• الموقع : الأئمة الإثني عشر عليهم السلام .
        • القسم الرئيسي : عقائدنا (الشيعة الامامية) .
              • القسم الفرعي : معالم الايمان والكفر .
                    • الموضوع : البَداء .

البَداء

بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ لله‏ تعالى في شأنِ الإنسان نوعين من التقدير:
1. تقدير محتومٌ وقطعيٌّ لا يقبل التغييرَ والتبديلَ مطلقاً.
2. تقديرٌ معلَّقٌ ومشروطٌ وهو يتغيَّر ويَتَبَدّلُ مع فقدان بعضِ الشرائطِ، ويحلُّ محلَّه تقديرٌ آخرٌ.
وبالنَّظَر إلى هذا الأصْلِ نُذَكّرُ بأن الإعتقاد بالبَداء هو أحَدُ الأُصول الإعتقاديّة الإسلاميّة الأصِيْلَة التي اتَّفَقَتْ جميعُ الفِرَقِ الإسلاميّة على الإعتقادِ بها إجمالًا، وإنْ أحجَمَ البعضُ عن استخدام لَفظة «البَداءِ» وهذا الإستيحاش من إستعمال لفظة «البَداء» لا يَضُرُّ بالقَضِيّة أيضاً، إذ أنّ المقصود هو بَيان محتوى «البَداء» ومعناه، لا لفظه واسمه.
إنّ حقيقةَ «البَداء» تقومُ في الحقيقة على أصلين:
ألف: انّ لله‏ تعالى قدرةً وسلطةً مُطلقةً، فهو قادرٌ على تغيير أيّ تقديرٍ، وإحلالِ تقديرٍ آخر محلَّه متى شاءَ، في حين يعلم سلفاً بكلا التقديرين، ولا سبيل لأيّ تغيير إلى عِلمه قط أيضاً، لأنّ التقديرَ الأوّل لم يكن بحيث يحدُّ من قدرةِ الله أو يَسلُبَ منه القدرةَ، فإنّ قدرة الله تعالى على خلاف ما تعتقِدُهُ اليهود من كَونها محدودةً لقولهم: «يَدُ اللَّه مَغْلُولَةٌ»، قدرةٌ مطلقةٌ، أو كما قال القرآنبَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتان»«1». وبعبارةٍ أُخرى: إنّ خلّاقية الله وإعمال السُّلطة والقُدرة من جانبهِ تعالى مستمرٌ، وبحكم قوله تعالى: «كلَّ يَومٍ هُوَ في شَأنٍ»«2», فالله تعالى لم يفرغ سبحانه عن أمر الخلقِ، بل عمليّة الخَلق لا تزال متواصِلة ومستمرة. { روى الصدوق باسناده عن الإمام الصادق (عليه السلام): أنّه قال في قول الله عزّ وجل: «وقالتِ اليهودُ يَدُ اللهِ مَغلُولةٌ» لم يعنوا أنّه هكذا، ولكنّهم قالوا قد فرَغَ من الأمر فلا يزيدُ ولا ينقص (أي في العمر والرّزق وغيرهما)، فقال الله جلّ جلالُه تَكذيباً لقولهم: «غُلّتْ أيدِيهمْ ولُعِنُوا بِما قالُوا بل يَداهُ مَبْسُوطَتان يُنْفِقُ كيفَ يَشاءُ». أَلم تسَمع اللّه عزَّ وجَلَ يقول: «يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ وعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ»«3» }«4». فالعقيدة الإسلاميّة تقومُ على أساس الاعتراف بقدرة الله المطلقة وسلطتهِ التي لا تُحدُّ، وبدوام خلّاقيته واستمرارها، وبأنّ الله تعالى قادر كلّما شاءَ ومتى شاء أن يُغيّر المقدَّرات المرتبطة بالإنسان في مجال العُمرِ والرِزقِ وغيرهما، ويُحلَّ مَحَلَّ ذلك مقدراتٍ أُخرى، وكلا التقديرين موجودان في «أُمّ الكتاب». وفي علم الله سبحانه.
ب: إنّ إعمالَ القُدرةِ والسُّلطَة من جانبِ الله تعالى، وإقدامَه على إحلال تقديرٍ مكان تقديرٍ آخر لا يتمُّ من دون حكمةٍ ومصلَحةٍ، وان قسماً من هذا التغيير يرتبط في الحقيقة بِعَمل الإنسان وسلوكه، وإنتخابه، واختياره، وبنمط حياته الصالح أو السّي‏ء، فهو بهذه الأُمور يهيِّئ أرضيّة التغيير في مصيره. وَلْنفترض أنَّ إنساناً لم يراع - لا سمح اللهُ - حقوقَ والدَيه، فإن منَ الطبيعيّ أنّ هذا العَمل غير الصالح سيكونُ له تأثيرٌ غير مرغوب في مصيره. فإذا غيَّر من سُلُوكِهِ هذا في النصفِ الآخر من حياتهِ، واهتمَّ بِرعاية حقوقِ والدَيْهِ فانَّه في هذه الحالة يكون قد هَيَّأ الأرْضيّة لتغيير مصيرِهِ، وصار مشمولًا لقولِهِ تعالى:«يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ ويُثبتُ».
وينعكس هذا الّذي ذكرناه إذا انعكسَ الأمر. إنَّ الآيات والرّوايات في هذا المجال كثيرةٌ نذكرُ بعضها هنا:
1. «إِنَّ اللهَ لَايُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى‏ يُغَيّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ» «5».
2. «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّماءِ والأَرْضِ وَلَكن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»«6».
3. يروي السيوطيُ في تفسيره «الدرّ المنثور» أنَّ الإمام أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) سأل رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله و سلم) عن قوله: «يَمْحوا الله ما يَشاء». فقال النبي (صلى الله عليه و آله و سلم): «لأُقِرنَّ عَيْنَك بِتفسيرها ولأُقِرَنَّ عَين أُمّتي بَعدي بتفسيرها: الصّدَقةُ على وَجهها، وبِرُّ الوالِدَين وَاصطِناعُ المعروف يُحوّلُ الشقاءَ سعادةً ويزيدُ في العُمُر ويقي مصارَع السُّوء»«7». وقالَ الإمامُ الباقُر (عليه السلام): صِلةُ الأرحام تُزَكّي الأعْمالَ، وتُنمّي الأموالَ، وَتَدْفَعُ البَلوى، وتُيَسِّرُ الحِساب، وتُنْسِئُ في الأَجَل.» وبالنَظر إلى هذين الأَصلين يتَّضح أن الاعتقاد بالبداء عقيدة إسلاميّة قطعيّة، وأنّ جميع الفرق الإسلامية تعتقد به بغضِّ النظر عن التعبير والتسمِية، واستخدام لفظ «البَداء».
وفي الختام نُذَكّرُ بُنقطتين لنعرف لماذا أُطلقت لفظة «البدَاء» على هذه المسألة في الرّوايات فجاء التعبير عن هذه العقيدة الإسلامية بقولهم:«بَدا لله».
ألف: إنّ استخدامَ هذه اللَّفَظة في هذه المسألة جاء تبعاً للنَبيّ الأكرم (صلى الله عليه و آله و سلم)، فقد روى البخاريُ في صحيحه أنّ النبيّ قال في شأن ثلاثة أشخاص: أبرص وأقرع وأعمى: «بدا لله‏ عزَّ وجلّ أن يَبْتَلِيهُمْ ...». ثم ذكر بعد ذلك قصّتهم بصورةٍ مفصَّلةٍ وبيَّن ‏كيف أن اثنين منهم سُلبَت منهما سلامتُهما بسبب كفران النعمة، وأصابَهما ما أصيب به أسلافُهم من الأمراض«8».
ب: إنّ هذا النّوع من الاستعمال من باب المشاكلة، والتحدّث بلسان القوم حتى يفقهوا، ويفهموا الموضوع.فقد تعارَفَ في العرف الاجتماعي أنَّه إذا غيَّرَ أحد قراراً قد اتخذه أن يقول بدا لي. وقد تَحدَّث أئمةُ الدين بلسان القوم ليمكنهم تفهيم مخاطبِيهم، وقد استعملوا مثلَ هذه اللفظة في حق الله تعالى. والجدير بالذِكر أنّ القرآنَ الكريمَ استخدمَ في شأن الله تعالى ألفاظاً وصفات مثل المكر والكيد، والخُداع والنسيان، في حين أنّنا نعلم أنّ الله تعالى منزَّهٌ عن مثل هذه الأُمور (بِمعانيها ومفاهيمها الرائجة بين البشر) قطعاً ويقيناً، ومع ذلك كرّرَ القرآنُ الكريمُ هذه الصِفات واستعمل الألفاظ في حق الله سبحانه.
1. «إنَّهم يَكِيدُونَ كَيْداً* وَأَكِيدُ كَيْداً»«9».
2. «وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً»«10».
3. «إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ» «11».
4. «نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ»«12».
وعَلى كلّ حالٍ فإنّ لمحقّقي الشيعة حول استعمال لفظ البداء، بالنظر إلى امتناع حصول التغيّر، والتبدّل في علم الله تعالى دراساتٍ وتحقيقاتٍ قَويّةً وشيِّقةً لا مجال لذكرها هنا، ونحن نحيل من يحب الاطّلاعَ عليها إلى الكتب والمؤلّفات التي تتضمن هذه الأبحاث«13».
(1) المائدة/ 64
(2) الرحمن/ 29
(3) الرعد/ 3
(4) التوحيد للصدوق، ص 167، الباب 25، ح 1
(5) الرعد/ 11
(6) الأعراف/ 96
(7) الدر المنثور 4/ 66
(8) الكافي، 2/ 470، الحديث 13
(9) الطارق/ 15- 1
(10) النمل/ 5
(11) النساء/ 143
(12) التوبة/ 6
(13) كتاب التوحيد للصدوق، ص 331- 336؛ تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد 24؛ عدة الأُصول 2/ 29؛ كتاب الغيبة، ص 262- 264 طبعة النجف.

 

 

 


  • المصدر : http://www.12imam.net/subject.php?id=110
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 02 / 07
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 12