بسم الله الرحمن الرحيم
ذكَرْ العلماء أنَّ الصفات الإِلهيّة على نَوعين: صفات الجمال، وصفات الجلال، وأنّ ما هو من سِنخ الكمال ومقولته يُسمّى «الصفات الجماليّة» أو «الثبوتية»، وما هو من مقولة النقص وسنخه يسمّى «الصفات الجلالية» أو «السلبية».
والهَدَف من الصّفات السَلبيّة هو تنزيه ذات اللَّه سبحانه من النقص، والحاجة والفقر.
إنّ اللَّه تعالى- لكونه غنيّاً موصوفاً بالكمال المطلق- منَّزهٌ عن كُلّ وصفٍ يحكي النقص، والحاجة والفقر، ولهذا قال علماء العقيدة المسلمون (علماء الكلام) إنّ اللَّه ليس بجسمٍ ولا جسماني، ولا محلًا لِشيءٍ، ولا حالّاً في شيء، ذلك لأنّ كل هذه الخصوصيات ملازمة للنقص والاحتياج ومستتبعة للفقر والإمكان، وهي تعارضُ كونه غنياً غنىً مطلقاً، وتنافي كونه واجبَ الوجود قطعاً ويقيناً.
إنّ اللَّه لا يرى بالعين مطلقاً هذا ومن الصفات التي تحكي النقص كون الشيء مرئياً، ذلك لأن الشيء لا يكون مرئياً إلّابعد تحقّق شروط ضرورية هي:
ألف: أن يكون في مكانٍ وجهةٍ خاصةٍ.
ب: أن لا يكون في ظلمة، بل يشع عليه النور.
ج: أن يكون بينه وبين الرائي فاصلة معينة ومسافة مناسبة.
ومن الواضح أنّ هذه الشرائط من آثار الكائن الجسماني ومن خصائص الموجود المادّي لا الإله ذي الوجود الأسمى والأعلى من ذلك. هذا مضافاً إلى أنّ كون اللَّه مرئياً لا يخلو من حالتين:
إمّا أن يكونَ كلّ وجودِه مرئياً.
وإمّا أن يكونَ بعض وجودِه مرئياً.
وفي الصورة الأُولى يكون الله المحيط؛ مُحاطاً ومحدوداً.
وفي الصورة الثانية يكونُ الحق تعالى ذا أجزاء وأبعاض.
وكلا الأمرين لا يليقان باللَّه سبحانه فهو تعالى محيطٌ غير محاط به، مطلق غير مقيد، منزّه عن التركب والتبعّض.
على أنَّ ما قلناه يرتبط بالرؤية الحسيّة والبصرية، لا الرؤية القلبيّة، والشهود الباطنيّ الّذي يتحقّق للمرء بفضل الإيمان الكامل، واليقين الصادق فإنّ هذا القسمَ خارجٌ عن محطّ البحث، وإطار النقاش. ولا ريب في إمكان وقوعه بل وقوعه لأولياءِ اللَّه، وعبادة الصالحين المقربين.
قال ذعلب اليمانيّ- وهو من أصحاب الامام علي (عليه السلام) قلت للإِمام (عليه السلام) هل رأيتَ ربَّك يا أميرَ المؤمنيِن؟
قالَ الإمامُ عليه السلام: «أفَأَعْبُدُ ما لا أرى».
فقال ذعلب: وكيف تراهُ؟
فقال (عليه السلام): «لَا تراهُ العُيُونُ بمشاهدة العَيانِ وَلكِنْ تدرِكهُ القُلُوب بِحَقائِقِ الإِيمانِ» «1».
إنّ الرؤية بالبصر علاوةً على كونِها ممتنعةً عقلًا، مرفوضةً من جانبِ القرآن الكريم، فقد صرّحَ القرآن الكريم بنفِي إمكان ذلك.
فعندما طَلَب النبيّ موسى (عليه السلام) من اللَّه (تحت إلحاحٍ وضغطٍ مِن قومه) أن يريه نفسَه ردّ عليه سبحانه بالنفي المؤكد المؤبد كما يقول: قائلًا: «رَبّ أرِنِي أَنْظُرُ إلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي» «2».
ويمكن أن يَسأَل أحد: إذا كانت رؤيةُ اللَّه بالبصر والعَين غير ممكنة فلماذا قال القرآن الكريم: «وُجُوهٌ يَوْمِئِذٍ ناضِرَةٌ* إلى رَبِّها ناظِرَةٌ» «3».
والجواب على ذلك هو: أنّ المقصود من النظر في الآية الكريمة، هو انتظار الرحمة الإلهية، لأنّ في الآية شاهدين على ذلك:
1- إن النظر في هذه الآية نُسِبَ إلى الوجوه وقال ما معناه: إنّ الوجوه المسرورة تنظرُ إليه.
ولو كان المقصود هو رؤية اللَّه بالبصر لنُسِبَ النظرإلى العيون لا إلى الوجوه.
2- إن الكلام في هذه السورة عن فريقين: فريق يتمتّع بوجوهٍ مسرورةٍ مشرقةٍ وقد بيّن ثوابَها بقوله: «إلى رَبّها ناظِرَةٌ».
وفريق يتسم بوجوه حَزينة مكفهرّة وقد بيّن جزاءها وعقابها بقوله: «تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بها فاقِرَةٌ».
والمقصود من الفقرة الثانية واضح وهو أنّ هذا الفريق يعلم بأنّه سيصيبه عذابٌ يفقر الظهر، ويكسره ولهذا فهو ينتظر مثل هذا العذاب الأليم. وبقرينة المقابلة بين هذين الفريقين يمكن معرفة المقصود من الآية الأُولى وهو أنَّ أصحاب الوجوه المسرورة تنتظر رحمة الله ، فقوله تعالى: «إلى رَبّها ناظِرة» كنايةٌ عن انتظار الرَّحمة الإلهية، ولهذا النّوع من التكنية وذكر شيء وإرادة شيء آخر كنايةً نظائر في المحاورات العرفية فيقال فلانٌ عينه على يد فلان أيأنّه ينتظر إفضالهَ وإنعامه عليه.
وخلاصة القول؛ أنّه كما ينتظر أصحابُ الوجوهِ الحزينةِ عذاباً إلهيّاً، ينتظرُ أصحابُ الوجوهِ المسرورةِ رحمةً إلهيةً كُنّي بها بالنَظَر إليه جرياً على العادةِ المألوفةِ في المحاورات العرفيّة العربيّة، وبقرينة المقابلة التي هي من قوانين البلاغة وقواعدها.
هذا مضافاً إلى أنّه يجب أن لا يُكتفى في تفسير الآيات القرآنية بآيةٍ واحدةٍ بل لابدّ من استعراض ما يشابهُها من الآيات من حيثُ الموضوع،والتوصل إلى المفهوم الحقيقي بعد ملاحظة مجموعة تلك الآيات.
وفي مسألة الرُؤية لو لاحظنا كلّ الآيات المتعلّقة بها في القرآن الكريم، بالإضافةِ إلى الأحاديثِ الشريفةِ في هذا المجال لاتّضحَ عدمُ إمكان رؤية اللَّه تعالى في نظر الإسلام من دون غموضٍ.
وفي خاتمة المطاف تفسّر الرؤية الواردة في قصة موسى (عليه السلام) مع أصحابه، انّ موسى (عليه السلام) اختار من قومه سبعين رجلًا لميقات ربه لكي يشاهدوا نزول التوراة، فلمّا بلغوا الميقات اقترحوا عليه ان يريهم اللَّه سبحانه، يقول تعالى:
«وإذ قُلتم يا موسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللَّهَ جَهْرَةً» «4»
، وقال سبحانه: «يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتابِ أن تُنَزِّلَ عَلَيْهِم كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنا اللَّه جَهْرةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ» «5» فلما أفاقوا بدعاء من نبيهم موسى (عليه السلام) اقترحوا عليه شيئاً آخر، فقالوا: إنك تسمع كلام اللَّه وتصفه لنا أدع ربك حتّى يريك نفسه فتنقله إلينا فأصرّوا وألَحّوا في ذلك، فطلب موسى (عليه السلام) بضغط وإِلحاح من قومه ان يريه اللَّه ذاته مع علمه بامتناع رؤيته، وقال: «رَبّ أَرِنِي أنْظُرْ إلَيْكَ» فوافاه الجواب: «قالَ لَنْ تَرانِي» «6».
فتبيَّن من ذلك انّ طلب موسى لم يكن من تلقاء نفسه بل كان إجابة لإِلحاح قومه المعروفين باللجاج والإصرار.
((1))نهج البلاغة الخطبة179
((2))الاعراف143
((3))القيامة22-23
((4))البقرة55
((5))النساء153
((6))الاعراف143
|