بسم الله الرحمن الرحيم
لا يسع عاقلا أن يكذّب نبيا ذا دعوة شائعة وكلمة قائمة، ويصدق غيره لأنه لم ير أحدهما ولا شاهد معجزاته، فإذا اختص أحدهما بالتصديق والآخر بالتكذيب فقد تعين عليه الملام والإزراء عقلا، ولنضرب لذلك مثالا: وهو أنا إذا سألنا يهوديا عن موسى (عليه السلام) وهل رآه وعاين معجزاته فهو بالضرورة يقر بأنه لم يشاهد شيئا من ذلك عيانا، فنقول له: بماذا عرفت نبوة موسى وصدقه، فإن قال: إن التواتر قد حقق ذلك وشهادات الأمم بصحته دليل ثابت في العقل كما قد ثبت عقلا وجود بلاد وأنهار لم نشاهدها وإنما تحققنا وجودها بتواتر الأنباء والأخبار ، قلنا إن هذا التواتر موجود لمحمد وعيسى (عليهما السلام) كما هو موجود لموسى ، فيلزمك التصديق بهما. وإن قال اليهودي: إن شهادة أبي عندي بنبوة موسى هي سبب تصديقي بنبوته، قلنا له: ولم كان أبوك عندك صادقا في ذلك معصوما عن الكذب وأنت ترى الكفار أيضا يعلمهم آباؤهم ما هو كفر عندك إما تعصبا من أحدهم لدينه وكراهية لمباينة طائفته ومفارقة قومه وعشيرته، وإما لأن أباه وأشياخه نقلوه إليه فتلقنه منهم معتقدا فيه الهداية والنجاة، فإذا كنت يا هذا قد ترى جميع المذاهب التي تكفرها قد أخذها أربابها عن آبائهم كأخذك مذهبك عن أبيك وكنت عالما إنما هم عليه ضلال وجهل فيلزمك أن تبحث عما أخذته عن أبيك خوفا من أن تكون هذه حالته؟ فإن قال: إن الذي أخذته عن أبي أصح مما أخذه الناس عن آبائهم، لزمه أن يقيم البرهان على نبوة موسى من غير تقليد لأبيه لأنه قد ادعى صحة ذلك بغير تقليد، وإن زعم أن العلة في صحة ما نقله عن أبيه أن أباه يرجح على آباء الناس بالصدق والمعرفة كما تدّعي اليهود في حق آبائها لزمه أن يأتي بالدليل على أن أباه كان أعقل من سائر أباء الناس وأفضل فإن هو ادعى ذلك كذب فيه لأن من هذه صفته يجب أن يستدل على فضائله بآثاره، وقول اليهود باطل بأنه ليس لهم من الآثار في العالم ما لغيرهم مثله، بل على الحقيقة لا ذكر لهم بين الأمم الذين استخرجوا العلوم الدقيقة، ودونوها لمن يأتي بعدهم، وجميع ما نسب إليهم من العلوم مع ما استفادوه من علوم غيرهم لا يضاهي بعض الفنون الحكمية التي استخرجها حكماء اليونان، والعلوم التي استنبطتها النبط، وأما تصانيف المسلمين فيستحيل لكثرتها أن يقف أحد من الناس على جميع ما صنفوه في أحد الفنون العلمية لسعته وكثرته. وإن كان هذا موقعهم من الأمم فقد بطل قولهم إن آبائهم أعقل الناس وأفضلهم وأحكمهم ولهم أسوة بسائر آباء الناس المماثلين لهم من ولد سام بن نوح (عليهما السلام) فإذا أقروا بتأسي آبائهم بآباء غيرهم فقد لقنوهم الكفر ولزمهم أن شهادة الآباء لا تجوز أن تكون حجة في صحة الدين فلا تبقى لهم حجة بنبوة موسى إلا شهادة التواتر، وهذا التواتر موجود لعيسى ومحمد (عليهما السلام) كوجوده لموسى، وإذا كانوا قد آمنوا بموسى بشهادة التواتر بنبوته فقد لزمهم التصديق بنبوة المسيح والمصطفى. |