بسم اللَّه الرحمن الرحيم
موضوع بحثنا مسألة الصحابة.
لا خلاف في أنّ لأصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلم دوراً في تقدّم الإسلام، وأنهم قد ضحّوا في سبيل هذا الدين، ونصروه بمواقفهم في الحروب والغزوات وغير ذلك من المخاطر التي توجّهت إليه، وإلى شخص النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلم.
ولا خلاف أيضاً في أنّ كثيراً من تعاليم هذا الدين وأحكام هذه الشريعة إنّما وصلت إلى سائر المسلمين بواسطة هؤلاء الأصحاب.إنّما الكلام في أنّنا هل يجب علينا أن ننظر إلى كلّ واحدٍ واحدٍ منهم بعين الاحترام؟ وأن نقول بعدالتهم واحداً واحداً؟ بحيث يكون الصحابي فوق قواعد الجرح والتعديل، ولا تناله يد الجرح والتعديل أصلًا وأبداً؟ أو أنّهم مع كلّ ما قاموا به من جهود في سبيل هذا الدين، وبالرغم من مواقفهم المشرّفة، أفراد مكلّفون كسائر الأفراد في هذه الأمة؟الحقيقة: إنّنا ننظر إلى الصحابة على أساس التقسيم التالي، فإنّ الصحابة ينقسمون إلى قسمين:قسم منهم: الذين ماتوا في حياة رسول اللَّه، بحتف الأنف، أو استشهدوا في بعض الغزوات، فهؤلاء نحترمهم باعتبار أنّهم من الصحابة الذين نصروا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلم وأعانوه في سبيل نشر هذا الدين.القسم الثاني منهم: من بقي بعد رسول اللَّه، وهؤلاء الذين بقوا بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلم ينقسمون أيضاً إلى قسمين:فمنهم: من عمل بوصية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلم ، وأخذ بسنّته، وطبّق أوامره.ومنهم: من خالف وصيّته، ولم يطعه في أوامره ونواهيه صلّى اللَّه عليه وآله وسلم وانقلب على عقبيه.أمّا الذين عملوا بوصيّته، فنحن نحترمهم، ونقتدي بهم.وأمّا الذين لم يعملوا بوصيّته، وخالفوه في أوامره ونواهيه، فنحن لا نحترمهم. هذا هو التقسيم.فإنْ سئلنا عن تلك الوصيّة التي كانت المعيار والملاك في هذا الحب وعدم الحب، فالوصية هي: حديث الثقلين، إذ قال صلّى اللَّه عليه وآله وسلم في الحديث المتّفق عليه: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي، ما إنْ تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي ...» إلى آخر الحديث .هذه خلاصة عقيدتنا، ونتيجة بحثنا عن عدالة الصحابة.
وأمّا البحث التفصيلي:
تعريف الصحابي لغة:الصحابي في اللغة هو: الملازم، هو المعاشر للإنسان، يقال: فلان صاحب فلان، أي معاشره وملازمه وصديقه مثلًا.وقال بعض اللغويين: إنّ الصاحب لا يقال إلّالمن كثرت ملازمته ومعاشرته، وإلّا فلو جالس الشخص أحداً مرّةً أو مرّتين، لا يقال إنّه صاحَبَه أو تصاحبا، راجعوا: [لسان العرب]، و [القاموس]، و [المفردات] للراغب الإصفهاني، و [المصباح المنير] للفيّومي، في مادة «صحب».الصحابي اصطلاحاً:إنّماالكلام في المعنى الاصطلاحي والمفهوم المصطلح عليه بين العلماء للفظ الصحابي، هل إذا أطلقوا كلمة الصحابي وقالوا: فلان صحابي، يريدون نفس المعنى اللّغوي، أو أنّهم جعلوا هذا اللفظ لمعنىً خاصٍ يريدونه، فيكون مصطلحاً عندهم؟بالمعنى اللغوي لا فرق بين أنْ يكون الصاحب مسلماً أو غير مسلم، بين أن يكون عادلًا أو فاسقاً، بين أن يكون برّاً أو فاجراً، يقال: فلان صاحب فلان.لكن في المعنى الاصطلاحي بين العلماء من الشيعة والسنّة، هناك قيد الإسلام بالنسبة لصحابي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله، إنْ لم يكن الشخص مسلماً، فلا يُعترف بصحابيّته، وبكونه من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله، فهذا القيد متفق عليه ومفروغ منه.وهل هناك قيد أكثر من هذا؟ بأن تضيَّق دائرة مفهوم هذه الكلمة أو لا؟لعلّ خير كلمة وقفت عليها ما ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدّمة كتابه [الإصابة في معرفة الصحابة]. فإنه يقول:وأصحّ ما وقفت عليه من ذلك: أنّ الصحابي من لقي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مؤمناً به ومات على الإسلام «1».في هذا التعريف الذي هو أصح، يكون المنافق صحابيّاً، ويؤيّدون هذا التعريف بما يروونه عن النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلم من أنّه قال في حقّ عبد اللَّه بن أُبي المنافق المعروف: «فلعمري لنحسننّ صحبته مادام بين أظهرنا»، فيكون هذا المنافق صحابيّاً، وهذا موجود في [الطبقات] لابن سعد وغيره من الكتب «2».فإذن، يكون التعريف الأصح عامّاً، يعمُّ المنافق والمؤمن بالمعنى الأخصّ، يعمّ البرّ والفاجر، يعمّ من روى عن رسول اللَّه، يعمّ من عاشر رسول اللَّه ولازَمه ومن لم يعاشره ولم يلازمه ومن لم يرو عنه، لأنّ المراد والمقصود والمطلوب هو مجرّد الإلتقاء برسول اللَّه، ولذا يقولون بأنّ مجرَّد رؤية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلم محققة للصحبة، مجرّد الرؤية! يقول الحافظ ابن حجر: وهذا التعريف مبني على الأصح المختار عند المحققين، كالبخاري وشيخه أحمد بن حنبل ومن تبعهما، ووراء ذلك أقوال أُخرى شاذة.فيكون هذا القول هو القول المشهور المعروف بينهم.ثمّ يقول ابن حجر في الطريق إلى معرفة كون الشخص صحابيّاً: يعرف كون الشخص صحابياً لرسول اللَّه بأشياء، أوّلها: أن يثبت بطريق التواتر أنّه صحابي، ثمّ بالاستفاضة والشهرة، ثمّ بأنْ يروى عن أحد من الصحابة أنّ فلاناً له صحبة، ثمّ بأنْ يقول هو إذا كان ثابت العدالة والمعاصرة: أنا صحابي.وهذا طريق معرفة كون الشخص صحابيّاً ل رسول اللَّه، التواتر ثمّ الشهرة والاستفاضة، ثمّ قول أحد الصحابة، ثمّ دعوى نفس الشخص- بشرط أنْ يكون عادلًا وبشرط المعاصرة- أن يقول: أنا صحابي.وحينئذ، يبحثون: هل الملائكة من جملة صحابة رسول اللَّه؟ هل الجنّ من جملة صحابة رسول اللَّه؟ هل الذي رأى رسول اللَّه ميّتاً- أيرأى جنازة رسول اللَّه ولو لحظةً- هو صحابي أو لا؟فمن كان مسلماً ورأى رسول اللَّه ومات على الإسلام فهو صحابي.والإسلام ماذا؟ شهادة أنْ لا إله إلّا اللَّه، وشهادة أنّ محمّداً رسول اللَّه.فكلّ من شهد الشهادتين، ورأى رسول اللَّه ولو لحظةً، ومات على الشهادتين، فهو صحابي.فلاحظوا، كيف يكون قولهم بعدالة الصحابة أجمعين، كأنّهم سيقولون بعدالة كلّ من كان يسكن مكة، وكلّ سكّان المدينة المنورة، وكلّ من جاء إلى المدينة أو إلى مكّة والتقى ب رسول اللَّه ولو لحظة، رأى رسول اللَّه ورجع إلى بلاده، فهو صحابي، وإذا كان صحابيّاً فهو عادل.ولذا يبحثون عن عدد الصحابة، وينقلون عن بعض كبارهم أنّ عدد الصحابة ممّن رآه وسمع منه زيادة على مائة ألف إنسان من رجل وامرأة.وهنا يعلّق بعضهم ويقول: بأنّ أبا زرعة الرازي الذي قال هذا الكلام قاله في من رآه وسمع منه، أمّا الذي رآه ولم يسمع فأكثر وأكثر من هذا العدد بكثير.توفّي النبي ومن رآه وسمع منه زيادة على مائة ألف إنسان، من رجل وامرأة، قاله أبو زرعة.فقال ابن فتحون في ذيل الاستيعاب: أجاب أبو زرعة بهذا سؤال من سأله عن الرواة خاصة، فكيف بغيرهم»!إذن، عرفنا سعة دائرة مفهوم الصحبة والصحابي، وعرفنا أنّ مصاديق هذا المفهوم لا يعدّون كثرةً، ومع ذلك نراهم يقولون بعدالة الصحابة أجمعين، وهذا هو القول المشهور بينهم، وربما أُدّعي الإجماع على هذا القول كما سيأتي.
الأقوال في عدالة الصحابة:في الحقيقة، الأقوال في عدالة الصحابة هي:أوّلًا: عدالة الصحابة جميعاً.ثانياً: كفر الصحابة جميعاً.ثالثاً: أقوال بين التكفير والتعديل.أمّا كفرهم جميعاً، فقول طائفة أو طائفتين من المسلمين، ذكر هذا القول في بعض المصادر ونقله عنهم السيّد شرف الدين في كتاب [أجوبة مسائل جار اللَّه] «3».وهذا القول لا نتعرض له، ولا نعتني به، لأنّه قول اتفق المسلمون- أي الفرق كلها- على بطلانه، فيبقى هناك قولان.
القول بعدالة جميع الصحابة :يقول ابن حجر العسقلاني: اتفق أهل السنّة على أن الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلّاشذوذ من المبتدعة «4».ويقول الحافظ ابن حزم: الصحابة كلّهم من أهل الجنّة قطعاً «5».ويقول الحافظ ابن عبد البر: ثبتت عدالة جميعهم ...، لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنّة والجماعة «6».إنّ أهل العلم يعلمون بأنّ الحافظ ابن عبد البر صاحب [الاستيعاب] متّهم بينهم بالتشيّع، وممّن يتّهمه بهذا ابن تيميّة في منهاج السنّة، فيظهر أنّ الإتّهام بالتشيّع متى يكون، يكون حيث يروي ابن عبد البر روايةً تنفع الشيعة، يروي منقبة لأمير المؤمنين ربّما لا يرتضيها ذلك الشخص، فيتّهم ابن عبد البر بالتشيّع، على أنّهم كلّهم عدول.وقال ابن الأثير في [أُسد الغابة]: كلّهم عدول لا يتطرّق إليهم الجرح «7».في هذه النصوص أمران:الأمر الأوّل: هو القول بعدالة الصحابة كلّهم.الأمر الثاني: دعوى الإجماع على عدالة الصحابة كلّهم.
مناقشة الإجماع:في مقابل هذا القول نجد النصوص التالية:يقول ابن الحاجب في [مختصر الأُصول]: الأكثر على عدالة الصحابة.وقيل: هم كغيرهم، وقيل قول ثالث: إلى حين الفتن، فلا يقبل الداخلون، لأنّ الفاسق غير معيّن، قول رابع:وقالت المعتزلة: عدول إلّا من قاتل علياً «8».إذن، أصبح الفارق بين المعتزلة وغيرهم من قاتل علياً.يقول أهل الحق وهم أهل السنة والجماعة: إنّ من قاتل عليّاً عادل!ويقول المعتزلة: الذين قاتلوا عليّاً ليسوا بعدول.هذه عبارة مختصر الأُصول لابن الحاجب، وراجعوا أيضاً غير هذا الكتاب من كتب علم الأُصول.ثمّ إذا دقّقتم النظر، لرأيتم التصريح بفسق كثير من الصحابة، من كثير من أعلام القوم، أقرأ لكم نصّاً واحداً.يقول سعد الدين التفتازاني، وهذا نصّ كلامه، ولاحظوا عبارته بدقّة: إنّ ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ، والمذكور على ألسنة الثقات، يدلّ بظاهره على أنّ بعضهم- بعض الصحابة- قد حاد عن طريق الحق، وبلغ حد الظلم والفسق، وكان الباعث له الحقد والعناد، والحسد واللداد، وطلب الملك والرئاسة «9».قول التفتازاني: وكان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللداد، وطلب الملك والرئاسة، والميل إلى اللذّات والشهوات إذ ليس كلّ صحابي معصوماً، ولا كلّ من لقي النبي بالخير موسوماً إلّا أنّ العلماء لحسن ظنّهم بأصحاب رسول اللَّه، ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق، وذهبوا إلى أنّهم فى حقّ كبار الصحابة، سيّما المهاجرين منهم والأنصار، والمبشّرين بالثواب في دار القرار «10».ففي هذا النص اعتراف بفسق كثير من الصحابة، واعتراف بأنّهم حادوا عن الحق، وظلموا، وبأنّهم كانوا طلّاب الملك والدنيا، وبأنّهم وبأنّهم، إلّاأنّه لابدّ من تأويل ما فعلوا؛ لحسن الظنّ بهم!!
وقد خاطب أبو بكر معشر المهاجرين: بأنّكم تريدون الدنيا، وستور الحرير، ونضائد الديباج، وتريدون الرئاسة، وكلّكم يريدها لنفسه، وكلّكم ورم أنفه.
فظهر أنّ الإجماع المدّعى على عدالة الصحابة كلّهم في غير محلّه وباطل ومردود، ولا سيّما وأنّ مثل سعد الدين التفتازاني وغيره الذين يصرّحون بمثل هذه الكلمات، هؤلاء مقدّمون زماناً على ابن حجر العسقلاني، فدعوى الإجماع من ابن حجر مردودة، ولا أساس لها من الصحة.حينئذ، يأتى دور البحث عن أدّلة القول بعدالة الصحابة أجمعين، أي أدلّة القول الأوّل.الاستدلال بالكتاب والسنّة على عدالة جميع الصحابة:استدلّ القائلون بهذا القول، بآيات من القرآن الكريم، وبأحاديث، وبأمرٍ اعتباري، فتكون وجوه الاستدلال لهذا القول، ثلاثة وجوه: الكتاب، السنّة، والأمر الاعتباري.لنقرأ نصّ عبارة الحافظ ابن حجر، عن الحافظ الخطيب البغدادي، في مقام الاستدلال على هذه الدعوى.يقول الحافظ ابن حجر: أنّ الخطيب في [الكفاية]- يعني: كتابه الكفاية في علم الدراية- أفرد فصلًا نفيساً في ذلك فقال:عدالة الصحابة ثابتة معلومة، بتعديل اللَّه لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم، فمن ذلك قوله تعالى:الآية الأُولى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» «11».الآية الثانية: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطاً» «12».الآية الثالثة: «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ» «13».الآية الرابعة: «السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» «14».الآية الخامسة: «يَا أيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» «15».ثمّ الآية الأُخرى: «لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» إلى قوله تعالى: «إنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» «16»، في آياتٍ يطول ذكرها.ثمّ أحاديث شهيرة، يكثر تعدادها، وجميع ذلك يقتضي القطع بتعديلهم، ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل اللَّه له إلى تعديل أحدٍ من الخلق «17».إذن، تمّ الاستدلال بالكتاب والسنّة.وأمّا الإستدلال الاعتباري، لاحظوا هذا الاستدلال، إنّه يقول:على أنّهم لو لم يرد من اللَّه و رسوله فيهم شيء ممّا ذكرناه، لأوجبت الحال التي كانوا عليها، من الهجرة والجهاد ونصرة الإسلام وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأبناء، والمناصحة في الدين وقوّة الإيمان واليقين، أوجب كلّ ذلك القطع على تعديلهم، والإعتقاد بنزاهتهم، وأنّهم كافّةً أفضل من جميع الخالفين بعدهم، والمعدّلين الذين يجيؤون من بعدهم، هذا مذهب كافّة العلماء ومن يعتمد قوله.ثمّ روى الخطيب البغدادي بسنده إلى أبي زرعة الرازي قال: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلم فاعلم أنّه زنديق، وذلك أنّ الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنّما أدّى إلينا ذلك كلّه الصحابة، وهؤلاء يريدون أنْ يجرحوا شهودنا، ليبطلوا الكتاب والسنّة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة «18».إذن، الدليل آياتٌ من القرآن، وروايات، وهذا الدليل الاعتباري الذي ذكرناه.نصّ العبارة ينقلها الحافظ ابن حجر ويعتمد عليها، ثمّ يضيف الحافظ ابن حجر بعد هذا النص، يقول: والأحاديث الواردة في تفضيل الصحابة كثيرة.وفرق بين هذه العبارة، وبين المدعى فكان المدّعى عدالة الصحابة كلهم، لكنْ تبدّل العنوان، وأصبح المدّعى: الأحاديث الواردة في تفضيل الصحابة كثيرة.ثم قال ابن حجر: من أدلّها على المقصود، ما رواه الترمذي وابن حبّان في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن مغفل قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلم: « اللَّه اللَّه في أصحابي، لا تتّخذوهم غرضاً، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللَّه، ومن آذى اللَّه فيوشك أنْ يأخذه» «19».فهذا حديث من تلك الأحاديث التي أشار إليها الخطيب البغدادي، ولم يذكر شيئاً منها، إلّاأنّ أدلّها وأحسنها في نظر ابن حجر العسقلاني هذا الحديث الذي ذكره.
مناقشة الاستدلال: فنحن إذن لابدّ وأنْ نبحث عن هذه الأدلّة، لنعرف الحقّ من غيره في مثل هذه المسألة المهمة.قبل الورود في البحث عن هذه الأدلّة، أُضيف أنّهم على أساس هذه الأدلّة يقولون بحجيّة سنّة الصحابة، ويقولون بحجيّة مذهب الصحابي، ويستدلّون بهذه الأدلّة من الآيات والأحاديث، مضافاً إلى حديث يعتمد عليه بعضهم في الكتب الأُصوليّة، وإنْ كان باطلًا من حيث السند عندهم كما سنقرأ، وهو: «أصحابي كالنجوم فبأيّهم اقتديتم اهتديتم».يدلّ هذا الحديث على أنّ كلّ واحدٍ واحدٍ من الصحابة يمكن أن يُقتدى به، وأن يصل الإنسان عن طريق كلّ واحدٍ منهم إلى اللَّه سبحانه وتعالى، بأن يكون واسطة بينه وبين ربّه، كما سنقرأ نصّ عبارة الشاطبي.وبهذا الحديث- أي حديث أصحابي كالنجوم- تجدون الاستدلال في كتاب [المنهاج] للقاضي البيضاوي، وفي [التحرير] لابن الهمام وفي [مسلّم الثبوت] و [إرشاد الفحول] وغير ذلك من الكتب الأُصوليّة، حيث يبحثون عن سنّة الصحابة وعن حجية مذهب الصحابي، والصحابي كما عرفناه: كلّ من لقي رسول اللَّه ورآه ولو مرّةً واحدةً وهو يشهد الشهادتين.بل استدلّ الزمخشري بحديث أصحابي كالنجوم في تفسيره [الكشّاف]، يقول: فإنْ قلت: كيف كان القرآن تبياناً لكلّ شيء [لأنّ اللَّه سبحانه وتعالى يصف القرآن بأنّه تبيان لكلّ شيء، فإذا كان القرآن تبياناً لكلّ شيء، فلابدّ وأن يكون فيه كلّ شيء، والحال ليس فيه أحكام كثير من الأشياء فيجيب عن هذا السؤال:] قلت: المعنى: إنّه بيّن كلّ شيء من أُمور الدين، حيث كان نصّاً على بعضها، وإحالة على السنّة حيث أمر باتّباع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلم وطاعته وقال: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» «20»، وحثّاً على الإجماع في قوله: «وَيَتّبِع غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ» «21»، وقد رضي رسول اللَّه لأمّته اتّباع أصحابه والاقتداء بآثاره في قوله: «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم»، فمن ثمّ كان القرآن تبياناً لكلّ شيء «22».وأمّا التحقيق في الأدلّة التي ذكرها الخطيب البغدادي، وارتضاها ابن حجر العسقلاني، وحديث أصحابي كالنجوم، فيكون على الترتيب التالي:الآية الأُولى: قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» «23».أولًا: الاستدلال بهذه الآية لِعدالة الصحابة أجمعين موقوف على أنْ تكون الآية خاصة بهم، والحال أنّ كثيراً من مفسّريهم يقولون بأنّ الآية عامّة لجميع المسلمين.لاحظوا عبارة ابن كثير في [تفسيره] يقول: والصحيح أنّ هذه الآية عامّة في جميع الأُمّة «24».ثانياً: قوله تعالى: «تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» في ذيل الآية المباركة حكمه حكم الشرط، أي إنْ كنتم، أي ما دمتم، وهذا شيء واضح يفهمه كلّ عربي يتلو القرآن الكريم، ونصّ عليه المفسّرون، لاحظوا كلام القرطبي:«تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» مدحٌ لهذه الأُمّة ما أقاموا على ذلك واتّصفوا به، فإذا تركوا التغيير- أي تغيير الباطل- وتواطؤوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سبباً لهلاكهم «25».وقال الفخر الرازي والنظام النيسابوري في [تفسيريهما]: وهذا يقتضي كونهم آمرين بكلّ معروف وناهين عن كلّ منكر، والمقصود به بيان علّة تلك الخيريّة «26».وحينئذ نقول: كلّ من اتّصف بهذه الصفات فهو أهل لأنْ نقتدي به وإلّا فلا، فيكون البحث حينئذ صغروياً، ويكون البحث في المصداق، ولا نزاع في الكبرى، أي لا يوجد أي نزاع فيها.الآية الثانية: قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً » «27».هذه الآية مفادها- كما في كثير من تفاسير الفريقين «28»- أنّ اللَّه سبحانه وتعالى جعل الأُمّة الإسلاميّة أُمّة وسطاً بين اليهود والنصارى، أو وسطاً بمعنى عدلًا بين الإفراط والتفريط في الأُمور، فالآية المباركة تلحظ الأُمّة بما هي أُمّة، وليس المقصود فيها أنْ يكون كلّ واحد من أفرادها موصوفاً بالعدالة، لأنّ واقع الأمر، ولأنّ الموجود في الخارج، يكذّب هذا المعنى، ومن الذي يلتزم بأنّ كلّ فردٍ فردٍ من أفراد الصحابة كان «خير أُمّة أُخرجت للناس» «كذلك جعلناكم أُمّةً وسطاً» أي عدلًا، ومن يلتزم بهذا؟إذن، لا علاقة للآية المباركة بالأفراد، وإنّما المقصود من الآية مجموع الأُمّة من حيث المجموع.الآية الثالثة: «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابِهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» «29».أوّلًا: هذه الآية مختصة بأهل بيعة الرضوان، بيعة الشجرة، ولا علاقة لها بسائر الصحابة، فيكون الدليل أخص من المدّعى.ثانياً: في الآية المباركة قيود، في الآية رضا اللَّه سبحانه وتعالى عن المؤمنين، الذين بايعوا «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُوْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الْشَّجَرَةِ»، ثمّ إنّ هناك شرطاً آخر وهو موجود في القرآن الكريم «إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّما يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ ...» إلى آخر الآية «30».قال المفسرون كابن كثير والزمخشري وغيرهما: إنّ رضوان اللَّه وسكينته مشروطة بالوفاء بالعهد وعدم نكث العهد «31».فحينئذ، كلّ من بقي على عهده مع رسول اللَّه فنحن أيضاً نعاهده على أنْ نقتدي به، وهذا ما ذكرناه في بداية البحث. الآية الرابعة: قوله تعالى: «والسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أبَداً» «32».والاستدلال بهذه الآية لعدالة عموم الصحابة في غير محلّه، لأنّ موضوع الآية «السَّابِقُونَ الأوَّلُونَ».حينئذ، من المراد من السابقين الأوّلين؟ قيل: أهل بدر، وقيل: الذين صلّوا القبلتين، وقيل: الذين شهدوا بيعة الشجرة.كما اختلفوا أيضاً في معنى التابعين «وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ» على أقوال عديدة موجودة في تفاسيرهم «33».وأخرج البخاري عن البراء بن عازب قيل له: طوبى لك، صحبت النبي وبايعته تحت الشجرة، قال: إنّك لا تدري ما أحدثنا بعده»وإقرار العقلاء على أنفسهم حجة!!وليس المقرّ بذلك هو البراء وحده، بل هذا وارد عن جمع من الصحابة وفيهم عائشة، ولا يخفى اشتمال اعترافهم على الإحداث، وهو اللفظ الذي جاء في الصحاح عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلم في أحاديث الحوض الآتية. الآية الخامسة: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» «34».هذه الآية لو راجعتم التفاسير لرأيتموها نازلةً في واقعة بدر بالإتفاق، وفي معنى الآية قولان:القول الأول: أييكفيك اللَّه والمؤمنون المتّبعون لك.القول الثاني: إنّ اللَّه يكفيك ويكفي المؤمنين بعدك أو معك.وكأنّ الاستدلال- أياستدلال الخطيب البغدادي- يقوم على أساس التفسير الأوّل، وإذا كان كذلك، فلابدّ وأنْ يؤخذ الإيمان والإتّباع والبقاء على المتابعة ل رسول اللَّه بعين الاعتبار، ونحن أيضاً موافقون على هذه الكبرى، وإنّما البحث سيكون بحثاً في المصاديق. الآية السادسة: «لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِين أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِين تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةً وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيْمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ» «35».هذه كلّ الآيات.واستدلّ الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني بهذه الآيات المباركة، وفيها قيود وصفات وشروط وحالات، فكلّ من اجتمعت فيه هذه الصفات والحالات فنحن نقتدي به، لكن لابدّ وأنْ تكون الآية ناظرة إلى عموم الأُمّة الإسلاميّة، وإلّا فكلّ فرد فرد من الأُمّة، وحتّى من الصحابة، يكون قد اجتمعت فيه هذه الصفات والحالات؟ هذا لا يدّعيه أحد، حتى المستدل لا يدّعيه.بقي الكلام في الحديث الذي استدلّ به ابن حجر العسقلاني، لأنّ الخطيب لم يذكر حديثاً!الحديث الأول: « اللَّه اللَّه في أصحابي لا تتخذوهمغرضاً، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللَّه فيوشك أن يأخذه».قال الشاطبي حيث استدلّ بهذا الحديث: من كان بهذه المثابة حقيق أنْ يتَّخذ قدوة وتجعل سيرته قبلة «36».ونحن أيضاً نقول: من كان بهذه المثابة، حقيق أن يتّخذ قدوة وتجعل سيرته قبلة.وهل كلّ فرد فرد من الأصحاب يكون الإنسان إذا أحبّه فقد أحبّ رسول اللَّه، وإذا أبغضه فقد أبغض رسول اللَّه: «فبحبّي أحبّهم ... فببغضي أبغضهم»؟ كلّ فرد فرد هكذا؟ لا أظنّ الخطيب البغدادي، ولا ابن حجر العسقلاني، ولا أيّ عاقل من عقلائهم يدّعي هذه الدعوى.الحديث الثاني: «أصحابي كالنجوم فبأيّهم اقتديتم اهتديتم».وقد أشرت إلى من استدلّ بهذا الحديث، بالتفسير وعلم الأُصول، وحتى في الموارد الأُخرى، وحتّى الكتب الأخلاقية أيضاً، وحتّى في الفقه يستدلّون بهذا الحديث، ولكن مع الأسف، هذا الحديث ليس بصحيح عندهم، لاحظوا العبارات:في شروح التحرير: قال أحمد بن حنبل: لا يصحّ «37».وفي [جامع بيان العلم] لا بن عبد البر؛ قال أبو بكر البزّار: لا يصح «38».وقال ابن حجر في [تخريج الكشّاف]: أورده الدار قطني في غرائب مالك «39».وقال ابن حزم في رسالته في [إبطال القياس]: هذا خبر مكذوب موضوع باطل لم يصح قط «40».وقال ابن حجر في تخريج الكشّاف: ضعّفه البيهقي «41».وقال ابن عبد البر في جامع بيان العلم: إسناده لا يصح «42».وذكر المنّاوي أنّ عساكر ضعّف هذا الحديث «43».وأورده ابن الجوزي في كتاب [العلل المتناهية في الأحاديث الواهية].وبيّن أبو حيّان الأندلسي ضعف هذا الحديث في تفسيره «44».وأورد الذهبي هذا الحديث في أكثر من موضع في [ميزان الاعتدال] ونصّ على بطلانه «45».وأبطل هذا الحديث ابن قيّم الجوزيّة في [إعلام الموقعين] «46»، وابن حجر العسقلاني في [تخريج الكشّاف] المطبوع في هامش الكشّاف «47».وذكر السخاوي هذا الحديث في [المقاصد الحسنة] وضعّفه «48». ووضع السيوطي علامة الضعف على هذا الحديث في كتاب [الجامع الصغير] «49».وضعّفه أيضاً القاري في [شرح المشكاة] «50».وأوضح ضعفه المنّاوي في [فيض القدير] «51».وفوق ذلك كلّه، فإنّ شيخ الإسلام!! ابن تيميّة ينصّ على ضعف هذا الحديث في كتاب [منهاج السنّة] «52».ويبقى الدليل الاعتباري، إنّه إذا لم نوافق على عدالة كلّ فرد فرد من الصحابة، فقد أبطلنا القرآن، فقد أبطلنا السنّة النبويّة، فقد بطل الدين!!والحال إنّنا أبطلنا عدالة الصحابة، ولم يبطل الدين، والدين باقٍ على حاله، والحمد للَّه ربّ العالمين.يقولون هذا وكأنّ الطريق منحصر بالصحابة؟! إنّ الطريق الصحيح منحصر بأهل البيت عليهم السَّلام، وأهل البيت أدرى بما في البيت، أهل البيت هم القادة بعد ال رسول .
الرأي الحقّ في مسألة عدالة الصحابةوأمّا الرأي الحق في المسألة، بعد أن بطلت أدلة القول الأوّل الذي ادعي عليه الإجماع، فهو أنْ ننظر إلى السنّة نظرة أُخرى، فنجد في القرآن الكريم أنّ الذين كانوا حول رسول اللَّه صلّى اللَّه علية وآله وسلم على ثلاثة أقسام:إمّا مؤمنون، وهذا واضح.وإمّا منافقون، وهذا واضح.وإمّا في قلوبهم مرض، وهذا أيضاً واضح.هؤلاء طوائف كانوا حول رسول اللّه.فإذن، ليس كلّ من كان مع رسول اللَّه كان مؤمناً، المؤمنون طائفة منهم، المنافقون طائفة أُخرى، والذين في قوبهم مرض طائفة ثالثة.ومن الجدير بالذكر- وعلى الباحثين أن يتأمّلوا فيما أقول- أنّ في سورة المدّثر وهي- على قول- أوّلُ ما نزل من القرآن الكريم في مكّة المكرّمة، ولو لم تكن أوّل ما نزل فلعلّها السورة الثانية، أو السورة الثالثة، في أوائل البعثة النبويّة والدعوة المحمّديّة نزلت هذه السورة المباركة، في هذه السورة نجد أنّ اللَّه سبحانه وتعالى يقول: «وَ مَا جَعَلْنَا أصْحَابَ النَّارِ إلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا» لاحظوا بدقّة «لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتوا الْكِتَابَ» هذه طائفة من أهل مكّة«وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً» إذنْ، في مكّة عند نزول الآية أُناس كانوا أهل كتاب واناس مؤمنين «وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذا أَرَادَ اللَّه بِهَذَا مَثَلًا» «53».يظهر من هذه الآية المباركة: أنّ حين نزول السورة المباركة في مكة كان الناس في مكّة على أربعة أقسام: كافرون، أهل كتاب، مؤمنون، في قلوبهم مرض.الكافرون معلوم، وهم مشركون، وأهل الكتاب أيضاً معلوم، يبقى المؤمنون وهم الذين آمنوا ب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلم.أمّا الذين في قلوبهم مرض، فمن هم؟ ففي مكّة، المسلمون الذين كانوا حول رسول اللَّه عددهم معيّن محصور، وأفراد معدودون جدّاً، يمكننا معرفة المؤمن منهم من الذي في قلبه مرض، نحن الآن لسنا بصدد تعيين الصغرى، لسنا بصدد تعيين المصداق، لكنّا عرفنا على ضوء هذه الآية المباركة أنّ الناس في مكّة في بدء الدعوة المحمّديّة كانوا على أربعة أقسام: أُناس مشركون كافرون وهذا واضح، وفي الناس أيضاً أهل كتاب وهذا واضح، وفي الناس من آمن ب رسول اللَّه وهذا واضح، الذين في قلوبهم مرض، هؤلاء ليسوا من الذين آمنوا، وليسوا من المشركين والكافرين، وليسوا من أهل الكتاب، فمن هم؟ فيظهر، أنّ هناك في مكّة المكرمة وفي بدء الدعوة المحمديّة أُناساً عنوانهم عند اللَّه وفي القرآن الكريم: «الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ».ولو راجعتم التفاسير لرأيتم القوم متحيّرين في تفسير هذه الآية وحلّ هذه المشكلة، ولن يتمكّنوا إلّاأنْ يفصحوا بالحق وإلّا أنْ يقولوا الواقع، فماداموا لا يريدون الواقع تراهم متحيّرين مضطربين.يقول الفخر الرازي بتفسير الآية «54»- لاحظوا بدقّة-: جمهور المفسّرين قالوا في تفسير قوله: «الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» إنّهم الكافرون، والحال أنّ في قلوبهم مرض قسيم وقسمٌ في مقابل الكافرين، هذا رأي جمهور المفسّرين.ثمّ يقول- لاحظوا بدقّة: وذكر الحسين بن الفضل البجلي: أنّ هذه السورة مكيّة، ولم يكن بمكّة نفاق، فالمرض في هذه الآية ليس بمعنى النفاق.وترك الأمر على حاله، يقول: ليس بمعنى النفاق، إذاً ماذا؟ فهذا قول في مقابل قول جمهور المفسّرين!يقول الفخر الرازي، وهو يريد أنْ يدافع عن قول جمهور المفسّرين، لاحظوا بدقّة قوله: قول المفسّرين حق، وذلك لأنّه كان في معلوم اللَّه تعالى أنّ النفاق سيحدث، أيفي المدينة المنوّرة، فأخبر عمّا سيكون، وعلى هذا تصير هذه الآية معجزة، لأنّه إخبار عن غيب سيقع، وقد وقع على وفق الخبر، فيكون معجزاً!!فكان ذكر الذين في قلوبهم مرض هنا معجزة. لكن لن يرتضي الفخر الرازي أيضاً هذا التوجيه مع ذكره له. والعجيب من الفخر الرازي حيث يقول: جمهور المفسّرين قالوا إنّهم الكافرون، وهو يدافع عن قولهم ويقول: هو حق، ثمّ يحمل الآية على أنّه إخبار عن النفاق الذي سيقع.فإذا كان قول المفسّرين حقّاً، فقد فسّروا بأنّهم الكافرون، وأنت تقول: بأنّ هذا إخبار عن النفاق الذي سيقع في المدينة المنوّرة، فكيف كان قول المفسّرين حقّاً؟ وهذا يكشف عن تحيّرهم واضطرابهم في القضية.وممّا يزيد في وضوح الاضطراب قوله بعد ذلك:- أرجو الملاحظه بدقة-:ويجوز أنْ يراد بالمرض الشك.أي: الذين في قلوبهم شك، لكنْ يعود الإشكال، فمن الذين في قلوبهم شك، في بدء الدعوة في مكّة، في مقابل الذين آمنوا، والذين كفروا، وأهل الكتاب؟فيعلّل كلامه قائلًا: لأنّ أهل مكّة كان أكثرهم شاكّين.فنقول: مَن المراد هنا من أهل مكة؟ هل المراد أهل الكتاب؟ هل المراد الكفّار والمشركون؟ من هؤلاء الذين أكثرهم مشركون؟وقد زاد في الطين بلّةً فقال: وبعضهم كانوا قاطعين بالكذب؟وهذا عجيب من مثل الفخر الرازي، عجيب و اللَّه، وليس ألّاالاضطراب والحيرة!!هذا، والفخر الرازي في مثل هذه المواضع يأخذ من الزمخشري ولا يذكر اسمه وطابقوا بين عبارة الفخر الرازي والزمخشري، لرأيتم الزمخشري جوابه نفس الجواب، ولا أدري تاريخ وفاة الحسين بن الفضل، وربّما يكون متأخّراً عن الزمخشري، فنفس الجواب موجود عند الزمخشري وبلا حلّ للمشكلة «55».ويأتي أحدهم فيأخذ كلام الفخر الرازي والزمخشري حرفيّاً، ويحذف من كلام الفخر الرازي قول الحسين بن الفضل والبحث الذي طرحه الفخر الرازي، وهذا هو الخازن في [تفسيره]، فراجعوا «56».ثمّ جاء المتأخرون، وجوّزوا أنْ يكون المراد النفاق، وأن يكون المراد الشك، وتعود المشكلة، وكثير منهم يقولون المراد الشك أو النفاق، لاحظوا [تفسير] ابن كثير «57» ولاحظوا غيره من المفسّرين، فهؤلاء يفسّرون المرض بالشك، يفسّرون المرض بالنفاق ويسكتون، أييسلّمون بالإشكال أو السؤال.كان في مكّة المكرّمة نفاق، وأنتم تعلمون دائماً أنّ النفاق إنّما يكون حيث يخاف الإنسان على ماله، أو يخاف على دمه ونفسه، فيتظاهر بالإسلام وهو غير معتقد، وهذا في الحقيقة إنّما يحصل في المدينة المنوّرة، لقوّة الإسلام، لتقدّم الدين، ولقدرة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلم، هذا كلّه صحيح. أمّا في مكّة، حيث الإسلام ضعيف، وحيث أنّ النبي مطارد، وحيث أنّه يُؤذى صباحاً ومساءً، فأيّ ضرورة للنفاق، وأيّ معنى للنفاق حينئذ؟ و اللَّه سبحانه وتعالى لم يعبّر بالنفاق، وإنّما عبّر بالمرض في القلب، وفيه نكتة.إذن، كان في أصحاب رسول اللَّه منذ مكّة مَن في قلبه مرض، ومن كان منافقاً، وأيضاً كان حواليه مؤمنون، فكيف نقول إنّهم عدول أجمعون؟ وهذا على ضوء هذه الآية.وأمّا الآيات الواردة في النفاق، أو السورة التي سمّيت بسورة المنافقون، فأنتم بكلّ ذلك عالمون عارفون.وأمّا السنة، فيكفينا من السنّة حديث الحوض، وأنتم كلّكم مطّلعون على هذا الحديث وألفاظه، وهو في الصحيحين، وفي المسانيد وفي المعاجم، وهو من أصحّ الأحاديث المعتبرة المقبولة: «ليردنّ عليّ الحوض رجال ممّن صحبني ورآني، حتّى إذا رفعوا إليّ رأيتهم اختلجوا دوني، فلأقولنّ: يا ربّ أصحابي أصحابي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك».وعنه صلّى اللَّه عليه وآله وسلم «إنّكم تحشرون إلى اللَّه تعالى، ثمّ يؤخذ بقوم منكم ذات الشمال، فأقول: يا ربّ أصحابي، فيقال لي: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم- إشارة إلى قوله تعالى: «أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُم وَمَنْ يَنْقَلِب عَلى عَقِبيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً» «58»- فأقول كما قال العبد الصالح: «كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إنْ تُعَذِّبْهُمْ فّإنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أّنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» «59».قال رسول اللَّه: «بينما أنا قائم إذا زمرة، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلمّ، فقلت: أين؟ قال: إلى النار و اللَّه، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة، حتّى إذا عرفتهم قال: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقهرى، فلا أراهم يخلص منهم إلّامثل همل النعم، فأقول:أصحابي أصحابي، فقيل: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: بعداً بعداً، أو سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي» «60».وإنّا عندما أثبتنا على ضوء الكتاب والسنة القطعية وجود المنافقين ومن في قلبه مرض حول رسول اللَّه، فإنّ هذه الأدلّة تكون قرينة للأدلّة التييستدلّون بها على فرض تمامية دلالتها بالعموم أو الإطلاق، بأن تكون تلك الآيات بعمومها دالّة على فضل أو فضيلة، أو تكون بنحو من الأنحاء دالّة على عدالة الصحابة بصورة عامّة، فتلك الأدلّة التي ذكرناها أو أشرنا إليها ممّا يدلّ على وجود المنافقين والذين في قلوبهم مرض حول رسول اللَّه، تلك الأدلّة تكون مخصّصة أو مقيّدة للآيات والأحاديث التي استدلّ بها على عدالة الصحابة بصورة عامة على فرض تمامية الاستدلال بها.وهذه الأدلّة التي أشرنا إليها تكون قرينة على خروج المنافقين والذين في قلوبهم مرض من تحت تلك العمومات، إمّا تخصّصاً أو تخصيصاً.حينئذ، لا يمكن التمسك بإطلاق أو عموم تلك الآيات أو الروايات على فرض تمامية الاستدلال بها، وعلى فرض تمامية ظهورها في العموم أو الإطلاق.وهذا المقدار يكفينا لأنْ نعرف حكم اللَّه سبحانه وتعالى في المسألة، ولأن نعرف أنّهم يحاولون المستحيل، وغاية ما هناك إنّهم حاولوا أنْ يسدّوا باب أهل البيت، وباب الرواية عن أهل بيت العصمة والطهارة، وأرادوا أن يروّجوا لغيرهم، وعند ما يواجهون مثل هذه القضايا وهذه المشاكل يضطربون ويتحيّرون، ولا يدرون ماذا يقولون، وهذا واقع الأمر.ونحن ليس عندنا أيّ نزاع شخصي مع أحد من الصحابة، ليس عندنا أي خصومة خاصّة مع واحد منهم، إنّما نريد أنْ نعرف ماذا يريده اللَّه سبحانه وتعالى منّا، ونريد أنْ نعرف الذي يريد اللَّه سبحانه وتعالى أنْ يكون قدوةً لنا، وأُسوة لنا، وواسطة بيننا وبينه في الدنيا والآخرة.
وصلّى اللَّه على محمّد وآله الطاهرين.
( 1) الإصابة 1/ 10.
( 2) طبقات ابن سعد 2/ 65، سيرة ابن هشام 3/ 305- وغيرهما.
( 3) الاصابة 1/ 3.
( 4) أجوبة مسائل جار اللَّه: 12.
( 5) الإصابة 1/ 17- 18.
( 6) المصدر 1/ 19.
(7) الإستيعاب 1/ 8.
( 8) أُسد الغابة 1/ 3.
( 9) مختصر الأصول 2/ 67.
( 10) شرح المقاصد 5/ 310.
( 11) المصدر 1/ 310.
( 12) سورة آل عمران( 3): 110.
( 13) سورة البقرة( 2): 143.
( 14) سورة الفتح( 48): 18
(15) سورة التوبة( 9): 100.
( 16) سورة الأنفال( 8): 64.
( 17) سورة الحشر( 59): 8- 10.
( 18) الإصابة 1/ 6 عن الكفاية في علم الرواية: 46.
( 19) الكفاية في علم الرواية: 1046.
( 20) الاصابة 1/ 10.
( 21) سورة النجم( 53): 3.
( 22) سورة النساء( 4): 115.
( 23) تفسير الزمخشري 2/ 628.
( 24) سورة آل عمران( 3): 110.
( 25) تفسير ابن كثير 1/ 399.
( 26) تفسير القرطبي 4/ 173.د
( 27) تفسير الفخر الرازي، تفسير النيسابوري 2/ 232.
( 28) سورة البقرة( 2): 143.
( 29) مجمع البيان لعلوم القرآن 1/ 244، تفسير الزمخشري 1/ 318، القرطبي 2/ 154، النيسابوري 1/ 421.
( 30) سورة الفتح( 48): 18. ( 32) تفسير الزمخشري 3/ 543، ابن كثير 4/ 199.
( 31) الدرّ المنثور 4/ 269، القرطبي 8/ 236، تفسير الزمخشري 2/ 210، ابن كثير 2/ 398.
( 32) صحيح البخاري 5/ 160.
( 33) سورة الأنفال( 8): 64.
( 34) سورة الحشر( 59): 8- 10.
( 35) الموافقات 4/ 79.
( 36) التقرير والتحبير في شرح التحرير، التيسير في شرح التحرير 3/ 243.
( 37) جامع بيان العلم وفضله 2/ 90، إعلام الموقعين 2/ 223، تفسير بحر المحيط 5/ 528.
( 38) الكاف الشاف في تخريج احاديث الكشّاف 2/ 628.
( 39) أنظر: تفسير بحر المحيط 5/ 528.
( 40) الكاف الشاف 2/ 628.
( 41) جامع بيان العلم و فضله 2/ 90.
( 42) فيض القدير 4/ 76.
( 43) تفسير بحر المحيط 5/ 528.
( 44) ميزان الاعتدال 1/ 413، 2/ 102.
( 45) اعلام الموقعين 2/ 223.
( 46) الكاف الشاف 2/ 628.
( 47) المقاصد الحسنة فى بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة: 26- 27.
( 48) الجامع الصغيرة بشرح المناوى 4/ 76.
( 49) المرقاة فى شرح المشكاة 5/ 523.
( 50) فيض القدير 4/ 76.
( 51) منهاج السنّة 7/ 142.
( 52) سورة المدثر( 74): 31.
( 53) تفسير الرازي 30/ 207.
( 54) تفسير الزمخشري 4/ 650.
( 55) تفسير الخازن 4/ 330.
( 56) تفسير ابن كثير 4/ 388.
( 57) سورة آل عمران( 3): 144.
(58) سورة المائدة( 5): 117- 118.
(59) مسند أحمد 1/ 389، 2/ 35، 6/ 33، صحيح البخاري 6/ 69، 8/ 148، 151، 9/ 58، صحيح مسلم 4/ 180، الموطّأ 2/ 462، المستدرك على الصحيحين 4/ 74
|