بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ الحضارةَ الإسلامية ثمرةُ الجهود المتواصلة للأُمّة الإسلامية منذ انبثاق الدعوة المحمدية المباركة، فهم بشعوبهم المتنوعة وفي ظِلّ الإيمان والعقيدة ذابوا في بوتقة الإسلام، ووظَّفُوا كلّ قواهم وإمكانياتهم وركّزوا كلّ مساعيهم وجهودِهم لخدمة الإسلام، وتحقيق أهدافه وأغراضه السامية، وبذلك أرسوا دعائم حضارةٍ لا تزال البشرية مدينة لها ومستفيدة منها.
ولقد كانَ للشيعة دورٌ مؤثرٌ في بِناءِ صرحِ الحضارةِ الإسلاميّة الكبرى، ويكفي تصفّح الكتب المؤلَّفة في العلوم والحضارةِ الإسلاميّة لنرى كيف تلمع فيها أسماءُ علماء الشيعة ومفكّريهم. ففي مجال الآداب العربية والعلوم الإنسانية يكفي أن نعرف أنّ الإمام عليّاً أمير المؤمنين (عليه السلام) هو مؤسّسُها الأوّل، وأن تلميذه أبا الأسود الدؤلي هو الذي عمل على توسعتها وتدوينها. وقد واصَلَ علماء الشيعة بعد ذلك الجهود الحثيثة في سبيلها، وذلك نظراء المازني (المتوفّى 248 هـ) وابن السكيت (المتوفّى 244 هـ) وأبي إسحاق النحوي (من أصحاب الإمام الكاظم) وخليل ابن أحمد الفراهيدي مؤلّف كتاب «العَين» (المتوفّى 170 ه) وابن دريد مؤلف كتاب «الجمهرة» (المتوفّى 321 ه) والصاحب بن عبّاد مؤلف كتاب «المحيط» (المتوفّى 386 ه) وغيرهم من آلاف الأُدباء الشيعة الذين كان كل واحد منهم قطباً من أقطاب اللغة، والنحو، والصرف، أو الشِّعر، وعلم العَروض في عصره. وفي علم التَّفسير فالمرجع الأوّل لتفسير القرآن بعد رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله و سلم) هو الأمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) ومن بعدهم عبد الله بن عباس (المتوفّى 68 هـ) وغيرهم من تلامذة أهل البيت، وقد ألَّفَ علماءُ الشيعة طوال أربعة عشر قرناً مئات التفاسير المتنوِّعة حجماً وكيفاً ومنهجاً.
وفي علم الحديث تقدّمت الشيعة على غيرهم من الِفرَق الإسلامية في تدوين السنة وكتابتها ودراستها على حين كان ذلك ممنوعاً في عصر الخلفاء. ويمكن الإشارة في هذا الصَّعيد إلى «عبيد الله بن أبي رافع» و «ربيعة بن سميع» و «عليّ بن أبي رافع» من أصحاب الإمام علي (عليه السلام)، ثم إلى أصحاب وتلامذة الإمام السجّاد والباقر والصادق (عليهم السلام).
إنّ تنامي علم الحديث في عصر الإمام جعفر الصّادق (عليه السلام) بلغ إلى درجة أنّ الحسن بن علي الوشاء قال: رأيتُ في مسجد الكُوفة تسعمائة محدّث كلُّهُمْ يقولُ: حَدَّثنِي جعفرُ بنُ محمد (عليه السلام)«1». وفي مجال الفقه تخرّج من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) علماء ومجتهدون كبارٌ نظراء: أبان بن تغلب (المتوفّى 141 ه) وزرارة بن أعين (المتوفّى 150 ه) ومحمد بن مسلم (المتوفّى 210 ه) ومئات المجتهدين الكبار والعلماء المحققين كالشيخ المفيد والسيد المرتضى، والشيخ الطوسيّ، وابن إدريس الحلّي والمحقّق الحلّي، والعلّامة الحلّي الذين خلَّفوا آثاراً علميّة وفكريّة في غاية الأهمية. على أنّ جهودَ الشّيعة لم تتركّزْ على هذه العلوم حسب ولم تقتصر خدماتُهم على هذه المجالات بل خدَموا الإسلام والعالم في غيرها من العلوم كالتاريخ والمغازي والرجال، والدراية، والشِّعر، والأدب وغير ذلك ممّا لا يسع هذا المختصرُ لسَرد أسمائها. هذا كلّه في مجال العلوم النَقْليّة، ولقد تقدَّموا على غيرهم من الطوائف والفِرق في العلوم العقليّة كعلم الكلام والفلسفة لأنَّ الشيعة يمنحون العقلَ دوراً أكبر وأهمية أكثر ممّا يعطيه غيرُهم من الفِرَق الإسلامية.
فهم بالإستلهام من أحاديث الإمام أمير المؤمنين وأبنائه المعصومين (عليهم السلام) سعوا أكثر من غيرهم في بيان وشرح العقائد الإسلاميّة، وبهذا قدّمت الشيعة للأُمّة الإسلامية جيلًا عظيماً من المتكلّمين القديرين ومن الفلاسفة الكبار، ويُعَدُّ الكلام الشيعيُّ من أغنى وأثرى المدارس الكلامية الإسلامية، وهو يحتوي - مضافاً إلى أدلةٍ من الكتاب والسنة - على براهين قوية من العقل.
إنّ أحد أُسُس الحَضارة الإسلامية هو معرفة عالم الطبيعة وقوانينها وقد تخرَّجَ من مدرسة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أشخاص معروفون مثل «جابر ابن حيان» برعوا في مجال العلوم الطبيعية إلى درجة أن جابراً دعي في هذا العصر بأبي الكيمياء الحديثة.
وفي علم الجغرافيا كان أحمدُ بن أبي يعقوب المعروف باليعقوبي (المتوفّى حوالي 290 ه) أول عالم جغرافيّ ساحَ في البلاد الإسلامية العريضة، وألّف كتاباً باسم «البلدان» وهو من علماء الشيعة. إنّ هذه الجهود الكبرى التي بُذلت في سبيل العلم والثقافة وأبتدأت من القرن الهجري الأوّل وحتى هذا اليوم، وأُسّسَت من أجلها الحوزات والمدارس، والجامعات والمعاهد العديدة تمت على أيدي علماء الشيعة، ورجالهم الذين لم يفتأوا لحظةً واحدة عن تقديم الخدمة للعالم البشري، وللحضارة الإسلامية والإنسانية. وإنّ ما ذُكِرَ هنا في هذه العجالة ليس إلّا إشارة عابرة إلى دور الشيعة في مجال العِلم والحضارة الإسلاميّة وللتوسّع ومزيد الاطلاع لابدَّ من مراجعة المصادر المرتبطة بهذا المجال«2».
___________
(1) رجال النجاشي، الرقم 79
(2) فهرست ابن النديم، رجال النجاشي، فهرست الشيخ الطوسي، تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، أعيان الشيعة، والمجلد السادس من بحوث في الملل والنحل، وغيرها من الكتب.
|