بسم الله الرحمن الرحيم
ننقل بعض الشواهد على أحقاد قريش وبني أُميّة بالخصوص وضغائنهم على النبي وأهل البيت، حتّى أنّهم كانت تصدر منهم أشياء في حياة النبي (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) ولمّا لم يتمكّنوا من الإنتقام من النبي (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) بالذات، انتقموا من أهل بيته لينتقموا منه. قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) «اللهمّ إنّي أستعديك على قريش، فإنّهم أضمروا لرسولك (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) ضروباً من الشر والغدر، فعجزوا عنها، وحُلت بينهم وبينها، فكانت الوجبة بي والدائرة عليّ، اللهمّ احفظ حسناً وحسيناً، ولا تمكّن فجرة قريش منهما ما دمت حيّاً، فإذا توفّيتني فأنت الرقيب عليهم وأنت على كلّ شيء شهيد» «1».
فيقول أمير المؤمنين(عليه السّلام): إنّ قريشاً أضمروا لرسول اللَّه ضروباً من الشرّ والغدر وعجزوا عنها، واللَّه سبحانه وتعالى حال بينه وبين تلك الشرور أن تصيبه، إلى أنْ توفّي (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) فكانت الوجبة بأمير المؤمنين والدائرة عليه، كما أنّه في هذا الكلام يشير بأنّ قريشاً ستقتل الحسن والحسين أيضاً انتقاماً من النبي (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم).
وقال (عليه السّلام) في خطبة له: «وقال قائل: إنّك يا ابن أبي طالب على هذا الأمر لحريص، فقلت: بل أنتم- واللَّه- أحرص وأبعد، وأنا أخص وأقرب، وإنّما طلبت حقّاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه، فلما قرّعته بالحجة في الملأ الحاضرين هبّ كأنه بهت لا يدري ما يجيبني به.
اللَّهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي، وصغّروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي، ثم قالوا: ألا إنَّ في الحق أنْ تأخذه وفي الحق أن تتركه» «2».
وفي كتاب له (عليه السّلام) إلى عقيل: «فدع عنك قريشاً وتركاضهم في الضلال، وتجوالهم في الشقاق، وجماحهم في التيه، فإنّهم قد أجمعوا على حربي إجماعهم على حرب رسول اللَّه قبلي، فجزت قريشاً عنّي الجوازي، فقد قطعوا رحمي وسلبوني سلطان ابن أُمّي» «3». وروى ابن عدي في [الكامل] في حديثٍ: «فقال أبو سفيان: مثل محمّد في بني هاشم مثل ريحانة وسط نتن، فانطلق بعض الناس إلى النبي (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) فأخبروا النبي، فجاء (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم)- يعرف في وجهه الغضب- حتّى قام فقال: «ما بال أقوام تبلغني عن أقوام» إلى آخر الحديث.
هذا في الكامل لابن عدي «4» بهذا النص، والقائل أبو سفيان.
وهو بنفس السند واللفظ موجود أيضاً في بعض المصادر الأُخرى، إلّاأنّهم رفعوا كلمة: «فقال أبو سفيان»، ووضعوا كلمة: «فقال رجل».لاحظوا [مجمع الزوائد] «5».وعن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب قال: «أتى ناس من الأنصار إلى النبي (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) فقالوا: إنّا نسمع من قومك، حتّى يقول القائل منهم إنّما مثل محمّد مثل نخلة نبتت في الكبا» «6». الكبا الأرض غير النظيفة.لكن هذا الحديث أيضاً في بعض المصادر محرّف.
ثمّ إنّ السبب في هذه الضغائن ماذا؟ ليس السبب إلّاأقربية أمير المؤمنين (عليه السّلام) إلى النبيّ (صلّى اله عليه وآله وسلم) فينتقمون منه انتقاماً من النبيّ، مضافاً إلى مواقف أمير المؤمنين (عليه السّلام) في الحروب وقتله أبطال قريش، وهذا ما صرّح به عثمان لأمير المؤمنين في كلام له معه عليه الصلاة والسلام، أذكر لكم النص الكامل:
ذكر الآبي في كتاب [نثر الدرر]- وهو كتاب مطبوع موجود- وعنه أيضاً ابن أبي الحديد في [شرح نهج البلاغة] عن ابن عباس قال: «وقع بين عثمان وعلي كلام، فقال عثمان: ما أصنع إن كانت قريش لا تحبّكم، وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين كأنّ وجوههم شنوف الذهب» «7».
هذه هي الأحقاد والضغائن، ولم يتمكنّوا من الإنتقام من رسول اللَّه، فانتقموا من أهل بيته كما أخبر هو (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم). وهكذا توالت القضايا، انتقموا من الزهراء وأمير المؤمنين، وانتقموا، وانتقموا، إلى يوم الحسين (عليه السّلام) وبعد يوم الحسين (عليه السّلام) ... وإلى اليوم ....
في بعض ما كان منهم مع علي والزهراء
أي في ذكر بعض الضغائن التي بدت، والقضايا التي وقعت.
ومن الطبيعي أنْ لا يصلنا كلّ ما وقع، وأنْ لا تصلنا تفاصيل الحوادث، مع الحصار الشديد المضروب على الروايات والأحاديث، ومع ملاحقة المحدّثين والرواة، ومنعهم من نقل الأحاديث المهمة، ومع حرق تلك الكتب التي اشتملت على مثل هذه القضايا أو تمزيقها وإعدامها بأيّ شكل من الأشكال.
فإذن، من بعد هذه القرون المتطاولة، ومن بعد هذه الحواجز والموانع، لا نتوقّع أنْ يصل إلينا كلّ ما وقع، وإنّما يمكننا العثور على قليل من ذلك القليل الذي رواه بعض المحدّثين وبعض المؤرخين.
رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) يخبر أهل بيته بأنّ الأمّة ستغدر بهم، وأنّهم سيظهرون ضغائنهم من بعده، وسينتقمون منه أي: سينتقمون من النبي بانتقامهم من بضعته، لأنّها بضعته، والإنتقام من الزهراء انتقام من النبي، وإنّما أبقى هذه البضعة في هذه الأمّة ليختبر الأمّة، وليظهروا ما في ضمائرهم.
ولم تطل المدة، فقد وقع الاختبار، وكانت المدة على الأشهر أشهرُ، ثمّ عادت البضعة إلى رسول اللَّه واتّصلت اللحمة ببدنه المبارك وجسده الشريف، وكلّ ذلك وقع.
وكما قلنا لا نتوقّع أنْ نعثر على كلّ تفاصيل تلك القضايا، ولكننا لو عثرنا على الخمسين بالمائة من القضايا يمكننا فهم الخمسين البقيّة. لقد رأيتم كيف يحرّفون الروايات، حتّى تلك الكلمة القاسية التي يقولها أبو سفيان في حقّ النبي، رأيتم كيف يرفعون اسم أبي سفيان ويضعون مكان الإسم كلمة قال رجل، فكيف تتوقّعون أنْ يروي لنا الرواة كلّ ما حدث بعد رسول اللَّه، أو يتمكّن الرواة من نقل كلّ ما حدث؟وبالرغم من ذلك الحصار الشديد، ومن ذلك المنع الأكيد، ومن ذلك الإرعاب والتهديد، مع ذلك، تبلغنا أطرافٌ من أخبار ما وقع.ونحن لا ننقل في بحثنا هذا إلّامن أهم مصادر أهل السنّة، ولا نتعرّض لِما ورد في كتبنا أبداً، وحتّى أنّا ننقل- قدر الإمكان- عن أسبق المصادر وأقدمها، فلا ننقل في الأكثر والأغلب عن الكتب المؤلَّفة في القرون المتأخّرة. فهنا مسائل:
المسألة الاولى: إحراق بيتها
وقد ذكرنا أنّ القوم قد منعوا من نقل القضايا والحوادث وجزئيّات الأُمور، وتفاصيل الوقائع، أتتوقّعون أن ينقل لكم البخاري أنّ فلاناً وفلاناً وفلاناً أحرقوا دار الزهراء بأيديهما؟! بهذا اللفظ تريدون؟! لقد وجدتم البخاري ومسلماً وغيرهما يحرّفون الأحاديث التي ليس لها من الحسّاسيّة والأهميّة ولا عشر معشار ما لهذه المسألة.
إنّ إحراق بيت الزهراء من الأُمور المسلّمة القطعيّة في أحاديثنا وكتبنا، وعليه إجماع علمائنا ورواتنا ومؤلّفينا، ومن أنكر هذا أو شكّ فيه أو شكّك فيه فسيخرج عن دائرة علمائنا، وسيخرج عن دائرة أبناء طائفتنا كائناً من كان.
أمّا في كتب أهل السنّة، فقد جاءت القضيّة على أشكال، وأنا قد رتّبت القضايا والروايات والأخبار في المسألة ترتيباً، حتّى لا يضيع عليكم الأمر ولا يختلط، وحتّى تكونوا على يقظة ممّا يفعلون في نقل مثل هذه القضايا والحوادث فإنّ القدر الذي ينقلونه أيضاً يتلاعبون به، أمّا الذي لم ينقلوه ومنعوا عنه وتركوه عمداً، فذاك أمر آخر. وسأذكر لكم ما يتعلّق بهذه المسألة تحت عناوين:
1- التهديد بالإحراق:
بعض الأخبار والروايات تقول بأنّ عمر بن الخطّاب قد هدّد بالإحراق، فكان العنوان الأول التهديد، وهذا ما تجدونه في كتاب [المصنّف] لابن أبي شيبة، من مشايخ البخاري المتوفى سنة 235 يروي هذه القضيّة بسنده عن زيد بن أسلم، وزيد عن أبيه أسلم وهو مولى عمر، يقول:
حين بويع لأبي بكر بعد رسول اللَّه، كان علي والزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول اللَّه، فيشاورونها ويرتجعون في أمرهم، فلمّا بلغ ذلك عمر بن الخطّاب، خرج حتّى دخل على فاطمة فقال: يا بنت رسول اللَّه، واللَّه ما أحد أحبّ إلينا من أبيك، وما من أحد أحبّ إلينا بعد أبيك منك، وأيم اللَّه ما ذاك بمانعي إنْ اجتمع هؤلاء النفر عندك أن أمرتهم أن يحرّق عليهم البيت «32».
وفي [تاريخ الطبري] بسند آخر:
«أتى عمر بن الخطّاب منزل علي، وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال: واللَّه لأُحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة، فخرج عليه الزبير مصلتاً سيفه، فعثر فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه» «33».
وأنا أكتفي بهذين المصدرين في عنوان التهديد.
لكن بعض كبار الحفّاظ منهم لم تسمح له نفسه لأنْ ينقل هذا الخبر بهذا المقدار بلا تحريف، لاحظوا كتاب [الاستيعاب] لابن عبد البر، فإنّه يروي هذا الخبر عن طريق أبي بكر البزّار بنفس السند الذي عند ابن أبي شيبة، يرويه عن زيد بن أسلم عن أسلم وفيه: إنّ عمر قال لها: ما أحد أحبّ إلينا بعده منك، ثمّ قال:
ولقد بلغني أنّ هؤلاء النفر يدخلون عليك، ولأن يبلغني لأفعلنّ ولأفعلن «34».
نفس الخبر، بنفس السند، عن نفس الراوي، وهذا التصرف! وأنتم تريدون أنْ ينقلوا لكم إنّه أحرق الدار بالفعل؟ وأيُّ عاقل يتوقّع من هؤلاء أنْ ينقلوا القضيّة كما وقعت؟ إنّ من يتوقّع منهم ذلك إمّا جاهل وإمّا يتجاهل ويضحك على نفسه!!
2- المجيء بقبس أو بفتيلة:
وهناك عنوان آخر، وهو «جاء بقبس» أو «جاء بفتيلة» هذا أيضاً أنقل لكم بعض مصادره:
روى البلاذري المتوفى سنة 224 في [أنساب الأشراف] بسنده: «إنّ أبا بكر أرسل إلى علي يريد البيعة، فلم يبايع، فجاء عمر ومعه فتيلة، فتلقّته فاطمة على الباب، فقالت فاطمة: يا بن الخطّاب، أتراك محرّقاً عَلَيّ بابي؟! قال: نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك» «35». وفي [العقد الفريد] لابن عبد ربّه المتوفى سنة 328: «وأمّا علي والعباس والزبير، فقعدوا في بيت فاطمة حتّى بعث إليهم أبو بكر ليخرجوا من بيت فاطمة وقال له: إنْ أبوا فقاتلهم، فأقبل بقبس من نار على أنْ يضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمة فقالت: يا بن الخطّاب، أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم، أو تدخلوا ما دخلت فيه الأمّة» «36».
أقول: وقارنوا بين النصوص بتأمّلٍ لتروا الفوارق والتصرّفات.
وروى أبو الفداء المؤرخ المتوفى سنة 732 في [المختصر في أخبار البشر] الخبر إلى: وإنْ أبوا فقاتلهم، ثمّ قال: «فأقبل عمر بشيء من نار على أن يضرم الدار» «37».
3- إحضار الحَطَب ليحرّق الدار:
وهذا هو العنوان الثالث، ففي رواية بعض المؤرخين: أحضر الحَطَب ليحرّق عليهم الدار، وهذا في تاريخ المسعودي [مروج الذهب] وعنه ابن أبي الحديد في [شرح النهج] عن عروة بن الزبير، أنّه كان يعذر أخاه عبد اللَّه في حصر بني هاشم في الشِعب، وجمعه الحطب ليحرّقهم، قال عروة في مقام العذر والاعتذار لأخيه عبد اللَّه ابن الزبير: بأنّ عمر أحضر الحطب ليحرّق الدار على من تخلّف عن البيعة لأبي بكر «38».
«أحضر الحطب» هذا ما يقوله عروة بن الزبير، وأولئك يقولون «جاء بشيء من نار» فالحطب حاضر، والنار أيضاً جاء بها، أتريدون أنْ يصرّحوا بأنّه وضع النار على الحطب، يعني إذا لم يصرّحوا بهذه الكلمة ولن يصرّحوا! نبقى في شك أو نشكّك في هذا الخبر، الخبر الذي قطع به أئمّتنا، وأجمع عليه علماؤنا وطائفتنا؟!!
4- المجيء للإحراق:
وهذه عبارة أخرى: إنّ عمر جاء إلى بيت علي ليحرّقه أو ليحْرقه.
وبهذه العبارة تجدون الخبر في كتاب [روضة المناظر في أخبار الأوائل والأواخر] لابن الشحنة المؤرخ المتوفى سنة 882، وكتابه مطبوع على هامش بعض طبعات الكامل لابن الأثير- وهو تاريخ معتبر- يقول: «إنّ عمر جاء إلى بيت علي ليحرّقه على من فيه، فلقيته فاطمة فقال: أُدخلوا فيما دخلت فيه الأمّة».
هذا، وفي كتابٍ لصاحب الغارات إبراهيم بن محمد الثقفي، في [أخبار السقيفة]، يروي عن أحمد بن عمرو البجلي، عن أحمد بن حبيب العامري، عن حمران بن أعين، عن أبي عبد اللَّه جعفر بن محمّد (عليهما السّلام) قال: «واللَّه ما بايع علي حتّى رأى الدخان قد دخل بيته». كتاب السقيفة لهذا المحدّث الكبير لم يصلنا، ولكن نقل هذا المقطع عن كتابه المذكور: الشريف المرتضى في كتاب [الشافي في الإمامة]. وعندما نراجع ترجمة هذا الشخص- إبراهيم بن محمّد الثقفي المتوفى سنة 280 أو 283 نرى من مؤلّفاته كتاب السقيفة وكتاب المثالب، ولم يصلنا هذان الكتابان، وقد ترجم له علماء السنّة ولم يجرحوه بجرح أبداً، غاية ما هناك قالوا:رافضي. نعم هو رافضي، ألّف كتاب السقيفة وألّف كتاب المثالب، ونقل مثل هذه الأخبار، روى مسنداً عن الصادق أبي جعفر بن محمّد: واللَّه ما بايع علي حتّى رأى الدخان قد دخل بيته.
وممّا يدلّ على صحّة روايات هذا الشخص- إبراهيم بن محمد الثقفي- ما ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني قال: لمّا صنّف كتاب المناقب والمثالب أشار عليه أهل الكوفة أن يخفيه ولا يظهره، فقال: أيّ البلاد أبعد عن التشيّع؟ فقالوا له:
إصفهان فحلف أنْ يخفيه ولا يحدّث به إلّافي إصفهان ثقةً منه بصحة ما أخرجه فيه، فتحوّل إلى الإصفهان وحدّث به فيها «39».
وذكره أبو نعيم الاصبهاني في [أخبار إصبهان].
في هذه الرواية: «واللَّه ما بايع علي حتّى رأى الدخان قد دخل بيته»، وأولئك كانوا يتجنبون التصريح بهذه الكلمة، صرّحوا «بالحطب» صرّحوا «بالنار» صرّحوا «بالقبس» صرّحوا «بالفتيلة» صرّحوا بكذا وكذا، إلّاأنّهم يتجنّبون التصريح بكلمة إنّه وضع النار على الحطب، وتريدون أنْ يصرّحوا بهذه الكلمة؟ أما كانوا عقلاء؟
أما كانوا يريدون أنْ يبقوا أحياء؟ إنّ ظروفهم ما كانت تسمح لهم لأنْ يرووا أكثر من هذا، ومن جهةٍ أخرى، كانوا يعلمون بأنّ القرّاء لكتبهم والذين تبلغهم رواياتهم سوف يفهمون من هذا الذي يقولون أكثر ممّا يقولون، ويستشمّون من هذا الذي يذكرون الأُمور الأخرى التي لا يذكرون، أتريدون أنْ يقولوا بأنّ ذلك وقع بالفعل ويصرّحوا به تمام التصريح، حتّى إذا لم تجدوا التصريح الصريح والتنصيص الكامل تشكّون أو تشكّكون، أنّ هذا واللَّه لعجيب!
المسألة الثانية: إسقاط جنينها:
وروايات القوم في هذا الموضع مشوشة جدّاً، يعرف ذلك كلّ من يراجع رواياتهم وأقوالهم وكلماتهم.
لقد نصّت رواياتهم على أنّه كان لعلي (عليه السّلام) من فاطمة (عليها السّلام) ثلاثة ذكور: حسن، وحسين، ومحسن أو محسِّن أو محسَّن، وكان رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) قد سمّى هؤلاء بهذه الأسامي تشبيهاً بأسماء أولاد هارون: شَبَر شُبير ومشبّر، وهذا موجود في: [مسند أحمد] «40»، وفي [المستدرك] وقد صحّحه الحاكم «41»، والذهبي أيضاً صحّحه «42»، وموجود في مصادر أُخرى. فيبقى السؤال: هل كان لعلي ولد بهذا الإسم أو لا؟ قالوا: كان له ولد بهذا الإسم ... فأين صار؟ وما صار حاله؟ يقولون بوجوده ثمّ يختلفون، أتريدون أن يصرّحوا تصريحاً واضحاً لا لبس فيه ولا غبار عليه؟! إنّه في القضايا الجزئيّة البسيطة يتلاعبون بالأخبار والأحاديث، كما رأينا في هذه المباحث، وسنرى في المباحث الآتية، وفي مثل هذه القضيّة تتوقّعون أن يصرّحوا؟ نعم، عثرنا على أفراد معدودين منهم قالوا بالحقيقة وواجهوا ما واجهوا، وتحمّلوا ما تحمّلوا.
أحدهم: ابن أبي دارم المتوفى سنة 352:
قال الذهبي بترجمته: الإمام الحافظ الفاضل أبو بكر أحمد بن محمّد السري بن يحيى بن السري بن أبي دارم التميمي الكوفي الشيعي محدِّث الكوفة، حدّث عنه الحاكم، وأبو بكر ابن مردويه، ويحيى بن إبراهيم المزكِّي، وأبو الحسن ابن الحمّامي، والقاضي أبو بكر الجيلي، وآخرون. كان موصوفاً بالحفظ والمعرفة، إلّاأنّه يترفّض قد ألّف في الحطّ على بعض الصحابة» «43».
لا يقول أكثر من هذا: ألّف في الحطّ على بعض الصحابة، فهو إذنْ يترفّض.
ولو راجعتم كتابه الآخر [ميزان الإعتدال] فهناك يذكر هذا الشخص ويترجم له، وينقل عن الحافظ محمّد بن أحمد بن حمّاد الكوفي الحافظ أبي بشر الدولابي «44» فيقول: قال محمّد بن أحمد بن حمّاد الكوفي الحافظ أبي بشر الدولابي- بعد أن أرّخ موته- كان مستقيم الأمر عامّة دهره، ثمّ في آخر أيّامه كان أكثر ما يُقرأ عليه المثالب، حضرته ورجل يقرأ عليه: إنّ عمر رفس فاطمة حتّى أسقطت بمحسن «45».
كان مستقيم الأمر عامّة دهره، لكنّه في آخر أيّامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب، فهو- إذن- خارج عن الإستقامة!!
أتذكّر أنّ أحد الصحابة وهو عمران بن حصين- هذا الرجل كان من كبار الصحابة، يثنون عليه غاية الثناء، ويكتبون بترجمته إنّ الملائكة كانت تحدّثه، لعظمة قدره وجلالة شأنه «46»- هذا الشخص عندما دنا أجله، أرسل إلى أحد أصحابه، وحدّثه عن رسول اللَّه بمتعة الحج- التي حرّمها عمر بن الخطّاب وأنكر عليه تحريمها- ثمّ شرط عليه أنّه إنْ عاش فلا ينقل ما حدّثه به، وإنْ مات فليحدّث «47». نعم، كان هذا الرجل (ابن أبي دارم) مستقيم الأمر عامّة دهره، اقتضت ظروفه أن لا ينقل مثل هذه القضايا، ولذا كان مستقيم الأمر عامة دهره!! ثمّ في آخر أيّامه عندما دنا أجله وقرب موته، حينئذ، جعل يُقرأ له المثالب واتفق أنْ دخل عليه هذا الراوي ووجد رجلًا يقرأ له هذا الخبر «إنّ عمر رفس فاطمة ...»، فلولا دخول هذا الشخص عليه لما بلغنا هذا الخبر أيضاً، وذلك في أواخر حياته، حتّى إذا مات، أو حتّى إذا أوذي أو ضرب فمات على أثر الضرب، فقد عاش في هذه الدنيا وعمّر عمره.
ورجل آخر هو: النظّام، إبراهيم بن سيّار النظّام ا لمعتزلي المتوفى سنة 231.
هذا أيضاً ينصّ على وقوع هذه الجناية على الزهراء الطاهرة وجنينها، وهذا الرجل كان رجلًا جليلًا، وكان من المعتزلة الجريئين الذين لا يخافون ولا يهابون، وله أقوال مختلفة في المسائل الكلامية تذكر في الكتب، وربّما خالف فيها المشهور بين العلماء، وكانت أقواله شاذّة، إلّاأنّه من كبار العلماء، ذكروا عنه أنّه كان يقول: إنّ عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتّى ألقت الجنين من بطنها، وكان يصيح عمر: أحرقوا دارها بمن فيها، وما كان بالدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين.
وممّن نقل عنه هذا: الشهرستاني في [الملل والنحل]، والصّفدي في [الوافي بالوفيات] «48»، ويوجد قوله هذا في غير هذين الكتابين.وممّن عثرنا عليه: ابن قتيبة صاحب كتاب [المعارف]، لكن لا تراجعون كتاب المعارف الموجود الآن لا تجدون هذه الكلمة فالكتاب محرّف.ابن شهر آشوب المتوفى سنة 588 ينقل عن كتاب المعارف قوله: إنّ محسناً فسد من زخم قنفذ العدوي «49».
أمّا في كتاب المعارف الموجود الآن بين أيدينا المحقق!! فلفظه: أمّا محسن بن علي فهلك وهو صغير «50».
وتجدون في كتاب [تذكرة الخواص] للسبط ابن الجوزي أنه يقول: مات طفلًا «51».
لكن البعض الآخر منهم- وهو الحافظ محمد بن محمد بن معتمد خان البدخشاني وهذا من المتأخرين، وله كتب، منها [نُزل الأبرار فيما صحّ من مناقب أهل البيت الأطهار] يقول بأنّه مات صغيراً «52».
وعندما نراجع ابن أبي الحديد، نراه ينقل عن شيخه- حيث حدّثه قضية هبّار بن الأسود، وأنتم مسبوقون بهذا الخبر، وأنّ هذا الرجل روّع زينب بنت رسول اللَّه فألقت ما في بطنها- قال شيخه: لمّا ألقت زينب ما في بطنها أهدر رسول اللَّه دم هبّار لأنّه روّع زينب فألقت ما في بطنها، فكان لابدّ أنّه لو حضر ترويع القوم فاطمة الزهراء وإسقاط ما في بطنها، لحكم بإهدار دم من فعل ذلك.
هذا يقوله شيخ ابن أبي الحديد.
فيقول له ابن أبي الحديد: أروي عنك ما يرويه بعض الناس من أنّ فاطمة رُوّعت فألقت محسناً؟ فقال: لا تروه عنّي ولا ترو عنّي بطلانه «53». نعم لا يروون، وإذا رووا يحرّفون، وإذا رأوا من يروي مثل هذه القضايا فبأنواع التهم يتّهمون.
المسألة الثالثة: كشف بيتها
وكشف القوم بيت فاطمة الزهراء، وهجموا على دارها، وهذا من الأمور المسلّمة التي لا يشكّ ولا يشكّك فيها أحد حتّى ابن تيميّة، ولو أنّ أحداً شكّ، فيكون حاله أسوأ من حال ابن تيميّة، فكيف لو كان يدّعي التشيّع أو يدّعي كونه من ذريّة رسول اللَّه وفاطمة الزهراء؟ ورووا عن أبي بكر أنّه قال قبيل وفاته: «إنّي لا آسى على شيء من الدنيا إلّا على ثلاث فعلتهنّ ووددت أنّي تركتهنّ، وثلاث تركتهنّ وددت أنّي فعلتهنّ، وثلاث وددت أنّي سألت عنهنّ رسول اللَّه».
وهذا حديث مهم جدّاً، والقدر الذي نحتاج إليه آلان:
أوّلًا: قوله: وودت أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد غلّقوه على الحرب.
ثانياً: قوله: وددت أني كنت سألت رسول اللَّه لمن هذا الأمر فلا ينازعه أحد.
أترونه صادقاً في تمنّيه هذا؟ ألم يكن ممّن بايع يوم الغدير وغير يوم الغدير من المواقف و المشاهد؟
وتجد هذا الخبر- خبر تمنّيه هذه الأُمور- في: [تاريخ الطبري]، وفي [العقد الفريد] لابن عبد ربّه، وفي [الأموال] لأبي عبيد القاسم بن سلّام المحدّث الحافظ الكبير الإمام، وفي [مروج الذهب] للمسعودي، وفي [الإمامة والسياسة] لابن قتيبة «54».
ولكن هنا أيضاً يوجد تحريف، فراجعوا كتاب الأموال، فقد جاء فيه بدل قوله: وددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة، هذه الجملة: وددت أنّي لم أكن فعلت كذا وكذا.
يحذفون الكلام ويضعون بدله كلمة: كذا وكذا!!
أتريدون أنْ ينقلوا الحقائق على ما هي عليه؟ وممّن تريدون هذا؟ وممّن تتوقّعون؟.
أمّا ابن تيميّة، فلا ينكر أصل القضيّة، ولا ينكر تمنّي أبي بكر، وإنّما يبرّر!! لاحظوا تبريره هذه المرّة يقول:
«إنّه كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال اللَّه الذي يقسمه ليعطيه للمسلمين!!»
وكذلك يفعلون!!
وكذلك يقولون!!
ذكرنا مسألة فدك، وإحراق البيت، وإسقاط الجنين، وكشف البيت وهجومهم على البيت بلا إذن وأنّهم فعلوا ما فعلوا!!
قضايا أُخرى:
وبقيت أمور أتعرّض لها باختصار:
الأمر الأوّل:إنّ فاطمة (سلام اللَّه عليها) ماتت ولم تبايع أبا بكر، ماتت وهي واجدة على أبي بكر، وهذا موجود في الصحاح وغيرها، وقد قرأنا نصّ الحديث عن عائشة.
أترون أنّها ماتت بلا إمام؟ ماتت ولم تعرف إمام زمانها؟ ماتت ميتة جاهلية وهي التي فضّلوها على أبي بكر وعمر؟ وهي التي قالوا: بأنّ إيذاءها كفر ومحرّم؟
ماتت بغير إمامٍ ميتةً جاهلية؟ أيقولها أحد؟ فمن كان إمامها؟
الأمر الثاني: إنّ عليّاً (عليه السّلام) لم يؤذن أبا بكر بموت الزهراء، ولم يخبره بأمرها، ولم يحضر لا هو ولا غيره للصلاة عليها.
وأنتم تعلمون أنّ الصلاة على الميّت في تلك العصور كانت من شؤون الخليفة، ومع وجود الخليفة أو أمير المدينة لا يحقّ لأحدٍ أنْ يتقدّم للصلاة على ميّت إلّابإذن خاص، ولذا لمّا دفنوا عبد اللَّه بن مسعود بلا إذن وبلا إخبار من عثمان، أرسل عثمان إلى عمّار بن ياسر وضرب عمّار لهذا السبب، وله نظائر كثيرة.
فكان عدم إخباره أبا بكر للحضور للصلاة رمزاً وعلامةً لرفض إمامته وخلافته.
ولكن القوم يعلمون بأنّ عدم صلاة أبي بكر على الزهراء دليل على عدم إمامته، فوضعوا حديثاً بأنّ عليّاً أرسل إلى أبي بكر، فجاء أبو بكر وجاء معه عمر وعدّة من الأصحاب وصلّوا على الزهراء، واقتدى علي بأبي بكر في تلك الصلاة، وكبّر أبو بكر أربعاً في تلك الصلاة!! لاحظوا الكذب!! أنقل لكم هذا النص:
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني بترجمة عبد اللَّه بن محمّد بن ربيعة بن قدامة القدامي المصيصي: أحد الضعفاء، [هذا الشخص أحد الضعفاء] أتى عن مالك [مالك بن أنس] بمصائب منها:
عن جعفر بن محمّد يرويه عن أبيه الباقر عن جدّه قال: توفّيت فاطمة ليلًا، فجاء أبو بكر وعمر وجماعة كثيرة، فقال أبو بكر لعلي: تقدّم فصلِّ، قال لا، لا واللَّه لا تقدّمت وأنت خليفة رسول اللَّه، فتقدّم أبو بكر وكبّر أربعاً «55».
وهذا من مصائب أُمّتنا، أنْ لا تنقل القضايا كما هي، وتوضع في مقابلها موضوعات يتقوّلون على أهل البيت ويضعون الأخبار عن أهل البيت أنفسهم! وكم له من نظير.
الأمر الثالث: وكان دفنها ليلًا بوصيةٍ منها، لتبقى مظلوميّتها على مدى التاريخ، وخطاب أمير المؤمنين رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) عند دفنها يكشف للتاريخ جوانب كثيرة من المصائب والحقائق، وحقيق على كّل مؤمن أن يراجع تلك الخطبة لأمير المؤمنين عند دفن الزهراء (سلام اللَّه عليها).
يقول ابن تيميّة في مقام الجواب: كثير من الناس دفنوا ليلًا.
ولكن فاطمة أوصت أن تغسّل ليلًا وأن تدفن ليلًا، وأنْ لا يخبر أحد ممّن آذاها.
( 1) شرح نهج البلاغة 20/ 298.
( 2) شرح نهج البلاغة، الخطبة: 172.
( 3) المصدر 16/ 151.
( 4) الكامل في ضعفاء الرجال 3/ 28.
( 5) مجمع الزوائد 8/ 215.
( 6) المصدر 8/ 215.
( 7) شرح نهج البلاغة 9/ 22.
( 8) الدرّ المنثور 4/ 177.
(9) منهاج السنّة 7/ 13.
( 10) الصواعق المحرقة: 31.
( 11) شرح المواقف 8/ 356.
( 12) جامع الأصول 10/ 557.
( 13) صحيح مسلم 5/ 128.
( 14) سنن أبي داود 3/ 419.
( 15) شرح المواقف 8/ 356.
( 16) الإصابة 4/ 432.
( 17) الكواكب الدراري في شرح البخاري 10/ 125.
( 18) فتح الباري 4/ 375.
( 19) عمدة القاري 12/ 121.
( 20) صحيح البخاري- باب غزوة خيبر، صحيح مسلم- كتاب الجهاد والسير.
( 21) تفسير الرازي 9/ 210.
( 22) المختصر في علم الأصول 2/ 59 بشرح العضد.
( 23) المحصول في علم الأصول 2/ 85.
( 24) المستصفى من علم الأصول 2/ 121.
( 25) الإحكام في أصول الأحكام 2/ 75 و 348.
( 26) كشف الأسرار عن اصول البزدوي 2/ 688.
( 27) كنز العمّال 12/ 605 ح 14071.
( 28) شرح المواقف 8/ 355.
( 29) شرح المقاصد 5/ 278.
( 30) الكامل في ضعفاء الرجال 2/ 518.
( 31) تذكرة الحفّاظ 2/ 684، وأنظر: سير أعلام النبلاء 13/ 509، ميزان الإعتدال 2/ 600.
( 32) المصنّف 7/ 432.
( 33) تاريخ الطبري 3/ 202.
( 34) الإستيعاب 3/ 975.
( 35) أنساب الأشراف 1/ 586.
( 36) العقد الفريد 5/ 13.
( 37) المختصر في أحوال البشر 1/ 156.
( 38) مروج الذهب 3/ 86، شرح ابن أبي الحديد 20/ 147.
( 39) لسان الميزان 1/ 102.
( 40) مسند أحمد 1/ 118.
( 41) المستدرك على الصحيحين 3/ 165.
( 42) تلخيص المستدرك.
( 43) سير أعلام النبلاء 15/ 576.
( 44) المصدر 14/ 309
( 45) ميزان الإعتدال 1/ 139.
( 46) الإصابة 3/ 26.
( 47) نصّ الخبر: عن مطرف قال: بعث إليّ عمران بن حصين في مرضه الذي توفّي فيه، فقال: إنّي محدّثك بأحاديث، لعلّ اللَّه أنْ ينفعك بها بعدي، فإنْ عشت فاكتم عَلَيّ وإنْ متُّ فحدّث بها إنْ شئت، إنّه قد سُلّم علي، واعلم أنْ نبي اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) قد جمع بين حج وعمرة، ثمّ لم ينزل فيها كتاب اللَّه، ولم ينه عنها نبي اللَّه، فقال رجل برأيه فيها ما شاء. راجع باب جواز التمتّع من الصحيحين، وهو في المسند 4/ 434.
( 48) الملل والنحل 1/ 59، الوافي بالوفيات 6/ 17.
( 49) مناقب آل أبي طالب 3/ 358.
( 50) المعارف: 211.
( 51) تذكرة خواص الأمة: 54.
( 52) نزل الأبرار بما صحَّ من مناقب أهل البيت الأطهار: 74.
( 53) شرح نهج البلاغة 14/ 192.
( 54) كتاب الأموال: 131، الإمامة والسياسة 1/ 18، تاريخ الطبري 3/ 430، العقد الفريد 2/ 254.
( 55) لسان الميزان 3/ 334 |