• الموقع : الأئمة الإثني عشر عليهم السلام .
        • القسم الرئيسي : إشكالاتنا العقائدية على فرق المسلمين .
              • القسم الفرعي : في الامامة .
                    • الموضوع : دلالة حديث الطير على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام .

دلالة حديث الطير على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام

بسم اللَّه الرحمن الرحيم‏

موضوع بحثنا حديث الطير.وهو أيضاً من الأحاديث التي نستدلّ بها على إمامة أمير المؤمنين (عليه السّلام)، إنّه حديثٌ سعى‏ المخالفون لإخفائه ومنع نقله وانتشاره بين المسلمين، حتّى‏ أدّى‏ ذلك إلى جهل كثير من الناس - وربّما من أبناء الحق - بهذا الحديث الذي رواه أكثر من عشرة من الصحابة. ولابدّ من البحث حول هذا الحديث في جهات عديدة.

الجهة الاولى‏: رواة حديث الطير وأسانيده.‏

نبدأ بأسماء الصحابة الذين وصلتنا رواياتهم لهذا الحديث الشريف، وهم:

أولًا: علي أمير المؤمنين (عليه السّلام)، ويوجد حديثه عند ابن عساكر«1»، وغيره من كبار المحدّثين، وأشار إليه الحاكم النيسابوري في المستدرك«2».

ثانياً: سعد بن أبي وقّاص، وحديثه يوجد في حلية الأولياء«3» لأبي نعيم الحافظ الإصفهاني.

ثالثاً: أبو سعيد الخدري، وحديثه يوجد في تاريخ ابن كثير«4»، وغيره، وأشار إليه الحاكم في المستدرك«5».

رابعاً: أبو رافع، وحديثه يوجد عند ابن كثير«6».

خامساً: أبو الطفيل المكّي، وأخرج حديثه الحافظ ابن عقدة، والحاكم‏ النيسابوري«7»، وغيرهما.

سادساً: جابر بن عبد اللَّه الأنصاري، ويوجد حديثه عند ابن عساكر، وابن كثير«8».

سابعاً: حبشي بن جنادة، ويوجد حديثه عند ابن كثير«9».

ثامناً: يعلى‏ بن مرّة، ويوجد حديثه عند الخطيب البغدادي، وابن كثير«10».

تاسعاً: عبد اللَّه بن عباس، وحديثه عند الطبراني«11».

عاشراً: سفينه مولى‏ رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله)، ويوجد حديثه عند ابن عساكر«12»، وأشار إليه الحاكم النيسابوري«13».

الحادي‏ عشر: عمرو بن العاص، ويوجد حديثه في كتاب له إلى معاوية بن أبي سفيان، روى‏ ذلك الكتاب الخطيب الخوارزمي في كتاب المناقب«14».

الثاني عشر: أنس بن مالك، وهو المشهور برواية هذا الحديث، لأنّه صاحب القصّة.وهذا الحديث الشريف وارد من طرق أصحابنا، عن الأئمّة الأطهار (عليهم السّلام)، وعن بعض الأصحاب، حتّى‏ أنّ أبا الشيخ الحافظ الإصفهاني روى‏ هذا الحديث عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السّلام) في كتابه، وهو من كبار حفّاظ أهل السنّة.فهؤلاء رواة هذا الحديث من الصحابة.وأمّا رواته من التابعين، فإنّ التابعين الرواة لهذا الحديث عن أنس بن مالك فقط يبلغون حدود التسعين رجلًا.

ومن رواته من أئمّة المذاهب:

1- أبو حنيفة.

2- أحمد بن حنبل.

3- مالك بن أنس.

4- الإمام الأوزاعي، ذلك الفقيه الكبير الذي كان يعدّ مذهبه مذهباً مستقلًا من بين المذاهب، إلى أن حصروا المذاهب في الأربعة المشهورة.ومن رواته جماعة كبيرة من مشايخ البخاري ومسلم.وكثير من رواته من رجال الصحاح الستّة عند أهل السنّة.ولنذكر أسماء أشهر مشاهير رواة هذا الحديث من أئمة الحديث وكبار الحفّاظ في القرون المختلفة:

1- شعبة بن الحجّاج، أمير المؤمنين في الحديث، كما يلقّبونه «15».

2- الأوزاعي، الإمام المعروف.

3- مالك بن أنس، إمام المذهب.

4- أبو حنيفة، صاحب المذهب.

5- أحمد بن حنبل، صاحب المذهب.

6- أبو عاصم النبيل، شيخ البخاري.

7- أحمد بن حنبل.

8- عبدالرزاق الصنعاني، شيخ البخاري.

9- البخاري نفسه، يروي هذا الحديث، لكن لا في صحيحه، بل في تاريخه الكبير«16»، وسنذكر نصّ حديثه فيما بعد.

10- البلاذري، صاحب أنساب الأشراف.

11- أبو حاتم الرازي، الذي هو من أقران البخاري ومسلم.

12- الترمذي، صاحب الصحيح.

13- أبو بكر البزّار، صاخب المسند.

14- النسائي، صاحب الصحيح.

15- أبو يعلى‏ الموصلي، صاحب المسند.

16- محمّد بن جرير الطبري، صاحب التاريخ والتفسير المعروفين.

17- ابن أبي حاتم، صاحب التفسير، والمحدّث الكبير الذي يعدّونه من الأبدال «17».

18- ابن عبدربّه، في العقد الفريد.

19- أبو الحسين المحاملي، صاحب الأمالي.

20- أبو العباس ابن عُقدة، له كتاب في حديث الطير.

21- المسعودي المؤرخ، صاحب مروج الذهب.

22- أبو القاسم الطبراني، صاحب المعاجم الثلاثة.

23- أبو الشيخ الاصفهاني، صاحب كتاب طبقات المحدّثين بإصفهان.

24- ابن السقا الواسطي، هذا الحافظ الكبير من علماء القرن الرابع، وسنذكر قصّته في حديث الطير.

25- أبو حفص ابن شاهين، له كتاب في حديث الطير.

26- أبو الحسن الدارقطني، صاحب كتاب العلل.

27- أبو عبد اللَّه الحاكم النيشابوري، صاحب المستدرك، وله كتاب بطرق حديث الطير.

28- أبو بكر ابن مردويه، له كتاب في طرق حديث الطير.

29- أبو نعيم الأصفهاني، صاحب حلية الأولياء وغيره من الكتب، له كتاب في طرق حديث الطير.

30- أبو طاهر ابن حمدان الخراساني، المحدّث الكبير، له كتاب في طرق حديث الطير.

31- أبو بكر البيهقي، صاحب السنن الكبرى‏.

32- ابن عبدالبر، صاحب الإستيعاب.

33- الخطيب البغدادي، صاحب تاريخ بغداد.

34- محي السنّة البغوي، صاحب مصابيح السنّة.

35- رزين العبدري، صاحب الجمع بين الصحاح الستّة.

36- أبو القاسم ابن عساكر، صاحب تاريخ دمشق.

37- ابن الأثير الجزري، صاحب جامع الأُصول.

38- وأيضاً أخوه ابن الأثير الآخر، صاحب أُسد الغابة.

39- الخطيب التبريزي، صاحب مشكاة المصابيح.

40- أبو الحجّاج المزّي، صاحب تهذيب الكمال وكتاب تحفة الأشراف.

41- شمس الدين الذهبي، صاحب المؤلفات المعروفة المشهورة.

42- ابن كثير الدمشقي، صاحب التفسير والتاريخ.

43- أبو بكر الهيثمي، صاحب مجمع الزوائد.

44- شمس الدين ابن الجزري، صاحب المؤلفات.

45- ابن حجر العسقلاني، صاحب المؤلفات، شيخ الإسلام، والفقيه المحدث الرجالي المعروف.

46- جلال الدين السيوطي، أيضاً صاحب المؤلفات المشهورة.

47- ابن حجر المكي، صاحب الصواعق.

48- شاه ولي اللَّه الدهلوي، محدّث الهند.

وكما عرفتم في خلال ذكر أسماء الرواة هؤلاء: إنّ جماعة من الأعلام ومن كبار المحدّثين ألّفوا كتباً خاصة تتعلّق بطرق حديث الطير، وهؤلاء هم:

1- الطبري، صاحب التفسير والتاريخ.

2- ابن عقدة.

3- الحاكم النيسابوري.

4- ابن مردويه.

5- أبو نعيم.

6- أبو طاهر ابن حمدان.

7- الذهبي، فإنه يذكر في كتابه تذكرة الحفّاظ بترجمة الحاكم النيسابوري: أنّ له كتاباً - أي‏ الذهبي - في طرق حديث الطير«18».فهؤلاء رواة هذا الحديث بنحو الإجمال من الصحابة، وأشرنا إلى أنّ عدد التابعين الرواة لهذا الحديث عن أنس بن مالك وحده يبلغون حدود التسعين رجلًا، وذكرنا أشهر مشاهير علماء الحديث في القرون المختلفة الرواة لحديث الطير، ثم أسماء من أفرد أسانيده بالتأليف.وحديث الطير موجود في عدّة من الصحاح، كصحيح الترمذي«19»، وصحيح النسائي«20»، وصحيح ابن حبّان، وأيضاً موجود في المختارة للضياء المقدسي، وفي المستدرك للحاكم«21»، وفي الجمع بين الصحيحين، وفي الجمع بين الصحاح.كما أنّ لهذا الحديث أسانيد صحيحة هي أكثر من عشرين سنداً عدا أسانيده في الصحاح.ولا أظن أنّ من يقف على هذه الأسامي، وهذه الأسانيد، يشك في صدور هذا الحديث عن رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله)، وحينئذ ننتقل إلى الجهة الثانية.

الجهة الثانية: دلالة حديث الطير على‏ إمامة أمير المؤمنين (عليه السّلام)‏

إنّ حديث الطير يدلّ على إمامة أمير المؤمنين بالقطع واليقين، وذلك، لأنّ القضيّة التي يتعلّق بها حديث الطير أسفرت عن كون علي (عليه السّلام) أحبّ الناس إلى اللَّه وإلى الرسول، فكأنّ رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) قد انتهز فرصة إهداء طير إليه ليأكله، انتهز تلك الفرصة للإعلان عن مقام أمير المؤمنين وشأنه عند اللَّه والرسول، هذا الشأن الذي سنرى‏ أنّ عائشة تمنّت أن يكون لأبيها، وحفصة تمنّت لأن يكون لأبيها، وأنس بن مالك - صاحب القصّة - حال دون أن تكون هذه المرتبة والخصيصة الفريدة التي لا تقدّر لأمير المؤمنين، زاعماً أنّه أراد أن يكون لواحدٍ من الأنصار، وربّما سعد بن عبادة بالخصوص، بل سنقرأ في بعض ألفاظ هذا الحديث أنّ الشيخين، وفي سند أنّ عثمان أيضاً، جاؤوا إلى الباب ولم يتشرّفوا بالدخول على رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) في تلك اللحظة التي كان يدعو اللَّه أن يأتي إليه بأحبّ الخلق إلى اللَّه وإلى الرسول. فلنذكر - إذن - طائفةً من ألفاظ القصّة، لنقف على واقع الأمر أوّلًا، ولنطّلع على تصرّفات القوم في نقل حديث الطير، وكيفيّة تصّرفهم فيه، إمّا إختصاراً له وإمّا نقلًا له بنحوٍ يقلّل من أهميّة القضية فيما يتعلّق بأمير المؤمنين (عليه السّلام). يقول الترمذي في [صحيحه‏] «22» عن أنس بن مالك: كان عند النبي (صلّى اللَّه عليه وآله) طير فقال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فجاء علي فأكل معه». هذا لفظ الحديث بهذا المقدار في صحيح الترمذي، فلا يذكر فيه دور أنس في القضيّة هذه كما سنقرأ، ولا يذكر مجي‏ء غير علي ورجوعه من باب دار رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله). وجاء في كتاب [مناقب علي‏] لأحمد بن حنبل«23» ما نصّه: عن سفينة خادم رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) الذي هو أحد رواة هذا الحديث يقول: «أهدت امرأة من الأنصار إلى رسول اللَّه طيرين بين رغيفين، فقدّمت إليه الطيرين، فقال (صلّى اللَّه عليه وآله) : اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك، ورفع صوته، فقال رسول اللَّه: من هذا؟ فقال: علي». لاحظوا نصّ الحديث الذي يرويه أحمد بن حنبل، وقارنوا بينه وبين رواية الآخرين. ولكم أن تقولوا: لعلّ الآخرين هم الذين قد تصرّفوا في لفظ الحديث بإسقاط كلمة «ورفع صوته» بأن يكون اللّفظ: فقال (صلّى اللَّه عليه وآله) : «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك ورفع صوته»، ويكون معنى «رفع صوته» أنّه كان يدعو بصوت عال، لنفرض أنّ هذا لفظ الحديث وهذا معناه، ولا بأس بذلك. لكن الحقيقة: إنّ لفظ أحمد محرّف، لأنّا سنقرأ في بعض الألفاظ: إنّ عليّاً عندما جاء في المرّة الأُولى‏ فأرجعه أنس ولم يأذن له بالدخول، وفي المرّة الثانية كذلك، ففي المرّة الثالثة لمّا جاء علي رفع صوته، فقال رسول اللَّه: من هذا؟ فمن هنا يظهر معنى «ورفع صوته» ويتبيّن التحريف، وإلّا فأيّ علاقة بين قوله: «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإلى رسولك ورفع صوته»، وقوله: «فقال رسول اللَّه: من هذا؟ فقال: علي» أي: قال سفينة: الذي خلف الباب هو علي، قال: افتح له، ففتحت، فأكل مع رسول اللَّه من الطيرين حتّى فنيا. فالتصرف في لفظ الحديث عند أحمد أيضاً واضح تماماً، والتلاعب في هذا اللفظ بادٍ بكلّ وضوح. أمّا الهيثمي صاحب [مجمع الزوائد]، فيروي هذا الحديث باللفظ التالي«24»: «عن أنس بن مالك قال: كنت أخدم رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله)، فقُدّم فرخاً مشويّاً أو فَقدّم فرخاً مشويّاً [يقتضي أنْ يكون: فقُدّم فرخ مشويّ، أو فقدّم رسول اللَّه فرخاً مشويّاً] فقال رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) : «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإليّ يأكل معي من هذا الفرخ» فجاء علي ودقّ الباب، فقال أنس: من هذا؟ قال: علي، فقلت- أي‏أنس-: النبي على حاجة، وفي بعض الألفاظ: النبي مشغول، أي‏لا مجال للدخول عليه، والحال أنّ النبيّ كان ما زال يدعو: «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك»، قال: النبي على حاجة، فانصرف علي، عاد رسول اللَّه مرّة أُخرى‏ يقول: «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإليّ يأكل معي من هذا الفرخ»، فجاء علي فدقّ الباب دقّاً شديداً، فسمع رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله)، فقال: «يا أنس من هذا؟» قال: علي، قال: «أدخله»، فدخل.

فقال رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) : «لقد سألت اللَّه ثلاثاً أنْ يأتيني بأحبّ الخلق إليه وإليّ يأكل معي هذا الفرخ».

فقال علي: وأنا يا رسول اللَّه، لقد جئت ثلاثاً كلّ ذلك يردّني أنس.

فقال رسول اللَّه: «يا أنس، ما حملك على ما صنعت؟»

قال: أحببت أن تدرك الدعوة رجلًا من قومي.

فقال رسول اللَّه: «لا يلام الرجل على حبّ قومه».

في هذا الحديث جاء علي مرّتين فردّه أنس قائلًا: رسول اللَّه على حاجة، وفي المرّة الثالثة دقّ علي الباب دقّاً شديداً. وفي بعض الألفاظ: رفع صوته، فسمع رسول اللَّه صوت علي وقال لأنس: «إفتح الباب ليدخل علي»، ثمّ اعترض عليه رسول اللَّه، أي ‏على أنس، واعتذر أنس كما في الخبر: أحببت أن تدرك الدعوة رجلًا من قومي. لكن الحديث في [مسند أبي يعلى‏] كما يلي: حدّثنا قطن بن نسير، حدّثنا جعفر بن سليمان الضبعي، حدّثنا عبد اللَّه بن مثنّى‏، حدّثنا عبد اللَّه بن أنس عن أنس قال: أُهدي لرسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) حجل مشويّ، فقال رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) : «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطعام». فقالت عائشة: اللهمّ اجعله أبي، وقالت حفصة: اللهمّ اجعله أبي، قال أنس: فقلت أنا: اللهمّ اجعله سعد بن عبادة.قال أنس: سمعت حركة الباب، فإذا علي، فسلّم، فقلت: إنّ رسول اللَّه على حاجة، فانصرف، ثمّ سمعت حركة الباب فسلّم علي، فسمع رسول اللَّه صوته، أي رفع علي صوته [أُريد أنْ أؤكّد أنّ لفظ أحمد محرّف‏] فسمع رسول اللَّه صوته فقال: «أُنظر من هذا؟» فخرجت، فإذا علي، فجئت إلى رسول اللَّه فأخبرته، فقال: «ائذن له»، فأذنت له، فدخل، فقال رسول اللَّه: «اللهمّ وإليّ اللهمّ وإليّ».هذا لفظ أبي يعلى‏«25».ولاحظوا الفوارق بين هذا اللفظ ولفظ الهيثمي، ثمّ لفظ الترمذي، ولفظ أحمد بن حنبل. أمّا في [الخصائص‏] للنسائي«26» [الذي نصّ الحافظ الذهبي على أنّ كتاب الخصائص داخل في السنن، راجعوا سير أعلام النبلاء«27» وكذا راجعوا مقدمة تهذيب التهذيب«28» لابن حجر العسقلاني‏] فيروي النسائي هذا الحديث بسند صحيح، مضافاً إلى أنّ كتابه داخل في السنن الكبرى‏ له الذي يقولون بأنّ له شرطاً في هذا الكتاب أشدّ من شرط الشيخين«29»: عن أنس بن مالك: إنّ النبي (صلّى اللَّه عليه وآله) كان عنده طائر، فقال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر»، فجاء أبو بكر فردّه، ثم جاء عمر فردّه، ثمّ جاء علي فأذن له. وفي [مسند أبي يعلى‏] بنفس السند، ترون مجي‏ء الشيخين ومجي‏ء عثمان أيضاً، قال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير»، فجاء أبو بكر فردّه، ثمّ جاء عمر فردّه، ثمّ جاء عثمان فردّه، ثمّ جاء علي فأذن له«30». لاحظوا الفوارق بين الألفاظ، وقد تعمّدت التدرج في النقل حتّى‏ تلتفتوا إلى أنّهم إذا أرادوا أن ينقلوا القضيّة الواحدة وهي ليست في صالحهم، كيف يتلاعبون‏ باللّفظ، وكيف ينقصون من القصة، وكيف يسقطون تلك النقاط الحساسة التي يحتاج إليها الباحث الحرّ المنصف في تحقيقه عن سنّة رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله)، وفي فحصه عن القول الحق من بين الأقوال. أقول: سند النسائي - كما أكّدت - صحيح، وهو نفس السند في مسند أبي يعلى‏، لكنّ بعضهم يحاول أن يناقش في سند هذا الحديث الأخير الذي نقلته عن النسائي وأبي يعلى‏، ونحن نرحّب بالمناقشة إذا كانت علميّة، وعلى كلّ منصف أن يسلّم لو كانت المناقشة واردة، وحينئذٍ لرفعنا اليد عن هذا الحديث بهذا اللفظ وتمسّكنا بغيره من الألفاظ، أو تمسّكنا بغير هذا الحديث من الأحاديث، لكن كيف لو كانت المناقشة ظاهرة البطلان، واضحة التعصّب!! يحاول بعضهم أنْ يناقش في وثاقة أحد رجال هذا السند، وهو السُدّي إسماعيل بن عبد الرحمن، لكنّه من رجال مسلم والترمذي والنسائي وأبي داود، وابن ماجة. ويقول أحمد بترجمته: ثقة«31». ويقول غيره من كبار الرجاليين: ثقة«32». حتّى‏ أنّ ابن عدي المتشدّد في الرجال يقول: هو مستقيم الحديث صدوق. بل إنّه من مشايخ شعبة بن الحجاج. وشعبة أمير المؤمنين عندهم في الحديث، وهو لا يروي إلّا عن ثقة، هكذا يقولون، وممّن يعترف بهذا المعنى‏ أو يدّعي هذا المعنى‏ ابن تيميّة، وينقل السبكي كلامه في كتابه [شفاء السقام‏]«33». فإذا كان الرجل من رجال خمسة من الصحاح الستّة، ويوثّقه أحمد، ويوثّقه العجلي، ويوثّقه ابن عدي، ويوثّقه الآخرون من كبار الرجاليين«34»، فأيّ مناقشة تبقى‏ في السُدي ليطعن الطاعن من هذا الطريق في هذا الحديث الذي هو في نفس الوقت الذي يدلّ على فضيلة لأمير المؤمنين، يدلّ على ما يقابل الفضيلة لمن يقابل أمير المؤمنين؟ وهناك قرائن في داخل الحديث وفي خارجه لا نحتاج إلى ذكرها كلّها، بل نكتفي بالإشارة إلى بعضها: ففي بعض ألفاظ هذا الحديث يقول (صلّى اللَّه عليه وآله): «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وأوجههم عندك»، وهذه الإضافة موجودة في بعض الألفاظ. وفي بعض الألفاظ: «اللهمّ أدخل عَلَيّ أحبّ خلقك إليّ من الأوّلين والآخرين»«35». وربّما يدلّ الحديث بهذا اللفظ على أفضليّة أمير المؤمنين من الأوّلين والآخرين، أمّا الآخرون فالأمر فيهم سهل. أمّا الأوّلون، فإنّه يشمل الأنبياء أيضاً، يشمل حتّى‏ أُولي العزم منهم، ويكون هذا الحديث باللفظ المذكور من أدلّتنا على‏ أفضليّة أمير المؤمنين من جميع الأنبياء إلّا النبي والرسول الأعظم (صلّى اللَّه عليه وآله). وفي بعض ألفاظ الحديث يقول أنس: فإذا علي - أي ‏فتحت الباب فإذا علي - «فلمّا رأيته حسدته»«36». وفي بعض ألفاظ الحديث: فلمّا نظر إليه رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) قام‏ قائماً فضمّه إليه وقال: «يا ربّ وإليّ يا رب وإليّ، ما أبطأ بك يا علي؟»«37». وفي لفظ آخر بعد تلك العبارات: «ما أبطأ بك يا علي؟». قال: يا رسول اللَّه قد جئت ثلاثاً كلّ ذلك يردنّي أنس.قال أنس: فرأيت الغضب في وجه رسول اللَّه، وقال: «يا أنس ما حملك على ردّه؟» قلت: يا رسول اللَّه سمعتك تدعو، فأحببت أن تكون الدعوة في الأنصار. وكأنّ بهذا العذر زال غضب رسول اللَّه!! ذلك الغضب الشديد الذي رآه أنس في وجهه، زال بمجرّد اعتذاره بهذا العذر، حتى‏ أنّه (صلّى اللَّه عليه وآله) لمّا اعتذر أنس هذا العذر قال: لستَ بأوّل رجلٍ أحَبّ قومه«38»!! وإنّي أعتقد أنّ هذا الكلام عن رسول اللَّه مفتعل عليه في حديث الطير: «لا يلام الرجل على حبّ قومه» أو «لستَ بأوّل رجلٍ أحَبّ قومه»، أعتقد أنّ هذه إضافة من المحدّثين، وليس عندي الآن دليل على ذلك، وإنّما أقول: كيف غضب رسول اللَّه ذلك الغضب ثمّ زال غضبه بمجرّد اعتذار أنس بهذا العذر الواهي؟ بل ويعتذر له رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله)!! ألم يكن يعلم رسول اللَّه بهذا العذر: لا يلام الرجل على حبّ قومه؟ فلماذا غضب عليه إذن؟ بل قاله له رسول اللَّه وكأنّه يلاطفه بعد ذاك الغضب الشديد، كما في هذا الحديث: «لستَ بأوّل رجل أحَبّ قومه، أبى‏ اللَّه يا أنس إلّا أنْ يكون ابن أبي طالب». هذه قرائن داخليّة في الألفاظ، ولو أردت أن أنقل لكم الألفاظ بكاملها من أوّلها إلى آخرها لطال بنا البحث، لكن تلك المقاطع التي نحتاج إليها - كقرائن داخليّة تؤيّد ما نريد أنْ نستدلّ به من هذا الحديث - هذه القرائن انتخبتها واستخرجتها بهذا الشكل. مضافاً: إلى أنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) احتجّ بحديث الطير في يوم الشورى‏. ولماذا احتجّ؟ وعلى من احتجّ؟ احتجّ على كبار الصحابة الذين انتخبهم عمر، لأنْ يتشاوروا فيما بينهم، فيتعيّن الخليفة في ذلك المجلس، هؤلاء أعلام القوم وأهل الحلّ والعقد. إذن، احتجّ علي على هؤلاء، ومن المحتج؟ علي أمير المؤمنين، وهل يحتج علي بما ليس له أصل؟ وهل يحتج علي بما هو ضعيف سنداً أو كذب أو موضوع؟ فالمحتج علي، والمحتج عليه أُولئك الأصحاب المنتخبون من قبل عمر لأن يعيَّن من بينهم خليفة عمر، احتجّ علي في ذلك المجلس بحديث الطير«39». وأيضاً: سعد بن أبي وقّاص الذي أمره معاوية بن أبي سفيان بسبّ علي، فأبى‏ سعد من أن يسب، وسأله معاوية عن السبب، فاعتذر بأنّه سمع من رسول اللَّه خلالًا أو خصالًا لعلي، ومادام يذكر تلك الخصال فلن يسب عليّاً، ذلك الحديث الذي قرأناه من قبل، وفيه تحريفات كثيرة كما ذكرت هناك ... جاء في بعض ألفاظه: إنّ سعداً اعتذر من أنْ يسبّ عليّاً بخصال، فذكر الخصال ومنها حديث الطير. الخصال التي اعتذر بها سعد في هذه الرواية هي: حديث الراية، وحديث الطير، حديث الغدير، وهذه الرواية موجودة في كتاب [حلية الأولياء] لأبي نعيم الحافظ، ومن شاء فليراجع«40». هذا، والشواهد والقرائن الخارجيّة الدالّة على أنّ عليّاً أحبّ الخلق إلى اللَّه وإلى الرسول (صلّى اللَّه عليه وآله) دون غيره، كثيرة لا تحصى‏، واللَّه يشهد على ما أقول، وأنتم أيضاً تعلمون، فلا نطيل البحث بذكر تلك الشواهد. وما معنى الأحبيّة إلى اللَّه وإلى الرسول؟ وأيّ علاقة بين الأحبيّة وبين الإمامة والولاية؟ أي ‏إرتباط بين الأمرين؟ أتتصوّرون أنْ تكون الأحبيّة إلى اللَّه وإلى الرسول - بأن يكون الشي‏ء أحب الأشياء إلى اللَّه والرسول، أو يكون شخص هو الأحب إلى اللَّه وإلى الرسول - اعتباطيّة، فلا يكون لها معيار وملاك وضابطة وحساب؟ أيمكن هذا؟ أتحتملون هذا؟ وأنتم بأنفسكم، كلّ واحد منكم إذا أحبّ شيئاً، وجعله أحبّ الأشياء إلى نفسه، أو أحبّ شخصاً واتّخذه أحبّ الناس إلى نفسه، لابدّ وأن يكون له ضابط، قطعاً يكون له سبب، فالأحبيّة ليست أمراً اعتباطيّاً، الإنسان لا يحب كلّ صوت، لا يحبّ كلّ صورة، لا يحبّ كلّ شي‏ء، لابدّ وأن يكون هناك ضوابط للحبّ فكيف الأحبيّة؟ أن يكون شي‏ء أحبّ الأشياء إلى الإنسان من كلّ الأشياء في العالم، أن يكون شخص أحبّ الأشخاص إلى الإنسان من كلّ أفراد الإنسان وبني آدم، يكون هذا بلا حساب وبلا سبب؟ أيمكن هذا ويعقل؟ نحن لكوننا أفراداً من البشر وذي عقول، ونحاول أن تكون أعمالنا وتروكنا عن حكمة، عن سبب، عن علّة، لا نذر شيئاً ولا نختار شيئاً إلّا لعلّة، إلّا لحساب، إلّا لسبب، أيعقل أن تقول بأنّي أُحبّ الكتاب الفلاني وهو أحبّ إليّ من بين جميع كتب العالم، فإذا سئلت عن السبب لا يكون عندك سبب تذكره، لا يكون عندك جواب معقول. اللَّه سبحانه وتعالى، يجعل فرداً من أفراد البشر، وواحداً من خلائقه، أحبّ الخلائق إلى نفسه، ورسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) يتّخذ أحداً ويجعله أحبّ الخلق إليه، أترى‏ يكون هذا بلا حساب، وهل يعقل؟ وجميع التصرّفات التي صدرت من المحدّثين والمؤلّفين في هذا الحديث، وما سنقرأ أيضاً ممّا يحاولونه أمام الإماميّة في استدلالهم بهذا الحديث، كلّ تلك القضايا أدلّة أُخرى‏ وشواهد على أنّ هذا الحديث يدلّ على مقام عظيم لأمير المؤمنين وشأن كبير، وإلّا لما فعلوا، ولما تصرّفوا، ولما ضربوا وكسروا المنبر، ولما أهانوا المحدّث الحافظ الشهير الكبير عندهم، كما سنقرأ. ثمّ إنّ الأحبيّة إلى اللَّه والرسول لمّا لا تكون اعتباطاً، ولا بدّ من سبب، والمفروض أنّ تلك الأحبية إلى رسول اللَّه لم تكن لميول نفسانيّة ولم تكن لأغراض شخصيّة، لأنّ رسول اللَّه أعلى‏ وأجلّ وأسمى‏ من أن يحب شخصاً ويجعله أحبّ الخلق إليه لمجرّد ميل نفساني، فما هي تلك الضوابط التي أشرنا إليها؟ نحن لا علم لنا بتلك الضوابط على نحو الدقّة؛ فالأمر أدقّ من هذا، أدقّ من أن تتوصّل إليه عقولنا وأفهامنا، إنّ الأمر أدقّ من أن نفهم أنّ النبيّ أيّ معيار كان عنده لأنْ يتّخذ أحداً أحبّ الخلق إليه، نحن لسنا بذلك المستوى‏ لأنْ نعرف ملكات رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله)، حتّى نتمكّن من تعيين من هو أحبّ، اللهمّ إلّا عن طريق تلك الأحاديث المتواترة القطعيّة الواردة عنه (صلّى اللَّه عليه وآله)، الأحاديث المتفق عليها بين الطرفين. فأحبيّة شخص إلى رسول اللَّه لا يمكن أن تكون لميل نفساني، ولشهوة خاصّة، ولغرض شخصي عند رسول اللَّه، فيجعل أحداً أحبّ الخلق إليه ولا يجعل الآخر والآخرين، بل هناك ضوابط، وهي التي تقرّب إليه أبعد الناس وتبعّد عنه‏ أقرب الناس، تلك الضوابط لا بدّ وأن تكون هكذا، وإلّا فليس من نبيّ مرسل من قبل اللَّه سبحانه وتعالى‏، يفعل ويترك إلّا عن وحي من اللَّه سبحانه وتعالى, كما يقول عز وجل:‏ «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى‏* إِنْ هُوَ إِلّا وَحْيٌ يُوحى‏»«41». فإذا كانت الإحبّية بملاك، بسبب، وبحساب، تلك الأحبيّة تنتهي إلى الأقربيّة المعنويّة، تنتهي إلى الأفضليّة، تنتهي إلى وجود ما يقتضي أن يكون ذلك الشخص الأحبّ إلى رسول اللَّه، أن يكون مقدّماً على غيره في جميع شؤون الحياة. وإليكم عبارة الحافظ النووي في [شرح صحيح مسلم‏]، وهذا حافظ كبير من حفّاظهم، وكتابه هذا من أشهر كتبهم وأكثرها اعتباراً، إنه يقول في معنى محبّة اللَّه تعالى‏ لعبده، وأنه ما المراد من هذه الكلمة في النصوص الإسلاميّة والأدلّة الدينيّة، كتاباً وسنّةً: «محبّة اللَّه سبحانه وتعالى‏ لعبده: تمكينه من طاعته، وعصمته، وتوفيقه، وتيسير ألطافه وهدايته، وإفاضة رحمته عليه، هذه مباديها. وأمّا غايتها: فكشف الحجب عن قلبه، حتّى يراه [أي يرى‏ اللَّه تعالى‏] ببصيرته فيكون [هذا الشخص المحبوب للَّه سبحانه وتعالى‏] كما قال في الحديث الصحيح: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره»«42». هذه عبارته، وما ألطفها من عبارة. فهل من شك حينئذ في استلزام الأحبية للإمامة؟ إنّ من كان محبوباً للَّه تعالى‏ يكون له هذه المنزلة، فكيف من كان أحب الخلق إليه؟ عبارة النووي كانت في محبّة اللَّه لأحد، أمّا كون هذا الشخص وحده هو الأحبّ من كلّ الخلائق إلى اللَّه سبحانه وتعالى‏، فحدّث ولا حرج، هذا الذي قلت بأنّ أفهامنا تقصر عن درك مثل هذه القضايا، إلّاأنّنا نتكلّم بقدر ما نفهم. إذن، لا شكّ ولا ريب في استلزام الأحبيّة للإمامة والخلافة والولاية. هذا على ضوء الحديث الذي قرأناه برواته وأسانيده وألفاظه، وبعض العبارات المتعلّقة بالمطلب. فتمّ البحث إلى الآن عن دلالة حديث الطير على الإمامة عن طريق استلزام الأحبيّة للأفضليّة. ملاك الأحبية على صعيد الواقع التاريخي‏ وأمّا على صعيد الواقع التاريخي، أذكر لكم شاهدين فقط، حتّى تعرفوا أنّ استدلالنا بحديث الطير على إمامة أمير المؤمنين لا مجال لأيّ خدشةٍ فيه من أيّ أحدٍ من الأوّلين والآخرين.

الشاهد الأوّل:

إنّهم يروون عن عمر بن الخطّاب أنّه قيل له لمّا طعن: لو استخلفت، فقال: لو كان أبو عبيدة حيّاً لاستخلفته. لا أُريد أنْ أخرج عن موضوع البحث، وإلّا فعندي تعليق هنا، يقول: لو كان أبو عبيدة حيّاً لا ستخلفته. فإنْ سأله اللَّه: لماذا وبأيّ ملاك استخلفت أبا عبيدة؟ يقول: وقلت لربّي إنْ سألني: سمعت نبيّك يقول: أبو عبيدة أمين هذه الأُمة. ولي تعليق على هذا الحديث أتركه إلى وقتٍ آخر. ويقول عمر أيضاً: ولو كان سالم مولى‏ أبي حذيفة حيّاً استخلفته. وعندي تعليق هنا، أتركه لوقته. يقول: فقلت لربّي إنْ سألني: سمعت نبيّك يقول: إنّ سالماً شديد الحبّ للَّه. يقول عمر بن الخطّاب: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لاستخلفته، هذا الشخص المولى‏، ولاعتذرت إلى اللَّه بأنّي سمعت نبيّك يقول: إنّ سالماً شديد الحبّ للَّه. إذن، أصبح الحبّ ملاكاً ومعياراً للخلافة، وهو مولى‏، وقد أجمعوا على أنّ الإمام يجب أن يكون من قريش. لكنْ لماذا كان سالم مولى‏ أبي حذيفة بهذه المثابة في نظر عمر بن الخطّاب؟ نتركه لوقته. هذا هو الشاهد الأوّل.هذا الشاهد موجود في [تاريخ الطبري‏]«43»، وفي تاريخ ابن الأثير [الكامل‏]«44»، فراجعوا.

الشاهد الثاني:

والأهم من هذا هو الشاهد الثاني، تجدونه في [صحيح البخاري‏] في قضيّة السقيفة نفسها، في بيعة أبي بكر بالذات، يقول الراوي والعبارة هكذا: «اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقال أبو بكر: نحن الأُمراء وأنتم الوزراء، فقال عمر: نبايعك أنت، فأنت سيّدنا وخيّرنا وأحبّنا إلى رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله)، فبايعه عمر وبايعه الناس»«45». فأصبحت الأحبية إلى رسول اللَّه هي الملاك على صعيد الواقع، دعنا عن البحث الصغروي، فله مجال آخر، نستدلّ الآن بهذا الحديث على ما هو في‏ صحيح البخاري صدقاً أو كذباً، حجة عليهم ونحن نلزمهم بهذه الحجة. عمر بن الخطّاب يدّعي لأبي بكر إنّه كان أحبّ الخلق إلى النبي، ولذا نادى - أمام الأنصار وغيرهم - بأنّ أبا بكر هو المتعيَّن للخلافة؛ لأنّه أحبّ الخلق إلى رسول اللَّه. لكن حديثنا حديث متواتر قطعي الصدور عن رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله)، مقبول بين الطرفين، وقد ذكرت لكم أسماء عدّةٍ من رواته، وذكرت لكم كيفيّة الإستدلال به، وفقه هذا الحديث.

الحسد لأمير المؤمنين عليه السّلام:ومن فوائد حديث الطير ما أفاده من أنّه كان هناك بين أصحاب رسول اللَّه - حتّى المقرّبين منهم - من كان في قلبه حسد بالنسبة لأمير المؤمنين (عليه السّلام)، وأنس بن مالك خادم رسول اللَّه يكذب، لا مرّةً ولا مرّتين، يكذب مرّات لأجل الحسد الذي في قلبه على علي أمير المؤمنين، لكن أنساً كشف عن واقع حاله أكثر فأكثر، منها عندما ناشده أمير المؤمنين (عليه السّلام) بحديث الغدير فأبى‏ أن يشهد، وكتم الشهادة، وكتمان الشهادة ذنب كبير من كبائر المعاصي، حتّى‏ أنّ أمير المؤمنين دعا عليه، وابتلي بالبرص«46». إنّه لابدّ أنْ نعرف حقائق الأشخاص من خلال السنّة النبويّة، قبل أن نقرأ تراجمهم وأحوالهم في كتب التراجم، ففي السنّة وفي الأحاديث الواردة في المصادر المعتبرة ما يستكشف به حقائق حالات الأشخاص أكثر بكثير، وهذا ممّا لا يخفى‏ على المتضلّعين بمثل هذه البحوث.

الجهة الثالثة:

محاولات القوم في ردّ حديث الطيرفننتقل الآن إلى محاولات القوم في ردّ هذا الحديث وإبطاله، وفي المنع عن نقله وانتشاره.وتتلخّص محاولاتهم في وجوه:

الأول: المناقشة في سند الحديث‏

فإذا راجعتم كتاب [العلل المتناهية في الأحاديث الواهية] لأبي الفرج ابن الجوزي، تجدونه يذكر هذا الحديث بسندٍ أو ببعض أسانيده ويضعّفه ويسكت عن بعض الأسانيد الأُخرى«47». لكن ابن الجوزي أبا الفرج الحنبلي المتوفى‏ سنة 597 معروف بالتسرّع بالحكم، لا بالتضعيف فقط بل حتّى‏ بالحكم بالوضع، ولربّما ضعّف أو كذّب في كتبه أحاديث صحيحة قطعاً أو موجودة في الصحاح، وهذا ما دعا كبار المحدّثين من المحققين من أهل السنّة إلى التحذير من الإعتماد على حكم ابن الجوزي في أيّ حديث من الأحاديث، وأنّه لابدّ من التثبّت. والعجيب أنّهم ربّما ينسبون إلى ابن الجوزي أنّه أدرج حديث الطير في كتاب الموضوعات، راجعواكتاب المرقاة في شرح المشكاة للقاري«48» وبعض الكتب الأُخرى‏«49»، فإنهم ينسبون إلى ابن الجوزي أنّه حكم على هذا الحديث بالوضع وأدرجه في كتاب الموضوعات، والحال أنّه غير موجود في كتاب الموضوعات، نعم، هو موجود في كتاب العلل المتناهية كما عرفتم، لكنّه ببعض أسناده، وإنّما يتكلّم على بعض رجال هذا الحديث في بعض الأسانيد - ونحن لا ندّعي أنْ كلّ أسانيده صحيحة - ويسكت عن البعض الآخر. ويأتي من بعده ابن كثير، فيذكر في [تاريخه‏]«50» حديث الطير، ويرويه عن عدّة من الأئمّة الأعلام، يرويه عن الترمذي، وعن أبي يعلى‏، وعن الحاكم، وعن الخطيب البغدادي، وعن ابن عساكر، وعن الذهبي، عن غيرهم، إلى أنْ قال: «وقد جمع الناس في هذا الحديث مصنّفات مفردة منهم: أبو بكر ابن مردويه، والحافظ أبو طاهر محمّد بن أحمد بن حمدان فيما رواه شيخنا أبو عبد اللَّه الذهبي يقول: ورأيت مجلداً في جمع طرقه وألفاظه لأبي جعفر ابن جرير الطبري المفسّر صاحب التاريخ، ثمّ وقفت على مجلّد كبير في ردّه وتضعيفه سنداً ومتناً للقاضي أبي بكر الباقلانيّ المتكلّم». ثمّ يذكر ابن كثير رأيه في هذا الحديث قائلًا: وبالجملة، ففي القلب من صحّة هذا الحديث نظر وإن كثرت طرقه.

أقول: فدليل ابن كثير على ضعف حديث الطير ليس إلّا أنّ قلبه لا يساعد على قبول هذا الحديث، كما أنّ قلب أبي جهل لم يساعد على قبول القرآن والإسلام، لا يقول: إنّه موضوع، لا يقول: إنّه حديث مكذوب، لا يقول: في سنده كذا وكذا، لا يقول: الراوي ضعيف لقول فلان، لنصّ فلان على ضعفه، وأمثال ذلك، فإنّها مناقشات علميّة تُسمع، وقابلة للبحث والنظر، وأيّ مانع! يقول: وبالجملة، ففي القلب من صحّة هذا الحديث نظر وإن كثرت طرقه. إنّ من جملة أساليبهم عندما يريدون أنْ يردّوا حديثاً وقد أعيتهم السبل، فلم يمكنهم المناقشة في سنده بشكل من الأشكال، يلجأون إلى القسم أحياناً، كقولهم: «واللَّه إنّه موضوع» وأيّ دليل أقوى‏ من هذا؟! أوْ يلتجئون إلى قلوبهم: والقلب يشهد بأنّ هذا الحديث موضوع، أذكر لكم شاهداً واحداً فقط. في [مستدرك الحاكم‏] حديث عن علي (عليه السّلام) : أخبرني رسول اللَّه: «إنّ أوّل من يدخل الجنّة أنا وفاطمة والحسن والحسين»، قلت: يا رسول اللَّه فمحبّونا؟ قال: «من ورائكم». يقول الحاكم: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه»«51». هذا حديث الحاكم، وما ذنبنا إنْ كان الحاكم كاذباً بنقل هذا الحديث وفي حكمه بصحّته، نحن المحبّون لأهل البيت ندخل الجنّة وراء أهل البيت، هم يدخلون ونحن وراءهم، لأنّنا نحبّ أهل البيت، وهذا لا يمكن لأحدٍ إنكاره. فيقول الذهبي في [تلخيصه‏] للمستدرك في ذيل هذا الحديث: «الحديث منكر من القول يشهد القلب بوضعه»«52». ليته ناقش في سند الحديث، بضعف راوٍ من رواته، وإنّما يقول يشهد القلب بوضعه!! ولماذا يشهد قلب الذهبي بوضع هذا الحديث؟ الحديث يقول: إنّ أوّل‏ من يدخل الجنّة رسول اللَّه وعلي وفاطمة والحسن ومحبّوهم من وراءهم، أيّ مانع من هذا؟ وأيّ ضير على الذهبي حتّى يشهد قلبه بأن هذا الحديث موضوع؟ ولماذا؟ هل حبّ أهل البيت مانع من دخول الجنّة فيكون قلبه يشهد بوضع هذا الحديث؟ أو يشُك في أنّ رسول اللَّه وعليّاً وفاطمة والحسنين أوّل من يدخل الجنّة؟ أيشُك في هذا؟ لماذا قلبه يشهد بوضعه؟ فتأمّلوا في هذا. إذن، كانت المحاولة الأُولى‏ هي المناقشة في سند الحديث والحكم بضعف الحديث، لكن الحديث في الصحاح كما ذكرنا، وله أسانيد صحيحة، وقسم كبير من أسانيده أنا بنفسي صحّحتها على ضوء كلمات كبار علماء الحديث وأئمّة الجرح والتعديل، وهي في خارج الصحاح.

الثاني: تحريف اللفظ

وهذا هو الطريق الثاني لردّ هذا الحديث، قد قرأنا بعض الألفاظ، وعرفتم كيف يكون التحريف. أمّا أحمد بن حنبل، فقد قرأنا لفظ الحديث من كتابه المعروف في فضائل علي، فلنقرأ لفظ الحديث في [مسنده‏]: قال: سمعت أنس بن مالك وهو يقول: أُهديت لرسول اللَّه ثلاثة طوائر، فأطعم خادمه طائراً، فلمّا كان من الغد أتت به - كلمة الخادم تطلق على المرأة والرجل - فقال لها (صلّى اللَّه عليه وآله) : «ألم أنهك أن ترفعي شيئاً، فإنّ اللَّه عزّ وجلّ يأتي برزق كلّ غد».هذا هو الحديث في مسند أحمد«53». ولك أن تقول: لعلّ هذا الحديث في قضيّة أُخرى‏ لا علاقة لها بحديث الطير الذي هو موضوع البحث. لكنْ عندما نراجع ألفاظ الحديث، نجد بعض ألفاظه بنفس هذا اللفظ وبنفس السند الذي أتى‏ به أحمد، وفيه ما يتعلّق بعليّ (عليه السّلام) وكونه أحبّ الخلق إلى اللَّه إلى آخر الحديث.نعم، كنت أتصوّر أنّ هذا الحديث وارد في قضيّة لا علاقة لها بحديث الطير الذي نبحث عنه، هذا تبادر إلى ذهني لأوّل وهلة، لكنّني دقّقت النظر في الآحاديث، فوجدت الحديث حديث الطير، إلّا أنّه جاء به بهذا الشكل، وهل هذا التحريف الذي وقع في مسند أحمد من أحمد نفسه، أو النسّاخ، أو الطابعين لكتابه؟ اللَّه أعلم.

وأبو الشيخ الإصفهاني، يروي هذا الحديث، وفيه ما يتعلّق بأمير المؤمنين (عليه السّلام)، إلّا أنّ ما يتعلّق بأنس، وكذب أنس، وخيانة أنس، هذا كلّه محذوف ومحرّف، قال:«عن أنس بن مالك قال: أُهدي لرسول اللَّه طير فقال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير»، فجاء علي فأكل معه، ثمّ هو يقول: فذكر الحديث انتهى‏»«54». وكأنّه يريد أنْ يحفظ الأمانة فلا يخون، فيضع كلمة: فذكر الحديث. ومن العجيب إسقاط بعضهم كلا الفقرتين، ما يتعلّق بعلي وما يتعلّق بأنس، وجاء فقط بذلك العذر الذي ذكر أنس في آخر القضية: عن أنس عن النبي قال: «لا يلام الرجل على حبّ قومه». حينئذ يقول ابن حجر العسقلاني: هذا طرف من حديث الطير«55».

الثالث: تأويل الحديث وحمل مدلوله على خلاف ما هو ظاهر فيه‏

فيحملون أوّلًا لفظ الحديث الذي يقول: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك»، يحملونه على أنّ المراد: اللهمّ ائتني بمن هو من أحبّ خلقك إليك وإلى رسولك. فحينئذ لا إشكال، لأنّ مشايخ القوم أحبّ الخلق إليه أيضاً عندهم، فيكون علي أيضاً من أحبّ الخلق إليه. راجعوا شروح مصابيح السنّة، وشروح المشكاة«56» وكتاب التحفة الإثنا عشرية«57» حتى تجدوا هذا التأويل في كتبهم حول هذا الحديث. وهل توافقون عليه؟ وهل هناك مجال لقبول هذا التأويل بلا أيّ دليل؟ وقال صاحب [التحفة الإثني عشرية]«58»: إنّ القضيّة إنّما كانت في وقتٍ كان الشيخان في خارج المدينة المنوّرة، فلذا لم يحضرا، فحضر علي. وهذا الكتاب عندهم من أحسن الكتب في باب الإمامة، أو في أبواب العقائد كلّها، وطبع مراراً وتكراراً طبعات مختلفة، وطبعوا خلاصته باللغة العربية مع تعاليق ذلك العدو من أعداء الدين، مراراً وتكراراً في البلاد المختلفة.

أقول: هل كانت هذه القضية في وقت كان أبو بكر وعمر في خارج المدينة المنوّرة؟ واللَّه لو كانا في خارج المدينة المنوّرة لما كان عندنا أي ‏كلام، فنحن ما عندنا أي‏غرض في إثبات شي‏ء أو نفي شي‏ء، لكنْ ماذا نفعل مع حديث النسائي، مع حديث أبي يعلى‏: إنّه جاء أبو بكر فردّه، جاء عمر فردّه، وأضاف صاحب المسند فقال: بأنّ عثمان أيضاً جاء وردّه؟! فهؤلاء كانوا في المدينة المنوّرة، وأيّ ذنبٍ لنا إنْ كان النسائي وغيره ورواة خبر حضورهم في المدينة كاذبين عليهم؟!

الرابع:المعارضة لها وجه علمي،

نحن نوافق على هذا، لأنّ المعارضة هي الإتيان بحديث معتبر ليعارض به حديث معتبر آخر في مدلوله، فتلاحظ بينهما قواعد الجرح والتعديل لتقديم البعض على البعض الآخر، تلك القواعد المقررة في كتب السنّة وعلم اصول الفقه، فهذا أُسلوب علمي للبحث والمناظرة، وأيُّ مانع من هذا، المعارضة وإلقاء التعارض بين الحديثين، ثمّ دراسة الحديثين بالسند والدلالة وغير ذلك فعل حسن وعمل جميل وعلى الموازين، وله وِجهةٌ علمية، ونحن مستعدون لدراسة ما يذكرونه معارضاً لحديث الطير، بلا أيّ تعصّب، لكنْ أيّ شي‏ء ذكروا ليعارضوا به حديث الطير؟ في كتاب [التحفة الإثنا عشرية] استند إلى حديث: «إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»«59» في مقابلة حديث الطير. فواللَّه لو تمّ هذا الحديث سنداً ودلالة، حتّى لو ثبت اعتباره عندهم واتّفقوا على صحّته، فنحن نغضّ النظر عن انفراد القوم به، وقد قلنا - منذ الأوّل - أنّ الحديث الذي يريد كلّ طرفٍ من الطرفين أن يستند إليه، لا بدّ وأن يكون مقبولًا عند الجانبين،، نحن نغضّ النظر عن هذه الناحية، وندرس الحديث على ضوء كتبهم وأقوال علمائهم هم فقط، ولو تمّ، لوافقنا ولرفعنا اليد عن حديث الطير المقبول بين الطرفين بواسطة حديث: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر». ولكنْ ماذا نفعل وهم لا يقبلون بحديث الإقتداء بالشيخين، وسنقرأ ما يقولونه حول هذا الحديث بالتفصيل في موضعه إن شاء اللَّه تعالى‏.

الخامس: بعد أنْ أعيتهم السبل العلميّة في الظاهر

وهي المناقشات في السند أو الدلالة، أذكر لكم قضيّة الحافظ ابن السقّا الواسطي المتوفى‏ سنة 373:
يقول الذهبي في كتاب [سير أعلام النبلاء] «60» بعد أن يصف ابن السقا بما يلي: الحافظ الإمام محدّث واسط.
فبعد أن يلقّبه بهذه الألقاب ينقل عن الحافظ السلفي يقول: سألت الحافظ خميساً الجوزي عن ابن السقا؟ فقال: هو من مزينة مضر ولم يكن سقّاءً بل لقب له، من وجوه الواسطيين وذي الثروة والحفظ، رحل به أبوه فأسمعه من أبي خليفة وأبي يعلى‏ و ...، وبارك اللَّه في سنّه وعلمه. واتفق أنّه أملى‏ حديث الطائر، فلم تحتمله نفوسهم، فوثبوا عليه فأقاموه وغسلوا موضعه، فمضى‏ ولزم بيته لا يحدّث أحداً من الواسطيين، فلهذا قلّ حديثه عندهم.
أقول: ولم يذكر الراوي كلّ ما وقع على‏ هذا المحدّث من ضرب وشتم وإهانة وغير ذلك، يكتفي بهذه العبارة: «وثبوا عليه فأقاموه عن مجلسه‏ وغسلوا موضعه». كأنّ الموضع الذي كان جالساً فيه تنجّس لإملائه طرق حديث الطير، وغسلوا موضعه. فمضى‏ ولزم بيته ولم يخرج. فماذا تسمّون هذه الطريقة؟ لا أدري.
هذا ما ذكره الذهبي في ترجمة هذا الرجل في كتابه سير أعلام النبلاء، وفي كتاب تذكرة الحفّاظ «61».
أمّا الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك على الصحيحين، فقد كان مصرّاً على صحّة حديث الطير، وهو حافظ زمانه والمرجوع إليه في معرفة الصحيح والسقيم منه.
يقول في كتابه [علوم الحديث‏] «62»: «حديث الطير من مشهورات الأحاديث» وكان على أصحاب الصحاح أن يخرّجوه في الصحاح. ويقول: ذاكرت به كثيراً من المحدثين.
ويقول: كتبت فيه كتاباً، أي‏ كتب في جمع طرقه كتاباً. ثمّ إنّه في [المستدرك‏]«63» يروي هذا الحديث ويقول: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقد رواه عن أنس جماعة من أصحابة زيادة على ثلاثين نفساً».
وقد قلت لكم أنّ الرواة عن أنس هم أكثر من ثمانين شخصاً، لا ثلاثين شخصاً فقط.
يقول: ثمّ صحّت الرواية عن علي وأبي سعيد الخدري وسفينة. واضطرب القوم تجاه تصحيح الحاكم، وإخراج الحاكم هذا الحديث في مستدركه، وإصراره على صحّته، وأصبحت قضيّة حديث الطير والحاكم قضيّة تذكر في أكثر الكتب المتعلّقة بالحاكم وبحديث الطير، أي ‏حدثت هناك ضجّة من فعل الحاكم هذا، وقام القوم عليه وقامت قيامتهم، ولأجل هذا الحديث رماه بعضهم بالرفض فقال: الحاكم رافضي. لكن الذهبي وابن حجر العسقلاني يقولان:
اللَّه يحبّ الإنصاف، ما الرجل برافضي. فراجعوا [لسان الميزان‏]، و [سير أعلام النبلاء]، وغير هذين الكتابين«64». ثمّ جاء بعضهم وجعل يرمي كتاب المستدرك بأنّ: هذا الكتاب ليس فيه ولا حديث واحد على شرط الشيخين. وحينئذ يقول الذهبي: هذه مكابرة وغلو«65».
ثمّ نسبوا إلى الدارقطني: أنّه لمّا بلغه أنّ الحاكم قد أخرج حديث الطير في المستدرك، انتقد فعل الحاكم هذا.
لكن الذهبي يقول: إنّ الحاكم إنّما ألّف المستدرك بعد وفاة الدارقطني بمدة«66».
وحينئذ، إذا راجعتم كتاب [طبقات الشافعيّة] للسبكي«67» رأيتموه ينقل عن الذهبي: إنّ الحاكم سُئل عن حديث الطير فقال: لا يصّح ولو صحّ لما كان أحد أفضل من علي بعد رسول اللَّه. ثمّ قال شيخنا: وهذه الحكاية سندها صحيح، فما باله أخرج حديث الطير في المستدرك؟!
يعني: إذا كان الحاكم يعتقد بأنّ الشيخين أفضل من علي، فلماذا أخرج هذا الحديث في المستدرك؟ ولماذا صحّحه؟
حينئذ يقول السبكي: قد جوّزت أنْ يكون زيد في كتابه.
يعني: حديث الطير ممّا زاده غيره على كتاب المستدرك وأدخله فيه!!
لاحظوا إلى أي‏حدِّ يحاولون إسقاط حديث من الأحاديث، يقول قد جوّزتُ أن يكون زيد في كتابه، وأنه ليس من روايات الحاكم. يقول السبكي: وبحثت عن نسخ قديمة من المستدرك فلم أجد ما ينشرح الصدر بعدمه.
أي: وجدت الحديث في كلّ النسخ. وتذكّرت الدارقطني إنّه يستدرك حديث الطير، فغلب على ظنّي إنّه لم يوضع عليه.
أي: إنّ الحديث لم يوضع على الحاكم، ولم يزده أحد في المستدرك.
ثمّ تأمّلت قول من قال: إنّه أخرجه من الكتاب، فإنْ ثبت هذا صحّت الحكايات.
أي: ويكون خرّجه في الكتاب قبل أن يظهر له بطلانه، ثمّ أخرجه منه لاعتقاده عدم صحّته كما في هذه الحكاية التي صحّح الذهبي سندها. ولكنّه بقي في بعض النسخ، إمّا لإنتشار النسخ بالكتاب، أو لإدخال بعض الطاعنين في الشيخين إيّاه فيه. فكلّ هذا جائز، والعلم عند اللَّه تعالى‏.
هذا نصّ عبارة السبكي.
أقول: هذه نمادج من محاولات القوم لإسقاط الحديث، ولإثبات أنّ الحاكم لم يروه في مستدركه، وذلك يكشف عن اضطراب القوم أمام تصحيح الحاكم وإخراجه هذا الحديث في كتابه.
وهل اكتفوا بهذا؟ وهل استفادوا من هذه الأساليب شيئاً؟ لا.
فما كان عليهم إلّاأنْ يهجموا على الحاكم داره، فيضربوه ويكسروا منبره الذي كان يجلس عليه ويحدّث، ويمنعوه من الخروج من داره. وهلّا فعلوا هذا من أوّل يومٍ، وقبل أن يتعبوا أنفسهم في التحقيق عن كتاب المستدرك، باحتمال أنْ يكون هذا الحديث قد أدرجه بعض الوضّاعين، فما أحسن هذا الطريق لإثبات الخلافة لأسيادهم!!
وهكذا فعلوا مع غير الحاكم، مع كثير من أئمّتهم!!
أما فعلوا ذلك مع النسائي في دمشق؟ أما بقروا بطن الحافظ الكنجي في داخل المسجد، لأنّه كان يملي فضائل علي؟
هذا ممّا فعلوه بعلمائهم! هذا بعلمائهم فكيف بعلماء الطائفة الشيعيّة، وبالأئمّة الإثني عشر، فأيّ شي‏ء فعلوا؟ وكيف عاملوا؟ وهكذا ثبتت الإمامة والخلافة للشيخين وللمشايخ.
فأيّ داعٍ لكلّ ما قاموا به من المناقشة في السند، ومن المناقشة في الدلالة، ومن المعارضة، ومن تحريف اللفظ؟ من ضرب وهتك لابن السقا والحاكم؟ لماذا لا يقلّدون إمامهم وشيخ إسلامهم الذي قال: حديث الطير من‏ الموضوعات المكذوبات«68». فأراح نفسه من كلّ هذا التعب؟ وهذه فتوى‏ ابن تيميّة، وتلك فتوى‏ ابن كثير، وتلك أفعالهم وأعمالهم مع أئمّتهم كالحاكم وغيره، وتلك تحريفاتهم لألفاظ الحديث النبوي، وتلك خياناتهم تبعاً لخيانة صاحبهم أنس بن مالك، وتلك إمامة مشايخهم التي يريدون أن يثبتوها بهذه السبل!! وعلى كلّ منصفٍ، كلّ محقّق، وكلّ حرّ: أنْ يستمع القول فيتّبع أحسنه، واللَّه على ما نقول شهيد، ونعم الحكم اللَّه، والخصيم محمّد، (وصلّى‏ اللَّه على محمّد وآله الطاهرين).
_______________

( 1) تاريخ مدينة دمشق 42/ 245 و 432.
( 2) المستدرك على الصحيحين 3/ 130- 131.
( 3) حلية الأولياء 4/ 356.
( 4) البداية والنهاية 7/ 353.
( 5) المستدرك على الصحيحين 3/ 131.
( 6) البداية والنهاية 7/ 353.
( 7) أنظر: كفاية الطالب: 368.
( 8) تاريخ مدينة دمشق 42/ 244- 245.
( 9) البداية والنهاية 7/ 354.
( 10) تاريخ بغداد 11/ 376.
( 11) المعجم الكبير 10/ 343 رقم 10667.
( 12) ترجمة الإمام على (عليه السّلام) لابن عساكر 2/ 133 رقم 643.
( 13) المستدرك على الصحيحين 3/ 131.
( 14) المناقب للخوارزمي: 200.
( 15) أنظر: الكاشف للذهبي 1/ 485 رقم 2278.
( 16) التاريخ الكبير 1/ 357 رقم 1122، 2/ 2 رقم 1488.
( 17) تذكرة الحفّاظ 3/ 830.
( 18) تذكرة الحفّاظ 3/ 1042- 1043.
( 19) سنن الترمذي 5/ 300 رقم 3805.
( 20) سنن النسائي 5/ 107 رقم 8398.
( 21) المستدرك على الصحيحين 3/ 130- 132.
( 22) صحيح الترمذي 6/ 84 رقم 3731.
( 23) فضائل الإمام (علي عليه السّلام) لأحمد بن حنبل: 42 رقم 68.
( 24) مجمع الزوائد 9/ 125.
( 25) أنظر: تاريخ مدينة دمشق 42/ 247.
( 26) خصائص أمير المؤمنين عليه السلام: 51.
( 27) سير أعلام النبلاء 14/ 133.
( 28) تهذيب التهذيب 1/ 6.
( 29) أنظر: مقدمة سنن النسائي 1/ 3.
( 30) مسند أبي يعلى‏ 7/ 105، رقم 4052.
( 31) الجرح والتعديل للرازي 2/ 184 رقم 625.
( 32) الكامل في ضعفاء الرجال 1/ 278.
( 33) شفاء السقام في زيارة خير الأنام: 75.
( 34) تهذيب التهذيب 4/ 297 رقم 590.
( 35) مناقب الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام: 171 رقم 200.
( 36) المصدر: 175 رقم 212.
( 37) المعجم الكبير 10/ 282، مناقب الامام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام): 164، رقم 190 و 192 و 193.
( 38) أنظر: المستدرك على الصحيحين 3/ 131، المعجم الأوسط 7/ 267.
( 39) مناقب الامام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام): 136.
( 40) حلية الأولياء 4/ 356.
( 41) سورة النجم( 53): 3- 4.
( 42) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 15/ 151.
( 43) تاريخ الطبري 2/ 580.
( 44) الكامل في التاريخ 3/ 65.
( 45) صحيح البخاري 5/ 7- 8.
( 46) المعارف لابن قتيبة: 580، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4/ 74.
( 47) العلل المتناهية في الأحاديث الواهية 1/ 228 من رقم 360 إلى 377.
( 48) مرقاة المفاتيح 10/ 465 رقم 6094.
( 49) تذكرة الموضوعات: 96.
( 50) البداية والنهاية 7/ 350- 353.
( 51) المستدرك على الصحيحين 3/ 151.
( 52) تلخيص المستدرك 3/ 151.
( 53) مسند أحمد 3/ 198
( 54) طبقات المحدّثين بإصبهان 3/ 454.
( 55) لسان الميزان 5/ 58.
( 56) المرقاة في شرح المشكاة 10/ 464.
( 57) مختصر التحفة الإثنا عشرية: 165.
( 58) التحفة الاثنا عشريّة: 212.
( 59) مختصر التحفة الإثنا عشرية: 165.
( 60) سير أعلام النبلاء 16/ 351- 352.
( 61) تذكرة الحفّاظ 3/ 966.
( 62) معرفة علوم الحديث: 93.
( 63) المستدرك على الصحيحين 3/ 131.
( 64) سير أعلام النبلاء 17/ 174، وفيه: قلت: كلّا ليس هو رافضيّاً، بل يتشيّع. لسان الميزان 6/ 251 وفيه: قلت: إنَّ اللَّه يحبّ الإنصاف، ما الرجل برافضي بل شيعي فقط.
( 65) المصدر 17/ 175.
( 66) المصدر 17/ 176.
( 67) طبقات الشافعية 4/ 168- 169.
( 68) منهاج السنّة 7/ 371.

 

 

 

 


  • المصدر : http://www.12imam.net/subject.php?id=1230
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 04 / 10
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 05 / 9