بسم الله الرحمن الرحيم
ينكر اليهود الشريعة الإسلامية بدعوى أنها نسخت التوراة وأن النسخ لا يجوز لأنه من البداء أي أن الله بدا له من العلم ما لم يكن موجودا فحرم ما كان سبق وحلله هذه دعواهم والرد عليهم من نص كتابهم وما تقتضيه أصولهم نقول لهم: هل كان قبل نزول التوراة شرع أم لا؟ فإن جحدوا كذبوا بما نطق به الجزء الثاني من السفر الأول من التوراة إذ شرع الله تعالى على نوح (عليه السلام) القصاص في القتل ذلك قوله : (شوفيخ دام ها أدام دامو يشافيخ كي بصلم ألوهيم عاما إث ها أدام) تفسيره : سافك دم الإنسان فليحكم بسفك دمه، لأن الله تعالى خلق الآدمي بصورة شريفة.
وبما يشهد به الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة إذ شرع الله على إبراهيم (عليه السلام) ختانة المولود في اليوم الثامن من ميلاده، وهذه وأمثالها شرائع لأن الشرع لا يخرج عن كونه أمرا أو نهيا من الله تعالى لعباده سواء نزل على لسان رسول أو كتب في أسفار أو ألواح أو غير ذلك، فإذا أقروا بأن قد كان شرع قلنا لهم ما تقولون في التوراة هل أتت بزيادة على تلك الشرائع أم لا؟ فإن لم تكن أتت بزيادة فقد صارت عبثا إذ لا زيادة فيها على ما تقدم ولم تغن شيئا فلا يجوز أن تكون صادرة عن الله تعالى فيلزمكم أن التوراة ليست من عند الله تعالى، وذلك كفر على مذهبكم، وإن كانت التوراة أتت بزيادة فهل في تلك الزيادة تحريم ما كان مباحا أم لا؟ فإن أنكروا ذلك بطل قولهم من وجهين: أحدهما أن التوراة حرمت الأعمال الصناعية في يوم السبت بعد أن كان ذلك مباحا، وهذا بعينه هو النسخ. والثاني: أنه لا معنى للزيادة في الشرع إلا تحريم ما تقدمت إباحته أو إباحة ما تقدم تحريمه، فإن قالوا إن الحكيم لا يحظر شيئا ثم يبيحه لأن ذلك إن جاز مثله كان كمن أمر بشيء وضده. فالجواب أن من أمر بشيء وضده في زمانين مختلفين غير مناقض بين أوامره وإنما يكون كذلك لو كان الأمران في وقت واحد، فإن قالوا: إن التوراة حظرت أموراً كانت مباحة من قبل، ولم تأت بإباحة محظور، والنسخ المكروه هو إباحة المحظور لأن من أبيح له شيء فامتنع عنه وحظره على نفسه فليس بمخالف، وإنما المخالف من منع من شيء فأتاه لاستباحته المحظور، فالجواب: إن من أحل ما حظره الشرع في طبقة المحرم لما أحله الشرع إذ كل منهما قد خالف المشروع، ولم يقر الكلمة على معاهدها، فإن جاز أن يأتي شرع التوراة بتحريم ما كان إبراهيم (عليه السلام) ومن تقدمه على استباحته، فجائز أن تأتي شريعة أخرى بتحليل ما كان في التوراة محظورا. وأيضا فلا تخلو المحظورات من أن يكون تحريمها مفترضا في كل الأزمنة لأن الله تعالى يكره ذلك المحظور لعينه، وإما أن لا يكرهه الله لعينه بل ينهى عنه في بعض الأزمنة، فإن كان الله تعالى ينهى عن عمل الصناعات في يوم السبت لعين السبت فينبغي أن يكون هذا التحريم على إبراهيم ونوح وآدم أيضا لأن عين السبت كانت موجودة أيضا في زمانهم وهي علة التحريم، وإن كان ذلك غير محرم على إبراهيم ومن تقدمه فليس النهي عنه لعينه أعنى في جميع أوقات وجود عينه وإذا لزمكم أن تحريم الأعمال الصناعية في يوم السبت ليس بمحرم في جميع وجود أوقات السبت، فليس بممتنع أن ينسخ هذا التحريم في زمان آخر، وإذا ظهر قائم بمعجزات الرسالة، وأعلام النبوة في زمن آخر، بعد فترة طويلة فجائز أن يأتي بنسخ كثير من أحكام الشريعة سواء حظر مباحاتها أو أباح محظوراتها، وكيف يجوز أن يحاج من جاء بالبينة باعتراض فيما ورد به من أمر ونهي سواء وافق العقول البشرية أو باينها، ولا سيما أن الخصوم قد طال ما تعبدوا بفرائض مباينة للعقول، كطهارة أنجاسهم برماد البقرة التي كان الإمام الهاروني يحرقها قبيل أوان الحج، ونجاسة طاهرهم بذلك الرماد بعينه، على أن الذي يروم تنزيله منزلة هذا أقرب كثيرا إلى العقل فإن الأفعال والأوامر الإلهية منزهة عن الوقوف عند مقتضى العقول البشرية، وإذا كانت التعبدات الشرعية غير عائدة بنفع لله عز وجل ولا دافعة عنه ضررا لتنزهه سبحانه وتعالى عن الانتفاع والتأذي بشيء فما الذي يحيل أو يمنع كونه تعالى يأمر أمة بشريعة ثم ينهى أمة أخرى عنها، ويحرم محظورا على قوم، ويحله لأولادهم ثم يحظره ثانيا على من يجيء من بعد، وكيف يجوز للمتعبد أن يعارض الرسول في تحليله ما كان حراما على قوم، ويستدل بذلك على كذبه بعد أن جاء بالبينة وأوجب العقل تصديقه وتحكيمه أليس هذا تحكما وضلالا وعدولا عن الحق. |