجعابي تاركاً للصلاة فكم له من نظير. أمّا إذا كان يمسح على رجله كالشيعة ولا يغسل رجله، فتبقى العلامة على رجله لا ثلاثة أيّام ولربّما خمسين يوماً إذا لم يذهب إلى الحمام ليغسل، فيبقى الخطّ على رجله، فيدور أمر الجعابي، بين أن يكون تاركاً للصلاة فكم له من نظير، أو إنّه على قول أصحابنا الإماميّة في هذه المسألة.
وصلّى اللَّه على محمّد وآله الطاهرين.
الهوامش
ـــــــــــــــــــــ
( 1) سورة المائدة( 5): 6.
( 2) تفسير القرطبي 6/ 91.
( 3) أحكام القرآن لابن العربي 2/ 576.
( 4) إملاء ما منّ به الرحمان 1/ 209.
( 5) تفسير الزمخشري 1/ 598.
( 6) روح المعاني 3/ 251.
( 7) المبسوط في فقه الحنفيّة 1/ 8.
( 8) شرح فتح القدير لابن همام 1/ 11.
( 9) المغني في الفقه 1/ 123.
( 10) تفسير الرازي 11/ 161.
( 11) غنية المتملّي: 16.
( 12) حاشية السندي 1/ 88.
( 13) تفسير القاسمي( محاسن التأويل) 6/ 112.
( 14) أحكام القرآن 2/ 578.
( 15) تفسير بحر المحيط 3/ 452.
( 16) تفسير القرطبي 6/ 92.
( 17) تفسير بحر المحيط 3/ 452.
( 18) تفسير الخازن 2/ 17.
( 19) تفسير ابن كثير 2/ 28.
( 20) عمدة القاري 2/ 362.
( 21) الصاوي على البيضاوي 1/ 270.
( 22) تفسير المنار( المنار في تفسير القرآن) 6/ 194.
( 23) عمدة القاري 2/ 362.
( 24) إملاء ما منّ به الرحمان 1/ 209.
( 25) روح المعاني 3/ 246- 248.
( 26) تفسير بحر المحيط 3/ 452.
( 27) فتح القدير 2/ 18.
( 28) تفسير النيسابوري 2/ 557.
( 29) تفسير القرطبي 6/ 94.
( 30) أنظر: تفسير المراغي 6/ 63.
( 31) مسند أحمد 1/ 95، 114، 116، 124، شرح معاني الآثار 1/ 35.
( 32) المصنّف 1/ 26، كنز العمّال 9/ 444.
( 33) المنتخب من مسند عبد بن حميد: 61، كنز العمّال 9/ 448.
( 34) كنز العمّال 9/ 448، 605.
( 35) أنظر: أحكام القرآن للجصّاص 1/ 347.
( 36) الدرّ المنثور 2/ 262.
( 37) سنن أبي داود 1/ 197.
( 38) سنن النسائي 1/ 241.
( 39) سنن ابن ماجة 1/ 156.
( 40) شرح معاني الآثار 1/ 35.
( 41) المستدرك على الصحيحين 1/ 241.
( 42) سنن البيهقي 1/ 44، 2/ 354.
( 43) الدرّ المنثور 2/ 262.
( 44) شرح معاني الآثار 1/ 35.
( 45) الإستيعاب 1/ 195.
( 46) الإصابة 1/ 490.
( 47) أسد الغابة 1/ 217.
( 48) كنز العمّال 9/ 451.
( 49) عمدة القاري 2/ 364.
( 50) كنز العمّال 9/ 442.
( 51) تفسير ابن كثير 2/ 27.
( 52) عمدة القاري 2/ 364.
( 53) المصدر 2/ 364.
( 54) بداية المجتهد 1/ 16.
( 55) تفسير القرطبي 6/ 92، فتح القدير للشوكاني 2/ 18، المجموع 1/ 417، المغني في الفقه 1/ 121.
( 56) فتح الباري 1/ 232.
( 57) كنز العمّال 9/ 448.
( 58) مسند أحمد 1/ 157.
( 59) شرح معاني الآثار 1/ 34.
( 60) مسند أحمد 1/ 58 و 61.
( 61) صحيح البخاري 1/ 21، 49، فتح الباري 1/ 233.
( 62) صحيح مسلم 1/ 147، صحيح مسلم بشرح النووي 2/ 127 و 129.
( 63) بداية المجتهد 1/ 17.
( 64) تفسير المنار 6/ 189.
( 65) سنن أبي داود 1/ 30.
( 66) سنن ابن ماجة 1/ 154، سنن الترمذي 1/ 30، سنن النسائي الكبرى 1/ 89.
( 67) تفسير النسفي 1: 309.
( 68) مسند أحمد 2/ 193، تفسير الزمخشري 1/ 598.
( 79) صحيح البخاري 1/ 48، صحيح مسلم 1/ 141، فتح الباري 1/ 208.
( 70) المغني في الضعفاء، ميزان الإعتدال 2/ 630.
( 71) هدى الساري: 419.
( 72) المصدر: 385.
( 73) الكامل في الضعفاء 1/ 124، 246.
( 74) أنظر: ميزان الإعتدال 1/ 604، تهذيب التهذيب 3/ 21.
( 75) نسبه إليه القرطبي في تفسيره 6/ 91، والشوكاني في فتح القدير: 2 ولم أجده في كتابه أحكام القرآنالموجود حالياً.
( 76) الشهاب على البيضاوي 3/ 220.
( 77) روح المعاني 3/ 226.
( 78) تفسير المنار 6/ 193.
( 89) المرقاة في شرح المشكاة 1/ 351.
( 80) لسان الميزان 5/ 100.
( 81) ميزان الإعتدال 3/ 498.
( 82) سير أعلام النبلاء 14/ 277.
( 83) تفسير المنار 6/ 191.
( 84) سير أعلام النبلاء 16/ 90. |